|
اعترافات كاتم صوت مؤنس الرزاز
ائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 6622 - 2020 / 7 / 18 - 15:33
المحور:
الادب والفن
اعترافات كاتم صوت مؤنس الرزاز سلوك ونهج النظام الرسمي العربي متشابه، حيث تعم الممارسات القمعية، من هنا تم تناول حالة القمع في أكثر من رواية عربية، من المحيط "مجنون الأمل لعبد اللطيف اللعبي" وحتى الخليج "شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف"، وهذا الأمر يشير إلى توحد المثقف العربي مع محيطه واقعه. ما يميز "اعترافات كاتم صوت" تناولها لنفسية الجلاد، "يوسف الطويل" والطريقة التي يفكر بها، فهو يحدثنا عن نفسه بصوته هو، فنحن ندينه من كلامه، من طريقته في الحياة، من ممارسته غير السوية، من تعامله مع الآخرين، ونجد صورته في عيون الأخرين الذين تعاملوا معه. والرواية تتناول الضحايا "الأب/مراد، الابن/أحمد، الأم/مريم، الصغيرة/الفتاة" الذين تحدثون عن معاناتهم، فسرد الرواية مبني على رواية الشخصيات، وقليلا ما نجد تدخل السارد في رواية الأحداث، وكأنه بهذا (الحياد) أرادنا التعرف (مباشرة) على شخصيات الرواية، ودون تدخل منه، لهذا يمكننا القول أننا أمام رواية حرة، لم تخضع لهيمنة السارد وسيطرته. فالشخصيات كانت تتحدث بتلقائية، وباستطاعتنا تتميز لغتها، خاصة لغة الصغيرة، التي نجد فيها لمسة من الثقافة دينية، على النقيض من لغة "أحمد" الذي يحمل أفكار أخرى، أما لغة الشخصية الرئيسية "يوسف الطويل" فأننا نميزها من خلال تطرفها والصوت العالي الذي تتكلم به، على النقيض من صوت "مراد" المتزن والثابت، لهذا نقول أن لغة الشخوص كانت تعكس طبيعة الشخصيات والحالة النفسية التي تمر بها. مكان الحدث (مجهول) لكن يتم ذكر "عمان، بيروت" وهذا له أكثر من دلالة، حجم الألم الذي تعرض له السارد جعله يهمل ذكر اسم مكان القمع، حتى لا يتذكر ما تعرضت له اسرة "مراد" التي أبيدت بالكامل إذا ما استثنينا "الصغيرة"، كما أنه يخدم فكرة عمومية القمع الرسمي العربي، وهذا أمر واقعي، وخصيص بيروت بالذكر، لأنها عمليا كانت ملجأ وقبلة كل المعارضين في المنطقة العربي، أما "عمان" فلأنها مدينة السارد، ونحن نعلم طبيعة العلاقة الحميمة التي تجمع العربي بالمكان/بالوطن.
"يوسف الطويل" إذن الرواية مبنية على الشخصيات، فهي العمود الفقري للرواية، ورغم حيوية الحدث/القمع وأثره، تبقى الشخصيات هي المركز، وهذا ما نجده من خلال (هيمنتها) على السرد، فالسارد الرئيس يكاد يختفي، وليس له إلا بعض الحضور المتواضع، فهو (لا يريد أن يتدخل) في تناول أحداث دامية ومؤلمة، فقد ترك الشخصيات أن تحدث وتروي ما تريده وبحرية. شخصية "يوسف" كاتم الصوت، يتحدث عن نفسه قائلا: "أنني خريج مدرسة الحياة، أعظم مدرسة في العالم، أكثر عراقة من أكسفورد التي لم أرها، وأعظم اتساعا من جامعة بيروت العربية التي رسبت فيها، وترددت على مكتباتها. لقد علمتني الحياة أن الظفر يكمن في ثلاثة: الباطنة، والازدواجية، والجرأة غير الاعتيادية" ص54، إذن هو شخص لم ينجح في التعليم، يغالي في تعلمه من الحياة، يعتمد على أفكار غير سوية "الباطنة، والازدواجية، والجرأة غير الاعتيادية" فالتطرف نجده في "الباطنة والجرأة" وهذا يأخذنا تناقض الأفكار والسلوك، فهو يفكر ويسلك سلوك التباع المجرور، والحر السيد، يحدثنا عن بداياته الحزبية والتنظيمية: "...وكنت أنا بحاجة إلى أن أكون ظلا لكائن قوي، امتدادا له، كائن يكملني .. وأكمله، يحتاجني واحتاجه، وفي بيروت حققت حلمي هذا الذي حال الدكتور مراد دون انجازه سابقا. ...توسلت إليه أن يوظفني حارسا شخصيا له، فنبذني، قال إنه لا يحتاج إلى ظل، كدت أقبل قدمه، لكنه رفع حاجبيه. وأشاح قائلا: ـ لست بحاجة غلى حماية... ثم إنك مفصول من العصبة" ص59، في هذا الاعتراف نجد مرتكزاته في الحياة "الباطنة والازدواجية والجرأة" والتي ذكرها في بداية حديثه، من هنا يأخذ في اسقاط مواقف متناقضة على المحيطين به، فمن يتعاطف معه يشعر تجاه بالازدراء، ومن يقسو عليه يتعاطف معه، أحمد يرى أن يتم طي صفحة الماضي ليوسف، لأن "الإنسان إنسان" ص60، لكن يوسف وجد في هذا الموقف المتعاطف معه: "...رأيت فيه ضعفا لا يليق بمناضل" ص60، بينما وجد في موقف "مراد": "لقد احترمت موقف الدكتور الخشن واستعذبته" ص60، هذا الموقف ترك أثرا على "كاتم الصوت" الذي يريد تقليد "مراد" الصلب، وفي الوقت نفسه يريد الانتقام منه ومن موقفه الصلب، وأيضا يريد محاسبة/معاقبة الضعيف "أحمد". وبما أن "أحمد" ابن "مراد"، فإن كاتم الصوت تداخلت فيه مشاعر الاعجاب والانتقام معا، حتى أنه لم يعد يميز بين اعجابه بالقدوة "مراد" والمتساهل "أحمد": "... أنني امقت صلابته، أحسده عليها، كنت اتمنى أن أراه في موقف ضعف ـ لو لمرة واحدة ـ لا.. لا.. ينبغي أن تفرقي بين حبي لقوة السلطة والنفوذ وألقها، وبين مشاعري نحو أولئك الذين توصف قناعتهم بأنها لا تلين، إني أمقت هؤلاء، وأغبطهم بغيظ" ص60، يمكننا التعرف على طبيعة شخصية "يوسف" وكيف يفكر من خلال: "امقت صلابته، إني أمقت هؤلاء، وأغبطهم بغيظ" فعدم قدرته على الوصول إلى مكانة هؤلاء، والالتزام بأخلاقهم والتماثل عطاءهم وتفانيهم، نعكس على مشاعره تجاههم، فكانت بين الغيظ والاعجاب، الرغبة وكبحها، وبما أنه أضعف من أن يكون مثل مراد وأحمد، فأنه اتجه نحو ازالة الخير/العطاء/الصلابة منهما، وهذا الازالة بحاجة إلى قوة/سلطة، يستطيع بها تحقيق مراده، ازالة التميز عند مراد وأحمد: "ولهذا كله وافقت على اغتيال أحمد... كيف أهزم الختيار؟ كيف أجعله ينكسر...لقد اصبت بانهيار في السجن بينما بقى هو كالسنديانة. أني امقته. حتى وضعه في الاقامة الجبرية لم يحطمه. مقتل أحمد هو ثغرة الضعف فيه. هو نقطة ضعفه، وأحمد نفسه لا يستحق أن يكون ابن هذه السنديانة" ص61، كاتم الصوت يريد أن يجد مبرر يقنع فيه نفسه بصواب ما سيقدم عليه من جرائم، لهذا نجده يخلط حقده وغيظه من مراد على أحمد، ويريد أن (يطهر) العصبة من عنصر ضعيف "أحمد" لا يستحق أن يكون فيها، بينما نراه هو يتماهى مع النظام، حتى أنه يمارس أقذر الأعمال "كاتم صوت". التناقض لم يقف عند طريقة تفكيره، بل تمادى أكثر بعد أن أصبح يقوم بمعمل كاتم صوت، لقد تماهي مع مهنته حتى أنه فقد (شخصيته) وأضاعها: "ـ هل تعرفين أنني أنا نفسي ما عدت أعرف اسمي الحقيقي أو عنواني. أنني أحمل عشرة جوازات سفر، بعشرة اسماء مختلفة، بعشر جنسيات متباينة" ص135 و136. سيليفا ويوسف يعلم "يوسف" أنه غير سوي، وبحاجة إلى علاج، يذهب إلى طبيب نفسي، إلا أنه يرفض الاعتراف أمامه خوفا من أن يفشي أسراره، أو أن يكون عميل لأحدا ما، يقترح عليه أن يفرغ/يعترف لعاهرة، وهنا يختار "سيليفا" صديقة "أحمد"، وكأنه بهذا الاختيار يريد أن يكون بمكانة "أحمد"، وأيضا يريد الانتقام من أحمد حتى بعد موته، بأخذ صديقته واستئجارها، لكن سيلفيا" لا تسمع، صماء: "آه لو يعرف أنني لم اسمع كلمة واحدة عن خطاياه، لو يعرف أن خطاياه ظلت غاره المهجور، لم تطأه نظرة منذ أزمان، ولا حتى نظراتي، آه لو يعرف أنه إذا مات أو قتل، فلن أتذكر من بقاياه سوى هاتين الشفتين اللتين تثرثران ثرثرة يتدخل فيها شاربه، فتحمل الجملة المفيدة إلى مفردات تعاني من عزلة موحشة. وتفتقر إلى الترابط" ص136، وبهذا يكون يوسف قد فشل في اختيار من يستمع له: "استأجرها كي يحكي لها، لا كي تنام" ص126، فالأذن التي من المفترض أن تسمع ما يقال لا تسمع، بمعنى آخر أن (اعترافه)/محاولته التخلص من مرضه/من شعوره بالذنب/التكفير عما اقترفه جرائم، كلها لم تكن تسير ضمن السياق المنطقي، وأن الخطايا ما زالت عالقة به. وبما أنه استأجر "سليفيا" لتقوم مقام كاهن الكنيسة، فأن استأجراه لم يكن موفقا، وهي ترى في الوقوف أمامه مجرد عمل مأجور، فالعلاقة بين الكاهن/سيلفيا ويوسف كانت تقوم على الاجرة، بعقد ينتهي خلال فترة محددة: "إنه يعاملها على أنها آلة تسجيل، مسجلة يملكها، مقتنى من مقتنياته، ينظر إليها كما ينظر إلى الأشياء التي يسيطر عليها، أنها في عينه "شيء" لا بشر" ص162، وهذا يشير إلى عدم اكتمال شروط الاعتراف، وبقاء آثامه عالقة به. مراد احد قيادات العصبة، يتم حجزه في منزله بعد الانقلاب على العصبة من داخل العصبة، رجال الأمن يفتشون البيت ويتركوا له مسدس، حتى ينحر به، أثناء الحجز يفكر بعدة اشياء: "حطيئة أن لا اضع حدا لحياتي، حطيئة أكبر أن لا أكتب،.. ينبغي أن أواصل كتابة الكتاب الذي سيصادر... ينبغي أن أعيش.. ينبغي أن أرى القرن الحادي والعشرين سيكون عصر تحرر الشعوب المضطهدة. سأقلع عن التدخين" ص22و23، وبما أنه تعرض لغدر والخيانة من رفاقه، فقد أخذه احساسه إلى الخوف على اسرته، والتي سينالها ما ناله من غدر وخيانة، يحدثنا عن ابنه أحمد: "أب أن يبتعد عن السياسة، أنها طاحونة لا دين لها، تطحن الأخضر واليابس" 25. وبعد اغتيال ابنه "أحمد" يقدمه لنا السارد بهذه الهيئة: " كان قد طهر نفسه بدموع لم يراها أحد، فخرج نظيفا لامعا، استقبلته زوجته بعينين تتأرجحان بين القلق والأمل كبندول الساعة، أخذها بين 1ذراعيه وخبأ وجهها في صدره، كان يبغض أحزان الآخرين، أحزان الآخرين تحرجه. ..كل الأحزان ينبغي أن تظل خفيو، متوارية في غابة الكبرياء، أدغال منفى العزلة الرهيبة، في تلك الجزر الداخلية التي لم يكتشفها كولومبوس ولا فرويد ولا طير" ص170، وهنا يكشف لنا السارد طبيعة هذا القائد الذي يحسن (اخفاء) ضعفه، وبقاءه قويا صلبا أمام الآخرين. اهتمام "مراد" بالمظهر، لم يقتصر على عدم إظهار الضعف فحسب، بل تعداه الاهتمام بالشكل/بالهيئة، فقد كان يحرص على لبس ربطة العنق، رغم عدم معرفته بطيفية ربطها، تقول ابنته بعد وصلوها عمان ومقابلة أخوالها وخالتها: "...وأنا كنت انظر إلى ربطة عنقه، أفكر في أبي، كيف سيكتب بلا ربطة عنق" ص185. هذا على صعيد الشكل والمظهر، أما الجوهر فقد كان أيضا جوهر القوة والصلابة، يقول عنه "يوسف" كاتم الصوت: " لقد أصبت بانهيار في السجن بينما هو كالسنديانة...حتى وضعه في الاقامة الجبرية لم يحطمه" ص61، ورغم هذا القوة إلا أنه كان يتعاطف في الزنزانة مع الضعفاء: "..وتذكرت أيام انهياري في السجن، حين كنت اشاطر الدكتور مراد الزنزانة كيف انتحبت أمامه بضعف ورعب، كيف ربت على كتفي ورأسي مواسيا" ص65، إذن "مراد" قائد ينسجم مظهره/شكله مع جوهره، بمعنى أنه قائد حقيقي وكامل. أحمد عمل "يوسف" كاتم السوط على استغلاله "أحمد" ابن "مراد" لإلحاق أكبر قدر من الأذى بوالده "مراد"، من هنا أخذت علاقة "يوسف بأحمد" تأخذ منحى جديد، مستغلا حالة الحصار المفروضة على اسرته، فتحول أحمد من حالة الهدوء وعدم الاكتراث إلى حالة الطاعة العمياء لما يطلبه "يوسف": "نعم.. الرعب، آه من الرعب حين يتحول إلى هاجس، وهذا اعظم انجازاتي. إذا كان أحمد يهز منكبيه في وجه الخطر. لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، ويستبعد مواجهته. لكن الرعب جرثومة دقيقة لا ترى بالعين المجردة، أنا أعرفها، حملتها في أنفاسي حين كنت أتحدث إلى أحمد، فانتقلت العدوى، تسللت جرثومة الرعب إلى خياله الذي كان عصيا...فأنجبت مبالغة في الحذر، وإسرافا في الوسواس والمخاوف والتهيؤات، وإمعانا في التحوط، وأفراطا في الريبة والشك. هكذا انفتحت أبواب حصن أحمد مشرعة لاستقبال موكب سيطرتي الكاملة، وسلطان إرادتي الطاغية، فقد بات يشعر إن حياته متعلقة بحمايتي، وإن مصيره يعتمد غلى قدراتي" ص68، إذا عدنا إلى رؤية يوسف للحياة، والازدواجية التي تحدث عنها، يمكننا استيعاب نجاحه في السيطرة على أحمد، فما وصلنا عن اغتيال أحمد جاء على لسان "يوسف" كاتم الصوت،. يضيق "أحمد" بحالة الحصار التي أوقعه بها "يوسف" وهذا يعد "تمردا" على يوسف ونهجه (الأمني)، ويبدأ يفكر بالحياة من خلال منظوره الخاص: "لكن أحمد= بدأ يضيق فعلا من سيطرتي، وبدأ يكبر.. وتكبر إرادته وتستقل. قال لي ذات مرة إنه لا يستطيع أن يعيش هكذا. في كابوس وهاجس الاغتيال. وقال إنه لن يموت إلا مرة واحدة. فإن شاءت جهة أن تقتله .. فلتفعل. أما أن يعيش هكذا، حذرا، فزعا، متحوطا حد الهوس ...فلا. وأدركت أن رغباتي تخرج عن نطاق سيطرتي المحكمة، فقر قراري على اغتياله. قلت آن الأوان" ص153، وهنا يظهر "يوسف" حقيقته، لم يكن يرغب في تنفيذ القتل والضحية مسيطر عليها، لكن بعد أن استيقظت من تخدير الرعب والموت، أراد الانتقام منها، لأنها تجاوزته، وتفوقت عليه، وهذا يظهر طبيعة "يوسف" المتناقضة، التي تعمل على إلحاق الأذى بكل ناجح أو متفوق. يتم قتل "أحمد" مباشرة ووجها لوجه، " كان يصوب مسدسه نحوي! لكنه لم يكن محترفا مثلي. لا أدري من الذي بدأ بإطلاق النار. رأيته ينثني. ثم يتكوم تحت عمود المصباح، كان وجهه متشنجا، وعيناه تائهتين. ولمحت بسمة غامضة ساخرة على شفتيه. أصطكت ركبتاي وسرت في جسدي قشعريرة الرهبة. قلت في نفسي ورأسي يدور ذاهلا. ـ لقد دافع عن نفسه. كان يرغب إذن في الحياة" ص161. النظام هناك أكثر من مشهد يوضح طبيعة النظام الرسمي العربي، فالنظام نظام، ولا فرق بين نظام وآخر، توضح "مريم" زوجة "مراد" طبيعة النظام بقولها: "لو كان النظام البائد هو الذي اعتقلك لفهمنا. لو كان أعداؤك هم الذين انتقموا منك لقلنا لا حول ولا... ولكن... رفاقك؟ كيف؟ لماذا؟" ص11، طبعا مع الانقلاب كان لا بد من تصفية الأشخاص الذين يمكن أن لا يكونوا مع العهد الجديد، يحدثنا "مراد" عن نهج الانقلابيين: "أعرف أنهم لن يطلقوا سراح زوجتي ولبنتي إلا إذا مت، والمسدس أمام عيني، نهايتي تعني حرية زوجتي ولبنتي، أقسى ما في الأمر أنهما أيضا تعرفان لماذا ترك رجال الأمن المسدس" ص14، بهذا المشهد يتضح طبيعة النظام، فهة يريد أن تكون يده (نظيفة)، حتى عندما يصفي المعارضين، من خلال دفع الضحية للانتحار، فهو لا يريد أن يتحمل عبء قتلها، وهذا النهج (الانتحار) مورس في العديد من الدول. كما أن النظام لا يفرق بين كبير وصغير، فالنظام الأمني يجب أن يطبق على الجميع، لهذا يتم منع الطفلة من اللعب مع صديقاتها، والذهاب إلى المدرسة: "لكن أن يمنعوني من الذهاب إلى المدرسة... لا" ص34. ولم تقتصر المراقبة على الأفراد المعارضين، أو الذين يمكن أن يشكلوا خطر على النظام، بل نجدها متعلقة حتى بأدوات وعناصر النظام نفسه، فالملازم المكلف بمراقبة منزل مراد، (يخاف)/يجحم عن ممارسة الجنس مع زوجته في منزله خوفا من أن تكون هناك أجهزة تنصت ومراقبة: "ثم مال وهمس في أذنها قائلا إنه لا يستبعد وجود جهاز تنصت في سيارته. ـ الستم أنتم انفسكم الذين تركبون هذه الاجهزة؟ فقال أن الأجهزة عديدة، وإن كل جهاز يراقب الجهاز الآخر ...أنه لا يستطيع أن يمارس معها الحب في البيت، لأن حدسه هو صاحب حدس خارق، يقول له إن بيتهم مزروع بالآت تصوير خفية" ص99 و100، وهذا ما يجعل الجميع يشعر بالرقابة التي تمنع الفرد من أن يشعر بالحرية، ومن ثم عدم قدرته على (مخالفة) ما يصدر من أوامر وتعليمات.
المعارضة لم تكن المعارضة أنقى من النظام الرسمي، فهي أيضا تتعامل بالسياسية، "الغاية تبرر الوسيلة"، لهذا تقرر اغتيال "أحمد" ابن "مراد"، والهدف من وراء هذا الاغتيال: "ـ نريد أن يعتقد الناس أن اللذين زجوا أسرته في الاقامة الجبرية، هم الذين اغتالوه" ص131. ولا تكتفي "المعارضة" بهذا الفعل الشائن، بل نجدها تطلب من الصغيرة ابنه مراد، أن تقوم بتسجيل كلام متعلق بعقم مبادئ الثورة ونهجها: "..أن تقولي مثلا إن الثورة مثل القطة تأكل أبناءها، لكنها في حالة والدك وغير .. أكلت آباءها الشرعيين، ألم يفعلوا ذلك، إذن أنا لا أطلب منك سوى تسجيل قناعتك" ص199. السرد السرد في الرواية يأتي بأكثر من شكل، ففي الفصل الأول "مدارات الصدى" نجد وتيرة السرد متعددة ومتنوعة، فكل شخصية تتقدم وتتحدث ثم تترك المجال لأخرى ثم تعود لتسرد من جديد، وقد حدد السارد الرئيس الزمن ب"الخميس، الصغيرة/، الخميس، الرجل/، الخميس، المرأة" ثم يترك الشخصية تتحدث بحريتها، بعيدا عن تدخل الراوي الرئيس، لكن في الفصل الثاني: "اعترافات كاتم صوت" يبدأ "يوسف الطويل" في سرد الأحداث، على مدار عشرين صفحة، وخلال هذا السرد لم يتدخل الراوي إلى في بضع مواقع بسيطة، لم تؤثر على طبيعة السرد، حتى أنه ينقل لنا الصورة "يوسف" وهو يسرد "لسليفيا" وكيف كان مهيمن على السرد: " "...وهكذا بدأت أنا أيضا أتحول بين الحين والحين إلى درجة أرقى في السلم وظيفتي الجديدة ـ القديمة حاصله... لماذا جبنا هذه السيرة .. آه .. كنت أجلس إلى جانبه واتلفت" ص62، بهذا طريقة كانت الشخصيات تسرد الأحداث. وفي فصل "العزلة" كانت المرأة، "مريم" زوجة "مراد" تتحدث عن حياتها وتسرد أحداثها بحرية، حتى أنه تتناول فكرة البكارة وهي طفلة، وكيف منعها أهلها من ركوب الدراجة بسبب الخوف من فض بكارتها، وهذا يشير إلى أن الشخصيات كانت تتحدث من تلقاء نفسها ودون تدخل من السارد الرئيس. وفي "منامات حبيسة" يسرد الملازم المكلف بمراقبة أسرة مراد ويتحدث عن مهمته في تنفيذ الأوامر، حتى لو كانت تتعلق بإجبار الأسرة على إخلاء المنزل. وفي فصل "اعترافات فتاة في عنق الزجاجة" تتحدث الصغيرة عما تعرضت له من ضغوط، فأقارب أمها كانوا يريدون أن (يصيغوها) كما يريدون، وهنا كانت لغة السرد تتباين عن لغة الشخصيات الأـخرى، فنجد الثقافة الدينية حاضرة في اللغة، على النقيض من لغة الشخصيات الأخرى. وفي فصل دوائر الأصوات" يعود شكل السرد على ما جاء في فاتحة الرواية، شخصية تسرد باقتضاب وتترك المجال للآخرين، وبهذا يكون شكل السرد متماثل في فاتحة الرواية وخاتمها. الرواية من منشورات مكتبة الأسرة الأردنية، وزارة الثقافة، عمان الأردن، الطبعة 2008.
#ائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|