أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس عوده قاسم الكناني - قراءة في فضاء استطيقيا الموسيقى...















المزيد.....


قراءة في فضاء استطيقيا الموسيقى...


قيس عوده قاسم الكناني
(Qays Oudah Qasim)


الحوار المتمدن-العدد: 6637 - 2020 / 8 / 5 - 22:36
المحور: الادب والفن
    


يقول شوبنهاور أن التشابهات بين الموسيقى وبين الظواهر والإرادة في العالم وفي الطبيعة البشرية ليست مباشره فالعلاقة بين الموسيقى وظواهر الإرادة ليست علاقة محاكاة وإنما هي علاقة توازي او تشابه غير مباشر لأن الموسيقى لا تعبر أبدا عن الظواهر ولكن تعبر فقط على الماهية الباطنية او جوهر الظواهر كلها أي الإرادة ذاتها لذلك فهي لا تعبر عن هذه البهجة الجزئية المحددة او تلك ولا عن هذا الحزن او ذلك ولا عن ذلك الألم او الخوف او السرور او المرح فهي تعبر عن الروح الباطنية لهذه المشاعر دون أي إضافات ثانوية, فالموسيقى عندما يعبر عن الألم والمعانات فأنها لا يعبر عن الشعور المشترك لكل الآلام ولكل المعانات فهي يعبر عن الألم نفسه بدون الأسباب او الدوافع التي أدت إليه( ) .
ان الموسيقى في مفهوم شوبنهاور الجمالي تعتمد على المفهوم الموضوعي المباشر وصور الإرادة الكلية فهي ليست كالفنون الأخرى في كونها صورة للمثل الأفلاطونية "وإنما هي صورة لنفس الإرادة التي تعد المثل مظهراً موضوعياً لها، ولهذا كان تأثير الموسيقى أقوى وأعمق بكثير من تأثير الفنون الأخرى"( ) ولهذا فان المتغيرات التي تسهم في خلق النموذج الجمالي للموسيقى تتطلب ان نتصارح في منتجاتنا الموسيقية وكيفية انسجامها وتطابقها بين عناصرها التي تكونها.
ويرى شوبهاور الأغنية مثلا قد تحدث تأثيراً جمالياً وإشباعاً قوياً لأنها تقدم لنا وحدة بين طريقتين للإدراك احدهما مباشرة وهي الموسيقى والأخرى غير مباشرة وهي الشعر الذي يستخدم تصورات الأصل الذي نشأت عليه الأغنية والأوبرا هو أن الإنسان شعر بالحاجة الى تجسيد الموسيقى ذلك الشيء الذي يعبر عن الإرادة الكلية فلجأ الى الكلمات والأحداث وتستخدم الأخيرة كوسيلة لفهمها وهذا يعني أن شوبنهاور لا يرفض كل علاقة بين الشعر والموسيقى الاوبرالية الجيدة التي يمكن أن تفهم بوضوح, كما تحدث عن اثرها الكامل بمنأى عن النص الاوبرالي نفسه أي بوسائطها الخاصة وبالتالي فان انسجام طبيعة النص الشعري واللحن والإيقاع يخلق بعدا جماليا في تكوين الأغنية اذا ما تحقق التوافق والانسجام في عناصر الأغنية وموسيقاها وفي طبقة الصوت البشري الذي يؤدي الغناء.
وكذلك يرى ان في الموسيقى قوة تأثير على الطبيعة الإنسانية يفهمها كلغة كونية متفقة وموحدة ومنسجمة مع المفهوم الإنساني فهي تمتلك الميلودي الذي يصور كل الاستثارة وكل حركة للإرادة فهي تعبر عن المشاعر دون دوافعها, لذلك فنحن نشعر بالموسيقى وبتأثيرها دون معرفة السبب والعلل لذلك.
ويذهب شوبنهور إلى القول بأننا نفهم لغة الموسيقى بطريقة مباشرة ويثار خيالنا إلى خلع الصور على هذا العالم الروحاني الذي يخاطبنا، هذا العالم الخفي الجياش بالمشاعر ونحن نميل إلى أن نتمثله في الواقع العيني بأمثلة مشابهة له .
والفن يشكل عالم الوجدان الإنساني، وبواسطة هذه التشكيل يصبح الوجدان موضوعا للتأمل، لذلك تتفق سوزان لانجر مع عدد كبير من نقاد الفن الذين عرفوا الفن بأنه شكل أو صورة معبرة.
وإذا صدق هذا الرأي بالنسبة للفنون التشكيلية، فإنه يصدق بوضوح أكثر إذا ما طبق في مجال الموسيقى، فالموسيقى فن لا تمثيلي، وهي فن يختفي المضمون فيه حتى يتحد بالشكل وفي الموسيقى لا يحتاج المتذوق لها أن يبحث عن أي تصورات أو أي تمثيل مستمد من العالم الخارجي لأنها على حد قول الناقد الموسيقي إدوارد هانسلك لا تمثل شيئا من العالم الخارجي إنما هي عالم آخر من الأفكار الموسيقية .
كما يرى هانسليك أن موسيقى الآلات هي ارفع من الموسيقى التي يضفى عليها النص صبغة عقلية تصويرية حيث كان يردد أراء شوبنهاور في قوله أن الموسيقى لا تستطيع بذاتها أن تمثل او تعبر عن مشاعر محددة او تصور الحب او الأمل او الغضب او الكراهية او الغيرة او اليأس واتفق مع شوبنهاور في أن الموسيقى الآلات تسير تبعا لقواعد موسيقية محددة.
لقد تمثلت المفاهيم الموسيقية في صورة قوية واضحة لدى هانسيلك في كتابه "الجميل في الموسيقى" الذي نشر لأول مرة سنة 1854، والذي يؤكد أن الموسيقى ليست مجرد صوت في حركة، وانما تشتمل أيضا على – أو تعبر عن – أفكار وانفعالات وحتى فلسفات للحياة، وفي رأينا أن الفيلسوف الألماني شوبنهاور أبرز ممثل لهذا الاتجاه في أعمق صوره، وأن هانسليك الذي كان معاصرا له قد كتب كتابه عن "الجميل في الموسيقى" وفي ذهنه نظرية شوبنهاور. ولذلك فإن الموقف من قضية التعبير الجمالي في الموسيقى لا يمكن لأي بحث في جماليات الموسيقى أن يغفلهما.
لذا يرى هانسيلك أن الجميل في الموسيقى يكون ذا طبيعة موسيقية، وهو يعني بذلك أن الجميل هنا لا يكون متوقفا على – ولا محتاجا الى – أي موضوع خارجي، وانما هو يتألف برمته من أصوات ربطها فنيا. فالأصوات الموسيقية إذن لها جمالها الخاص المباطن فيها، والذي يتبدى في أسلوب تشكيلها: في توافقها وتقابلها، في تحليقها واقترابها، وفي قوتها المتزايدة والمتلاشية، واذا ما تساءلنا: ما الذي يتم التعبير عنه من خلال لغة أو مادة الموسيقى التشكيلية، كالايقاع واللحن والهارموني؟ فإن هانسيلك يجيبنا على الفور بأن ما تعبر عنه الموسيقى إنما هو أفكار موسيقية ،والفكرة الموسيقية، ليست فقط موضوعا ذا جمال باطني، وانما هي غاية في ذاتها وليست وسيله لتمثل "مشاعر وأفكار" وهذا يعني ان "ماهية الموسيقى هي صوت وحركة ".
ولكي يبرهن هانسيلك ويضفي قوة إقناعية على نظريته هذه في التعبير الموسيقي باعتباره يكمن في لغة التشكيل الجمالي للموسيقى ذاتها، والحقيقة أن بعضا من القوة الاقناعية لبراهين هانسيلك يكمن في أن توصيفه الشكلاني للجميل في الموسيقى لم يستبعد المبدأ العقلاني، وبالتالي لم ينظر الى الموسيقى على أنها مجرد ظاهرة حسية محضة، ولذلك ينبغي أن نقر – فيما يرى هانسيلك – بأن بيتهوفن لم يؤلف موسيقاه ليخاطب أعضاءنا السمعية فحسب، وانما ليخاطب أيضا خيالنا الذي يتأثر بانطباعات سمعية وهي شيء مختلف تماما عن مفهوم القنوات السمعية المعدة لاستقبال ظواهر فيزيقية صوتية، فهانسيلك إذن لا يريد أن يقصر الجميل في الموسيقى على ظواهر فيزيولوجية خالصة تخاطب جهازنا السمعي، كأن نقول مثلا: إن الصوت الموسيقي يطرب أو يشنف الآذان، كي نستبعد أي مبدأ عقلاني أو منطق من الموسيقى. ولكن من الضروري هنا أن نعي جيدا أن المبدأ العقلاني أو المنطق في الموسيقى لا يشير عند هانسيلك الى أية معان أو أفكار أو تصورات عقلية: فهناك منطق في الموسيقى، ولكنه منطق موسيقي يتمنى في ذلك الترابط بين كل العناصر الموسيقية في نوع من القرابة الطبيعية وهذا الترابط المنطقي لجملة الأصوات أو تنافرها هو أمر يمكن أن تتعرف عليه أية أذن مدربة دون حاجة لصياغة أية تصورات عقلية لتتخذها معيارا للجمال الموسيقي، ومن ثم فإن المعنى في الموسيقى هو أيضا معنى موسيقي، فالموسيقي أشبه بلغة نتحـدثها ونفهمها دون أن نكون قادرين على ترجمتها في معان وكلمات أو تصورات عقلية .
لذا فاننا نتفهم ونقدر مقاصد موقف هانسيلك من تلك التصورات العقلية او اللغات التي تتحدث بها الموسيقى، فالموسيقي إذن ليست تمتعا بمشاعر خاصة ذاتية من قبيل تلك التي نعانيها في حياتنا اليومية، ولذلك أيضا فاننا نتفق تماما مع برتليمى حينما يذهب الى القول بان "السرور الذي يطبعنا به دور (الاليجرو) يخطف كل الاختلاف عن السرور الذي يطبعنا به حدث سعيد. والحزن الناجم عن (الأداجيو) لا موضوع له ولا سبب، ولذا فهو لا يشبه الا من بعيد ذلك الحزن الذي نشعر به إزاء مرور الزمن بسرعة او تفاهة البشر، والألم الذي تصبه علينا الموسيقي لا يختلط الا قليلا جدا بالآلام الأخرى، لدرجة أن الألم الناجم عن الموسيقى يملؤنا بسعادة عجيبة، لأن الموسيقى تكون قادرة في نفس الوقت على التعبير عن مشاعر السعادة والحزن والالم، وليس عن مصاحباتها الموسيقية على نحو ما ذهب هانسيلك.
لقد فهم شوبنهاور – المحب الحقيقي للموسيقى – هذه الحقائق بوضوح وعمق، فإذا كانت الموسيقى تعبر عن الشعور فإن السؤال الملح عن الكيفية التي تعبر بها الموسيقى عن الشعور، هو سؤال يمكن أن نلتمس إجابته الشافية من خلال قراءتنا لشوبنهاور، فالموسيقي – كما بين لنا شوبنهاور – تعبر عن الشعور والعاطفة بطريقة عامة كلية: "فهي لا تعبر عن هذا البهجة الجزئية أو تلك، ولا عن هذا الحزن أو ذاك، ولا عن ذلك الألم أو الخوف أو السرور أو المرح أو طمأنينة النفس، وانما تعبر عن مشاعر البهجة والحزن والخوف أو السرور والمرح وطمأنينة النفس ذاتها، أي تعبر عنها بطريقة مجردة الى حد ما، فهي تعبر عن الماهية الباطنية لهذه المشاعر دون أية إضافات ثانوية، ولذلك فهي تعبر عن هذه المشاعر بدون دوافعها"( )، ولذلك فإن المشاعر التي تثيرها فينا الموسيقى لا تشبه تلك المشاعر التي نمر بها في حياتنا اليومية، وفي ذلك يقول شوبنهاور: "إن من يسلم نفسه للأثر الذي تحدثه فيه سيمفونية ما، يبدو أنه يرى كل المشاهد الممكنة للحياة والعالم تحدث في نفسه، ومع ذلك فإنه إذا تأمل الأمر فلن يجد أي تشابه بين الموسيقى والأشياء التي مرت أمام عقله" ( )
وبالتالي فان كل هذا يجعلنا نعيد النظر في تصور الموسيقى باعتبارها فنا لا تمثيليا، فالواقع أن تصنيف الفنون الى فنون تمثيلية تتمثل موضوعا مستمدا من الحياة أو العالم كالتصوير والنحت والأدب، وفنونا لا تمثيلية لا تتمثل موضوعا معينا يقبع خارج إطار العمل كالمعمار والموسيقى الخالصة، هو تصنيف يصبح موضع شك، بل يبدو تعسفيا، والحقيقة أننا نوافق تماما على وصف الموسيقى المطلقة أو موسيقى الآلات بأنها فن خالص ولك منها مفاهيم وحدود جمالية وفكرية، ولكننا لا نرى ترادفا بين مفهوم الموسيقى كفن خالص والموسيقي كفن لا تمثيلي. فالفن الخالص يعني ذلك النمط من الفن الذي يكون قادرا على التعبير بوسائطه الخاصة دون حاجة للاستعانة بوسائط مادية من الفنون الأخرى، ودون حاجة لتمثل موضوع محدد أو معين في الواقع الخارجي، ولكن هذا لا يعني أن الفن الخالص يصبح لا تمثيليا، فالتمثيل في الفن قد يكون لأفكار ومشاعر وليس فقط لموضوع معين، والفن الخالص عندما يتمثل فكرة أو شعورا ما – والموسيقى هنا تمدنا بأفضل مثال – فإنه يتمثل صورة هذه الفكرة أو الشعور دون إشارة أو محاكاة لموضوع ما، أي يتمثلها بوسائطه التعبيرية الخالصة.
والحقيقة أن الافتقار الى التمييز الدقيق بين هذين المفهومين هو السبب الرئيسي في سوء فهم الشكلانيين من أمثال هانسيلك لقضية التعبير الجمالي في الموسيقى، وهو أيضا السبب في قصور النزعة الشكلانية في مجال نظرية النقد في الفنون الأخرى، التي أرادت أن تحذو حذو الموسيقى المطلقة أو الخالصة في طرائقها التعبيرية، فمالوا الى القول بأن الجميل في الفن هو صورة خالصة معبرة لا تحتاج عند تأملها أن نستحضر معنا شيئا من الحياة ومن ثم، فقد خلطوا أيضا بين مفهوم التصوير الخالص والتمثيل الفني.
إن الموسيقى الخالصة هي نوع من التعبير الجمال التجريدي، ولكن شريطة أن نعي أن التجريد في الموسيقى لا يعني التجرد من الدلالة بالنسبة للواقع والحياة الإنسانية وانما يعني التعبير عن هذه الدلالة بطريقة مجردة أي دون تمثل لموضوع محدد أو لظاهرة جزئية في الواقع الخارجي، وهذا هو ما يسمى "بالحياد الاستطيقي"( ) كشكل من أشكال التعبير عن الجميل في الفن، فكما أن المشاعر الواقعية التي نصادفها في حياتنا اليومية تكون محايدة من الناحية الاستطيقية، أي ليست لها علاقة بالاستطيقي أو بالجميل في الفن، كذلك فإن المشاعر (الاستطيقية) التي تنبثق من العمل الموسيقي نفسه تكون بدورها محايدة من جهة الواقع، مادامت لا تعبر عن شعور محدد يماثل المشاعر الجزئية الواقعية، وانما تعبر تجريديا عن صورة هذا الشعور، فمفهومنا عن "الحياد الاستطيقي" أو حياد الموضوع الجمالي من جهة الواقع، لا ينبغي إذن أن يختلط بذلك المفهوم الشائع عن تجريد الفن من البعد الإنساني.
يصبح فيه الفن مقطوع الصلة بالواقع والحياة الإنسانية لأن التجريد في مفهومنا لا يعني عزل الفن عن الواقع الإنساني، وإنما يعني صياغة هذا الواقع على نحو تجريدي، كما لو كنا نقدم مماثلا له بلغة الفن دون أن نستعير أو نحاكي شيئا منه، فالفن هنا يمكن أن يعبر عن كل شيء وأي شيء دون أن يشير الى أي شيء أي دون أن يشير الى شيء بعينه، والموسيقى المطلقة أو الخالصة – أعني موسيقى الآلات – هي الفن الذي يمدنا بأفضل نموذج على هذا الشكل من أشكال التعبير الفني، وذلك حينما تعبر عن صورة الشعور دون موضوعه، أي عن صورته المجردة بلغة شوبنهاور فيها وسائط التعبير الموسيقي مع وسائط من الفنون الأخرى: كالشعر (كما في الأغنية)، والنص الأوبرالي (كما في العرض المسرحي الأوبرالي) والصورة السينمائية (كما في الفيلم)؟ وبتساؤل أخر: هل هناك تغير يطرأ على طبيعة التعبير الجمالي الموسيقي عندما تصبح الموسيقى مندمجة في هذه الأشكال الفنية ؟
وهنا أيضا يمكن أن نلتمس لدى شوبنهاور منطلقات لإجابتنا عن هذا التساؤل، لقد أكد شوبنهاور بقوة على أن موسيقى الآلات قادرة على التعبير عن الشعور وفقا لغاياتها الجمالية الخاصة دون حاجة الى الاستعانة بأي وسائط أخرى، وهو من هذه الناحية كان أكثر فهما لقدرة التعبير الموسيقي من كانت وهيجل اللذان رأيا أن الموسيقى تعبر عن الشعور ولكن بطريقة غامضة، ولذلك فإنها تحتاج الى كلمات لكي يصبح التعبير أكثر وضوحا وتعينا ومعقولية، وهو موقف قد أملاه الاتجاه العقلاني في مذهبيهما الذي أراد فهم الفن أو لفة الشعور بلغة العقل، حتى إن هيجل قد اعتبر تألق الفكرة أو التمثل الواضح للفكرة المتعقلة معيارا أسمى للفن. شوبنهاور إذن كان أكثر وعيا بطبيعة الموسيقى كلغة للشعور يمكن أن تعبر بطريقة أكثر وضوحا ومباشرة وصدقا من الكلمات. فالموسيقي لها المكانة السامية فوق الشعر وغيره من الفنون، ومن ثم لا ينبغي للموسيقار أن يحاكي الكلمات، وانما يجوز أن يستخدمها فقط كمادة لاستثارة خياله، ولا ينبغي أن تكتب الموسيقى لأجل الكلمات، وانما العكس هو الصحيح، فالكلمات والنص الأوبرالي هما ما ينبغي أن يكتب لأجل الموسيقى، فالكلمات والنص الأوبرالي هي وسائط دخيلة على الموسيقى، وحتى الموسيقى الأوبرالية الجيدة يمكن أن تفهم بوضوح وتحدث أثرها الكامل بمنأى عن النص الأوبرالي نفسه، والحقيقة أن هانسيلك نفسه قد تأثر بآراء شوبنهاور هنا. فقد اعتبر موسيقى الآلات هي الموسيقى الخالصة التي تحدد لنا طبيعة وخصائص الموسيقى في عمومها، وأن تحدد الموضوع الذي نجده في حالة الموسيقى الغنائية أو الاوبرالية لا يرجع الى طبيعة الموسيقى ذاتها وانما الى الكلمات. ومن ثم يرى هانسيلك أن الكلمات يمكن أن تتبدل على نفس اللحن الواحد، بدليل "وجود حالات كثيرة يتم فيها استخدام نص جديد تماما لنفس العمل الموسيقي" ( )، وهذا يعني أن هانسيلك يوافق شوبنهاور على تبعية النص أو الكلمات للموسيقى.
ومع ذلك، فإن هذا لا يبرر لنا ما ذهب اليه شوبنهاور من القول بأن الكلمات هي دائما إضافة دخيلة على الموسيقى ليس لها سوى قيمة ثانوية، وأنها إذا اندمجت مع الموسيقى "يجب أن تتخذ مكانة ثانوية وتتكيف تبعا لها" ( )، ولا يبرر قوله بأن فن الأوبرا يعد دخيلا على الموسيقى بحيث يمكن تعريفه بدقة بأنه اختراع لا موسيقي، لمصلحة عقول لا موسيقية لا يمكن أن تفهم الموسيقى إلا إذا تسربت اليها أولا من خلال وسيط دخيل عليها، حقا إن موسيقى الآلات هي الفن الخالص على الأصالة التي تنكشف فيها طبيعة الموسيقى في التعبير بطريقة عامة مجردة وهو ما أصبح يشكل نموذجا تحاول الفنون الأخرى الاقتداء به، ولكن اندماج الموسيقى مع وسائط فنية أخرى لا ينتقص شيئا من طبيعة التعبير الموسيقي ولا ينبغي أن يحملنا على التقليل من قيمة هذه الوسائط الأخرى في نفس الوقت. ذلك لأن الاندماج بين الموسيقى والوسائط الفنية الأخرى يخلق أشكالا فنية مركبة لها جمالياتها التعبيرية الخاصة كالأغنية والأوبرا والفيلم.. الخ. والموسيقى التي تدخل في بنية هذه الأشكال الفنية المركبة يتم تأليفها بوحي من النص الشعري أو الاوبرالى أو الصورة السينمائية، وقد لاحظ شوبنهاور نفسه كما أسلفنا أنه يجوز للموسيقار أن يستخدم الكلمات كمادة لاستثارة خياله. ولكن هذا القول لا يتفق مع ما ذهب اليه شوبنهاور من القول بأن الكلمات هي التي ينبغي أن تكون تابعة للموسيقى وتؤلف من أجلها, فمثل هذا القول يبدو لامعقولا، وهذه اللامعقولية ستبدو أكثر وضوحا في حالة الفيلم التي لم يشهدها شوبنهاور أو معاصروه، فمن غير المعقول أن يذهب أحد في يومنا هذا الى القول بأن المشهد السينمائي ينبغي أن يؤلف لأجل الموسيقى أو يكون تابعا لها، ومن المهم أن نلاحظ أن الموسيقى الوصفية أو الموسيقى ذات البرنامج او الموسيقى المرافقة للأعمال الدرامية وحتى الموسيقى التعبيرية التي ترافق الرقص الدرامي او الرقص التوقعي او الرقص الطقسي(كالزار والمناقب النبوية والتهاليل وغيرها) التي تستخدم في مثل هذه الأشكال الفنية المركبة لا تعني تحول التعبير الجمالي الموسيقي من المستوى التعبيري العام المجرد الى مستوى المحاكاة لحالة جزئية خاصة مجسدة عيانيا، وانما تعني أن المؤلف الموسيقي يستلهم روح هذه الحالة الجزئية وطابعها الشعوري لأجل التعبير عنها بلغة الموسيقى أي بلغته العامة المجردة، مستوحيا موسيقاه من العنصر الذي لأجله رافقته الموسيقى لان هذا العنصرــــ الذي ترافقه الموسيقى ــــ لولا حاجته للموسيقى لما ترك لها مجال في كيانه، لذا فإن المؤلف الموسيقي يستلهم الدلالات والايحاءات الكلية في الحدث الجزئي، لأنه لا يوجد أي عمل فني يخلو من هذه الدلالات الكلية، ولكن في حين أن الفنون جميعا توحي بالكلي في الجزئي ومن خلاله، فإن التعبير الموسيقي يظل بطبيعته كليا عاما مجردا، لأن الوسيط المادي الموسيقي يتأبى بطبيعته على التعين والتحدد، ومن ثم فإن تحذيرات وتحفظات شوبنهاور المشددة هنا لا مبرر لها، فالموسيقى لا ينبغي أن تحاكي الكلمات، لا لأنها يمكن أن تقع في هذا المحظور عندما تؤلف لأجل النص، وانما لأنها بطبيعتها لا يمكن أن تقع في هذا المحظور عندما تؤلف لأجل النص أو تصف أحداثا، إلا إذا جاءت الموسيقى مجردة من طبيعتها وقيمتها الجمالية. الموسيقى الوصفية إذن لا تنتقص شيئا من جمال التعبير الموسيقي ولا من عموميته وطابعه التجريدي. وليس أدل على ذلك من أننا نرى كثيرا من الأعمال الموسيقية التي تؤلف لأغان أو لأفلام سينمائية – وخاصة تلك الأعمال الموسيقية التي تكون رفيعة من حيث القيمة الفنية والجمالية – يعاد إنتاجها من خلال الآلات الموسيقية وحدها بشكل مستقل عن الكلمات والأحداث والمشاهد التي من أجلها أبدعت هذه الأعمال الموسيقية من منا لا يتذكر( موسيقى المال والبنون او موسيقى رأفت الهجان او موسيقى فلم تيتانيك او موسيقى البرامج الإذاعية مثل برنامج عدسة الفن او برنامج الرياضة في أسبوع رغم ان الموسيقى فيه هي بالأصل لـ(روسيني) أوبرا حلاق اشبيلية او موسيقى فلم آخر رجال الموهيكانز ... وغيرها ) من الأعمال فقد بقيت ذاكرتها الفنية والجمالية في ذاكرة المجتمع كموسيقى بعيدا عن مصاحبتها الدرامية وهذا ما يدل على قيمة الموسيقى التعبيرية او التصويرية ومدى جمالها، ومع ذلك تظل محتفظة بمتعتها بالنسبة لنا. فالموسيقي التي تدخل في بناء الأشكال الفنية الموهبة لها إذن طرائقها التعبيرية الخاصة بها والتي تسهم في نفس الوقت الى جماليات الوسائط الفنية الأخرى عندما تتآزر معها. ولولا هذا التداخل والتآزر بين الفنون لما كانت هناك فنون مركبة.
الحقيقة أن الاستطرادات والملاحظات النقدية السالفة لا تقلل أو تنتقص من قيمة ملاحظات شوبنهاور وفهما العميق لطبيعة الموسيقى الخالصة وامكاناتها في التعبير عن جوهر الشعور، ولا شك أننا يمكن أن نلاحظ أحيانا تقاربا كبيرا بين بعض من آراء شوبنهاور وآراء هانسيلك، فقد اتفق هانسيلك مع شوبنهاور على أن موسيقى الآلات أرفع من الموسيقى التي يضفي عليها النص صبغة عقلية تصورية، كذلك كان يردد آراء لشوبنهاور ذهب فيها الى أن الموسيقى لا تستطيع بذاتها أن تمثل أو تعبر عن مشاعر محددة وانتهى مع شوبنهاور إلا أن موسيقى الآلات تسير تبعا لقواعد موسيقية محددة وليست تعبيرا عن مشاعر الموسيقار أو انفعالاته كما تصور الرومانتيكيون، كذلك يمكن القول بأن هانسيلك يشارك شوبنهاور في رفض القول بأن الموسيقى تكون محاكاة للنظام الكوني، وفي النظر الى الموسيقى ذات البرنامج باعتبارها شكلا أدنى من الموسيقى الخالصة التي تكون لها حياة خاصة بها وعالم خاص بها ( ). ومع ذلك، فإنه يظل هناك اختلاف حاسم لا سبيل الى رفعه بين نظريتي شوبنهاور وهانسيلك، وهو اختلاف يكمن أساسا في رؤية شربنهاور لقدرة الموسيقى على التعبير عن جوهر أو صورة الشعور، بل والتعبير عن جوهر الحياة الانسانية والوجود بوجه عام على نحو ما سنرى حد قليل، ولهذا نعتقد أن هانسيلك قد كتب مؤلفه الشهير وفي ذهنه أن يبين اختلافه وتمايزه عن شوبنهاور، وهذا واضح تماما حينما رفض صراحة القول بأن الموسيقى تعبر عن الشعور بوجه عام، فالموسيقى عنده لا تعبر فحسب عن موضوع الشعور، وإنما لا تعبر أيضا عن الشعور في عموميته على نحو ما رأينا، ولكن هذا هو ما يظهر لنا في نفس الوقت مدى عمق وخصوبة نظرية شوبنهاور التي تقف على الطرف الآخر المقابل لموقف الشكلانيين من أمثال هانسيلك،
الإ أن شوبنهاور لم يعن فحسب بالكشف عن الكيفية التي بعبر بها الموسيقي عن الشعور, بل إنه رأى في ذلك الكشف تعبيرا عن جوهر الحياة والوجود التي يتجلى في الإدارة نفسها – إرادة الحياة– باعتبارها سلسلة لا تنتهي من اندفاعات ورغبات وعواطف وانفعالات تسعى باستمرار في صراع أبدي نحو تحقيق الإشباع. كيف نخصص هذه المقولات العامة على لغة الموسيقى.
والنتيجة التي يمكن أن نخلص اليها من مجمل ما تقدم هي أن جماليات الموسيقى لا تكمن فحسب في القيم الفنية التشكيلية لبنائها الصوتي. بل إن قدرا كبيرا من هذه القيم يكمن في دلالاتها التعبيرية التي يكون بناؤها التشكيلي قادرا على إسقاطها،وإلا جاءت الموسيقى أشبه بالصنعة الفنية الخالية من الحياة والروح الإنسانية.



#قيس_عوده_قاسم_الكناني (هاشتاغ)       Qays_Oudah_Qasim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل الموسيقى في المسرح عنصر من عناصر السينوغرافيا


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس عوده قاسم الكناني - قراءة في فضاء استطيقيا الموسيقى...