|
حقائب سوريّة في متحف إيطالي
أمان السيد
كاتب
(Aman Alsayed)
الحوار المتمدن-العدد: 6621 - 2020 / 7 / 17 - 10:38
المحور:
الادب والفن
أيها البحر، يا حلم العشاق في ليالي السمر، يا متّسعا للحكمة، يا من ألقى فيك الله ما ألقى من الكنوز والدرر، وملح الحياة. أيها البحر يا زرقة الآمال، وأنين البحّارين في ليالي الإبحار، والسفر الطويل. ما الذي جعل منك حضنا للموت، ونعشا لمن امتطوك وهم يتشبّثون بأوهام الأمان من خلالك؟! أيها البحر، تتداولك الحكايات حبًّا، ورعبًا، وأملا، وكم من الذين امتطوك، وغادروا تلاقوا بأحلامهم حين توهّجت في تلك الديار البعيدة خلف حدود البحار والمحيطات برنين الذهب والأمان! ولكن أهو قدر السوري أن يضيّع في الأوهام برّ أمانه حين امتطاك على ظهر مركب مطاطي هشّ، أو سفينة صفّ فيهما الموتُ أشخاصا على رزنامة العمر، وهم يدركون أنهم سيغدون طعاما لأقراشك، وحيتانك، وأسماكك الضعيفة أيضًا، وقد أوهموه بالوصول إلى ذاك المرفأ البعيد في رحلة فراره من مجرمين قتلة بوصلةُ عقولهم لم تعرف يوما سوى اتجاه وحيد. أيها البحر، السوريّ، وهو يلتجئ إليك أدرك تماما ما كان ينتظره، ولكنه أمام جحيمين يراك فردوسه المنشود، أوهامه كانت تحوّل له البحر كتابا كبيرا سيفك طلاسمه كما اعتاد. ذاك السوري المتميّز، الأبيّ، سليل الحضارات، والتاريخ الشهي، من المستحيل أنه لم يكن قد فكّر بما ينتظره في البحر، ولكنه الفرار، الفرار من قدر الموت قتلا إلى الموت غرقا، لذا حمل حقائبه على ظهره، وأطفاله، ومن بقي من أهله متصافحا مع تجار الحرب، ومجرميها. ترى كم مجرما أيها السوري تكالب عليك، وعلى إجهاض أحلامك بالعدالة الاجتماعية، وبمستقبل يعيش فيه أطفالك عيشة غير التي عشتها؟! إنها الحرب أيها السوري، الحرب التي لم يُبتكر مثلها من قبل، إنها الحرب التي كشفت شرهها للملأ، الحرب التي عرّت الشياطين في أنحاء الأرض جميعها، الشياطين الذين يتلذّذون بقتلك، وسحقك بالمبيدات الكيماوية، وكأنك لا شيء، لا ذاك اللعاب الأبيض الذي انثال من شفاه أبنائك، أطفالا وشبانا، وأمام عيون المتفرّجين بلا اكتراث، إنك من قبل عرفت شياطين اللقمة، وشياطين الفساد، وشياطين التّشبيح، وشياطين الاستذلال، والاستعباد، والتّخلف، والقهر، والتّباهي، ولكنك لم تكن إلا اليوم لتتكشف لك الأبالسة بوجوه أكثر قتامة من لجج البحار التي تهاديت فيها عزيزا، وأنت تهبط إليها حين تشقّقت ضلوع مركب أقلّك مع غيرك من اللائذين بالأمل، لا يتسع إلا لنزهة، وقد فررت إليه بنفسك، وأطفالك، وامرأتك بعد أن أجبروك على الفرار، وأنت تحمل حقيبة سفر خفيفة، مثلها تلك التي تتأبّطها فوق ظهرك لنزهة، أو لتريّض ونثرت فيها فتات دولارات، نقدت جُلّها لتجّار الحرب كي يصفعوا بك قاع البحر، حين لم تعد السفينة تستطيع احتمال ذاك العدد الضخم الذي حشروه فيها من أترابك، وأبناء حيك، ووطنك الذين انفلتوا إلى السفر هاربين من فظائع الموت والخراب، والحرق، والقصف باختراعهم المدهش، تلك البراميل التي دحرجوها عليك من سقف ليس بينه وبين الله سوى لحظات من الابتهال! أيها السوري تُرى كم ابتهلت إلى الله، وأنت بيدك تلك قد أجْبرتَ على تلقيم البحر جسد طفلك الذي اشتكى ساكنا من الحمى، فأكرهوه على الموت صارخين: إنّ المركب لا يتسع للموتى!. لا تحزن حين سلبوك طفلك، وصنّفوه في عداد الموتى!. أيها السوري. ألم يكن البحر أرحم منهم حين استقبلك بين أحضانه أميرا، بل سطانا، وحوّلك إلى قطرات ملح، وموجات تتغنى بالحرية. أيها السوري، يا نورس البحر، وعبق زرقته، وسلاسة كنوزه. لا تظهر الأسى تجاه ما تراه من داخل أعماق مدفنك، فحين جمعوا حقائبكم، ورصفوها في متحف إيطالي، وحين حوّلوا جثثكم التي أردفها البحر إلى الشواطئ إعلانا في جريدة، أو إطارا يوقّع تحته الساخطون على الحريات، والمدّعون بإسقاط العبودية للإنسان، لم يدركوا سرّ البحر، ولا رسائله الحكيمة. إنهم أبالسة العالم الحر الذين في وجهك أشهروا الفيتو مرات، وما يزالون، الذين لا يعنيهم تقلبك في العراء جوعا، وعطشا، ومرضا، وتشرّدا، وسحقا. أيها السوري العظيم. يكفيك منهم أن حقيبتك تلك تشهد للبحر بأنه الرحيم المحبّ الحاني، إنه حين قذف بها إليهم كان يدرك ما استودعتها من الأحلام، والإصرار على الحرية، فركزها في الأرض لواء شاهقا ينتصب في وجه الطغيان، وقتلة الإنسان. أيها السوري. ابتسم من قعر البحر، والمحيط لحقيبتك. إن أمانيّك التي أودعتها إياها قد تحوّلت إلى فراشات ستُدغدغ ضمير العالم الغافي يوما، وإن به طال الزمان.
#أمان_السيد (هاشتاغ)
Aman_Alsayed#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدنيا ريشة في هوا
-
سلّم لي على الباذنجان
-
حول رواية كافكا في مستوطنة العقاب
-
منافسات، ولكن..
-
كورونا يسقط حكم العسكر
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|