الجابري ونكبة ابن رشد

عبد السلام خائف الله

الحوار المتمدن-العدد: 6675 - 2020 / 9 / 13 - 06:39
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

يعد محمد عابد الجابري علامة مميزة في الفكر العربي المعاصر، بالنظر لطريقة تعامله مع التراث واشكالياته التي تناولها بأسلوب جديد ورؤية جديدة تتوخى " التأصيل الثقافي " لقيم الحداثة المعاصرة .
يطرح مفكرنا المغربي استراتيجية يسميها في احد كتبه " استراتيجة التجديد من الداخل " ، استراتيجة ذات محاور تلاث : النقد الابستيمولوجي للتراث ،والتاصيل الثقافي للحداثة في الفكر والوعي العربي ونقد الحداثة الأوروبية والكشف عن نسبية شعاراتها ونواقصها . لبلوغ هذا الهدف طرح قضية المنهج في التعامل مع التراث ،حيث يعد فصل الذات عن التراث كخطوة أولى ، مسالة ضرورية ،والتعامل مع النص التراثي يتطلب اخضاعه لعملية تشريحية دقيقة وعميقة تحوله الى مادة للقراءة ، والخطوة الثانية فصل التراث ( الموضوع ) عن الذات لجعله يحتفظ باستقلاليته وهويته وتاريخيته .
المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي والطرح الأيديولوجي هي السبل والاليات المنهجية التي اعتمدها واقترحها للتعامل مع النص التراثي .
في هذا الاطار قام الجابري بتقديم قراءة جديدة لفلسفة ابن رشد في بحثه الذي شارك به في ندوة فكرية عن " ابن رشد " التي انعقدت بكلية الآداب بالرباط في ابريل 1978 و نشر في كتابه المشهور " نحن والتراث " . لقد كان مفكرنا الكبير معجبا ايما اعجاب بابن رشد وعبر عن ذلك في بعض مؤلفاته :
يقول الجابري : " ما تبقى من تراثنا الفلسفي أي ما يمكن ان يكون فيه قادرا على ان يعيش معنا عصرنا لا يمكن ان يكون الا رشديا " وأضاف " ان ترشيد "الاسلام السياسي " والتخفيف من التطرف الديني الى الحد الأقصى لا يمكن ان يتم بدون تعميم الروح الرشدية في جميع اوساطنا الثقافية ومؤسساتنا التعليمية " كتاب ابن رشد سيرة وفكر ص 11.
ابن رشد حسب الجابري يدشن لمرحلة جديدة في التفكير العربي الإسلامي رفعها الى درجة قطيعة ابستيمولوجية مع الفكر الفلسفي في المشرق مع الفارابي وابن سينا لا من حيث المنهج ولا من حيث المفاهيم والاشكاليات .
لقد اخد مفكرنا على عاتقه نشر مؤلفات ابن رشد الاصلية في اطار مشروع رشدي رعاه مركز الوحدة العربية ببيروت وقد حرص على تصدير الكتب الرشدية بمدخل عام إضافة الى مقدمة تحليلية بصيغة بسيطة ولغة عصرنا ،لاهم القضايا التي يناقشها ابن رشد في الكتاب مع وضع تعليقات وشروحات على النص . وكان الهدف هو تقريب الفكر الرشدي من القارئ والمثقف العربي خاصة الباحثين الشباب ، حتى يتسنى تكوين مثقف يجمع بين استيعاب التراث وتمثل الفكر المعاصر وتسليحه بروح نقدية تؤطرها الفضيلة الأخلاقية .
يعد الكتاب الذي الفه ابن رشد حول السياسة والذي اعتمد فيه على كتاب الجمهورية لأفلاطون من الكتب التي اسالت الكثير من المداد ، واختلف الباحثون حوله لا من حيث زمن التأليف ولا من حيث المناسبة والعنوان. الجابري وبنوع من الجرأة المعهودة فيه بعد ان قدم تحليلا مهما وتبريرات منهجية لطرحه اختار له العنوان " الضروري في السياسة : مختصر كتاب السياسة لأفلاطون "، واعتبر هذا الكتاب السبب الرئيسي لنكبة ابن رشد . يدخل الكتاب حسب الجابري في اطار ما سماه ب " تجليات العقل السياسي العربي "وهو وحده دون غيره ينخرط بقوة مباشرة في هذا المضمار من موقع المعارضة للحكم السائد في وقته وبلده باسم العلم والفلسفة .يقول الجابري " لأول مرة سيجد القارئ العربي في تراثه المتراكم عبر خمسة عشر قرنا خطابا سياسيا يواجه السياسة مواجهة صريحة مسلحة بالعلم والفلسفة.. " ان ابن رشد يبدو في هذا الكتاب في صورة حديثة جدا يندد بجميع اشكال التسلط والاستبداد ، ويؤمن بالتقدم ، وينشد الإصلاح في الحكم والسياسة كما نشده في مجال العقيدة الدينية والعلم والفلسفة .( المدخل في كتاب الضروري في السياسة صفحة 26-27). يلح الجابري على ان تأليف ابن رشد لهذا الكتاب كان بطلب من ابي يحيى اخ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي في فترة مرض فيها المنصور مرضا خطيرا يئس الأطباء من شفائه .وكان يتوقع هلاكه في أي لحظة . وقد حاول ابي يحيى والي قرطبة التحضير لأخذ البيعة والتأييد من اعيان الدولة كخليفة بعد وفاة المنصور . الا ان القدر شاء غير ذلك وشفي المنصور وانتقم من أخيه بإعدامه كما عاقب من ازره من الأعيان ومن ضمنهم ابن رشد الذي ابعد الى اليسانة سنتين قبل ان يعفي عنه المنصور والقصة معروفة .
في هذا السياق التاريخي اعتبر الجابري ان سبب نكبة ابن رشد هو مضمون هذا الكتاب ، الذي ندد فيه بالاستبداد أي "وحدانية التسلط" - حسب تعبير ابن رشد - السائد في فترة حكم الأمير يعقوب المنصور الذي كانت سياسته سياسة كرامية، أي سياسة البحث عن المجد والشرف . عارض الجابري الآراء التي تزعم ان الكتاب كتب في زمن أبو يعقوب يوسف والد المنصور سنة 572 هـ كما ذهب الى ذلك المستشرق ارفن روزنتال اول مترجم للكتاب من النسخة العبرية الى الإنجليزية واعتبر ان التبريرات التي قدمها هذا الأخير مجرد تخمينات لا غير . وأشار الجابري الى ضرورة الانعتاق من التصنيف الذي صنف به بعض الباحثين( ولعله يشير الى الباحث المغربي الكبير المتخصص في الفكر الرشدي المرحوم جمال الدين العلوي الذي حقق مجموعة من كتب ابن رشد وجمعها في كتابه " في المتن الرشدي " ) مؤلفات ابن رشد وان كان ضروريا اجرائيا الا انه قد يتحول الى عائق معرفي.
نكبة ابن رشد تعد الى يومنا هذا لغزا محيرا اختلف الباحثون حول أسبابها وما كتب عنها في نظر الجابري مجرد تخمينات " لا ترقى الى المعقولية التي تجعل الحدث مفهوما والتفسير المقترح مقبولا " على حد تعبيره .لقد كان هاجسه هو تفسير منطقي ومعقول لموضوع النكبة تفسير يتطابق مع " طبائع العمران " كما يقول ابن خلدون .
من الأدلة التي دعم بها الجابري تحليله لقضية النكبة ، المنشور الذي أصدره الخليفة المنصور وعممه على ربوع مملكته والأندلس ، هذا المنشور الذي يتناقض مضمونه مع الموقف المعروف للمنصور من الفلسفة .لقد كان ابن رشد يحظى باحترام وتقدير كبيرين من طرف والد المنصور ابو يعقوب يوسف الذي شكا اليه غموض عبارات ارسطو وطلب منه شرحها وتلخيصها . ومازال يحظى بنفس المكانة في عهد الخليفة يعقوب المنصور، الذي وصفه ابن رشد بالمستبد المستنير ،لان المنصور كان يشجع الاشتغال بالعلوم العقلية . ويرجع الجابري توافق التوجه الفكري لكل من المنصور وابيه مع توجه ابن رشد كون الأميرين تأثرا بمذهب ابن حزم الظاهري الاندلسي الذي هو خصم للمذهب المالكي .
كيف حاول الجابري اذن تفسير هذا التناقض الملموس في منشوره ؟ وما الشيء المستجد الذي جعل المنصور يغير موقفه بين عشية وضحاها ويعاقب ابن رشد ومن معه من الفضلاء الاعيان ؟‼ ويأمر بإحراق كتب الفلسفة ....
بعد ان يوضح الجابري تهافت الأسباب التي ذكرتها بعض المصادر التاريخية "كالمعجب في تلخيص اخبار المغرب "لعبد الواحد المراكشي و"عيون الانباء في طبقات الاطباء "لابن ابي أصيبعة واعتبرها من جنس واحد غير مقنعة في تفسير نكبة ابن رشد ، لا سيما وان الامر لا يتعلق بابن رشد لوحده وانما نكب معه مجموعة من الفضلاء . واشار ان مجموعة من الأعيان باشبيلية شهدوا لابن رشد انه على غير ما نسب اليه وقبل شهادتهم وعفا عنه. وهذا دليل على ان ما نسب الى ابن رشد ورفاقه ليس العبارات الفلسفية التي كتبها في مؤلفاته كما تشير المصادر المذكورة سابقا او قلة التبجيل والتفخيم التي يتعامل بها ابن رشد مع الأمير عكس ما هو معتاد عند مخاطبة الأمراء . ليخلص الجابري الى ان السبب الرئيسي لنكبة ابن رشد لا يمكن ان يكون الا سياسيا .
ذكر صاحب الذيل والتكملة ابن عبد الملك المراكشي "... ان من أسباب نكبة اين رشد هو اختصاصه بابي يحيى والي قرطبة اخ المنصور .." اعتمد الجابري على هذا الشاهد ليعزز تفسيره للنكبة واعتبره احد الأسباب الرئيسية التي جعلت المنصور ينقلب على ابن رشد ومن معه . بالإضافة طبعا الى الكتاب الوحيد في السياسة المذكور أعلاه الذي الفه ابن رشد والذي اختار له الجابري العنوان " الضروري في السياسة " واعتبره بمثابة بيان سياسي ندد فيه ابن رشد بالاستبداد السياسي القائم زمن المنصور وطرح فيه الأرضية السياسية التي سيبنى عليها الأمير الجديد (ابي يحيى) سياسة دولته عند تولي الخلافة . وهنا يرجح الجابري ويؤيد التاريخ الذي حدده المستشرق الاسباني " مانويل الونسو " لتأليف الكتاب أي حوالي 1194 ميلادية ما يوافق 590 هجرية او على الأقل السنوات القليلة التي سبقت النكبة (بين 586 هـ الى 589هـ ).
وان السبب الحقيقي للنكبة هو مضمون هذا الكتاب الذي يندد بمدينة "وحدانية التسلط " ويبشر بإمكانية تشييد المدينة الفاضلة والعدالة مكانها.
ورغم ان الجابري لا يوافقه على قراءته لنكبة ابن رشد عدد من الباحثين كليا او جزئيا ، ومنهم من يعتبر تفسيره تعسفا على المتن الرشدي ، الا ان فهم واستيعاب طرحه لا يتم الا في اطار الكل أي مشروعه الكبير حول " نقد العقل العربي " ويبقى رهان العثور على النسخة العربية الأصلية للكتاب المذكور كفيلا بالإجابة على الأسئلة المحيرة قد تنصف مفكرنا الكبير في هذه القضية "قضية النكبة " .

#عبد_السلام_خائف_الله (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات