استوكهولم...
1
الثاني من نيسان
مدن تحتمي بسعف النخيل. اطفال حفاة، عطشى، مهلهلو الثياب، يلهون ببقايا الصواريخ وحطام البيوت المقنبلة. طفل في السادسة يتوقف فوق تلال الخراب، يستدير نحوي ويحدق في وجهي. رباه، لكم يشبهني! أهو أنا؟ دوار يلفني. أأنا هنا أم هناك؟ أأنا شيخ ينتظر موته على سرير الحرب، أم طفل مهجور ينتظر اعادة خلقه على سرير المنفى؟
2
الثالث من نيسان
امامي أهم صحف المساء الاسوجية: "اكسبرسن". مساحة الغلاف الاول تحتله صورة لبوش. عبارات بالخط الكبير تقول: "مساعدو البيت الابيض قلقون: بوش في الطريق الى انهيار نفسي". "إنه ينغلق على نفسه أكثر فأكثر". الصفحات التالية جمعها عنوان مشترك: "الحرب". الصفحتان الثامنة والتاسعة يحتلهما الوضع النفسي لبوش، تحت عنوان: "وحيد مع مخاوفه" وتحته عنوان أصغر يقول "من المرجح انه اصبح اسوأ صانع قرار".
في العمود الاخير صورتان صغيرتان لصدام والصحاف، تحت عنوان: "صدام يوجه رسالة تهديد الى الاكراد"، والموضوع يتحدث عن الانتقام العراقي المؤكد من شعب بريء!
الصفحتان التاليتان يحتلهما وجه حالم للمجندة جسيكا محمولة على أذرع قوية. عنوان كبير جداً يقول: "حبيبة الشعب الاميركي الجديدة". وكانت الصحيفة نفسها قد نشرت صور جسيكا قبل اسبوع، هامسة خفية بعملية إنقاذ تخلّص رسولة السلام من بين براثن القتلة!
عمودان يحيطان بهذا الموضوع، الاول يقول: "العراق يقذف الى خارج البلاد قناة "الجزيرة" التلفزيونية"، وفي العمود الأيمن عنوان: "هل كانوا يريدون قتلي أم أرادوا فقط التحقيق معي؟". أرفق العمود بصورة عاطفية للصحافية مولي بنغهام، التي أطلق سراحها بعد اعتقال دام اياماً في بغداد. الصفحة الأخيرة من ملحق الحرب مقسومة قسمين، في الاول خرائط ومربعات توضيحية تشير الى سير المعارك في اتجاه بغداد مع عنوان: "الآن تبدأ معركة بغداد". اما الجزء السفلي فقد احتله اعلان تجاري كبير لسيارة فولكس واغن جديدة.
ألقيت بالجريدة ورحت افكر في امر محدد، كل هؤلاء يجتمعون في عدد واحد: بوش، صدام، الصحاف، مساعدو بوش، الحبيبة جسيكا، المظلومة مولي، المغدورة قناة "الجزيرة"، المهددون دائماً وابداً بالكيميائي، اين انت ايها العراق؟
الا يوجد لك مكان بين الضحايا والأحبة؟
3
الرابع من نيسان
ابني زيد - 9 سنوات - أعاد عليّ مزحة اول نيسان، ظناً منه انه يعينني على تخفيف احزاني، فتذكرت تاريخ الكذب: ايديولوجيات الكذب المناطقية والقومية والطائفية، حزبيو الكذب، أدباء الكذب، وثقافة الكذب.
سوق النخاسة الدولية، تقابلها في الواقع سوق نخاسة محلية، وهذه تقابلها سوق نخاسة شخصية. حينما رجحت كفة الاميركان أسرع كتّاب الرواية والقصة يعرضون على الملأ افكارهم الفلسفية الجديدة. كتّاب عراقيون يتباهون بحريتهم الجديدة التي حصلوا عليها بعد اكتشاف الديموقراطية الاميركية، تطوعوا لشرح فلسفة المارينز للاذاعات قائلين: الحرب الاميركية ضرورة. إنها السبيل الانساني الوحيد لتحرير الشعب العراقي.
من سمع تلك الاصوات، تذكّر السحنات الكاذبة التي عرضت على الملأ خلال الايام الماضية. فالذين يكيلون المديح للمارينز بصوت عال، جلهم، من بقايا المملكة الحمراء، ومن المتنكرين لنعمتها عليهم. من رأى ذلك تذكّر سباق بولونيا والمجر وغيرهما من بلدان المعسكر الاشتراكي السابق وحماساتها الطفولية للذهاب الى مائدة الحرب الاميركية. أيشبه البشر الدول؟
كولن باول وصف فرنسا والمانيا بأنهما من "الدول العتيقة" قياساً بدول اوروبا الشرقية. هل نحن "عتيقون" ايضاً في مواجهة هذا الجمع الذي تربى وتثقف في كنف الاستبداد، والذي حالما نفق ولي نعمته القديم لبس خوذة المارينز؟
نعم، فللدول والبشر حدود معلومة، حدود قد تغدو في لحظة الانهيار الاجتماعي مستباحة، منتهكة، تطأها كل الاقدام.
4
الرابع من نيسان
صحيفة "داغسنيهيتر"، كبرى صحف اسوج، تجيب عن سؤالي، كما لو انها فطنت لمشاعري. الصحيفة تخصص موضوعاً طويلاً من جنوب العراق يصوّر المساعدات الكويتية للشعب العراقي: حشود من الناس "الناكري الجميل"، يأخذون الماء والاكل من جهة ويستنكرون في الوقت نفسه الوجود الاجنبي، رغم أنهم في حماية "جيش التحرير
في المساء حصلت على جواب آخر عن تساؤلي بواسطة وكالة رويترز: مجموعة من بضع مئات من الكويتيين يقيمون مسيرة فرح لمناسبة انكسار الاعداء، بمعية خادماتهم الآسيويات، يوزعون فيها الكوكا كولا والأيس كريم على المارة: امران أثارا فضولي في هذا المشهد القومي البهيج، الاول: هو حسن تدريب الخادمات الآسيويات على الزغاريد، وثانيهما: استبدال الملبّس بالآيس كريم والكوكا كولا. فنحن في عصر العولمة والأمركة.
ترى هل ستقوم العراقيات الماجدات - النسخ الكويتية من العراقيات - بمرافقة خادماتهن الاسوجيات والسويسريات، أسوة بشقيقاتهن الكويتيات، بعد "التحرير"، بإعداد تظاهرة فرح، يوزعن فيها الهامبرغر والبيبسي كولا، لدى توجه المارينز الى طهران؟
سيحدث هذا، طبعاً، بعد ان تبدأ اميركا حرب تحرير ايران. ولكن، هل يكفي الهامبرغر للتشفي بأولئك الذين خضنا ضدهم حرباً قاسية وظالمة لم تدم ستة اشهر، وانما ثماني سنوات مشحونة بالموت والدمار؟ ماذا تقترحون علينا أيها القادة الكويتيون في هذه المناسبة السعيدة؟ أعينونا، فخيالنا المريض عاجز عن انتاج بدعة انسانية مشرّفة للفرح بانكسار أعدائنا. أعينونا!
صحيفة "الوطن" الكويتية نشرت خبراً على لسان وزير الاعلام الكويتي في صفحتهما الاولى، لم أفهم مغزاه جيداً، لكنه يقول: "المرحلة المقبلة لمواجهة من يفتلون عضلاتهم القومية على حسابنا. امرأة اسوجية لا تعرف الجغرافيا جيداً، سألتني سؤالاً فنياً، لا صلة له بالسياسة او بالاواصر القومية والاخلاقية، قائلة: لو لم تتدفق القوات الاميركية من الكويت، هل كان من الممكن قيام هذه الحرب؟ رغم أن هذه المرأة لا صلة لها بالقومية العربية، الا اني كعربي أضع تساؤلها ضمن قائمة الاسئلة القومية المفتولة العضل، ولا اعرف كيف سيقوم معالي وزير الاعلام بمواجهتها!
5
الخامس من نيسان
ساحة سيرغل في استوكهولم. بضع عشرات من الناس، يهللون للحرب ضد صدام ويطالبون بحقوق للاكراد الفيلية. التجمع ذكّرني بمقابلة أجراها التلفزيون الاسوجي، كجزء من واجبه التحريضي ضد القوميات المختلفة. المذيعة تسأل أحد المبتهجين: هل حقاً انك سعيد وانت ترى بغداد عاصمة بلادك تقصف؟ الجواب: نعم أنا فرح. المذيعة بدهشة شديدة: رغم ان لك أهلاً هناك؟ الجواب: نعم، لم أفرح في حياتي مثلما أنا فرح اليوم وأنا أرى القنابل تتساقط على عاصمة صدام!
صحيفة اسوجية كتبت خبراً عن الاحتفالات بعيد النوروز التي تقام على نيران الحرائق المندلعة من بيوت العراقيين في بغداد والنجف وكربلاء والبصرة والناصرية وموصل صدام!
هذا الامر جعلني أعود للنظر في بعض صفحات كتابي "ثقافة العنف"، الى الجزء الذي كتبته عن اعادة انتاج دورة الشر. إن قوة ثقافة العنف أدت الى صناعة قتلة وضحايا على الدرجة نفسها من موت الضمير. صنعت قاتلاً وضحية يملكان لغة واحدة: موت الاحساس بالوطنية، موت الاحساس بكل ما هو خيّر، موت الاحساس بكل ما يربط بالانسان السوي. ثقافة العنف، التي أرغمت الناس على الخلط بين الديكتاتور والوطن، بين سلطة الحاكم وحق الشعب، بين ارض الوطن وقصور الديكتاتور، خلطت ايضاً بين الفرهود (النهب والسطو) السياسي والديموقراطي، بين التحرير والاحتلال، بين أم المعارك وأم قصر، بين الانتحار والنصر، بين أم القنابل وأمهات القتلى. ففي "ثقافة العنف" التي يحملها القاتل او الضحية في دمه يكون الوطن هو الديكتاتور، والشعب هو قطيع الديكتاتور، والارض والسيادة وحتى السماء هي محميات الديكتاتور.
إنها ديكتاتورية الشر، التي يحملها الجلاد والضحية، الضحية المريضة نفسياً وسياسياً بمرض اسمه "الضرورة": الاحتلال الضرورة والديكتاتور الضرورة والفرهود الضرورة والاذلال الضرورة.
6
السادس من نيسان
فجأة تتوقف مدرعة اميركية في أحد أحياء النجف، تنفتح كوتها، تخرج منها مجموعة من جنود المارينز ينتشرون على شكل نصف قوس. رجل بخوذة عسكرية اميركية ودشداشة عراقية يترجل من المركبة. ينزل الرجل خلسة، بحذر وخوف، مثل لص. يخفي وجهه خلف جسد المدرعة الحديدي. ينزع خوذته، ويتناول على عجل، وهو ينظر الى كل اتجاه، عمامة سوداء كبيرة، يلبسها، ويستقيم، ثم يمشي مسرعاً محاطاً بالمارينز. ومن فوره يشرع الرجل في التنقل في صحبة المارينز من بيت الى بيت، محاولاً اقناع هذا او ذاك من الائمة ووجوه المدينة المقدسة ببطلان فتوى الإمام السيستاني القاضية بعدم التعاون مع المحتل، وبضرورة ابدالها بأخرى تجيز "الاحتلال الضرورة". هذا الرجل، الذي جاء من لندن على متن دبابة، وابدل عمامته بخوذة المارينز، سرت معه، بسرعة تنقله بين البيوت، تسمية عجيبة أطلقها عليه النجفيون: "الملاّ دولار".
(كتب هذا في السادس من نيسان مساء)
7
السابع من نيسان فجراً
قنبلة ذكية، أدخلها الضابط الاميركي في قلب القاذف وهو يربت على كتفها مشجعاً:
- لا تخافي يا صغيرتي الحلوة، وتذكري جيداً ما قلته لك.
- لا تقلق، سيكون كل شيء كما تريد، همست القنبلة الذكية وهي تبتسم بغنج. ثم انطلقت فرحة في الهواء، تصفر شاقةً طريقها مثل سهم من نار. عبرت سماء الكويت، وحينما صارت فوق البصرة، توقفت فوق ساحة سعد. هي تذكر جيداً ما حدث هنا عقب حرب تحرير الكويت. هنا بالضبط بدأت شرارة اللهب، الذي سمّاه الناس الانتفاضة، حينما قام جندي جنوبي ممزق الثياب، حافي القدمين، يابس الشفتين، بإطلاق النار على صورة الطاغية. نظرت القنبلة الذكية فرأت، وهي في السماء، نصب صدام يقف وحيداً، مهجوراً في الساحة. أرادت أن تلقي بنفسها عليه، لكنها أمسكت نفسها فجأة. ترددت حائرة، ثم غرقت في دوامة من التفكير. لبثت دقائق واقفة في الهواء مرتبكة، متوترة وقلقة. لكنها لم تلبث ان حسمت أمرها واستدارت عائدة من حيث جاءت.
نزلت في حضن الضابط الاميركي، الذي عانقها مندهشاً، وهو يهمس برقة:
- ماذا! هل أخافك الطاغية؟
- لا، لم يخفني هذا الأهبل.
- هل أنت جائعة؟
- لا، لا تكن ساذجاً، ردت بتأفف.
- لماذا عدت اذاً، يا حبيبتي الصغيرة؟
- لم أجد أحداً من الناس يقف الى جواره. نطقت بارتباك وخجل، فهي رغم ذكائها لا تدري هل ما فعلته كان شيئاً ذكياً أم غبياً.
صمتت هنيهة ثم أضافت، كما لو أنها تحلم:
- ... كان وحيداً يقف في الساحة، انتظرت ان يأتي أحد الى جواره فلم يأت أحد من الناس، فقلت في نفسي: هل يستحق هذا الصنم الحجري التافه مثل هذه الهدية الغالية؟ آه، لو يوجد هنا أحد، حتى لو كان طفلاً، امرأة، شيخاً، جندياً، حمّالاً، صباغ أحذية، لكنت هبطت.
نطقت ذلك واختنقت الكلمات في فمها وهي ترتعش من شدة الانفعال.
بحنان شديد مدّ الضابط يده اليها وجرها اليه معانقاً. طوّق جسدها الناعم بساعديه وهو يوشك على البكاء من شدة التأثر، ويفكر في امر واحد: ليس عبثاً أنهم سمّوها ذكية!
8
الثامن من نيسان
شاعر عراقي، يقول في احدى مقالاته التي ينشرها تأييداً للحرب، إنه لا يعلم لماذا لم تهزه مشاهد الموتى من الاطفال العراقيين، بينما فطرت قلبه صور الجنود الاميركان القتلى والجرحى، الذين ذهبوا ليعصفوا بالعراق.
حاولت ان أكون محايداً، محايداً الى حد الموت، كي أجد تفسيراً معللاً لهذه الظاهرة النفسية العجيبة، لكني فشلت. الاطفال العراقيون القتلى لا يثيرون الأسى في نفسه، بينما يفطر قلبه مرأى الجنود الاميركيين وهم يتكوّمون بلا حراك. وأجسادهم المفتولة العضل - يا للحسرة! - مهترئة بفعل الموت والنار والبارود.
لم أجد جواباً عن هذا السؤال العاطفي الوطني في عقلي المشلول بفعل الحيرة، ولم أجد جواباً حتى في موسوعة النفزي العقلية. ترى ما الذي يجمع بين اولئك البشر المحبين للحرية الاميركية، عدا خوذة المارينز ومرض ضمور الضمير؟
9
الثامن من نيسان ليلاً
ما هو الوطن؟ الاسئلة الوطنية التي استعصت عليّ اجاباتها، وجدتها من دون كد مساء اليوم، حينما قامت دولة الكويت بإيقاف قناة "العربية" لاسباب "وطنية".
ثم أكد الاميركان ذلك بشكل أعمق، حينما طردوا بيتر ارنيت من قناة "أن بي سي" لاسباب بالغة الحساسية: "نقص في المسؤولية الوطنية".
ما هو الوطن، ايها الكاتب العراقي المؤيد للحرب والاحتلال؟
أرنيت، الذي تحدى اميركا في ارادتها، لم يصمد امام حجة الوطنية. فرغم انه لم يغيّر موقفه من قضية الحرب ولا ايمانه بفشل الخطط الاميركية، الا انه اعترف علناً بأنه اخطأ بقبوله اجراء مقابلة مع مسؤولين يعتبرون "أعداء من الناحية الوطنية".
ما الفرق بين نهب المتحف الوطني، بين نهب أسرّة المرضى في مستشفى الكندي وبين كاتب عراقي يمجد الحرب والاحتلال؟ أنهم، جميعاً، ابناء للفرهود. الفرهود السياسي والاخلاقي والفكري.
كيف يمكننا ان نكتب قصيدة او قصة او رواية عن تراب نقيم معه علاقة كره الى هذا الحد الدوني المفجع؟
تلك اسئلة معقدة، تشبه في تعقيدها تعقيد الحرب العراقية الاميركية الراهنة. صدام يريد أن ينتصر من خلال مطّ زمن الحرب. فهذه الاطالة تجعله يكسب الوقت ويكسب تعاطف الناس، ويكسب صورة المدافع عن التراب الوطني، اضافة الى منافع اخرى. لكن هذه المكاسب لن تتحقق ما لم تتحقق معها أقصى طاقات التضحية: التضحية بالارض، بالناس، بالحياة. إنه نصر معنوي مجاني محتمل للديكتاتور، لكنه خسارة فادحة ومؤكدة للشعب.
وفي الطرف الآخر يقف بوش. يريدها حرباً نظيفة ليكسب رضا العراقيين، الذين يود استعمارهم بطيبة خاطر، والذين لم يمنحوه رضاهم بعد. لذلك هو مرغم في كل يوم على أن يظهر قسوته الفريدة، ان يظهر حقيقته البشعة، كصانع وعرّاب وأب حقيقي ومؤسس دولي للديكتاتور المحلي الرث.
كلاهما يحقق نصره من خلال حقيقة واحدة: ذبح الحياة والحرية.
الاول يقيم طقوس الذبح بأم المعارك والثاني بأم القنابل.
وأنت، ايها الشعب العراقي، يا من تقف بين أمّين شريرتين، أليس لك أم؟
10
ليلة الثامن والتاسع من نيسان
في المنام رأيت شيخاً من الاوراس وربما من الاطلس الكبير او المتوسط، وقبلياً من جبال صعدة، ومزارعاً من البقاع وفلاحاً من الصعيد، رأيتهم جميعاً ينهون صلاتهم بقلوب راجفة خاشعة قائلين بصوت واحد: اللهم انزل أم القنابل على رؤوس العراقيين. اللهم احفظ أرواح المارينز وهم يقومون بزحفهم على بغداد. اللهم اذبح اطفال العراق بالقنابل العنقودية. ربّنا انت اعرف منا بما كابده العراقيون من ظلم حكومتهم، فانصر خصوم الحكومة من اميركان وانكليز على القوم الظالمين. اللهم لا تبخل بقنابلك، فلا يكفي 15 ألف قنبلة و700 صاروخ في اسبوعين توجهها نحو قصور صدام. ربّنا لا تترك حجراً على حجر. آمين، رب العالمين!
حينما صحوتُ، فكرت: هل يوجد في الكون متعبد عربي او ياباني او هندي او حتى اميركي كهذا؟ وهل حقاً يوجد رب يقبل دعاء كهذا!
حلمت في هذا بعدما قرأت مقالاً لاميركي من العراق يقول: "ايها العرب لا نريد محبتكم!".
11
التاسع من نيسان
بعد جسيكا جاءت لوري. اشتريت خبزاً وجبناً يشبه السمّ من المتجر القريب. أرغمتني الصور المنتشرة في لوحات اعلانات الصحف على شراء جريدة المساء "افتون بلادت". صورة المجندة الاميركية لوري يبيستوا تغطي الغلاف والواجهات. لوري: أحلامها الرائعة، اطفالها الاحرار، امها العذبة، امالها التي لا حدود لها. عنوان كبير يقول: "أم لاطفال صغار تقتل غدراً على ايدي جنود صدام". لوري التي تركت اطفالها وجاءت الى الناصرية لتحرر اطفالنا من عبوديتهم، عادت قبيل التحرير الى اطفالها الاحرار، ولكن مقيدة بسلاسل الموت.
12
التاسع من نيسان
سقط تمثال الديكتاتور المنتصب في الساحات، متى يسقط الديكتاتور الابدي اللابد في الضمائر؟
13
العاشر من نيسان
بشر جائعون، عطشى، يتزاحمون حول سيارات الماء في البصرة، لكنهم ينددون بالغزاة. جياع وغوغاء يمارسون عادة الفرهود تحت إشراف المارينز وحلفائهم القادة القوميين. جموع نجفية تقدح عيونها شرراً وهي تواجه أتباع المارينز المحليين. أكراد يمارسون هواية التطهير العرقي. مدن محتلة، عابسة، يزحف فيها الغزاة مثل عقارب آلية.
مدننا السخية، التي لم تتعود على تقديم الزهور، لم تقدم للمحتل ما تعوّدت ان تقدمه لابن السبيل: لا ماء الورد، ولا خبز العباس، ولا شيلان الزهرة.
مدننا قدمت ما قدمته ابنة فرنسا في رواية فيركور، "صمت البحر"، للمحتل الالماني.
الطليعة الاولى من المارينز، الذين دخلوا في اليومين الاولين للحرب تعلموا بضع كلمات، أهمها: "ارفع يدك" و"انبطح". بعضهم قال إنها: "ارفعوا ايديكم" و"انبطحوا" في صيغة الجمع. بيد ان المدن العراقية لم ترفع اياديها ولم تنبطح. لا المدن التي يطوقها صدام ولا المدن التي يطوقها المارينز.
مدننا صامتة، مثل أضرحة شهدائنا، لكنها لا تنبطح. قول لمن لا يفهم اللهجة العراقية جيداً: إنه صمت البحر العراقي.
ايها الساسة الاميركان: أنتم اقل ذكاء من قنابلكم!
ايها الغزاة: أنتم لم تلتقوا بعد بالعراقي، العراقي الحر، الحر من سلطة الديكتاتور ومن خوذة المارينز!
ايها المارينز: ستسقط انصاب الديكتاتور، هذا امر مؤكد. لكن الاكثر تأكيداً انكم حينما تستكملون رسالتكم الحربية السموية ستقفون وجهاً لوجه امام وطن لم ترسم حدوده أبار النفط او اصابع الرياح. ستلتقون وطناً رسمت حدوده الرماح.
ايها المارينز: هل تدارس قادتكم السؤال: من يقتلع الآخر؟
14
الحادي عشر من نيسان
هل سمعتم بمدينة العمارة؟ لا أحد يود ان يسمع بها رغم المئات من عدسات التصوير الصديقة والعدوة التي تصور مهرجان التحرير الدموي. سكان محافظة العمارة - ميسان - حرروا المدينة بأنفسهم قبل وصول المارينز. لا نهب، لا سلب، لا جرحى، ولا قتلى. المارينز أمروا السكان بإخلاء المدينة من محرريها. المارينز يهددون بقصف المدينة بالصواريخ إن لم تستجب اوامرهم. فلا تحرير بلا احتلال!
المدينة تقول: إنهم يزقّون تحريرهم في أفواهنا زقا، يزقّونه مصحوباً بدبابات الاحتلال.
15
الثاني عشر من نيسان
ايها العراقي: سقط الديكتاتور، صعد اليانكي، تهانينا!.
النهار