|
مدن الطلل
ماجد رشيد العويد
الحوار المتمدن-العدد: 1600 - 2006 / 7 / 3 - 08:04
المحور:
الادب والفن
القسم الثالث والأخير هزّني إيمانه بمدينته وحبيبته. كان يماهي بينهما فيقول: طَيْبَة هي من التقيت عند السور. أرّقتني هذه الحكاية، حكاية طيبة العائمة فوق سطح خيالاته ورجائه، بقدر ما هزّتني وبقدر ما زعزعت فيّ من ثوابت بالية وعتيقة، طيبة بسورها النازف في ليل عميق. أيقنت ببعده عن الحماقة وآمنت بصفاء مشاعره، وإن بقيت بيننا تلك الحلقة المفقودة. وقلت: يجب أن أؤمن بالسور مثل إيمانه، وبهذا أنفذ إلى أعماقه أجلو بنفاذي إليها أعماقي التي علاها الصدأ. ومَرَقَتْ بي وهلة مشحونة بالحاجة إلى الطواف حول السور متفحّصاً باحثاً علّني أرى شفيعاً ينقذني من غفلتي، فها هو أحمد قد قضى عشرين عاماً في رحاب حجارته المسفوحة حول البلدة في غير انتظام، يجمعها ويعيد بناءها ثانية دون أن يكل أو يملّ، وكنت أرى السنين أوهنت السور، بينما هو رأى النقيض عندما قال: لم تستطع السنون خلعَه من بهائه. علاني الصداع وأرهقتني الشمس. كنت شارداً وكان كذلك. مضى على صمتنا ما يقرب من الساعتين دون أن نتحدث. كنت محتاجاً إلى خلوة تساعدني على تمثل ما سمعت وعلى أن أتبين مكاني من حكايته التي انشددت إليها بكل جوارحي. قمت من مكاني أنفض بعصبية التراب عن بنطالي. حثني دافع خفي على تركه يغرق في تأملاته وحيداً. انطلقت ماشياً حذاء السور، علّني ألمس إحساسَ أحمد به، أجلوه بما بقي عندي من رضاب السعي، أحادثه حديث المعتذر التائب وأتلو عند حطامه ما يتيسر للائذ من شر مستطير. قلت: سأظل ماشياً حتى أقطع السور كله، أرى ما فُتح فيه من نوافذ وأتخيل ما انهار من أجزائه فأكرّس من قناعتي الوليدة بما يفعله إزاءه وبما يقدمه له من ترميم، ورغم ذلك بقي في نفسي شيء ما رافض لتخيلاته وأوهامه. وعلى الفور انتابني إحساس بالضياع وآخر بالحاجة إلى إعادة بناء ذاتي وترتيب قناعاتي، وتشكّلت للقضاء على تلجلجي رغبةٌ عارمة بإطلاق صوتي إلى نهاياته وسط الصاهدة اللافحة. وفعلت: قلت: لا تُمسخي يا مدن الطلل واشمخي أبداً فوق المحن، طيبة ستنهض من رقادها. انطلق صوتي عالياً، كنت أريد تمزيق خجلي أو لعلي أردت تمزيق نفاقي وضعفي أو لعلي أردت أن أدرك نجدةً تقيني نعشَ بلادة مُرّة. أدركني الوهن فاتكأت على السور. أحسست برودة خفية، خففت من حدة اللظى المتساقط من السماء. استدرت باتجاه الحجارة المطمئنة، وضعت يدي فوقها أفركها بانفعال ممزوج بالفرح. يوم قلت له: إنها حجارة. قال لي: نعم هي كذلك ولكنها فيما مضى أنسلت لحناً شجيّاً داعب أنفاس الطلل، وقال لي لو أدركتَ مثلي عذوبة غناء الموصلي لوهبك السور فتاة عبلة كتلك التي عندي، فافعل حتى تأتزر بإزار يتعالى على كل إزار رخيص. انطلقت صوبه عائداً أحث الخطا على عجل، وقد بدأ يتضاءل حجم الحلقة التي تفصلني عنه. الأرض أنبتتها الشمس صَهداً لاهباً موجعاً. ألمت بي رعشة كادت تبكيني وأنا ألمس السور يدخل في مهاوي الآفلين، رعشة انتابتني مع إحساس به بدأ يتعاظم فلا أقل من حمايته من أولئك الذين وفدوا يستنيرون ببطونهم الضاوية. عندما وصلت إليه بدأت الشمس غروبها تاركة وراءها شفقاً شفافاً. جلست قبالته أنظر إليه مشجّعاً. سألني: ـ أين كنت طوال هذه الساعات؟ ـ قمت بجولة حول السور. ـ هل أعجبك ترميمه؟ ـ نعم أعجبني وسرّني. ـ ستدرك فيما بعد ما للسور من قيمة، فهو ذاته الذي حمى طيبة من الغزو وهو ذاته الذي ضمَّ حانياً حلقات الفقه وهو الذي كان شاهداً على عصر طفح بالطرب وفنون القول والكلام. كنت أراقبه بإعجاب وهو يلوي فمه ثم وهو يرفع رأسه وينظر باتجاه الأفق. لم أعد أهتم إلا بإيمانه بهذه الحجارة، بهذا الركام المقاوم عتوّ الزمان، وبنزوعه الصارم والأبدي إلى فتاته العبلة الريانة. فتاة تمخضت عن الآجر المشوي، في ليلة ظلماء. قال خرجت من بين الصلب والترائب فاتحة الذراعين، يملأ الثغر منها أريج الطين. واستبد بي الحنين إلى بقية الحكاية. فسألته باندفاع: ـ ألا تتابع حكايتك؟ كان يحدق في التراب قبل أن يغرز فيه أصابعه ويحمل بعضه بيديه ثم يذروه متأملاً ذراته وهي تسبح في الفراغ. ـ كما قلت لك.. استقر كفلها على رخامتين مدورتين. قلت سأستعيد وضاءة تلك الليلة، وسينتشر في الربوع صدى اللقاء تردده الآفاق والأفواه. بدأت أرى كل شيء من حولي. كانت قاعة واسعة في نهايتها باب مغلق أثار فضولي بروعته. باب واسع بقطعة واحدة عالية ومزخرفة. تأسرك الزخارف ويخلب لبّك صانع مجهول. أمسكت مقبض الباب، أدرته فانفتح على قاعة أخرى أوسع تقطعها ثلاثة صفوف من القناطر، كل صف يحوي ثلاث قناطر، متصلة ببعضها، مكتوب عليها بالخط الكوفي، من هنا يكون عبورك إلي أيها الداخل جنّتي. عبرت القناطر إلى باب آخر في نهاية القاعة. حرّكت مقبضه فانفتح على قاعة ثالثة أكثر جمالاً وأشد سحراً. وقرأت، أنا الروض أُغني عن كل روض أيها الداخل، تيمم بالتراب ثم أقبل معانقاً، ضاماً وطائفاً أسقيك من لبني حياة دائمة. ما إن انتهيت من القراءة حتى اختفى جدار القاعة الذي يقابلني. امتد أمامي أفق يتصل بسماء صافية لدنة. تقدمت خطوات وانحدرت بعيني إلى أسفل، فإذا أرض يلمع فوق سطحها تراب بلون الذهب وطأته بقدميّ فتلبّسني شعور بالوجل، شعور عابر لا يُقبض ولا يُدرك، ثم وفي لمح البصر تجسّد أمامي باب من تلك الأبواب الدوارس، ليس فريداً في بنائه على جماله، سرت باتجاهه، عبرته إلى الداخل فإذا مدينة نائمة كأنها مسحورة، مدينة سُقيت جنباتها نوماً طويلاً. تجوّلت فيها دونما اطمئنان وكذلك دون ذلك الوجل الذي ألمّ بي أثناء دخولي. كنت حالة وسطاً بين نقيضين، وأستطيع أن أقول لك إني فقدت إلى حين شعوري بنفسي وذلك بدلوفي إلى عمق ما يمكن تسميته، رحيلاً أو موتاً أو شيئاً من هذا القبيل. عندما حلّ الليل بدأت أبحث عن مكان أنام فيه. اخترت بقايا جدار متداع أسندت ظهري إليه ثم رحت في نوم عميق. في الصباح تابعت جولتي، سرت طويلاً حتى أعياني المسير، ألهث من تعبي وجوعي وعطشي. خُيّل إلي أني رأيت قصراً أو بقايا قصر كُتب على مدخله. قصر عليه تحية وسلام نثرت عليه جمالها الأيام عند مدخل القصر رأيت فتاة وضيئة، أخّاذة تلمع كأنها الذهب أو كأنها قمر يقهر الظلمة. ممددة باسترخاء تام على ظهرها، اقتربت منها مركّزاً أنظاري إلى صدرها فإذا به يخفق بانتظام. ملأني الحبور وأنا أوقن أن الدنيا تبسمت لي. كدت أصرخ من تزاحم الفرحة عند عتبات انفعالي، غير أن صراخي غاب في جوفٍ اشتد ظمؤه. مسحت دمعة انحدرت. أمسكت بكتفها أهزّه حتى صحت واستعادت رشدها، كان لتنفسها انتظام الزمن. إنها ـ كما اختفت تلك الليلة ـ مسربلة بالنور والبياض، هي كما يوم حطّت أمامي حمامة بيضاء. قلت لها وأنا أتأتئ من سعادتي: ـ الآن لن أدعك، بل سأمسك بك بكل ما أوتيت من قوة. كان الحسّ باللقاء يتصاعد نشوة فاتنة تهزّ توازني. اضطربت وشعرت أن أطرافي تصطك ببعضها بعضاً. سألتها: ـ ما اسمك؟ ـ .. ـ لن أدعك حتى تجيبي على سؤالي استوت بجذعها وجرّت إليها حجراً اتكأت عليه، قالت: ـ سعاد. ـ ولمَ أنت هنا في هذه المدينة النائمة؟ أجابت: ـ إنها مدينتي وهؤلاء النائمون أناسي وعشيرتي. وتوقفت قليلاً ثم تابعت: ـ لم تنتهِ بعدُ رحلتك، فلكي تستعيد مجدَ تلك الليلة عليك إيقاظ النائمين، وهذا جوهر رحلتك. ـ وكيف يكون إيقاظهم؟ ـ تلك مشكلتك، ثم إني لن أكون لك ثانية قبل إيقاظهم. وسألتها: ـ لمَ تركتني وحدي تلك الليلة؟ ـ لأنني أردت أن أثير لديك الرغبة بالبحث، وهاأنت قد فعلت. عدت ثانية إلى الموضوع الأساسي وسألت: ـ منذ متى هم على هذا الحال؟ ـ منذ زمن بعيد، بعيد جداً. ـ ولكن أليس من علامة تقدمينها لي في رحلتي؟! ـ لا، ليس أكثر من القول إني لك إن نجحت في مسعاك. قالت هذا ثم ارتفعت محلّقة عالياً يتخطّفني جمالها، وتسكب فوقي من طيرانها رائحة الطلل البهي ممزوجاً بأنوثة لدنة تتلوى في طيرانها، فيرفرف منها الصدر مرسلاً ماء عذباً، ويهتز الساقان النبيلان ويتطاولان كأنهما وصلا إلي فأتعلق بهما وأطير معها مخلّفاً تحتي سوراً وقاعات ومدناً وصحارى، منتشياً سابحاً في بحر روحي متدفق. *** حسبتهم حال وطئي مدينتهم أيقاظاً فإذا هم رقود دون الموت، وفي نوم عميق، فأي إكسير ينهض بهؤلاء من رقدتهم؟ وطفقتْ عبثاً تتالى الأسئلة المفجعة، وخالجني الشك في مصيري، وشككت في ملكاتي الذهنية، وأن ما أرى ليس أكثر من تخيلات مريضة. وكلما أمعنت النظر في هذه الأفكار، رأيتها تتجسد لي حاثّة إياي على عدم الركون إلى هواجسي. انطلقت في المدينة الذاوية جوّالاً يسعى. كانت جنبات المدينة وقد انطفأ بريقها تثير الوحشة. تابعت مسيري. رأيت مسجداً عتيقاً وأبصرت تحطّم مئذنته، ولما عجزت عن الوصول إلى أعلاه، اخترعت وسيلة ارتقيت بها حيث أردت، ثم أخذت أؤذن في النائمين كي يصحوا. انحدرت إلى أسفل، وفي ذهني متابعة البحث عن وسيلة أوقد بها نار الرغبة بالحياة. سرت وفي ذهني فتاتي سعاد، سعاد ليلتي المنيرة عند السور، سعاد التي دفعتني إلى ترميم السور وسد ثغراته، وإعادته إلى الحياة ناطقاً بحسّ يفوق ما ينشره الطلل من حسّ بالتأمل. وكلما تذكرتها أمدّتني بالطاقة المثلى فأبدأ البحث دون تعب ودون سغب عن روضتي، وأتذكر بيتاً من الشعر حفظته فيما غبر من الأيام. وصف الرياض كفاني أن أقيم على وصف الطلول فهل في ذاك من باس كانت السماء قد أغسقت، وبدأت بالهبوب نسمات باردة منعشة، رأيت وجهه يغزل صمتاً شارداً وحركات رنّحتها السنون. شردت عنه. كنت أسمع حكاية تشبه الحكايات البعيدة وأغفو على الحنين إلى المزيد، فأستعجله بالكلام وبالإشارة. لما أدركت أن لا فائدة من المتابعة دعوته إلى تناول العشاء فأجابني إلى ذلك، ورحنا نأكل بشهية. صباح اليوم التالي نهضت ممتلئاً حيوية. نضج إحساسي بالسور وطفقت أفكر في انقطاعنا عن العمار، وكأنه أدرك بما أفكر فقال لي: ـ إذا أردت الوصول إلى حلّ لمشكلة ما فما عليك إلا بالانقطاع عن العمار فيصفو ذهنك ويفيض عندها بالرأي الصحيح. ما سميته جنوناً تقمّص أحمد، كان حباً خالصاً ونهائياً للطّلول وللرياض الكامنة في رحم حجارتها. واستطعت بجهد نافذ رؤية ذلك الخيط الناعم والقوي الذي يربط لديه بين سعاد والسور وقلت إن سعاد وإن كانت وهماً خلقته الذاكرة لتستريح بظله من عناء السنين والهاجرة فإنها حافزه في رحلة استغرقت ما يقرب من عشرين عاماً عَبَرَ خلالها الصحراء دون أن يركن إلى تعب، أو صداع ظل يستبد به حتى مماته. روى قصة السور، الذي أعاد بناءه، للملأ لحناً يملك به العقول وقال: إن داخل السور عين اليقين وفيها الروح القادرة على إزالة السحر الواقع على المدينة. وقلت في سعاد شيء من الحقيقة، فلعلها حبه الأول الذي أظله يوم صار طريد شكوكنا ونعوتنا، فلا غرابة أن يحبها هذا الحب ولا عجب أن يبحث عنها بين ركام الحجارة المتناثرة هنا وهناك، واستنتجت أنها لم تمت في أعماقه وإنما ظلّت متغلغلة فيه تحثّه دائماً على تذكّرها والوله بها. لم أكتف بالاقتناع بأحمد، على العكس ذهبت إلى أبعد من هذا ، أخذت أتمثل أفكاره وأسعى إلى تطبيقها وتنفيذها. يوم قال لي لابد أن تتابع الرحلة جاش السرور في أعماقي وبكيت. لقد أدركت أنه لن ينقشع السحر الواقع على المدينة على يديه، وأنه يدنو من الستين وأن موتاً يقترب منه. قال: ـ تابع رحلتي وفكّ رموزها عندها سترى سعاد مسربلة بضوء سماوي. تزوجها وأنجب منها الذرية الصالحة وضمّ إليك ولدي الذي لم أره. ـ من أين أبدأ؟ ـ من المدينة نفسها. إذا عرفت كيف نامت عرفت السبيل إلى إيقاظها، ولا تنظر إلي وأنت تبحث عن الحل. وإذا وجدت أنك ملزم بمغادرتي فافعل. هي ذي وصيتي إليك فلا تنس. ـ وكيف أغادرك؟ لا لن أفعل. ـ بل ستفعل ومن الآن لتعيش نفسك، ومتى تحقق هذا تكون متصلاً بي من غير انقطاع. ـ وهل ستبقى هنا في الخلاء وحدك؟ ـ لقد جهزت حفرتي، إنها في الجانب الشرقي من السور. عليك أن تبدأ البحث فلقد أوصلتك إلى بداية الطريق وعليك أن تتابع رحلتي ولا تتقاعس، إذا أجبرتك الظروف على أن تتخلى عن بعض أفكاري فافعلْ. اجعل يقينك في إيقاظ المدينة. وإذا وصلت إلى الحل عُدْ وأبلغني. التحول الذي طرأ عليّ بدّل من ملامحي. جهزت ما أحتاجه لرحلتي وانطلقت. عند مشارف المدينة أدركني النعاس. نمت كيف ما كان، وفي الصباح تابعت مسيري. بعد حوالي ساعة رأيت الباب المندرس. كان كما وصفه أحمد آية في الجمال. عبرته إلى الداخل فواجهتني ريح ساكنة. أطلقت نظرة شاملة وسريعة فإذا نوم طويل قد استبدّ بالناس. تساءلت كيف يكون إيقاظ هؤلاء الناس ممكناً؟ وراودتني فكرةٌ قلت: سأفعل كما فعل أحمد وأصعد إلى مئذنة الجامع وأؤذن ولكن بطريقة مختلفة، وفعلت.. ثم نزلت وقلت: أقوم بجولة وجولات إن احتاج الأمر فأرى المدينة من أنحائها كافة، ولعلي بهذا أحلّ اللغز. وحرت من أين أبدأ قلت: من الناحية الشمالية ثم قلت: لا، بل من الناحية الجنوبية، ثم قلت من الناحية الشرقية. لم أدرِ من أين وكيف أبدأ حتى جاءني صوتٌ يقول: إن الحيرة أول ما يجب أن تقتل بعدها اعزم. قلت لابد أنه صوت سعاد نعم إنه هو. نفس الرائحة التي أسكرت أحمد أعوامه الماضية. انتشيت، ثم عزمت على المضي إلى الناحية الشرقية من المدينة. أول ما رأيت شارعاً تتلاصق المتاجر على جانبيه، أبوابها مشرّعة للشمس، وللهواء والرفوف التي بداخلها فارغة علاها الغبار. عند باب كل متجر رجل متخذ وضع الجلوس، غير أنه في سبات عميق وعلى شفاه كل من شاهدت من الرجال ابتسامات تنم عن أحلام كسولة. قطعت الشارع حتى نهايته فإذا مفترق طرق، وإذا أربعة شوارع تواجهني، وبسرعة اتخذت قراراً بعبور ذاك الذي يدفعني خارج المدينة، خارج العمار الميت إلى الخلاء الرحب الوسيع، وقلت سأغذّ الخطا إلى حيث يتربع الجبل القديم، الجبل النضر الذي افتضت قمته في غابر السنين. وهزّتني، بينما كنت أتخذ قراري بعبور الشارع المؤدي إلى خارج العمار، كلمات أغنية أتت مع الريح التي بدأت بالتحرك وإن ببطء شديد. كلمات أحسست بها تريد إثارة الريح الساكنة، وهزّ الأبدان المضطجعة منذ أمد بعيد. لقد حدثني أحمد عن الموصلي كثيراً حتى عرفته جيداً، وقلت: لابد أن هذه الأغنية من أغانيه التي فوّرت، يوماً، الحياة بحرارة النظم البديع. طال حيث كنت أقف لبثي. تخللتني متعة لم أعش من قبل مثلها، وتمنيت لو يطول مكوثي فتشرب حواسي إيقاع المكان المسطور في هذه الأغنية. بدأت أقطع الشارع المفضي إلى الخلاء، ورحلة أحمد تدبُّ معي في كل خطوة أخطوها. أخذت أوقن بأني على نفس الدرب الذي سلكه مع فارق أنني لن أتردد في قراري. راودني إحساس بالظفر، وبلغ مني الحبور غايته، فقلت: لِمَ لا، ولكن يجب علي أن أغذي هذا الإحساس وأن أتمترس في إرادة صلبة حتى أصل، وصدمني السؤال إلى أين؟ في الخلاء لا يوجد أمامي سوى الجبل تترامى من حوله وديان، ويترامى من حوله قفر موحش، شحنت خُطاي بالعجلة وبالرغبة بالوصول حيث أعلاه عسى أخرج بالحل. عدت إليه. لقد أدركت سرّ اللغز، وعلمت تفاصيل الحكاية وتوصلت إلى سرّ الطين وسأعمل على جَبْله وإغلاق النوافذ الكثيرة. قلت: لابد سيفرح، نعم سيفرح وليس يهم من وصل إلى الحل أنا أم هو. المهم أن الحكاية اكتملت. لما وصلت إليه وجدته حِذاء السور ميتاً. جلست إلى جثته ساعات أتأمل وجهه الذي تخدّد محاولاً قراءته. قمت أجر الجثة إلى القبر الذي حفره بيديه. سويته فيه ثم أخذت أهيل التراب. غرست شاهدة من جانب الرأس وكتبت عليها العبارة التي قال لي ذات يوم إنها أليفة إليه: من هنا يكون عبورك إلي أيها الداخل جنتي. استويت واقفاً. نظرت إلى الأفق الفضي البعيد، ثم لا أدري كيف شعرت نفسي تختلج وتتماوج وتصبح طيفاً يلج نسيج الحجارة العتيقة المتربة، وتصير جزءاً منها فيلتقي الصاحب بالأثر، وتُطوى السماء ضامّة الأرض في طقس من تصاعد الروح وتعاليها عبر ملكة من الصفاء والتجلي.
#ماجد_رشيد_العويد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السور
-
اعتذار
-
رائحة في الذاكرة
-
كلمة في وداع الرجل الكبير
-
تحية إلى سمر يزبك
-
هل يجبّ انشقاق عبد الحليم خدام ما قبله؟
-
المطلوب محاكمة حزب البعث قبل خدام
-
الوهق
-
بانتظارهم
-
هل كانت الرقة رافداً من روافد العجيلي
-
ثقة مستعادة
-
صمت المثّال
-
حجر على صراط
-
طيبة
-
الموت الأصغر
-
السادن
-
على جناحي ذبابة
-
صيف حار
-
وأخيراً رأيته
-
العباءة
المزيد.....
-
الحكم بسجن الفنان الشعبي سعد الصغير 3 سنوات في قضية مخدرات
-
فيلم ’ملفات بيبي’ يشعل الشارع الاسرائيلي والإعلام
-
صرخات إنسانية ضد الحرب والعنف.. إبداعات الفنان اللبناني رودي
...
-
التراث الأندلسي بين درويش ولوركا.. حوار مع المستعرب والأكادي
...
-
الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|