|
صرخة من منفى الأشباح
رضى حليم
باحث وصحفي مغربي
(Rida Halim)
الحوار المتمدن-العدد: 6623 - 2020 / 7 / 20 - 15:39
المحور:
الادب والفن
في مكان بين ملتقى جبلين، يلفان دائرة من القرى المعزولة عن العالم والتاريخ، حيث لاشجر، إلاالحجر، الماء يحضر ويغيب؛ البحث عنه أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش - تحى أشباح من جنس الإنس وفق الطبيعة، شرب أهلها من منابع جميع القيم، لك أن تحيا وفق الطبيعة، ولك أن تحّج نحو الحكمة - إذا ما استطعت إليها سبيلا. متحسرا، ينظر إلى عظيمات رقيقة تظهر من تحت لحيمة متشابكة من العروق الخضراء، يخرج الهواء من حلقها كقنينة غاز تستسلم لانتهاء، أو قل كالموت يحضر ويغيب، ملأت التجاعيد وجهها، واصفر وجهها اصفرار وجه الميت، وغطى بياض الشيب شعرها مسترسلا يغطي عنقها، الذي يظهر مستندا على بضعة عروق خضراء، في جو من الصمت المنظم. وتارة يحملق في كوخه الخشبي، في غرفة لا شكل لها، بسقفها العالي المتلاشي، كليل أدهم حالك، لا لون له، إلا لون بومة مزركشة اللون، يطغى عليها اللون الأسود، تسمى "حكمة"، ليست ملكا لأحد، تحضر كل مساء، تأكل وتغيب. وفي الجانب الأيمن للغرفة انتصبت شامخة لوحة "العشاء الأخير" للرسام "ليوناردو دافينشي"، ومن تحتها مدفأة في قلبها نار موقدة. وفي الجانب الأيسر للغرفة انتصبت بقايا خزانة من الحجر الصخري، تحوي متلاشيات من الكتب والمجلات، تظهر على احدى االأغلفة المجلدة عبارة "دوستويفسكي"،وأخرى نحتت عليها عبارة "ما وراء الخير والشر"، وأخرى نخرتها رطوبة المكان، والباقي لا يعد ولا يقرأ سطحيا، مئات من أمهات الكتب، غلفت بلاصق شريطي، جعلها متشابهة في الأشكال والألوان. وأخيرا، سيتنهد العجوز الجالس على الكرسي، مخاطبا المرأة الممددة فوق السرير، قائلا: أنا ابنك العاق، لقد هجرت الأصل، لكن، لم أخن منفاي، ومنفى الأشباح، لا أعرف كيف أفسر مالا يفسر؟ لكن، سأحاول أن أستلهم شيء من عتاد الحكمة الخالصة، مرددا بيتا شعريا لسعد سرحان: "أيها الماء يا صديقي أدعوك إلى كأس من العطش"، ينطق بصوت خافت، حديثه شبيه بدندنات شخص يقرأ لنفسه أو يصلي صلاة السر، مضيفا:
هل تعلمين؟ اليوم عيد ميلادي الأربعين، فصمت هنيهة، يعذب عقله عساه يتذكر شيئا من ماضيه، لكن دون جدوى، وبعد هنيهة، أضاف قائلا: آه، لقد تذكرت أنك عند وداعنا الأخير في الفجر، قلتي لي، سأقدمك قربانا للحكمة، مقابل سعادتك، وسأنساك، وأنسي نباتك من جحيم وشقاوة منفى الأشباح. هاجرنحو الحكمة، ولا تنسى الأصل، وسأفرشك بالرضى إذا غيرت الأصل، لكيلا يقطع الأصل..."فلتجذ لي عذرا عندما تصبح لديك قصة لترويها". حقا، لا أتذكر، ولكن أعرف، بل أعرف جيدا أنك من أجلي، تعلقت بالسماء عريسا لك، فهل يعقل أن فتاة في عمر الزهور، تسمح للتجرد أن ينخر أنوثتها، بعينين رسمتا في مخيلتي غائمتين، تسبحان في بحر من السواد، وأنت لا ترتدين إلا لون الحزن، من مخرق االرأس إلى أخمص القدم، وفرحك فرح خفي ومقنّع، تبكين حتى وأنت نائمة. هنا في ملتقى الجبلين الطفلات يردن لهن أن يكبرن سريعا؟!! ويصبحن نسوة كبيرات، قويات، صابرات؟؟! قتلتُ الطفولة فيهن، وأعدمتُ عذريتهم، يعشن في ملتقى الجبلين كمسافر جرفته رياح عاتية إلى جزيرة غريبة، فتغرب بين أفرادها في اللغة والحضور، فقرر أن يستأنس ويندمج ولا يعود، لقد انسلخن من حياة، وشرعت في أخرى من نقطة الصفر. مسد رّأسه، وفوق أدنين، كأنه يحاول الاستمرار في تعذيب عقله عساه يتذكر شيئا آخر من ماضيه، فسكن الغرفة الصمت، إلا صوت خافت لأنفاس العجوز الجالسة بجانه. وجّه رأسه نحو البومة "حكمة قائلا: لقد تذكرت شيئا آخر، فبعدما أضجعتنا الحياة، وندبنا عيشتنا ولم ينفع، وأتممنا أخر بصيص الزاد الموروث؛ حكم علينا الحجّ كل يوم مع انبلاج الصبح، ممتطيا ظهرها، نختفي طوال اليوم بحثا عن خبز الحياة، عساه يكون عشاءنا الأخير! فلا نروح إلى كوخنا إلا بعد اختلاج أنوار الغروب الفاترة – عند الصبح نخترق بياض الثلوج الفاترة، وندوس في الوطى حبات الندى المستقرة فوق الوريقات النضرة، التي سكبها الليل عند الوداع في الفجر، وقدماها تغوران في الثلج، جاعلة إياها تمشي مشية مترنحة، وهي تئّن وتتنفس بصعوبة كسمكة تتلوى من شدة الألم بعد إلقائها حية في اليابسة. وأنا أحملق في كل اتجاه، أُبصر جثث الأغنام والماعز النافقة، وكلاب وجراء ترتجف من البرد كارتجاف أوراق الأشجار في مهّب الريح، بأعينها المتطلعة إلى السماء، وأيديها الخاشعة أمامها، ممدودة كالأجنحة، وكأنها ترفع دعاء الخلاص، الخلاص من الحياة، فتغطي أمي عيناي بطرف لحافها الأسود، كمن يحمي الجمال من حسد الحاسد، وهي تقول لي: لا تُبصر، هذه ليست الحياة، إنه الوهم، أو هكذا أريد له أن يكون، مارس الشك، هذا الحضور ليس حقيقيا، فيسود الصمت ويتوقف الكلام، في فسيفساء من الصمت المنظم، وواقع من حولنا امتزجت فيه التراجيديا والعبث...
#رضى_حليم (هاشتاغ)
Rida_Halim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
13 مارس ذكرى مولد -شاعر الثورة والمقاومة-
-
نحو الحق في الإبداع: رسالة عبد الرحمن طه إلى أهل الحكمة والف
...
-
حدُّ الفن وملامحه في الكشف عن حقيقة ومأساوية الوجود
-
دور الفكر التأملي والنقدي الحر في تقويم الثورات العلمية؛ في
...
-
أزمة الصحافة ووسائل الإعلام المغربية: نحو تنامي ظاهرة التشهي
...
-
االدلالة التاريخية والإبيستيمولوجية للتوحيد بين القوى الطبيع
...
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|