|
انقطاع الكهرباء في طرابلس وظاهرة الإغفال المهذب
حسين سالم مرجين
(Hussein Salem Mrgin)
الحوار المتمدن-العدد: 6639 - 2020 / 8 / 7 - 10:38
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
وجه لي صديق منذ فترة سؤالاً وهو: ألا يستحق أن يكون انقطاع الكهرباء ظاهرة جديرة بالبحث والتشخيص، والتحليل، خاصة في ظل استمرار انقطاعه لساعات، وأحيانًا أخرى لأيام في بعض أحياء طرابلس؟. ولهذا سوف أحرص في السطور القادمة على استخلاص وجهة نظري عن هذه الظاهرة، والمتبوعة ببعض التحليلات الخاصة. بادئ ذي بدء أعتقد بأن موضوع انقطاع الكهرباء في أحياء طرابلس جعل جل أفراد المجتمع عاجزين عن التفكير، وأحيانا أخرى عن الاستفسار، وفي أحايين كثيرة حتى عن الكلام، بالتالي لن تجد في أحياء طرابلس حاليًا أي صرخات، أو شتائم، أو مسبات مثلما كانت تتقادح سابقًا كالشرر بسبب انقطاع الكهرباء. وأكاد أجزم بأنه لا أحد في ليبيا يعرف حجم ومأساة انقطاع الكهرباء أكثر من سكان أحياء طرابلس، مثل أحياء حي الاندلس، وغوط الشعال، والسراج، والظهرة، ووسط المدنية، وقرجي، والمنصورة، وباب بن غشير، وعين زارة، ووادي الربيع، فهذه الأحياء تحملت ساعات أحمال الكهرباء عن أحياء ومناطق ومدن الغرب الليبي برمته، والسبب ربما يعود إلى كون هذه الأحياء لا تمتلك ذات المتضخمة الموجودة والمتأصلة في تلك المناطق والمدن، والتي ترى بأنها غير معنية بأي توزيع للأحمال. ولكن السؤال البارز الذي يطرح نفسه هو: لماذا هذا العجز عن التفكير أو الاستفسار أو الكلام؟ أعتقد بأن أفراد المجتمع في مدينة طرابلس أصبحوا يمارسون حاليًا ما يُسميه عالم الاجتماع البريطاني "أنتوني جدنز" "بالإغفال المهذب" اتجاه مسألة أو ظاهرة استمرار انقطاع الكهرباء، ومن ثم أصبحوا لا يتوقعون من الحكومة غير هذا السلوك أو هذا التصرف؛ وهو استمرارها بالقيام بقطع الكهرباء دون الحاجة إلى معرفة التبريرات، وهذا لا يعني أن أفراد المجتمع غير مدركين لفشل الحكومة في معالجة ذلك الانقطاع، أو كونه وسيلة للإفلات من العقوبات أيا كانت، لكن هذا "الإغفال المهذب" ربما يعني الاعتياد على مثل هذه الممارسات والتصرفات من الحكومة، وفي هذا السياق يُلاحظ بروز شعور قد يبدو غريباً وهو الشعور المجتمعي بعدم قدرة الحكومة على معالجة هذا الانقطاع. ومن ثم فلا غرابة في اعتقاد بعض أفراد المجتمع بأنه لا أهمية للتفكير أو الاستفسار أو الكلام عن مسألة انقطاع الكهرباء في طرابلس، وكأن لسان حالهم يقول "الحياة امتحان، الصبر دواء، والرضى شفاء"
وربما تشكل مسألة أو ظاهرة - انقطاع الكهرباء- لباحث مثلي ظاهرة بحاجة إلى البحث والاستقصاء، بالتالي ربما أراد ذلك الصديق أن يقول لي " أرجوك ألا تمارس مثلنا الإغفال المهذب اتجاه استمرار هذه الظاهرة"، بالرغم من كون المعايشة والمشاهدة هي أعمق من أي كتابة. إن النظرة العميقة لظاهرة انقطاع الكهرباء تكشف لنا بأن طرابلس في ظل انقطاع الكهرباء تكاد تكون سجناً كبيراً مضغوطاً، حيث يستمر انقطاع الكهرباء إلى أكثر من 20 ساعة يوميًا، فالظلام في كثير من الأحايين هو سيد كل شيء في أحياء طرابلس. وعلى هذا الأساس فإن الحكومة قد تقوم بتغيير أوقات انقطاع الكهرباء دون الحاجة إلى قيامها بإعلام أفراد المجتمع عن تلك التغييرات، فتارة تكون خمس ساعات انقطاع للكهرباء، ويقابلها بعد ذلك خمس ساعات استمرارًا للكهرباء، وتارة أخرى تزداد ساعات الانقطاع دون أن يقابلها استمرار للكهرباء، ولا أحد من أفراد المجتمع يبقى على حاله ما بين لحظتين؛ سواء في لحظة الانقطاع، أو لحظة الاستمرار، وكأن الحكومة أرات أن تقول لأفراد المجتمع " لقد هيأت لكم ظروف التغيير، فلن يعد الخوف يجد إلى أنفسكم سبيلا مع استمرار حالات انقطاع الكهرباء كما كان سابقًا ". ومن خلال مشاهدتي ومعايشتي للحياة اليومية لانقطاع الكهرباء في طرابلس، تجد مثلاً أن أوقات النوم والسهر أصبحت تتغير لدى الكثير من أفراد المجتمع نتيجة لتغيير ساعات انقطاع أو استمرار الكهرباء، كما تجد أحيانًا كثيرة ربات البيوت يتسابقن مع الزمن من أجل إتمام عمليات الترتيب والتنظيف داخل بيوتهن قبل انقطاع الكهرباء، ودون النظر إلى التوقيت صباحًا أم مساءً، كما أدى انقطاع الكهرباء المستمر داخل البيوت إلى فساد الأطعمة المحفوظة في الثلاجات، وكذلك فساد الأطعمة والخضروات واللحوم في الأسواق، كما أدى انقطاع وعودة الكهرباء في بعض الحالات إلى تلف بعض الأجهزة الكهربائية، وكذلك الأمر بالنسبة لساعات العمل أصبحت مرتبطة إلى حد كبير في جل المؤسسات الحكومية مع استمرار الكهرباء، فمجرد انقطاع الكهرباء تجد جل الموظفين في حالات تأهب للخروج من مؤسساتهم، وكأن ذلك الانقطاع يقول لأولئك الموظفين" لقد هيأت لكم ظروف الخروج من العمل". وفي ظل هذه الوقائع تبرز على سطح المجتمع بعض المفارقات، سواء على مستوى الأفعال أم السلوكيات الصادرة عن أفراد المجتمع، والتي قد تبدو غريبة أو غير معتادة؛ إلا أن هدفها حسب اعتقادي هو السعي الحثيث إلى إعادة التكيف مع واقع انقطاع الكهرباء، من خلال تكرار تلك الأفعال والممارسات، وفي هذا السياق حدثني صديق بأنه بعدما تعوّد هو وأفراد أسرته على انقطاع الكهرباء لما يقارب عن 20 ساعة بشكل يومي، جاءت الكهرباء مرة في غير توقيتها، فما كان من ذلك الصديق إلا أن طلب من أبنائه قطع الكهرباء فورًا لأنهم لم يتعودوا على وجودها في مثل هذا التوقيت!. قد تبدو هذه القصة في ظاهرها دعابة مضحكة، لكنها تحمل قي مضمونها السعي المجتمعي نحو التكيف مع وقائع استمرار انقطاع الكهرباء، وربما أيضًا عدم الحاجة إليها مستقبلا، وهذا يعني محاولة بعض أفراد المجتمع إقناع أنفسهم بأن هذا الواقع – وهو انقطاع الكهرباء - سيصبح جزءًا منهم، وسوف يرافقهم في أي موضع، ومن ثم يتطلب مرانا من نوع مختلف ودُربة تتجاوز المألوف. هكذا تسير الوقائع والأحداث في أحياء طرابلس مع استمرار حالات انقطاع الكهرباء والتي أجزم بأنها ليست معزولة إطلاقا عن المساقات والتجاذبات والصراعات الحاصلة في ليبيا منذ 2014م، وعمومًا الكلمات قد تؤلم باحثاً إن ظلت محبوسة، كما أن المشاعر قد تخنقه إن ظلت دفينة، وأعتقد بأن أقلام البحاث سوف تفيض علينا مع قادم الأيام بالمزيد من الكشف وتشخيص عن تلك الوقائع والحوادث؛ لتكون عبرة لمن اعتبر، وذكرى لمن سبر الحياة ونظر، واختم هذه المقالة بأنه " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا".
#حسين_سالم_مرجين (هاشتاغ)
Hussein_Salem__Mrgin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يمكن أن يكون للجندرة دوراً في الحدّ من انتشار فيروس كورون
...
-
الجودة وضمانها في الجامعات الليبية الحكومية كما تراءت لي في
...
-
الأزمة الليبية والدور الجزائري
-
الأزمة الليبية بين المتوقع والظنون
-
أدوار النخب في الدول العربية لمواجهة جائحة كورونا
-
تاريخ ليبيا القريب بين.. ثالوث الإقصاء والهجوم والإهمال
-
هل يُعيد فيروس كورونا الصراع الأيديولوجي من جديد ؟
-
فيروس كورونا والتغير والتغيير الاجتماعي
-
التعليم والتعلم في ظل انتشار فيروس كورونا
-
مراجعة نقدية لرواية طريق جهنم .... لأيمن العتوم
-
هل يُغير فيروس كورونا الأزمة الليبية ؟
-
المبعوث الأممي غسان سلامة والأزمة الليبية
-
ليبيا وأزمة شخصية القيادة
-
التعليم الجامعي الحكومي في ليبيا عراقيل وتحديات الواقع ...وإ
...
-
الجودة وضمانها كما رأيتها في مدرسة شموع العلم
-
الدراسة الذاتية للمؤسسة التعليمية.. لماذا؟ وماذا؟ وكيف؟
-
الجودة وضمانها في المؤسسات التعليمية
-
الدراسة الذاتية المفهوم والدلالات
-
مراجعة كتاب: ليبيا التي رأيت، ليبيا التي أرى: محنة بلد-
-
الاحتجاجات المجتمعية في المنطقة العربية والحاجة إلى إعمال ال
...
المزيد.....
-
كاميرا منزل ترصد تصرفات منفذ هجوم نيو أورليانز أمام شقته
-
عشاق الحيتان يرصدون عجل حوت قاتل حديث الولادة.. لِمَ بعث هذا
...
-
الدفاعات الروسية تسقط 61 مسيرة أوكرانية غربي البلاد
-
مسيرة ترصد بالصدفة حادث انفجار الألعاب النارية في هونولولو ا
...
-
تقرير يكشف عن أفضل الأنظمة الغذائية لعام 2025 للحفاظ على الص
...
-
دهسوا بعد دقائق على نشرهم هذه الصور.. آخر لحظات مسرح الجريمة
...
-
سوريا تعلن بدء استقبال الرحلات الجوية الدولية بمطار دمشق
-
هل تنجح المفاوضات بين حماس وإسرائيل هذه المرة في التوصل لوقف
...
-
الداخلية الألمانية: على بعض السوريين العودة لبلادهم في ظل اس
...
-
بلينكن يؤكد لعبد العاطي دعم واشنطن للعملية الانتقالية في سور
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|