|
مفيش في مصر سياسة، فيه عساكر جوعى وشوية أمل
هويدا طه
الحوار المتمدن-العدد: 1603 - 2006 / 7 / 6 - 09:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
لا ينبغي ولا يصح أن يعتذر المتفائلون عن تفاؤلهم.. فليس جرما أصلا أن يتفاءلوا.. حتى وإن كانت كل الشواهد المحيطة بهم تجرهم جرا إلى شرك التشاؤم، الفرق أن المتفاءل مستعد لمراجعة أسباب تفاؤله وكبحها لحين.. إن لزم الأمر! بينما المتشائم هو بطبعه مُعرِض عن أي مراجعة.. مستسلم لكل قوة تعمل من خارجه.. وغير متحمس للاستعانة بأي قوة كامنة داخله أو في واقعه. تتمشى في شوارع القاهرة وتقرأ جرائدها وتقابل سكانها وتشاهد التليفزيون في أركانها وتتأمل المارة من وراء زجاج مقاهيها وتدخل السينما في أرجائها فتشعر بالحيرة.. أمام هذا التنافر الغريب بين ما يستدعيه تاريخها- خوفا أن يكون مزورا- وما يعرضه حاضرها- فلعله كذبة تريد منك أن تقبلها صاغرا- وما ينبئ به مستقبلها- فلربما يكون مفاجأة. يوم سابق من هذا الأسبوع كانت هناك وقفة احتجاجية للتضامن مع غزة وسكانها.. أعلن عنها بعض من يدركون أن الفلسطينيين في بقعتهم الصغيرة تلك- التي تقل مساحة وسكانا عن حي صغير في القاهرة- يتحملون وحدهم وبشكل مباشر وقاس عبء ما وصل إليه التاريخ الإنساني كله في هذه اللحظة، الوقفة الاحتجاجية كانت على سلالم نقابة الصحفيين بوسط القاهرة.. فإذا كنت متفائلا وفي نفس الوقت موجودا في القاهرة فلن تتوانى عن المشاركة! لكنك سترى هذه المرة شيئا مختلفا عن ذلك الذي كنت تشاهده في وقفات مماثلة في نشرات الأخبار.. المشهد من خارج التليفزيون يختلف، التليفزيون يحمل إليك (خبرا) وينقل إليك (جزءا) من الصورة، ثم يتركك لتنسج منهما خيوط تفاؤلك في واقع افتراضي تحلم به، لكن الواقع الحقيقي مختلف.. بضع عشرات من المحتجين يقفون على السلالم يرددون وراء أحدهم هتافا ما.. هتافات مؤيدة للمقاومة في فلسطين والعراق.. ورافضة وجود سفير لإسرائيل في القاهرة وحالمة بسقوط مبارك.. هذا هو (الجزء) الذي تراه عادة في نشرات الأخبار.. وترى معه أيضا (صف العساكر) المحيط بالمحتجين.. لكن عندما تسنح لك فرصة أن تراقب عن كثب هذه (الوجوه).. كلها.. وجوه المحتجين ووجوه العساكر ترى بعدسة عينيك شيئا مختلفا.. عدد المحتجين قليل للغاية.. العساكر عددهم أكبر كثيرا.. متماثلون بردائهم الأسود في الحجم والملامح كأنهم مستنسخون.. متراصون لحجز المحتجين عن التحرك خطوة واحدة بعيدا عن سلالم مبنى النقابة إلى الشارع.. صامتون كأنهم موتى عيونهم مفتوحة.. يطل البؤس من وجوههم بشكل يثير تعاطفك مع هؤلاء الغلابة.. تمر السيارات دون حتى أن ينتبه ركابها لهؤلاء الواقفين على سلالم مبنى بارز في الشارع كمبنى نقابة الصحفيين، يقف الضباط على الرصيف المقابل حاملين هواتفهم المحمولة وعيونهم على عساكرهم- أو قل عبيدهم- وعلى المحتجين المنهمكين في الهتاف.. المحتجون أنفسهم تتفاوت أعمارهم وطوائفهم.. على أعلى السلالم كان يقف هادئا الدكتور عبد الوهاب المسيري وكان شباب حركة كفاية يعلقون بطاقاتهم الصفراء الصغيرة على صدورهم.. والميكروفون يتنقل بالتبادل بين كريمة الحفناوي الصيدلية الناشطة في حركة كفاية ونشطين آخرين ومحمد عبد القدوس أحد أعضاء كفاية وأحد أعضاء جماعة الإخوان.. لن تستطيع كبح ابتسامتك وأنت تراه وتتذكر في ذات الوقت والده إحسان عبد القدوس.. سبحان الله! لله في خلقه شؤون! البعض يهتف والبعض يميل على أذن صديقه هامسا بشيء ما.. البعض يتحرك هنا وهناك من تلك الدرجة في السلالم إلى أخرى والبعض أيضا ينظر في الساعة! فقد كانت مباراة فرنسا والبرازيل على وشك أن تبدأ! بعد ان طال الإجهاد من يهتفون ومن يردد ورائهم الهتافات انتهت الوقفة الاحتجاجية.. تراقب الجميع وهم تتفرق بهم السبل.. هدأت منطقة السلالم قليلا.. لا يظل لافتا للنظر سوى هؤلاء العساكر المتسمرين حتى بعد أن رحل الناس.. لماذا ما زالوا هنا؟ التفاتة إلى أحدهم.. كانت عيناه مغلقتين.. نام واقفا وهو ممسك بعصاه وسلاحه! اقتربت منه وقلت له:"ها.. إصحى.. يا حرام إنت نمت؟.. حاسب الظابط وراك" المسكين يحاول إخفاء ابتسامة قد تدينه.. لكنه لم يحرك رأسه.. قلت له وباقي المرصوصين بجانبه:"ليه عاملين فيكم كده.. لا حول ولا قوة إلا بالله.." قبل أن أكمل مداعباتي معهم اقترب الضابط.. الفارق الطبقي واضح بينه وبينهم.. على الأقل لا يبدو الضابط شاحبا جائعا هزيلا.. التقت عيناي بعينيه.. كلانا يفهم في تلك اللحظة ما يدور بخلد الآخر.. أعرف أنه يريد بنظرته المصوبة نحوي أن (يأمرني) بالابتعاد عنهم.. لا أظن أنه يهتم كثيرا لفحوى ما أقوله لعساكره- عبيده- فهو بالتأكيد يعرف من ملامحي الضاحكة أنني أمازحهم ولكنه يريد الحفاظ على الصورة.. انفصال تام بين النوعين.. المواطن والعسكري.. نظرت إلى الضابط وأنا أضحك لكنه استمر في الاقتراب.. لا مناص من الابتعاد.. مش خوف والله.. ده بس نوع من القرف من هذه الصورة البوليسية! ما علينا.. ابتعدت عنه وعن عبيده لكنني لوحت لكليهما بيدي وقلت"باي باي"! الشارع كما هو والسيارات كما هي ومصفحات الأمن كما هي.. لا سياسة حقيقية في الشارع المصري.. ولا احتجاج ولا تظاهر إلا على سلالم نقابة الصحفيين! لكن يجب أن تبقى متفائلا! انتهى (واجب الاحتجاج)! تبتعد قليلا إلى مقهى قريب.. الصورة تختلف، تليفزيون كبير على الرصيف ومباراة صالح كامل شغالة! يعني.. أصل الناس في القاهرة يسمون مباريات كاس العالم "ماتشات صالح كامل"! بعض الجالسين على المقهى يسبون ويشتمون كل (من يكسب من مصر وبعدين يشتمها وميلاقيش راجل يرد عليه!) فقد قال صالح كامل على إحدى الفضائيات إن المصريين حرامية.. لأنهم يتحايلون على (حقه الحصري) في إذاعة مبارياته- مباريات كاس العالم- على تليفزيونه ART .. الناس يشاهدون بذهول تفوق فرنسا على البرازيل.. هذه على كل حال أول مباراة من كاس العالم أشاهدها.. بعد قليل من اللامبالاة بدأت في مشاركة الناس تعاطفهم مع البرازيل المهزومة.. الحزن بادي على الوجوه! والقادمون الجدد إلى المقهى يقول لهم أحد الجالسين مباغتا (فرنسا غالبة واحد صفر).. لا يا راجل معقولة؟! ينضم إلى باقي الحزانى! لكن حتى المقهى حوله عساكر الأمن.. هؤلاء الذين لفتوا نظري منذ الصباح.. بعد قليل انضموا (العساكر الغلابة) إلى متابعة المباراة ساندين أذرعهم على سلاحهم.. لا شيء في عساكر الأمن يلح باستمرار على الانتباه إليه- لمن يراقبهم- أكثر من هذا البؤس والهزال والجوع في ملامحهم.. وهذا الغياب في وجوههم لأي تعبير أو موقف أو نظرة كائن حي! لا شيء سوى الجوع والحرمان.. حتى عندما يقوم الناس وينفعلون للعبة حلوة أو فرصة ضاعت من البرازيل.. تلتفت إلى العسكري بسرعة.. فتراه خائفا حتى من المشاركة بالانفعال.. يا إلهي ماذا فعلوا بهم حتى تمكنوا من مسخهم إلى هذا الحد؟! يا ترى عندما تتفجر في الشارع المصري سياسة حقيقية- تذكر يجب أن تبقى متفائلا – ماذا سيفعل هؤلاء بالضبط... هؤلاء الجوعى المحرومون.. لمن يا ترى سيوجهون هذا السلاح؟!
#هويدا_طه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفيلم التسجيلي متاجرة بآلام الناس أم كشف لأسبابها؟
-
سنة سجن بتهمة إهانته: صباحك عسل يا ريس
-
القاهرة الساهرة: نوّرت مصر
-
زيارة خاصة لامرأة متمردة في زمن الحجاب
-
حمى البورصة في المجتمعات العربية
-
ثلاث تساؤلات بمناسبة تشفير بث مباريات كأس العالم
-
ليلة بكت مصر مع أسيرها وراعي بقر برتبة وزير لا هو حبيب ولا ه
...
-
شجر الصفصاف الذي ينتج كمثرى في شوارع القاهرة
-
المدونون: ورد الجناين اللي بيفتح في مصر
-
لينا الفيشاوي أصغر رواد التغيير في مصر
-
كيف يساهم مصريو الخارج في إحداث فوضى خلاقة بمصر؟
-
شموخ بسطاويسي كمان وكمان.. وبطل جديد في معركة الاستقلال
-
!.. جمال مبارك: كل ما أشوفك أبقى نفسي آ
-
مطلوب فضائية إيجار مؤقت: الطريق إلى سبتمبر مبارك
-
ريموت كنترول3
-
عندما تجد شيئا في مصر تفخر به
-
برامج المحليات على أوربت نجاح لم تحققه قنوات مرموقة
-
قل لي ماذا تناقش.. أشاهدك
-
مكي وبسطاويسي رمزا معركة العدل في بر مصر
-
الخطابة وما تفعله بالناس
المزيد.....
-
شركتا هوندا ونيسان تجريان محادثات اندماج.. ماذا نعلم للآن؟
-
تطورات هوية السجين الذي شهد فريق CNN إطلاق سراحه بسوريا.. مر
...
-
-إسرائيل تريد إقامة مستوطنات في مصر-.. الإعلام العبري يهاجم
...
-
كيف ستتغير الهجرة حول العالم في 2025؟
-
الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي في عملية إطلاق ن
...
-
قاض أمريكي يرفض طلب ترامب إلغاء إدانته بتهمة الرشوة.. -ليس ك
...
-
الحرب بيومها الـ439: اشتعال النار في مستشفى كمال عدوان وسمو
...
-
زيلينسكي يشتكي من ضعف المساعدات الغربية وتأثيرها على نفسية ج
...
-
زاخاروفا: هناك أدلة على استخدام أوكرانيا ذخائر الفسفور الأبي
...
-
علييف: بوريل كان يمكن أن يكون وزير خارجية جيد في عهد الديكتا
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|