|
مورفولوجية الرمز وخطاب التميمة
عبد الإله بوحمالة
الحوار المتمدن-العدد: 1602 - 2006 / 7 / 5 - 03:29
المحور:
الصحافة والاعلام
لم يعد من المستساغ اليوم، لأي بحث في مجال الدعاية أو الخطاب السياسي والتسويق الإيديولوجي والإشهار، أن يقف عند حد الهوية اللفظية لأي خطاب من الخطابات، ويصب اهتمامه عليها بالكامل أثناء التحليل، دون تجاوز ذلك إلى الهوية البصرية طالما كانت موجودة ومقصودة كـ"صورة" أو كـ "شعار" مصاحب، ثم يعول على الوصول إلى نتائج موضوعية ومتكاملة. فكل اكتفاء من هذا القبيل هو اجتزاء ووقوف عند مستوى واحد من المعنى الذي تحمله الرسالة عموما، والذي يتوخى المرسل تبليغه للمتلقي من خلال عملية تركيب ومزاوجة واعية بين "السندين الخطابيين" أو الهويتين الخطابيتين. هذه الملاحظة تنطبق على أحد الشعارات التي ظهرت في المغرب في سياق التفاعل ضد الأحداث التي شهدتها مدينة الدار البيضاء في ماي سنة 2003. فقد كان شعار "متقيش بلادي" الذي صمم للتعبير عن موقف المجتَمَعَين المدني والسياسي إزاء العمليات الإرهابية، شعارا مزدوجا من حيث السجلات والمضامين والخصائص التعبيرية، ومتراوحا في رسالته بين ما هو لفظي لساني وما هو رمزي "أيقوني". في هذه الرؤية سنعود إلى ذات الشعار، على سبيل الاستدراك، لتفكيكه واستقراء معانيه بهدفين: ـ الأول: استكشاف دلالاته وإمكاناته التأويلية. ـ والثاني: محاولة فهم الآليات التي تشتغل وفقها مثل هذه البنيات الخطابية التي يتجاور فيها النصي/ اللفظي بالرمزي/ "المساحي" ويتكاملان لإنتاج رسالة واحدة. وسنتصدى لذلك من خلال أربع مستويات:
ـ أولا: المستوى التشكيلي، من خلال المظهر والمكونات. ـ ثانيا: المستوى اللفظي، من خلال اللغة والتركيب. ـ ثالثا: المستوى الدلالي: من خلال التأويل والاستحضار. ـ رابعا: المستوى التواصلي: من خلال ثلاث فواعل أساسية. لكن قبل ذلك لابد من تقديم خلفية عامة عما نقصده بالمفهومين الواردين في العنوان أعلاه: أي مفهوم "الرمز" ومفهوم "التميمة".
أ ـ مفهوم الرمز: يعرف الرمز بأنه علامة اصطناعية مختزلة اختزالا تكثيفيا. وهو تحميل لمجموعة من القيم والمعتقدات الثقافية والفكرية السائدة، التي تتحول إلى تمثيل بصري لمجموعة من الدلالات لها سنن خاص في توافقات مستعمليها. والرمز من حيث بعده السيميائي ليس "علامة اعتباطية، ولا يستعمل كيفما اتفق، بل هو علامة تتضمن في خارجيتها بالذات مضمون التمثل الذي تظهره" كما يذهب إلى ذلك هيجل. يؤسس الرمز سلطته على المتلقين، داخل نفس النسق الاجتماعي والثقافي، من خلال التداول، وتتحقق استمراريته عن طريق الاستعمال الدائم في نشاط الجماعة التعبيري وتواصلها اليومي. وتستوعب بعض الرموز الشائعة، أحيانا، مستويات متباينة من القيم الثقافية، حيث تدمج في الآن ذاته بين خصائص "الثقافة العالِمَة"، المبنية منهجيا على تفكير علمي أو فلسفي، وبين خصائص "الثقافة الشعبية" التي تستند إلى تصورات خرافية وأسطورية. ويلجأ الإنسان للتعبير بالرمز استجابة لحاجات اجتماعية أو نفسية أو ثقافية أو دينية طقوسية..، أو باختصار استجابة لحاجة تواصلية قائمة على الإبلاغ والتفاعل والتوجيه والإقناع ومخاطبة الذاكرة والبصرية...
ب ـ مفهوم التميمة: التميمة عامة، شكل منحوت أو محفور أو منقوش، مادته الخشب أو الطين أو الأحجار أو المعادن المختلفة، سواء كانت نبيلة أو لم تكن. وهذا الشكل يمكن أن يكون رسما تعبيريا لحيوان أو طائر أو إنسان أو كائن من الكائنات الخرافية الخيالية.. كما يمكن أن يكون كتابة طَلْسَمية مبهمة أو رموزا غامضة أو متواليات من رموز وحروف وأرقام وأشكال هندسية أو علامات فلكية.. إلخ. وتختلف التمائم من شعب لآخر ومن ثقافة لأخرى، فهناك تمائم عبارة عن بقايا نباتية كالجذور والبذور، أو حيوانية كأجزاء من العظام والأسنان والريش والشعر والقواقع، وهناك تمائم مصنوعة من حجارة كالكهرمان أو الفيروز أو من حصى أو معادن كالذهب والفضة والنحاس والحديد.. وتتراوح أشكال التمائم من "الخميسة"، إلى المصحف "الحلية"، إلى السبحة، والصليب إلى حذوة الحصان.. إلخ. وتعني التميمية، في الدراسات الأنتروبولوجية نوعا من الاعتقاد الديني أو الخرافي السائد، الذي يؤمن بانعكاس قوى ما فوق الطبيعة ( قوى الخير والشر )، على الأشياء المادية وتلبسها بها. هذا الانعكاس يكسب الأشياء ( التمائم )، قوة سحرية غير عادية يمكن أن تكون عدوانية تسبب الأدى والمضرة، أو حمائية تقي ضد كل أنواع السوء كالعين والحسد والأمراض العضوية والنفسية ومس الأرواح الشريرة والجن والشياطين. والتميمية هي النقطة التي يتقاطع عندها الدين في ممارسته الشعبية بطقوس السحر والشعوذة وخرافات المعتقد الوثني أو البدائي. وهي عند علماء الاجتماع المنطقة المظلمة الغامضة التي يتحرك فيها بعض من يدعون القدرة على التوسط بين عالم الغيب والأرواح وعالم الإنسان، ( من "فقهاء"، و"طلبة دين"، وسحرة، ودجالين، ومشعوذين )، لاستجلاب القوة والمنفعة والشفاء والتحصين لمن يطلب ذلك. وقد لاحظ بول باسكون ( عالم اجتماع )، في هذا الصدد أن قليلا من الناس بالمغرب "من يعيش من دون حماية التمائم. [ يقول ]، فحيثما توجهت وسط الشعب ترى صغار الأطفال والنساء الحوامل والمرضى والأشخاص المشوهين أو المعوقين يعلقون بأعناقهم جرابات ضئيلة الحجم تتضمن بعض الطلاسم الواقية. كما [ ترى ] أصحاب السيارات يعلقون سبحات أو علامات نذرية في المرآة الارتدادية لداخل السيارة، وأصحاب الشاحنات يعنون بحماية عربتهم، من الأمام والخلف، عن طريق [ كتابة ] بعض الصيغ الدينية و[ رسم ] اليد التي يقال أنها يد فاطمة. بل إن الحيوانات ذاتها ( الأمهار والأبكر ) تحمل تمائما. وحيثما يكون الخطر واقعيا حقا وذا احتمالية عالية، يربط المغاربة، بالاحتياطات المادية والضمان المالي وقاية دينية وحماية سحرية" .
I ـ المستوى التشكيلي: المظهر والمكونات.
أ ـ الماهية والحالة: الرسم عبارة عن تشكيل خطي اختزالي "مُنَمَّط" لكف بشرية بأصابع منتصبة للأعلى في مواجهة مستوى النظر مباشرة. وهو مجرد من الأبعاد الحقيقية للكف باستثناء الشكل المساحي الخارجي والمعالم العامة. ب ـ الشكل: الخنصر والإبهام متساويان ومتناظران مع تدبيب مائل على طرفي الكف، فيما تنتصب الأصابع الثلاث الأخرى في الوسط متلاصقة مع طول طفيف منطقي في الوسطى.
ج ـ اللون والظل: رقعة الرسم حمراء بلا تخفيف أو تدرج أو انكسار، مع توشية على مستوى الحواف باللون الأخضر. لون النصين العربي والفرنسي، داخل رقعة الكف، الأبيض. وليس للرسم ظل ولا خلفية ولا بعد ثالث.
د ـ الخط والتوزيع: عبارة "متقيش بلادي" مكتوبة في منتصف رقعة اليد في سطر واحد، بخط مضغوط ذي انحناءات لينة. أسفلها المعادل الفرنسي "touche pas a mon pays " ببنط أدق وتقويس مقعر مفتوح نحو الأعلى بموازاة قاعدة الكف.
II ـ المستوى اللفظي: اللغة والتركيب.
إذا فككنا عناصر العبارة/ الشعار إلى وحدات مستقلة، وأظهرنا المضمر فيها، سنجد أنها تتكون مما يلي: أداة للنفي/ النهي فعل مضارع علامة النفي/ النهي ( لاحقة ) فاعل ( مستتر ) مفعول به. وهي مبنية في الجملة على النظام التركيبي والوظائفي التالي: ( مَ ): أداة النفي/ النهي، الأصل فيها ( ما ) حذف منها حرف المد الألف. وللإشارة فهذه خاصية موجودة في العامية المغربية حيث يكثر السكون ويقل المد في الكلمات. ( تْقِيس ): ( تمس أو تلمس.. )، مصرفة في الزمن المضارع، وقد أدغم السين الأصلي في الكلمة في الشين ( اللاحقة ) لأنهما حرفان لثويان احتكاكيان، وعامل الإدغام هنا يقتضيه التجاور الصوتي وضرورة التخفيف. ( شْ ): علامة النفي/ النهي ( الفاعل ): مضمر يقدر بضمير المخاطب أنتَ ( وقد تعني في هذا السياق أنتم أيضا ). ( بلاد ): ( الوطن/ المغرب ) مفعول به وهو موضوع نفي الفعل الواقع عليه. ( ي ): تؤدي معنى النسبة أو الإضافة أو المِلْكية. يرتبط أسلوب هذه العبارة بما يعرف في العامية المغربية بفاعلية الحذف والاختصار والإدغام، وهي تحيل على معنى التنبيه والتحذير والتهديد. لكن المتأمل لهذه العبارة/ الشعار يجد أنها تكاد تكون مقتبسة حرفيا من الفرنسية، فالشعارات التي تبدأ بصيغة "touche pas" شائعة في خطاب الحركات الاجتماعية وحركات المطالب والحقوق وفعاليات المجتمع المدني في فرنسا، وتستعملها كل الفئات بما فيها المتطرفين والعنصريين والمنحرفين والشواذ. وهي كما يظهر تنتمي تعبيريا للقاموس الشعبي وللهجة الضواحي والمهمشين من أبناء الجاليات والفقراء في فرنسا، أي أنها شعار مستعار في الجانب المتعلق بالصيغة اللفظية فيه.
III ـ المستوى الدلالي: التأويل والاستحضار.
أ ـ الألوان: اعتمد مصممو الشعار/ الملصق، على كل ما هو مألوف ومعروف عند المتلقين بدلالاته وحمولاته، سواء على مستوى اللغة أو الرمز، كما هو الشأن بالنسبة لأيقونة الكف. وذلك للذهاب بالرسالة مباشرة إلى حيث كان يجب أن تصل: أي إلى عمق الجمهور المخاطب بمختلف مستوياته الاجتماعية والثقافية والتعليمية. ولعل مما يؤكد هذا الزعم مسألة اختيار الألوان وتوزيعها، فهي خاضعة لتسنين واضح رغم أنه بسيط ومباشر. فإضفاء كل من اللونين الأحمر والأخضر على مساحة الكف وحوافه، هو إحالة واضحة على الألوان التي يتكون منها العلم الوطني ونجمته الخماسية. لكن مع ذلك يبقى لهذا الاختيار حظه من التوفيق والسداد فاللون الأحمر كما هو معروف من الألوان الساخنة وله دلالات تحقق في مجموعها الهدف الذي كان يراد للأيقونة أن توحي به للمتلقين من رسائل وخطابات فهو في نفس الوقت "رمز الحب والخطر، إنه لون الدم والموت أحيانا، [...] ويمثل أيضا في المعتقد الشعبي الشر والكفر" ، ويحيل على الصراع السياسي والاجتماعي كما يرمز للعنف والقتل والظلم والإرهاب. أما اللون الأخضر الذي أصبغ على التوشية الجانبية للأيقونة فيرتبط في المتخيل الشعبي بكل القيم الإيجابية، بدءا بالخصب والعطاء والتفاؤل والحيوية والشباب والتجدد، مرورا بأهم معنى يمكن أن يتقاطع مع سياق الحدث وهو الإحالة على السلام والاعتدال، وانتهاء بالإحالة على المقدس الديني والطقوسي، فهو اللون الذي يضفى عادة على الصورة الذهنية للجنة عند المسلمين، وقد أنزلته المعتقدات الشعبية من السماء إلى الأرض فارتبط بالمساجد والزوايا والأضرحة وملابس الشيوخ ورجال الدين والمتصوفة وأهل الطرق من باب التبرك والتفاؤل. ثم أخيرا، اللون الأبيض وهو اللون الذي كتبت به الرسالة اللفظية للشعار ( بالعربية والفرنسية ). ومعروف أن الأبيض يرمز للصفاء والسلام والسكينة والأمان والطهر والبراءة. وهو في العديد من الثقافات لون للكائنات النورانية والأرواح الخيرة والملائكة. وباستثناء إحالته على الحزن كما هو الحال في المغرب، يرتبط هذا اللون بكثير من القيم الإيجابية نذكرمنها: ـ التسامح: يوصف الإنسان السمح عادة، بأن قلبه أبيض. ـ الطيبوبة: يقال للشخص الطيب شخص سريرته أو طويته بيضاء. ـ الاستقامة والصلاح: يقال لمن لا يرتكب المعاصي والذنوب بأن صحيفته ناصعة البياض. كما يحيل على المعنى الإيجابي للوحدة السياسية، فهو اللون الذي يضم في تركيبته كل ألوان الطيف الأخرى.
ب ـ الكف: من أشهر الرموز والتعويذات الشعبية ذات المدلول "السحري" التي يشيع الاعتقاد في قوتها الحمائية ضد العين واللسان، نجد تعويذة الكف. وتعرف عند العامة باسم "الخميسة" لكونها تمثل صورة اليد البشرية بأصابعها الخمسة. ويتم تعليقها عادة على الصدر أو جدران البيت أو المدخل الخارجي للمنزل أو في السيارات .. في مواجهة أعين الناظرين مباشرة. يقول بول باسكون: "لهذا فإن كل شيء مرغوب فيه أو معروض [ للأعين ] يحمل [ رسم ] يد، أقدر عضو على الحماية من العين. إن راحة اليد المفتوحة بأصابعها المنتصبة هي أضمن ملاذ سحري" . ورمز الكف معروف منذ القديم في منطقة البحر الأبيض المتوسط فقد "عرف تحت أسماء متعددة: «يد الرب» و«يد الإله بعل» في المسلات الفينيقية والقرطاجية. و«يد مريم» عند الأوربيين «كف فاطمة» في الشمال الإفريقي وبلاد المغرب، وعرف «بكف عائشة» أيضا و«كف مفتوحة» و«كف العباس» و«خمسة وخميسة» عند الشرقيين العرب وبعض المغاربة و«المربعة» في تونس" . ويسمى عند اليهود «حمسة أو شمسة» وتعني أيضا رقم خمسة. ولعل الوظيفة الحمائية أو العلاجية التي أسبغت على هذا الرمز تمت بصلة لإحدى الأساطير اليونانية التي تتحدث عن الإلهة "هيجيا" ( Hygie )، ( إلهة الصحة )، التي تشفي المرضى بلمسة من يدها.
ج ـ العين: أهم عنصر إضافي يرتبط برمز الكف عادة هو صورة العين المفتوحة في وسطه. لكن هناك بعض اللوحات والرسوم الشعبية الإسلامية، التي تحيطه بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية في موضوع الحسد، أو تضيف إليه عبارات التكبير أو الحوقلة والصلاة على النبي، وبعض العبارات الشائعة مثل ( عين الحسود فيها عود ) على سبيل المثال. غير أن الشعار الذي نحن بصدده اعتمد تورية مخالفة بعض الشيء فيها اجتهاد مقبول إلى حد كبير، إذ استعاض مصممو الشعار عن رسم العين بالجانب الغرافيكي للعبارة اللفظية التي حلت محله وأدت وظيفته. لذلك فبالرغم من غياب هذا الرمز بذاته يبقى من الضروري لقراءة الرسالة متكاملة استحضاره بمعانيه وهي على أية حال معاني حاضرة في رمز الكف على سبيل الملازمة، فالعين هي العضو الذي يعتقد أن الضرر يعبر من خلاله من الشخص العائن إلى الشخص المصاب، لذلك تعبر بعض الرسوم الرمزية عن ذلك بإضافة سهم يخترق العين في وسط الكف. يفسر ابن خلدون الإصابة بالعين بأنها من قبيل التأثيرات النفسانية التي تصدر من نفس "المعيان" ( الشخص الذي يصيب بالعين )،"عندما يستحسن بعينه مُدْرَكا من الذوات أو الأحوال، ويفرط في استحسانه وينشأ عن ذلك الاستحسان حسد يروم معه سلب ذلك الشيء عمن اتصف به، فيؤثر فساده" . وقد لا يفهم المعنى الذي يوحي به استعمال هذا الرمز في سياق كسياق أحداث الدار البيضاء، إلا إذا استحضرنا المقولة التي كانت تهيمن على الخطاب السياسي الرسمي، وحتى الخطابين الإعلامي والأكاديمي، إزاء معضلة الإرهاب آنذاك، ألا وهي مقولة أن المغرب "حالة خاصة" أو "حالة استثنائية" بالمقارنة مع دول عربية أخرى كمصر أو الجزائر. بمعنى أن المجال فيه مفتوح للمشاركة السياسية وللحريات العامة، وبالتالي فلا وجود فيه لفكر وبنيات ومبررات الإرهاب. فاصطدام هذه المقولة/ المسلمة بواقع مناف.. من حجم مريع.. وغير مسبوق ولا متوقع، بالإضافة إلى حالة الغموض والتضارب التي ظلت ترافق الحدث رغم مرور الوقت، وعدم الحسم الرسمي بوضوح في قضية الجهة المسؤولة عما وقع، جعل الصورة ضبابية إلى أبعد الحدود حتى أمام من أنيط بهم تصميم الشعار. وهكذا وقبل أن يستطيع الفكر التحليلي الهادئ تأمل الحدث وفهم دوافعه، ويربطه بأسباب عقلانية وموضوعية، كان الفكر الخرافي حاضرا متحفزا للمصادرة بالجزم بأن ما وقع كان وليد إصابة بالعين، ناجمة عن كيد الحاقدين والحساد وتربصهم بنعم الأمن والسلام الاجتماعي والتعايش والاعتدال التي يتميز بها المغرب.. وتأويلات عديدة أخرى من هذا القبيل.
د ـ النجمة الخماسية: تحضر بقوة في العديد من المعتقدات الدينية والخرافية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وترتبط بطرد الأرواح والشر وجلب الحظ. وترمز لكل ما له علاقة بالسلطة والسلطان الفرد والقوة والهيبة. وفي الموروث الديني يقال أن الشكل الخماسي للنجمة هو الشكل الذي كان مرسوما على خاتم النبي سليمان الذي خص بالتحكم في الجن وتسخيره والسيطرة عليه. وتمثل الأطراف الخمسة المتساوية للنجمة العناصر الخمسة متحدة في الإنسان، ( الماء، الهواء، النار، التراب، الروح ). وقد ترمز أحيانا للإنساء عموما فهي الشكل الأمثل الذي يطابق مراكز الطاقة وتوزيعها في الجسم. كما أن هناك معتقدات تعتبرها صلاة أو دعاء صامتا يقوم مقام الصلوات الشفهية المعتادة. وبالنسبة للنجمة الخماسية الخضراء التي استوحت حمولتها في الشعار من العلم المغربي فترمز في إحدى التأويلات للرباط المقدس بين الله والشعب ( الأمة ). ويتجاوز الاعتقاد في النجمة الخماسية المستوى الشعبي إلى مستوى الرسمي أو النخبوي، حيث يمكن ملاحظتها مسكوكة على النقود أو مستعملة كشعار لقناة تلفزيونية أو علامة تجارية لبعض السلع الاستهلاكية أو علامة تصنيف للمنتوج أو للخدمة، أو علامة مميزة ( logo )، لمؤسسة ما. غير أنه من المفارقات الطريفة التي يمكن أن نلاحظها في هذا الصدد، والتي تؤكد شيوع الاعتقاد في قوة النجمة الخماسية عند الناس، أن مبنى وزارة الدفاع الأمريكية وهو بالرغم من كونه من أكبر الصروح العصرية ذات الغاية العلمية والتكنولوجية الخطيرة والمتطورة، فإنه مع ذلك يبطن البعد الرمزي للنجمة الخماسية في هندسته، فهو بناية ضخمة تقوم على خمس واجهات ( أضلاع ) وبعلو خمس طوابق، وحتى كلمة "بنتاغون" في حد ذاتها هي إحالة على هذا المعنى.
ملاحظة أولى في السياق: إذا كانت قضية الاقتباس الحرفي والاعتماد على الجاهز يمكن تبريرها بدافع الرغبة في التبسيط ومحاولة تقصير الطريق باستثمار الموجود والمتداول بين الناس، فإن مما يستعصي على الفهم أن يكون الشعار خلوا من أيه حمولة دينية واضحة وصريحة، فهذا أمر غير منطقي في مثل هذه الحالات التي يتصادم فيها فهمان متناقضان للدين. فهل نرد ذلك لمجرد نقص في الثقافة الدينية وآليات الخطاب الديني للجهة التي صممت الشعار أم أن الأمر يعود لاعتبارات متعلقة بالجهة التي يوجه إليها الخطاب؟. للإجابة على هذا السؤال نشير إلى أن البعد الاقتصادي كمحرك لعمليات 16 ماي كان قد تم استبعاده عند تفسير الحدث في البداية، وذلك حتى لا تفهم العمليات على أنها رسالة غضب أو انتقام موجهة من طبقة اجتماعية متضررة ويائسة إلى طبقات عليا، أو إلى الدولة عموما ما دامت هي المسؤولة عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للناس، وقد تم الوقوف عند البعد الإيديولوجي الذي يسوغ الإرهاب واستهداف ذوي الديانات الأخرى. إلا أن المسار الذي سارت فيه الرسالة بعد ذلك عاد ليعترف تدريجيا بهذا البعد، ويمكننا أن نتلمس هذا الاعتراف الضمني، أولا، من خلال مدى الاهتمام الرسمي الذي أولي لمعاقل "الهشاشة" والإقصاء والسكن العشوائي، والالتفات إلى شريحة الشباب المهمش، ومحاولة تأهيل الحقل الديني. ثانيا، ـ وهذا ما يهمنا ـ من خلال توزيع اللوحات العارضة في مواقع بعينها، أي عند كل مدخل أو مخرج ينتهي إلى حي شعبي به أحزمة فقر ودواوير صفيح. مما يعني أن الخطاب موجه في عمومه لهذه الجهات الشعبية التي قد تتأثر برمز شعبي ذي دلالة خرافية ونص دارج بسيط أكثر من تأثرها بآية قرآنية أو بحديث نبوي.
VΙ ـ المستوى التواصلي: ثلاث فواعل أساسية.
قد تفيدنا هذه الإطلالة السريعة في تبين عناصر الفعل التواصلي وصيغة الإرسال والتلقي التي أنجزت على أساسها الرسالة، لكن يجب أن نقر مبدئيا أن هوية المرسل والمرسل إليه، ستبقى غامضة ومفتوحة على احتمالات وتأويلات أخرى لأن الرسالة غير محكومة بإطار زمني أو مكاني ثابت، ولربما كان هذا أمرا مقصودا.
أ ـ المرسل: لقد ظهر في الصورة منذ الوهلة الأولى خليط من فعاليات سياسية ومدنية ونقابية بالإضافة إلى بعض الوجوه الثقافية والفنية والإعلامية والرياضية. وكاد الحضور في المسيرة الأولى التي شهدتها مدينة الدار البيضاء أن يكون، بالنسبة للكيانات السياسية، بمثابة إبراء للذمة يتعين تقديمه علنا في ذلك الوقت الحرج نفيا لأي لبس أو غموض ونأيا بالنفس عن الشبهة. كما كان إشارة بالموقف الرافض للإرهاب وإعلانا عن الانخراط في حالة الإجماع العام. ثم إن الاصطفاف الإيديولوجي، الذي طوق بمزايدات سياسية، سار في تلك اللحظة باتجاه إقصاء وتغييب أطراف ذات خلفية "إسلامية" عن بعض المسيرات، مما فتح المجال أمام البعض لانتهاز الفرصة السانحة كاملة لممارسة فعل الإسقاط، تحت ذريعة "من ليس معنا فهو ضدنا"، أي "من ليس معنا فهو مع الإرهاب". إذن نستطيع أن نقول بأن المرسل في هذه الحالة غاب بذاته وحضر بصفاته التي هي: الاعتدال الديني والوسطية واحترام المعتقدات والأديان الأخرى.. وعدم تكفير الآخرين.. والبراءة من التطرف والإرهاب ونبذ العنف.. تبني موقف الجهات الرسمية.. الانخراط في الإجماع.. ثم إعلان ذلك صراحة في الإعلام ومن خلال إثبات الحضور في المسيرات. أي أن المرسل الذي هو في الغالب جهة مدنية، يتقاطع مع الحكومة والأحزاب السياسية ( يمين ووسط ويسار )، وبطريقة ما مع الدولة، في توجيه هذا الخطاب، وإن لوحظ عدم تمريره رسميا على شاشات القناتين التلفزيتين. ربما بسبب المأخذ الخرافي الذي أشرنا إليه.
ب ـ المرسل إليه: لم يعلن أي أحد أو جهة عن مسؤوليته المباشرة عن الحدث فور وقوعه. وتوجهت الأصابع، ( خاصة أصابع الإعلام )، بالإشارة إلى أكثر من جهة، وبالتالي فقد ظل "المرسل إليه" إلى لحظة صياغة الرسالة كيانا غامضا بلا ملامح سياسية واضحة اللهم إلا ما أوحى به السياق الأمني العام المرتبط بما جرى في العالم بعد 11 شتنبر. وهكذا وجهت الرسالة ( وكان لابد أن توجه في نهاية المطاف )، إلى متلق افتراضي عام يمكن أن يشمل كل التالين: ـ المنفذون الذين قاموا بالعمل الإرهابي. ـ المحرضون الذين دفعوهم إلى هذا العمل. ـ المنظرون للإرهاب، بفكرهم وإيديولوجياتهم وفتاواهم. ـ وكل من يتعاطف مع هذه المنظومة المتطرفة من قريب أو بعيد. وتضيف العبارة المثبتة في أسفل الشعار باللغة الفرنسية أمامنا مخاطبا آخر محتملا، هو الإرهاب الوافد من أوربا.
ج ـ الرسالة: اعتمدت الرسالة على سندين متظافرين في إبلاغ محتواها العام: أولا: السند الشكلي بواسطة الصورة/ الرمز، وهو السند الذي يتمثل في صورة الكف بتفاصيلها التي سبق أن توقفنا عندها، ويحمل المعاني التالية: ـ الإيقاف: أو الأمر الإشاري بالتزام حد معين. وهو المعنى المباشر لهذه الحركة الإشارية في "معجم" التواصل بالإشارة، وتستعمل بهذا المعنى في المغرب. ـ الصد الفيزيقي: أو معنى الدفع للعودة إلى تموضع سابق خارج نطاق وحدود "المجال الخاص". ـ التحريز: أو تطويق "المجال الخاص" بقوة فوق طبيعية ( قوة التميمة )، لصد انتهاكات ميتافيزيقية ( شر سحري أو إصابة بالعين مثلا )، ومن ثمة تحصين حالة الأمن والسلام الاجتماعيين وثقافة الاعتدال ضدا على المتربصين. ثانيا: السند اللفظي بواسطة اللغة، وهو السند الذي يتمثل في العبارة العامية "متقيش بلادي" ومقابلها الفرنسي " touche pas a mon pays"، ويحمل المعاني التالية أيضا: ـ رفض الاعتداءات التي وقعت،( خطاب حالة الإجماع ). ـ الإعلان عن عدم السماح بتكرارها في المستقبل، ( خطاب اليقضة والتعبئة التامة ). ـ إسقاط صفة الموطنة عن المتورطين، وتمييز الأنا/ نحن المواطنون الحقيقيون أصحاب البلد عن الآخر ( الإرهابي )، ( خطاب الفرز والإقصاء ).
ملاحظة ثانية في السياق: إذا جاز لنا أن نقسم الدين بناء على توصيفات معينة كدرجة الالتزام بالأصول والمصادر مثلا، سنجد أنفسنا أمام صنفين اثنين من الدين: ـ الدين الرسمي الذي يشدد "على النصوص والشريعة والتوحيد والسنة والوحي ومساواة المؤمنين أمام الله" . ـ والدين الشعبي الذي يشدد "على الاختبار الروحي والتدرج في علاقة المؤمن بالله وذلك بالتعبد للأولياء والمزارات، وعلى التأويل والرموز والصور والأشخاص أكثر من الكلمات والقواعد المجردة" . لكن الانتشار المضطرد لظاهرة الإسلام السياسي والتيارات السلفية، في العقود الأخيرة، فرض مستوى آخر من التقسيم، هذه المرة على أساس درجة المرونة في التعاطي مع الدين، بحيث أصبحنا أمام مستويين رسميين وليس مستوى واحد، الأول مرن والثاني متشدد. الأول يراعي السياق والعامل الزمني ويتوخى التيسير وينفتح على المقاصد والاجتهاد... والثاني يتشبث بالنص وينساق وراء المتون ويميل للمطلق والمغالاة ويرفض التأويل ويتجاهل السياق... وكلا المستويين الأخيرين يتنازعان شرعية تمثيل الإسلام الحقيقي، وبالتالي شرعية تأطير الناس وتوجيه خطاب الاستقطاب لأصحاب الدين الشعبي من العاديين والأميين وغير المتدينين أو الممارسين غير الملتزمين. فإسلام الدولة، ( أو البعد المؤسسي للدين )، الذي يمثله علماء رسميون وبعض النخب المثقفة وأئمة مساجد معينون رسميا في وظيفة الخطابة وإمامة الناس، يركز على مقولات الاعتدال والتسامح والسلم الاجتماعي والتسليم لولي الأمر.. . في حين يركز إسلام "الثورة" ( أو البعد الخليوي للدين )، الذي تمثله الجماعات الراديكالية على مقولات الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير الفساد والتبشير بأخلاق الإسلام... ويتبادل الفريقان معا تهم التكفير والخروج عن الملة أو الضلال. في إطار هذا المثلث إذن جرت صياغة "الشعار" فهو موجه من بنية دينية رسمية تقف خلفها الدولة وتزكيها، ولو بطريقة غير مباشرة، إلى بنية دينية شعبية اعتبرت الرحم الذي نمت فيه الدعاوى الفكرية للإرهاب وفرخت شبابا انتحاريين.
هوامش: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، اللغة، سلسلة دفاتر فلسفية، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية سنة 1998، ص: 24. بول باسكون، الأساطير والمعتقدات بالمغرب، ترجمة مصطفى المسناوي، مجلة بيت الحكمة، العدد: الثالث، السنة الأولى 1986، ص: 90. د. أكرم قانصو، التصوير الشعبي العربي، سلسلة عالم المعرفة، عدد: 203، نوفمبر 1995، ص: 96. ظهرت في سنوات فارطة "خميسة" بلاستيكية طريفة، تلصق على الزجاج الأمامي أو الخلفي للسيارات وتتحرك ملوحة بفعل الاهتزاز، وهذا تمويه ذكي لمعنى التميمة فيه تلاعب بالمعنى. بول باسكون، الأساطير والمعتقدات بالمغرب، مرجع سابق ص: 92. نفسه، ص ص: 89 ـ 90. د. أكرم قانصو، التصوير الشعبي العربي، مرجع سابق، ص: 90. عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، تحقيق درويش الجويدي، المكتبة العصرية صيدا بيروت، ط: الثانية 2000، ص: 487. د. حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر ـ بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط: 5، أكتوبر 1996، ص: 258. نفسه، ص ص: 258،259.
#عبد_الإله_بوحمالة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كفايات التناظر التلفزيوني
-
تلك الطريق.. ذلك النمو
-
نواب الأمة: حفريات في ترسبات قديمة
-
أكاديمية الآلهة
-
الأنظمة العربية.. طبعة مزيدة ومنقحة
-
الفساد.. ينزل من أعلى
-
عم.. يتنافسون؟
-
خطاب التشغيل في المغرب: الهروب بلغات متعددة
-
من المعارضة إلى المشاركة_تحولات السلوك السياسي الحزبي في الم
...
-
الأحزاب السياسية في المغرب
-
تخلف جهل.. وحضارة جهالة
المزيد.....
-
تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر
...
-
قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م
...
-
ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
-
صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي
...
-
غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
-
فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال
...
-
-ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف
...
-
الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في
...
-
صور جديدة للشمس بدقة عالية
-
موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|