|
أصول قصة السندباد البحري
سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي
الحوار المتمدن-العدد: 6685 - 2020 / 9 / 23 - 00:39
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الشائع عن قصص السندباد أنها كانت لبحّار عربي في بغداد أوائل الخلافة العباسية تم تداولها لاحقا كجزء من حكايات ألف ليلة وليلة التي لا يُعرف على وجه الدقة منشأها، وإن كان التتبع اللغوي والثقافي لمفردات وطبيعة القصة يقول بوضوح أن منشأها هندي أو فارسي أو كليهما بشكل مزدوج، وبالتالي فنشوء هذه القصص حدث بتزاوج ثقافي بين الشعوب الهندوأوروبية التي يتآخى فيها الهنود وشعوب خراسان والفرس منذ فجر التاريخ..
في الحقيقة تتبعت أصول قصص السندباد فوقفت على أن أول ذكر تاريخي لها في التراث العربي الإسلامي كان عن طريق المؤرخ "أبو الحسن المسعودي" تـ 346هـ في كتابه مروج الذهب حيث قال: "ثم ملك بعده كورش..فخرج عن مذاهب من سَلَفَ، وكان في مملكته وعصره سندباد، دونَ له كتاب الوزراء السبعة والمعلم والغلام وامرأة الملك، وهو الكتاب المترجم بالسندباد" (مروج الذهب 1/ 29) وبعد هذا التدوين للمسعودي جاء ابن حزم ت 384هـ ليحكي شيئا مشابها قال فيه "وبعضهم يقول بتناسخ الأرواح، كصاحب كتاب سندباد من فلاسفة الهند" (رسائل ابن حزم 3/ 140)
ويظهر من كلام المسعودي وابن حزم الذين عاشا في القرنين 3، 4 هـ أو 9، 10م أن أصل حكايات السندباد هندية من طرف فلاسفة يؤمنون بتناسخ الأرواح، وقد يُفهَم أن روح المغامرة للسندباد في البحر وغزوه تلك الممالك والجزر وحربه للوحوش والمخلوقات الغريبة على أنها مغامرة تشفع لصاحبها وتعطيه دور البطولة في حياته الأخرى، خلافا للديانات الإبراهيمية مثلا التي لا تشجع على هذا النوع من المغامرات وتتعامل معه بمنطق براجماتي، كون العمل الصالح عند الإبراهيميين لا يلزمه قتل النفس خارج إطار الدين، ومن هذا المنطق قد يُفهَم من حكايات السندباد أنها في الثقافة الإبراهيمية ليست مغامرات بطولية بل سذاجة وقتل للنفس منهيُ عنه شرعا..
مما يعني أن الأصل العربي - والعراقي خصوصا – لقصص السندباد ليس علميا من عدة أوجه:
الأول: أن مؤرخين العرب والمسلمين يقولون بالأصل الهندي، كالمسعودي أشهر مؤرخي العرب نسبا بل هو الأول في سياق التدوين بعد الطبري الذي عاش في بلاد فارس، ومصنفات المسعودي بشكل خاص تشكل قيمة معرفية كبيرة دفعت لتشبيه الرجل بهيرودوت العرب.
الثاني: قصص السندباد تشجع على المغامرات والتضحية خارج سياق الدين، وهذه ثقافة لم يعرفها العرب والمسلمون خلال العصرين الأموي والعباسي الذين عرفوا التضحية فقط من أجل أمرين اثنين (الدين والقبيلة)
الثالث: العراق القديم لم يكن مُطلّا على سواحل بحرية كبيرة كما أوهمتنا قصص السندباد وجعلت محور رحلاته السبعة في عرض البحر دائما، وغاية ما ذكر من نفوذ بحري للعراقيين القدماء كان عند السومريين الذين ملكوا جزيرة البحرين قبل آلاف السنين وشكّلوا فيها حضارة دلمون..والجزيرة لا تبعد عن سواحل الكويت سوى500 كم في خليج ضيّق ليس مفتوحا ولايمر به جزر شبيهة بالتي ذكرت في قصص السندباد.
الرابع: كلام المسعودي فيه دلالة على أن حكايات السندباد ظهرت في الهند خلال عصر انفتاح ثقافي ونقدي لنظريات السلف القديمة للهنود، مما يعني أنها عارض أدبي وفلسفي لتقدم العقل الهندي في خياله الأدبي بعد انفراجة سياسية، والتاريخ يقول أن خيال الإنسان ينشط في عصور الانفتاح ويتكلس في أحوال الانغلاق حتى تضعف الحاسة الأدبية والخيال الإنساني عن التصرف والإبداع، وهذه الجزئية كانت محور نقاش كبير حول طبيعة العمل الأدبي في عصر عبدالناصر بعد تحويله لأفلام وجدت أن أغلب القصص والحكايا الأدبية المصرية التي أنجزها الفن وقتها كانت في عصر الملكية وخصوصا بعد استقلال مصر عن انجلترا وتكوين الأحزاب، وبالتالي فالقول أن حكايات السندباد هنا عربية يلزمه انفتاح ثقافي وثورة معرفية حدثت في العصر الأموي السابق للعباسيين بينما التاريخ يؤكد غير ذلك وأن النهضة الأموية- إن جاز التعبير- حدثت في أمرين اثنين وهما (الشعر وروايات الحديث) وكلاهما محكومين بإطار سياسي لا يشجع على المغامرة خارج الدين والقبيلة.
الخامس: أن بعض رحلات السندباد تَذكر إطعام الوحوش وآكلي لحوم البشر لرفاق السندباد طعاما أو عُشبا يُسبّب الجنون ورفع الشهية من أجل الطعام الزائد لتسمين البشر والإكثار من لحمهم ، وبرغم عدم ذكر إسم هذا العُشب لكن آثاره من رفع الشهية تنطبق على نبات (القنب الهندي) أو الماريجوانا الذي يدخل ضمن مركبات مُخدّر الحشيش، ومن يعتقد أن هذا العُشب المذكور في رحلات السندباد هو القات اليمني العربي فهو مخطئ لأن القات يُفقِد الشهية لا يفتحها، وبالتالي فقدان عنصر التسمين لأكل لحوم زملاء سندباد، لاسيما أن القنب كان ولا يزال جزء من طعام البانج المقدس Bhang الذي يأكله الهنود في طقوسهم الدينية، ودخول هذا المخدّر في ثقافة الهنود الدينية دالا على تناول الشعب لها منذ فترة طويلة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدين أو العُرف الشعبي عن وصايا الآلهة.
إنما في دائرة المعارف الإسلامية- مجموعة مؤلفين – لهم رأيا آخر، فيقولون في موجزها أن حكايات ألف ليلة وليلة - بما فيها رحلات السندباد - ذات أصلٍ فارسي بقولهم:
"عند البحث عن أصل حكاية الحيوان في الأدب الفارسى يعترضنا عدم وجود كتب دنيوية بالفعل ترجع إلى ما قبل القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادى). وأقدم المصادر الأدبية الباقية التي ترد فيها حكايات للحيوان (إذا ما استثنينا القطع الباقية من كتابى رودكى المتوفي عام 329 هـ = 940 - 941 م، "كليلة ودمنة" و"سندباد نامه") هي ترجمة أبي المعالى نصر الله للكتاب الأول، التي قام بها عام 538 - 539 هـ = 1143 - 1145 م، ورواية ظهيرى سمرقندى للكتاب الثاني المؤلف عام 556 - 557 هـ = 1160 - 1161 م. وفي حين نجد أن كتاب كليلة ودمنة صدر من الهند على وجه اليقين. فإن ب. ا. بيرى B.E. Perry أثبت بالدليل المقنع أن كتاب سندباد من أصل فارسى (The Origin of the book of sindbad، برلين سنة 1960)، وإن كان فيما يرجح لا يرجع تاريخ تأليفه إلى ما قبل القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادى). ويمكن تتبع تاريخ كتاب هزار أفسانه، الذي يظن أنه الأصل الفارسى لألف ليلة وليلة إلى العصر نفسه تقريبا" (موجز دائرة المعارف الإسلامية 14/ 4479)
وهنا مؤلفي الموسوعة والموجز لم يناقشوا رأي المسعودي وابن حزم وبحثوا في المخطوطات، في حين أن أقدم كتب هذه الحكايا مفقودة لكونها ظلت قروناً طويلة متداولة شفهيا على طريقة القصاصين حتى أشار إليها مؤرخي الدولة العباسية إلى أن تُرجمت للاتينية في القرن 18 ثم انتقلت للعرب في القرن 19، فلا أعلم على أي منهجية استندوا للقول بأصل السندباد الفارسي والدليل مفقود؟
وبرأيي أن هذا القول يناقش مصدر انتقال الحكاية للعرب وهم الفرس فعلا الذين نقلوا بدورهم تلك الحكايا من الهند بحُكم الجوار الجغرافي والاحتكاك في طرق التجارة والعلاقات السياسية والاجتماعية، وبالتالي لا حاجة علمية للبحث في صدقية مقولات دائرة المعارف الإسلامية من باب المعرفة الجزئية لا الكلية بأصل الحكاية ومنبعها، والدليل في ذلك أن مصنفي دائرة المعارف ذكروا في معرض قولهم بفارسية القصص حكايات "سندباد نامة" وهي حكايات مختلفة جوهريا عن حكايات السندباد البحري، فالسندباد نامة رجل حكيم يعمل في السياسة وله اتصال بأساطير الوزراء السبعة وغيرهم، لكن البحري يظهر من سياق أحداثه أنها حواديت ذكرت قبل تكوين الدول المعروفة وأنها مجرد سلطات ومواجهة بين الشر والخير في إطار اجتماعي وإعجازي.
حتى عندما ناقش علماء الموسوعة رأي المسعودي كتموا رأيه القائل بهندية القصة، واكتفوا بالإشارة إليها ضمن حلقات مسلسل ألف ليلة وليلة، وهذا تدليس بائن وقع فيها مصنفي دائرة المعارف الإسلامية على ما يبدو أنه قد برر إليهم ذلك بانحياز تأكيدي في المقدمة قالوا فيه بفارسية القصة..وبالتالي فمناقشة القرائن والشواهد لا يجوز فيه الخروج عن تلك الحقيقة، أو ربما وصل إلى أسماعهم أن القول بهندية القصة يجعلها قصص كافرة تدعو للتناسخ وعبادة الأوثان، بينما فارسية القصة في القرن الثاني الهجري يجعلها إسلامية صِرفة تنطبق أحداثها على جغرافيا العرب في ذلك واعتبار أن بغداد كانت مركز العالَم في صورة الخلافة العباسية.
وقد حسم ابن النديم تـ 438 هـ في الفهرست هذا الخلاف بقوله "وكان قبل ذلك ممن يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعة منهم عبد الله بن المقفع وسهل بن هارون وعلي بن داود كاتب زبيدة وغيرهم وقد استقصينا أخبار هؤلاء وما صنفوه في مواضعه من الكتاب فأما كتاب كليلة ودمنه فقد اختلف في أمره فقيل عملته الهند وخبر ذلك في صدر الكتاب وقيل عملته ملوك الاسكانية ونحلته الهند وقيل عملته الفرس ونحلته الهند وقال قوم أن الذي عمله بزر جمهر الحكيم أجزاء والله أعلم بذلك كتاب سندباد الحكيم وهو نسختان كبيرة وصغيرة والخلف فيه أيضا مثل الخلف في كليلة ودمنة والغالب والاقرب إلى الحق أن يكون الهند صنفته" (الفهرست 370)
فبرغم ترجيح ابن النديم هندية القصص لكنه لم يبحث علميا ومنهجيا في المصدر، وقال برأيه وجوديا أو بطريقة شخصية على ما يبدو، فهو لم يستقص المسألة علميا فخرج قوله قاصرا في المنهج حتى لو كان صحيحا، وفي تقديري أن ما فعله ابن النديم كان يعبر عن طريقة تفكير بدائية في عصره لا ترى العلم والتاريخ بمنظور الوثائق والأدلة بل بمنظور المُشاع والموروث الروائي علما بأن عصر ابن النديم شهد الإحياءة الأولى لعلم الحديث وظلت حتى زمن الحاكم النيسابوري والبيهقي في القرن الخامس الهجري، وما يعزز هذا الرأي أن المصنف لم يذكر قصة السندباد البحري بل السندباد الحكيم المتداولة فارسيا ودخلت مناطق العرب في عصر التدوين خلال الحقبة العباسية الأولى بفضل جهود الترجمة التي بدأت منذ عصر المهدي والرشيد والمأمون.
إنما تفاعل العرب مع هذه القصص عموما هو طبيعي وربما تحدث إضافات جوهرية لها عن طريق الرحّالة والقصاصين الذين اشتهروا في العصر العباسي، وبما أن الأصل الهندي لحكايات السندباد مفقود ولم نرث عنه سوى ما أشاعه العباسيون فيُحتمَل أن تغييرا قد طرأ على محاور القصة لصالح الثقافة العربية والإسلامية..لكن ظلت طبيعة القصة من جوانب (الغاية والمكان والأسماء ) محتفظة بهويتها غير العربية والإسلامية ، فالغاية من حكايات السندباد - كما تقدم - لم تكن تضحيات مقبولة شرعا بل انتحار في عَرَض البحر، فضلا عن فقر الخيال العربي عن صناعة وإيجاد هذه الوحوش الأسطورية الذي سبق القول فيها أن العرب والمسلمين نقلوا هيئة وحش السيكالوب اليوناني لحكايات المسيح الدجال وأنزلوا صفات السيكالوب بالحرف على الدجال، وصاحب كتاب "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" ينقل كثيرا من الثقافة العربية المتأثرة فقط بالجن والعفاريت مما يعني أن عنصر التشويق والتخويف عند العرب القدماء لم يعرف وحوشا كالتي عرفها السندباد بل أقصى ما وصل إليه هو الخوف من العفاريت وهي كانت ولا زالت خصيصة عربية..
علما أن العرب وحدهم الذين عرفوا الجنّ وجعلوا لها أديانا وحياة موازية للبشر، بينما سائر الأمم عرفت فقط الشياطين والأرواح الشريرة، ولم يؤمنوا بكائنات خفيّة لها أديان تفعل الخير وغير متماسة مع حياة البشر.
أما من حيث المكان فجغرافيا قصص السندباد تحكي عن بحور ومحيطات مفتوحة وجزر كثيرة لا تتوفر في جغرافيا الخليج، حتى الأسماء وهو "سندباد" ذو أصل هندوآري ويعني (البطل أو المُمَجّد) ويُنطَق هنديا (زينداباد) وفي الأفلام والثقافة الهندية يذكرون دائما بلدهم في سياق البطولة بهذا اللفظ (هندوستان زينداباد) أي تحيا الهند والمجد للهند والتضحية للهند حتى عاصمة باكستان سميت ب "إسلام أباد" في هذا السياق وتعني باللغة الأردية والثقافة الهندوآرية (تحيا الإسلام والمجد للإسلام والتضحية للإسلام) وقد بُنيت هذه المدينة في ستينات القرن العشرين بدلالة دينية محضة تحصر إسلام الهنود في أرض الطهارة أي باكستان باللغة المحلية، وهو كان ولا يزال محور صراع طائفي بين الهندوس والمسلمين أدى لانفصال باكستان عن الهند
وما سبق يشير لدلالة أخرى للفظ السندباد وهي التضحية، فالشخصية الأسطورية بالكامل تمت صناعتها في معامل تؤمن بالتضحية كغاية ليست دينية، وهذه المعامل وجدت عند العرب فعلا لكنها لم تؤمن بالتضحية سوى للدين والقبيلة الذين كان لهم ارتباطا وثيقا بالسياسة وصراعات السلطة، حتى هذه الجزئية بعيدة عن جوهر قصص السندباد التي تختفي منها رائحة السياسة وتدور في محور اجتماعي إنساني بحت، وعندما قررت السينما الغربية إخراج هذه الأساطير في قالب سينمائي ودرامي أضافوا إليها اللمحة الرومانسية كالتضحية من أجل العشيق وغيرها من إضافات يونانية كوحش السيكالوب اليوناني المذكور في ملاحم هوميروس قبل الميلاد.
والسيكالوب جرى تصويره في فيلم "رحلة السندباد السابعة" عام 1958 بطولة "كيروين ماثيوز" Kerwin Mathews وفيه مزيج بين كلام هوميروس وخيال هندي بأسطورة السندباد، علما أن إسم السندباد هندوآري كما تقدم وبالتالي فهو متداخل في صميم الثقافة الفارسية أيضا، والتاريخ الإسلامي يحكي قصة الجنرال "سنباذ" أحد قادة الثورات الخرمكية المجوسية ضد الخليفة العباسي "المنصور"، ويمكن اعتبار ثورات الخرمكية وأشهرها "بابك الخرمي" نقطة تحول في العلاقة بين العرب والفرس التي انتقلت بعدها الخلافة العباسية إلى عصر جديد وهو (عصر الترك) الذي مهّد للعصر العباسي الثاني والانقلاب على على أشهر عقائد المجوس وهي (حرية الاختيار) التي قال بها الفلاسفة وحكماء المعتزلة، إلى أن عارضها الجبريون من أهل الحديث وتمكنهم من الحرب عليها بداية من عصر المتوكل بالله..
ويمكن ذكر تفاعل العرب مع قصص السندباد على نحو تفاعلهم مع قصص الزير سالم وأبو زيد الهلالي وعنترة العبسي وعلاء الدين وفي مصر حكايات علي الزيبق التي شاعت في العثماني، وكما أن القبيلة كانت محور صراعات العبسي والهلالي كان للدين طابع جزئي في حكايات علي الزيبق وصراعه مع المقدم سنقر الكلبي عن طريق تصوير الكلبي ودليلة كجواسيس للمجوس الإيرانيين عُبّاد النار، وهو طابع ديني يكشف عن الصورة التي كان يسوّقها العثمانيون عن خصومهم الصفويين في إيران أنهم مجوسا يهدفون لنشر عبادة النار وترك الإسلام، وبرغم أن التاريخ ينفي هذا الطابع عن دولة الصفوي بل أن صراع الدولتين (الصفوية والعثمانية) كان على النفوذ والسياسة لكن سلاح الدين جرى توظيفه في المعارك لأغراض الحشد والطائفية والسيطرة على العوام وزرع الأمل في نفوسهم بحتمية الانتصار والظهور بأمر السماء.
إنما النقلة الأهم في تقديري لحكايات السندباد هو تحويلها من حكايا القهاوي والحارات لأدب الأطفال على يد المرحوم "كامل الكيلاني" في كتابه "السندباد البحري" الذي جاء امتدادا لأول مجلة أطفال في الشرق الأوسط على يد رفاعة الطهطاوي سنة 1870م باسم "روضة الأطفال" أو " روضة المدارس" كجزء من سلسلة تعليم الأطفال في المرحلة الابتدائية، ومن يومها حصلت حكايات السندباد على اهتمام الكبار والصغار معا، والدارس في الأدب يرى أن المفردات والطبيعة والأحداث والمفاهيم الأدبية والقصصية لها خاصّية عُمرية في مراحل السن المختلفة، لاسيما أن عقول الأطفال ذوي طبيعة بدائية تتطلب سهولة وتيسيرا للألفاظ ومحاكاتها عقل الصغير بوضوح دون لبس مصطنع أو البحث فيما وراء المعاني والمجاز كما عند الكبار، فالطفل في الأخير لا يملك عقلا مجازيا ولا يمكنه التفاعل مع وسائل التأويل والتفسير..بينما هذه مَلَكات وقدرات حصرية للكبار.
مما يعني أن هذا الانتقال لحكايات السندباد لتناسب الأطفال كانت له ثمرة كبيرة في شرح مفاهيم وقصص السندباد والإضافات السهلة عليها لتصل إلى عقول كافة الفئات، حتى صوّرت بأكثر من شكل في السينما والدراما بنفس القدر من التفاعل إلى أن وصلت لمرحلتها الأخيرة منذ عقود في أفلام الكارتون الموجهة للطفل.
لكن قصص السندباد على ما يبدو لم تَحُز على اهتمام الشيوخ والإسلاميين وظلت حِكرا على أعمال الأدباء والفنانين والمثقفين، فعقول الجماعات الدينية والأحزاب العقائدية ترفض إعطاء دور البطولة لغير المسلمين..وخصوصا ممن يظهر في سيرتهم بُعدا عقائديا كتصوير الآلهة والطقوس المختلفة للأديان، وقصص السندباد مرّت بأكثر من إضافة وتحوّلات حتى صارت جزءا من الثقافة الزرادشتية بتعظيم النار أو من الثقافة الغربية بتعظيم آلهة اليونان، ومن هذه المرجعية يكتب الكاتب الفلسطيني " جهاد التُرباني":
" ففي الوقت الذي نجد أن وسائل الإعلام العربية ومناهجنا التربوية لا تذكر اسمه من قريب أو بعيد، نجد أن تلك الوسائل ذاتها هي التي تمجد شخصية خرافية مثل "سندباد" والتي لا محل لها في الوجود التاريخي أصلًا، فمن هو سندباد؟ وما اسم أبيه؟ وأي كتاب ترك؟ لا شيء على الإطلاق طبعًا، فهو شخصية عديمة الوجود زرعها في أدمغتنا غزاة التاريخ لكي نكون نحن أيضًا عديمي الوجود مثله!! وقصص سندباد الخرافية مع طائر العنقاء ومغامراته لا تساوي شيئًا أمام مغامرات هذا البطل الإسلامي الحقيقي: بيري رئيس رحمه اللَّه تعالى" (كتاب : مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ صـ 280)
وكلام التُرباني لتعظيم القائد العسكري والبحّار العثماني " بيري رئيس" المتوفي في القرن 16 م والذي يُزعَم أنه مكتشف أمريكا الحقيقي قبل كريستوفر كولومبس، ونفي الكاتب لبطولة السندباد واعتباره مؤامرة غربية تهدف لتغيير عقيدة المسلمين مذكور ضمن حملات الشيطنة الدينية من قِبَل الجماعات الإسلامية للحداثة بشكل عام والغرب بشكلٍ خاص تحت دعاوى الاستعمار والتغريب والتنصير..إلخ، الذي بالنسبة للمواطن العادي المسلم من الطبيعي أن يستقبل كلام التُرباني بارتياحية ومنطقية تفسر له الهجمة على المسلمين والعداء الأمريكي الصهيوني لثوابتهم، وبهذا الإحكام المنطقي ترسخت لدى الجماعات حقيقة أن كل ما يُنتجه الغرب من أفكار سواء منجزات علمية واكتشافات وفنون وأدب يهدف في عمومه للحرب على الإسلام، وكان سببا رئيسيا في إقناع جماهير المسلمين وعوامّهم بكراهية العلم والعقل واعتبارهم مؤامرة غربية..!
والمثير عندي في كلام التُرباني أنه يتجاهل أن الدجال والشاطر حسن ويأجوج ومأجوج لا يُعرَف لهم نَسَبا ولا أصلا قبائليا وإن ذُكِرَ الأخيرين كجنسية شعب مثلما ذكر السندباد أنه عربي أو غربي أو هندي أو فارسي، وبالتالي فما يعتقده بشأن الدجال ويأجوج ومأجوج هو خرافة بنفس المنطق، كذلك في قصة النبي عيسى فلا يُعرَف له نَسبَا، وحسب منطقه فمعرفة الوالد ضروري للحكم بواقعيته التاريخية ولا يكفي دور الأم في الحكم بالأصل العشائري، وهنا لمحة عربية شكّلت مرجعية الكاتب وهي التفكير بشكل قبائلي في الحكم بواقعية الأحداث، وبالتالي فخصوم قبيلة عبس العربية لهم الحق في إنكار بطولة عنترة والقول بخرافيتها بنفس المنطق، وما وقع فيه الكاتب هو نتيجة طبيعية لأخطاء الإسلاميين في تناولهم للحداثة والإصرار على الإطلاقية والأحكام المعممة وعدم التفصيل والتحليل وتناول القضايا بموضوعية.
#سامح_عسكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف نفهم الوحي؟
-
في عشق المراهقين والكبار
-
قصتي مع أبي طالب عم رسول الله
-
اليهودية ديانة تبشيرية كغيرها
-
الدليل العقلي في الإيمان
-
أكذوبة وأد العرب للبنات
-
المعالم الحديثة للإرهاب الفكري
-
الدين الوجودي والإيمان الأعمى
-
متلازمة سيفر والسياسة التركية
-
في ظاهرة الشيخ عبدالله رشدي
-
كيف تتحول الدول للحُكم الديني ؟
-
العرب كمشروع تركي إسلامي
-
مستقبل العلمانية في تركيا
-
أرض اليسار المأزوم
-
صفحة من جرائم التاريخ..خالد ومالك بن نويرة نموذجا
-
العثمانيون وخطايا التاريخ في آيا صوفيا
-
جدلية التحرش بين المثقف والشيخ
-
مقدمة في دواعش الفن المصري (5)
-
مقدمة في دواعش الفن المصري (4)
-
مقدمة في دواعش الفن المصري (3)
المزيد.....
-
بالصور..هكذا يبدو حفل زفاف سعودي من منظور -عين الطائر-
-
فيديو يرصد السرعة الفائقة لحظة ضرب صاروخ MIRV الروسي بأوكران
...
-
مسؤول يكشف المقابل الروسي المقدّم لكوريا الشمالية لإرسال جنو
...
-
دعوى قضائية ضد الروائي كمال داود.. ماذا جاء فيها؟
-
البنتاغون: مركبة صينية متعددة الاستخدام تثير القلق
-
ماذا قدمت روسيا لكوريا الشمالية مقابل انخراطها في القتال ضد
...
-
بوتين يحيّد القيادة البريطانية بصاروخه الجديد
-
مصر.. إصابة العشرات بحادث سير
-
مراسل RT: غارات عنيفة تستهدف مدينة صور في جنوب لبنان (فيديو)
...
-
الإمارات.. اكتشاف نص سري مخفي تحت طبقة زخرفية ذهيبة في -المص
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|