|
دروس شهرزاد
عايدة الجوهري
الحوار المتمدن-العدد: 6667 - 2020 / 9 / 4 - 17:40
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
«دروس شهرزاد» هو عنوان كتابي الذي صدر مؤخّرًا عن «مركز دراسات الوحدة»، ومنه أروي هنا قصّةَ الشابة اللبنانية التي حفّزتني على سبر عوالم شهرزاد الخفية، وعلى إدراك الدور الذي يمكن أن يلعبَه التراث الأدبي في تغيير صور المرأة العربية النمطية։
سألتني ذات يوم شابة لبنانية، خارجة لتوّها من علاقة زوجية فاشلة، وعلى كاهلها ثلاثة أطفال، «ما هو العنوان القادم؟»، قلتُ։ «دروس شهرزاد»، ولمّا كانت هذه الشابة لا تتقن القراءة والكتابة باللغة العربية، لولادتها وعيشها في بلد أجنبي وعودتها المتأخّرة إلى لبنان، سألتني։ «من هي شهرزاد»؛ لم أحتجّ، وعذرتها على جهلها أيقونتنا وقدوتنا، ورحتُ أروي لها بفخر حكاية شهرزاد وشهريار، وحكاية إنجاز شهرزاد المذهل.
لم أحتجّ. ولكن أسفتُ، لجهل هذه الشابة اللبنانية الجذور، كتابَ «ألف ليلة وليلة»، وهو أحد أشهر مؤلفات التراث الإنساني، وجزء لا يتجزأ من الأدب العالمي، وقبلة القراء والنقاد والمؤرخين والباحثين والفنانين والمبدعين، في كثير من بقاع الأرض، ابتداءً من عام 1704، منذ أن ترجمه المستشرق الفرنسي أنطوان غالان إلى لغته الأم، وقبل أن يستدرك العرب وتقصيرهم ويبادروا إلى طبعه ونشره عام 1835 أيام محمد علي باشا (1769-1849)، أي بعد قرن ونيّف من صدور النسخة الفرنسية.
فمثله مثل كتب ماركو بولو التي فتحت عيون الأوروبيين على عجائب الصين، فتح كتاب «ألف ليلة وليلة» عيون هؤلاء على حياة العرب والمسلمين، وعُدّ هذا الكتاب سجلاً للذكاء العربي والإسلامي، في أيام مجد العرب، وخلاصةً مركّزة لخبراتهم، ومعتقداتهم، وقيمهم، وأذواقهم، وأمزجتهم، وكان بابًا من أبواب اكتشاف الشرق بالنسبة إلى الغرب.
لم تألف الشابة اللبنانية المجروحة أن تتمكّن امرأة شرقية، وبقوّتها الذاتية، من أن تُغيّر قواعد اللعبة، ولمصلحة الجنسين، وأن تقوى على إنقاذ نفسها وبنات جنسها، من الهلاك، وفوق ذلك أن تنجحَ في تقويم سلوك رجل سفاك، سفاح، كاره للنساء ولنفسه، وقادر على بثّ سوداويّته ومرارته على دولة برمّتها، فقالت لي مندهشةً։ «تقولين إنّ شهريار تغيّر، هو تغيّر فعلاً! إنّ شهرزاد استطاعت تغيير أفكاره. هل هذا معقول؟ يا لها من امرأة شجاعة».
وراحت محدّثتي المبتهجة تفتّش بلهفة، عن حكاية شهرزاد وشهريار على «غوغل»، وباللغتين الإنكليزية والإسبانية، وأخبرتني في المرة التالية أنّها وقعت على كمّ هائل من المعلومات والمراجع حول شهرزاد، وأنّ تفاصيل حكايتها مذهلة وتزرع الأوهام والأحلام المستحيلة، وأنّ الخيال شيء والواقع شيء آخر، وهتفت قائلةً։ «هي شخصية أسطورية في نهاية المطاف!»، مستأنفةً شكوكَها، هي التي درست الحقوق لا الأدب، مفترضةً ضمنًا أنّ قوة تأثير شهرزاد على طبائع شهريار وهمية، وغير معقولة، وأن لا هي ولا شهريار يمكن أن يتحقّقا في الواقع.
فأجبتها، هذه المرة، بالتعريفات، بأنّ الأسطورة صنيعة الخيال الحر والمحض، ولكنّها تعكس نظام المجتمعات الأخلاقي والقيمي والثقافي، وغايتها أن تُثبتَ نهجًا من الأخلاق، يمكن بواسطته تشريع المواقف والأحداث الاجتماعية، وأنّ الأقدمين كانوا يقصّون القصص للإمتاع وتزجية الوقت، ولكن أيضًا على سبيل الوعظ والإرشاد والتعليم، وأنّهم كانوا يوظّفون الخيال والإبداع للتأثير في العقل والوجدان والسلوك والأداء، بديلاً من المحاججة والتحليل والاستدلال.
وتابعتُ قائلةً إنّ الأدب الشعبي، رغم اشتماله على أحداث وشخصيات أسطورية، وعجائبية، وغرائبية، ما فتئ متّصلاً اتصالاً وثيقًا بانشغالات الإنسان وهواجسه ومفاهيمه، وتمثّلاته، وأسئلته. هو يتهادى بين الواقع والخيال.
أمّا شهرزاد التي تبدو لك مستحيلة، فهي شخصية استثنائية، متخيَّلة، مبتكَرة، ولكنّها ليست مستحيلة، ولا منقطعة عن الزمان والمكان اللذين استولداها؛ والتاريخ العربي القديم أثبت وجودَ قرينات لها، يضاهينَها معرفةً وعبقريةً وذكاءً وحنكةً. وعند التدقيق ستجدين الكثير من النساء المعاصرات اللواتي تفوّقنَ على أنفسهنّ وأمسكنَ بزمام أمورهنّ، وتحدّينَ محيطهنّ، والتقاليد والأفكار الجاهزة والمسلّمات، التي تغللهنّ، واستطعنَ قلبَ المعادلة لمصلحتهنّ، وانتصرنَ.
أمّا شهريار، فهو يمثّل الرجال الكارهين للنساء، والمتوجّسين منهنّ، ولكنّه، كرجال كُثُر، قابل للتحوُّل والتبدُّل، والتطورُّ، ومراجعة الذات، وهو يمثّل بتوبته وعودته إلى رشده، وإلى حدّ كبير، رجالَ عصره المفتونين بالمرأة العالمة والعارفة، والذكية والمتبصّرة، التي سلبت حينذاك ألباب الرجال وأفئدتهم، وفي الحصيلة، نحن لسنا أمام شخوص فوق طبيعيين، إعجازيين، مستحيلين، وهميين، غير قابلين للتحقُّق، ولكنّ الشرط الذي يجعلها، نسبيًّا، على هذه الصورة، هو شرط الخلق والإبداع الفنيَّين، وجماليته وفتنته، وهو ذاته الذي جعل شهرزاد وشهريار خالدَين باهرَين.
وكدتُ أقول لمحدّثتي، لولا رفقي بلغتها العربية المتعثّرة، وضآلة ثقافتها العربية، التي كانت تضطرّني إلى ترجمة بعض المصطلحات إلى الإنكليزية، إنّ الحكاية – الإطار في «ألف ليلة وليلة»، مثلها مثل سائر الحكايات التي يضمّها كتاب «أليف ليلة وليلة»، هي ثمرة المُناخ الثقافي العربي، وأنّه جرى صهر هذه الحكايات، وأيًّا كانت منابتها وأصولها، في الثقافة العربية – الإسلامية، وختمها بالطابع المحلي، والحضارة المحلية.
وختمتُ قائلةً، إنّه رغم ما تحفل به حكاية شهرزاد وشهريار من مبالغات، فهي قابلة للحدوث لجهة قدرة كل من النساء والرجال على التأثير المتبادل، وتغيير التصورات والأفكار المسبقة، والمسلّمات غير الواقعية، التي يختزنونها حول أدوار بعضهم بعضًا وخصالهم وخواصهم.
إنّه يأس النساء المهزومات الأزلي من إمكان تغيير أقدارهنّ، وعرقلة آليات اضطهادهنّ، وتفكيك المفاهيم والتمثّلات التعسفية اللصيقة بوجودهنّ، وإنّه في المقابل الأمل المزمن بمقاومة هذه الآليات والترسّبات وباستراتيجيات نسوية شتّى، منها سحر الأدب وخفاياه وكنوزه.
عزّزت الحوارات المتقطّعة بيني وبين الشابة الحائرة الأصول والمفاهيم، خيطًا حريريًّا رفيعًا قوامه المعرفة والفضول، والأمل، وصديقًا مشتركًا هو حكاية شهرزاد وشهريار، كما عزّزت هذه الحوارات شغفي في التوغُّل في عوالم شهرزاد وشهريار، وقناعتي بأنّ إعادة قراءة التراث الأدبي من منظور أدوار وصور النساء فيه، يُعدّ هدفًا معرفيًّا، وسياسيًّا، مؤدّاه إحداث تغيير في التمثّلات الاجتماعية حول أدوار النساء والرجال، والصراع الدائر بينهما.
شهرزاد هذه التي زرعت الأمل والدهشة في سريرة هذه الشابة المجروحة، وفي نفس كل من قرأ بإمعان أفعالَها وأقوالَها وأفكارَها، هي ذاتها التي منذ قرون، إمّا مدانة، متّهَمة، بالتواطؤ ضدّ النساء، والتخطيط لتدجينهنّ، وإمّا ممجّدة بصفتها مخلّصة، ونحن من جهتنا ننضمّ إلى أولئك الذين رأوا فيها مثالاً نضاليًّا، منافحين عن خيارها ومسارها، ونرى فيها معلّمةً تُلقي دروسًا كونية تطبيقية، حول سبل خروج النساء من حصار الكراهية والتوجّس والاتهام بالنقصان والدونية، بيد أنّنا نرى أنّ كل هذه التحولات والمعجزات ما كان يمكن أن تحدث لولا أنّ شهرزاد لم ترتكب خيانةً عظمى هي خيانة قدرها الجندري والتمرُّد عليه.
#عايدة_الجوهري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
توقفوا عن تشويه مفهوم الدولة المدنية
-
لا عزاء للسيدات إلا بقانون مدني للأحوال الشخصية
-
غرام الثوار اللبنانيين بالعفوية
-
الشعب اللبناني يريد إسقاط النظام
-
برنامج الأنوثة
-
عن الذي جمعني ونوال السعداوي في كتاب
-
الجسد هو الذي يكتب
-
النبوءة والفحولة
-
عصاب الفحولة (1)
-
رمزيّة الحجاب
-
أرجل الرّجال
-
المرأة التي تعشق جلادها
-
أنا أغنّي، أنا أسمع الموسيقى، أنا أرقص، أنا حرّ، أنا حرّة
-
هل أنتمي إلى أقليّة؟
-
-يسار- عايدة الجوهري: مفهوم متحرّك للعدالة الإجتماعية
-
كلُّنا مقتولات محتَمَلات
-
العرب يكرهون العمل
-
التمرُّد على الله
-
لماذا تكتبين؟
-
أسياد وعبيد
المزيد.....
-
جريمة تزويج القاصرات.. هل ترعاها الدولة المصرية؟
-
رابط التسجيل في منحة المرأة الماكثة في المنزل 2024 الجزائر …
...
-
دارين الأحمر قصة العنف الأبوي الذي يطارد النازحات في لبنان
-
السيد الصدر: أمريكا أثبتت مدى تعطشها لدماء الاطفال والنساء و
...
-
دراسة: الضغط النفسي للأم أثناء الحمل يزيد احتمالية إصابة أطف
...
-
كــم مبلغ منحة المرأة الماكثة في البيت 2024.. الوكالة الوطني
...
-
قناة الأسرة العربية.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي ش
...
-
تتصرف ازاي لو مارست ج-نس غير محمي؟
-
-مخدر الاغتصاب- في مصر.. معلومات مبسطة ونصيحة
-
اعترف باغتصاب زوجته.. المرافعات متواصلة في قضية جيزيل بيليكو
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|