|
تأملات في جسدي الذي لا أملكه.
هادي معزوز
الحوار المتمدن-العدد: 6658 - 2020 / 8 / 26 - 20:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
جسدي عبارة عن لحم une chair غير مرئي، عندما ينتقل في المكان أنتقل معه، وعندما أسافر في الزمن يستغني على نفسه من خلالي.. يحملني إلى حيث أريد وأحمله إلى حيث يريد، هو ظلي الذي يتواجد بدون ضوء، وأنا ظله الذي يتحرك عكسه بإرادة منه وليس مني.. جسدي جسدان، الأول مجرد شيء إلى جانب الأشياء الموضوعة في العالم: جسد بيولوجي يحتاج للأكل لحظة الجوع، وللشرب إبان العطش، وللراحة عند التعب.. أستجيب له فورا كي أتحول إلى خادم طيع له، أو لنقل إلى عبد خلال زمن القرون الوسطى.. لا أنكر إذن أنه يملكني بحيث لا أستطيع عصيان رغباته وأوامره وإن كنت أرفضها أحيانا دون الهمز أو اللمز بها.. لكن وفي مقابل ذلك فإن جسدي الثاني جسد فينومينولاتي phénoménale جسد منفصم مع نفسه أي معي، إنه هو "أنا" بحيث لا يمكن أن أعرف من أنا إلا بواسطته، وهو في نفس الوقت لي، لأن لا أحد بإمكانه أن يأخذه مني فيصبح هو "أنا" وأنا هو.. وتبعا لذلك يتمكن جسدي من أن يضم فيه كل أشكال التناقض والانفصام، حيث يتحول هذا الأخير إلى هوية يسكنها الاختلاف، أو لنقل هوية الاختلاف الدائمة. هذا الجسد يستطيع بشكل غرائبي أن يجعل من الداخل خارجا عن طريق التعبير، وأن يحول في نفس الوقت الخارج داخلا بواسطة فعل الإدراك.. جسدي كيان ميتافيزيقي بامتياز، عندما يعبر عن شيء ما، أو عندما يكتب أو يقرأ أو يتذوق معزوفة أو فيلما أو قصيدة شعرية أو لوحة فنية.. فإنه لا يمكن أن يخرج في هذا الأمر عن نطاق التاريخ والمعنى والأنطولوجيا، أليس المعمار تجسيدا لروح عصر وأمة ما؟ نفس الأمر ينطبق على كل أشكال الفنون والممارسة العلمية والتدبيرين السياسي والاقتصادي، من ثمة يتحول الجسد إلى أداة يتنطع ويتشكل عن طريقها الوجود، أي أنه يجعل من الداخل خارجا ومن الخارج داخلا بشكل متتابع.. عندما أريد أن أقترب من جسدي وأمسك به، أحس بهذا البون الشاسع وهذه المسافة الممتدة بيننا، جسدي يبتعد عني كلما حاولت الاقتراب منه ووضعه تحت قبضة يدي، لا لشيء سوى لأن يدي التي أتوهم أنها لي هي في الأصل ملك له بينما أنا المتطفل عليها وعليه كذلك، لأنها منه وفيه وهو منها وفيها، فهل يمكن أن أقبض عليه؟ وهل يمكن أن أقبض على نفسي دون؟ لست في الحقيقة أمام هذه المعادلة المعقدة سوى فكرة فارغة تسبح في الهواء.. وعلى النقيض من ذلك فإن جسدي عندما أحاول الابتعاد عنه يقترب مني إلى درجة يحاول من خلالها خنقي ووضعي تحت مخالبه التي تنخرني بشدة أفقد معها كل إحساس بالحرية.. عندما أتعب مثلا من نفسي وأنشد التجول وحيدا أرى أني أحمله معي وأنا الذي أعلنت سلفا تعبي وضجري من كل شيء.. عندما أسافر وأقطع المسافات ثم أقول في نفسي: "وأخيرا ابتعدت" أنتبه إلى أني حملته معي لأنه حملني معه.. يذكرني بالذي أنشدت الابتعاد عنه، ويصنع أثره الذي يختفي كي يظهر من جديد وبوطأة أكبر.. حينها وحينها فقط أعلن استسلامي أمام حضوره فيبتعد عني بمكر عندما يشعر بتوقد عاطفتي تجاهه، أي بمحاولتي القبض عليه.. وجسدي في معرض آخر مرآة لنفسي ولنفسه بشكل متزامن، إذ عن طريق هذه اللعبة أكتشف نفسي من خلاله، ويكتشف نفسه من خلالي، لكن الاختلاف بيننا هو أن نفسي حريصة عليه بينما لا يهمه من العالم سوى نفسه ـ التي لا تقف على حال ـ عن طريق نفسي، جسدي متكبر ومغرور إلى درجة لا توصف، فعندما يحتاجني أركض متلهفا من أجل خدمته، وعندما أحتاجه يرفع كتفيه تجاهلا ثم ينصرف عني دون أن يمنحني حتى شرف رؤيته.. يتركني معلقا بين السماء والأرض ثم يقدفني غلى أقصى الأقاصي دون نعي أو جنازة أو دفن.. وبسبب حضوره الجاثم هذا، تتملكني أمنية مس تحيلة المنال، تكمن في أن أرى جسدي أمامي بكل أبعاده الفيزيائية، أعرف أن الأمر مستحيلا حتى في الخيال، لكن ومع ذلك أريد تخيل الأمر، أريد تخيله وهو يمشي أمامي بدوني.. يركض بجانبي دوني.. يمر مترددا حائرا أو واثقا من نفسه، يركض بحرية أو هروبا من شيء ما.. يرقص أو يصرخ أو يلعب أو يمازح أحدا.. يسخر أو يثير أو يشمئز.. فهل يمكن تحقيق هذا التباعد وهذا الانفصام المنشود؟ لا أعتقد حدوث رؤية ذلك إلا وجسدك فيك، أي أنه لك وليس في ملكك في الآن نفسه.. يتحقق هذا المنال لكن شرط أن تكون داخله وليس بمبعد عنه، فأية قوة هذه، وأي جبروت هذا؟ عندما ينفتح جسدي على نفسه وعلى العالم يتحول إلى لغة، لكنها لغة تتكلم عن طريقي، لغة تفكك صمت جسدي باعتباره جسدا متكلما، و تخرج من جسدي إلى الأشياء التي تحيط بها، فيصير هذا الأخير فاعلا ومفعولا، ذاتا وموضوعا، مؤثرا ومتأثرا.. يسكن جسدي صمت تحركه أشياء وأشلاء العالم، وتسكن جسدي لغة تتكلم على لسان الوجود وتنوب عنه، فهل أمكننا قول ما يجب أن يقال أم قول ما يجب أن َينقال؟ لذا ولذا فقط يوضع هذا الجسد بين الذي لا يُقال والذي لاينقال فيعطي للأشياء معانيها المتحولة تباعا، ويعطي للوجود فرصة انبثاقه وظهوره بأشكال مختلفة وليس بشكل وحيد. جسدي جسد بوجهين، واحد يَرى والثاني يُرى من طرف الذي يَرى، فيصبح الرائي أي جسدي مرئيا من طرف الذي يراه أي جسدي مرة أخرى، أو لنقل إنه انتقال مزدوج بين جسدي كذات وجسدي كموضوع، إنه يكون ذاتا عندما يتحول إلى موضوع، ويلبس جبة الموضوع عندما يكون ذاتا، وإن كانت الذاتية هنا انفتاحا وليس انغلاقا، جاعلا بذلك من أكبر المفاهيم الميتافيزيقية التي عمرت لأكثر من ألفي عام مجرد أشلاء وشظايا ما بعد هذا الانفجار الفلسفي، من قبيل مفهوم الهوية والحقيقة والمعنى والماصدق.. للجسد ديالكتيك خاص به، ديالكتيك لا يؤمن بالتركيب la synthèse وإنما بالشيء ونقيضه التي يتناقض مع نفسه كي لا يبقى هو وإنما شيئا آخر غيره، حركة الديالكتيك في الجسد لا تنتقل بطريقة تراتبية hiérarchique من الأطروحة la thèse إلى نقيض الأطروحة l’antithèse بقدر ما أنها تسمح بالتبادل المتزامن بينهما، هناك إمكانية كبيرة وغريبة لتحول الأطروحة إلى نقيضها، وتحول النقيض في الآن ذاته إلى أطروحة، والتي تتحقق أولا في الجسد كي تنتقل بعدئذ إلى سائر أشياء العالم المرئية منها وغير المرئية. فجسدي مثلا يتجاوز نفسه باستمرار عندما ينفتح على الوجود، لكن هذا التجاوز ليس يمكن له التحقق إلا عن طريق نفي ما كان عليه سابقا، كي يطأ أرضا أخرى في نفس الأرض الذي كان عليها سابقا، إنه تجسيد حي للترحال في نفس المكان وليس من مكان لآخر.. وهو أيضا نقد داخلي بغية الخروج من نفسه، ونقد خارجي بغية العودة إلى نفسه لكن بروح أخرى تقبل التجاوز والنقد أيضا.. ومن ثمة، فإن جسدي لا يمكن أن أملكه لأنه ليس لي.. لأنه يتنطع عندما يريد الوجودُ ذلك وليس عندما أريد أنا ذلك، وهل كان بإمكاني التعرف على ما يجب التعرف عليه دون جسدي؟ في المقابل هل يعني ذلك أني وجسدي سيان؟ للأسف لو كان الأمر على هذه الشاكلة لما تكلمت عليه الآن بصيغة الآخر وليس بصيغة الأنا المتكلم.. فهو الذي يجبرني الآن على التعبير، وهو الذي يكتب ما يجب التعبير عنه، في حين أني لست سوى شيئا فارغا يحدث من خلاله ما يريده جسدي.. وعليه، حاول أن تقف أمام جسدك، أن تشعر به كائنا آخر غيرك، حينها وحينها فقط، ستعرف أن للانفصام والانعكاس والتناقض والتشظي والانفلاتات.. دورا كبيرا لاستمرار الوجود فياضا بالمعاني، واستمرار العالم في مغامراته دون إدراك الأخيرة منها.
#هادي_معزوز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو عيش اللحظة بتفاصيلها
-
ميتافيزيقا الانترنيت المكتملة
المزيد.....
-
-معاد للإسلام-.. هكذا وصفت وزيرة داخلية ألمانيا المشتبه به ا
...
-
-القسام-: مقاتلونا أجهزوا على 3 جنود إسرائيليين طعنا بالسكاك
...
-
من -هيئة تحرير الشام- إلى وزارة الخارجية السورية.. ماذا تعرف
...
-
جزيرة مايوت المنسيّة في مواجهة إعصار شيدو.. أكثر من 21 قتيلا
...
-
فوائد صحية كبيرة للمشمش المجفف
-
براتيسلافا تعزز إجراءاتها الأمنية بعد الهجوم الإرهابي في ماغ
...
-
تغريدة إعلامية خليجية شهيرة عن -أفضل عمل قام به بشار الأسد
...
-
إعلام غربي: أوروبا فقدت تحمسها لدعم أوكرانيا
-
زعيم حزب هولندي متطرف يدعو لإنهاء سياسة الحدود المفتوحة بعد
...
-
أسعد الشيباني.. المكلف بحقيبة وزارة الخارجية في الحكومة السو
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|