|
التشكيل الفني في خطابات الشعراء العشاق ج . 3
سعد سوسه
الحوار المتمدن-العدد: 6620 - 2020 / 7 / 16 - 13:32
المحور:
الادب والفن
( الصــــورة الفنيــــة ) تعد الصورة احدى الوسائل الفنية المهمة التي يعتمد عليها الشاعر في نقل تجربته الشعرية وان دراسة الصورة ومفهومها قد اهتم بها الباحثون القدماء والمحدثون على السواء وذلك لوعيهم الكبير باهميتها لكونها عماد الشعر وقوامه، وهذا ما اكده الجاحظ ( ت255 هـ) في قوله: الشعر ضرب من النسيج وجنس من التصوير . (1 ) . اما المحدثون فقد توسعوا في تعريفاتهم للصورة الفنية فمنهم من قال ان الصورة هي ثمرة عاطفة الاديب الخاصة وما يشعر به في نفسه ازاء الاشياء بعد ان تمتزج بمشاعره وما يضيفه اليها من حالاته النفسية الوجدانية ( 2 ) . وقال اخر انها محصلة الفعل التخييلي الذي يمارسه الشاعر ووسيلته في نفس الوقت ( 3 ) . وقيل ايضا انها تمثل( تشكيلا جماليا تستحضر فيه لغة الابداع الهيئة الحسية والشعورية للاجسام او المعاني بصياغة جديدة تمليها قدرة الشاعر وتجربته، بتعادلية فنية بين طرفين هما المجاز والحقيقة، دون ان يستبد طرف باخر )( 4 ) . وعليه فان الصورة بذلك تعد ( تعبيرا عن حالة نفسية معينة يعانيها الشاعر ازاء موقف معين من مواقفه مع الحياة)( 5 ) . وبما ان الصورة تعد تشكيلا لغويا ، يكونها خيال الفنان من معطيات متعددة لذلك فان الشاعر العاشق يحاول ان لا يقدم لنا الصورة على هيئتها بل يستخدم لنا عناصر تعبيرية (( لا تواجه الفكر مباشرة وانما تخاطبها من وراء حجاب وتفضي اليها باساليب انيقة مختارة وبسبل طريفة جانبية، وهنا يكمن سر الابداع الفني وان هذه الاساليب والسبل تتصل بخيال الشاعر واحساسه، وبهذا الحوار الخفي بينهما تنقل الموضوع من صفته الطبيعية العادية الى رفعة الفن وتصوغه صوغا ممتازا مستعينا بما توفره الطبيعة حوله من الالوان والصور محاولا ان يجعل الصورة تأخذ في (( الوجدان شكلا نهائيا واضحا لا يشوبه الغموض ولا تمازجه الحيرة)) . وان مقصد الشاعر من بنائه لهذه الصور هو ان يعبر من خلالها عن قضاياه واحاسيسه ومواقفه من الحياة والناس من حوله. لذلك نجد ان (( التعبير الرمزي يغلب على التعبير المباشر.. ليصبح الشعر من خلال هذه الصور بناء لغويا مجازيا حافلا بالرموز والمعاني التي تقودنا الى الكشف عن التوترات المختلفة التي كانت تحكم العالم الشعري وما يتصل به من المواقف والقضايا)) ( 6 ) . وعليه فقد استعان الشعراء العشاق بطائفة من الصور البيانية والمحسنات اللفظية والمعنوية لغرض التأثير في سامعيهم واكثرها دورا في اشعارهم التشبيه فلم يضعوا شيئا الا قرنوه بما يماثله ويشبهه من واقعهم الحسي حيث ان اغلب الصور مستمدة من الحواس الى جانب ما لا يمكن اغفاله من الصور النفسية والعقلية وان كانت لا تأتي بكثرة الصورة الحسية . ومن المهم التعرف على ان مصدر جمال الصورة الفنية لا يكون بما فيها من محسنات بلاغية وانما ينبع جمالها من كونها صورة فحسب فجماليتها قائمة في ذاتها. وايضا عندما يجمع الشاعر بين براعة التصوير ونبل المعنى تحتل الصورة مكانا رفيعا وتحلق في افق اعلى . وبجانب التشبيهات الكثيرة التي نلقاها في شعر الشعراء العشاق نجد الاستعارة ماثلة في العديد من اشعارهم فضلا عن الكنابة والطباق والجناس والمجاز وغيرها من الفنون البلاغية المعبرة عن قدرة ابداع الشاعر الفنان والتي لا يمكن حصرها في قصائد هؤلاء العشاق. ويظهر من خلال اشعار العشاق انهم لا يقدمون لنا موصافتهم ساكنة ولا يعرضون معانيهم جامدة بحيث تملها النفس ويعافها الوجدان بل اشاعوا فيها النشاط والحركة فماجت بالحيوية فالشاعر سيتقي اخيلته من العالم الحسي المترامي حوله حيث ان فاعلية الصورة تتعاظم كما تعاظمت قدرتها على تنشيط الاحساسات وان تثير تيارا حركيا في مسارب الخيال وان الصورة لا تكتسب طاقتها وحركتها الا اذا احتوت على الفاظ بعينها ذات طاقة حركية جبارة . ومثال ذلك ما عبر عنه عنترة: وكأنَّما نظرتْ بعيني شادنِ رشأ من الغزلانِ ليس بتوأمِ فالشاعر حينما اراد التعبير عن جمال العينين اختار لذلك صورة وبث فيها لون من الحركة الرشيقة، حركة الشادن، ولد الغزل حين ينظر الى امه في دلال وحب الوحيد لامه محاولا بذلك ان يفجر ما تخفيه تلك الصورة من تصور مثير وبليغ يعبر عما يشعر به الشاعر من حيث اتجاه الحبيبة (عبلة). وهذا ما يمكن ان يطلق عليه (( بث الحركة في الصورة الثابتة في شعر الغزل الذي يحتفل فيه الشعراء برسم هذه الصورة المثالية لجمال المرأة، من خلال الفاظ لغوية يتخيرونها تخيرا خاصا)) ( 7 ) . وبما ان الخيال يعد عنصرا اساسيا في بناء الصورة والعاطفة اساس لفعالية الصورة وحيويتها. لذلك فان (( الصورة تتطابق مع الشعور، لان الخيال الناسج للصورة يمنح مادته الخام من اعماق الذات، التي هي بدورها صياغة جبلها الواقع)). ومن هنا تغدو للصورة الفنية علاقة مع الذات والموضوع لذلك قيل ان (( الصورة الشعرية ترتبط بتجربة الشاعر)). وان الخيال المبدع لا يهدف ان يكون ما يشكله من صور نسخا او نقلا لعالم الواقع ومعطياته او انعكاسا حرفيا لانسقة متعارف عليها… وانما يستهدف اثراء الاحساس وتعميق الوعي بالحياة من خلال رؤية شعرية. وان الشاعر المبدع هو الذي يستطيع ان يصور المعاني الاكثر الفة بين الناس لذلك حاول الشعراء بعامة والعشاق بخاصة ان ينسجوا صورهم من ظواهر البيئة المحيطة بهم ومن هنا يتضح ان الصور والتشبيهات التي ترددت في شعر الشعراء العشاق مستمدة من البيئة الطبيعية التي عاش فيها الشعراء . فالطبيعة لم تكن مصدرا لتصوير الجمال فحسب وانما افاد منها الشاعر العاشق في رسم صور تعبر عن تجربته وتفصح عن مشاعره واحساسه . وان هذا التصوير لا يمكن له النهوض من دون اللجوء الى المحسنات البلاغية المتمثلة بالتشبيه، والاستعارة ، والكناية ، والرمز وغيرها. فتلك المحسنات هي الوسيلة شبه الوحيدة لرسم صور تمنح التجربة حيويتها وفاعليتها وتكشف عن عوالمها الخفية. ومن بين المحسنات التي وجدت صدى واسع لدى الشعراء العشاق هو استخدام: التشبيه:- لقد لقى التشبيه عناية من قبل البلاغيين والنقاد على السواء ، وذلك لكونه الفن الاكثر استعمالا في كلام العرب فقد جعلوه دليلا على الشاعرية ونجد ان البلاغيين والنقاد جعلوا احسن الشعر هو (( ما قارب فيه القائل اذا شبه واحسن منه ما أصاب به الحقيقة، ونبه فيه بفطنته على ما يخفي على غيره ، وساقه برصف قوي واختصار قريب، وعدل فيه عن الافراط)) (8 ) . فالتشبيه هو (( خلق فني ينبثق من رؤية المبدع واحساسه بالتماثل بين الاشياء للتعبير عن موقف شعوري خاص)) . اما عن فائدة التشبيه فقد قال ابو هلال العسكري ( ت 395 هـ) انه(( يزيد المعنى وضوحا ويكسبه تأكيدا )). وفي شعر الشعراء العشاق كان التشبيه من ابرز الوسائل التي عمدوا اليها في تشكيل صورهم الشعرية. وقد استمدوا صورهم من الطبيعة الحية وغير الحية، وبما انهم كانوا عشاق لذا فقد كان جل اهتمامهم منصب حول المرأة الحبيبة وقد وردت صور كثيرة حينما عمدوا الى وصف جمال محبوباتهم في اشعارهم فهي صفات تجمع بين (( عناصر الالوهية وصفات البشرية)). وعلى الرغم من هذا التصوير الذي يقرن في احيان كثيرة المرأة بالالوهية وما تحويه من عناصر الجمال الانثوي في صورته المثالية فهي غامضة لا تنم عن امرأة بعينها لصلتها بين الشعراء وكذلك لحرص الشعراء العشاق على صفات بعينها شبهوا بها المرأة امثال الغزال والمهاة والنخلة وهي صور كثيرة الورود في الشعر الجاهلي. وفي معجم الشعراء المعني بتشبيه المرأة ، تشبيههم اياها بالبدر ، والبقرة ، والبيضة والدرة ، والدمية ، والرمح ، والسحاب ، والشمس ، والطفل… وشبهوا اسنانها بالاقحوان ، والشعاع ، وبنانها بالعنم وخدها بالمرآة ، وراحتها بالمسك… ووجهها بالصحيفة والدينار ، والشمس ، وكل اولئك مظاهر حسية ،وتشبيهات مادية تدل على اذواقهم وما كان يفتنهم ويسحرهم في صاحباتهم. وقد اولع امرؤ القيس بالتشبيه اشد الولع ، وقد قال ابن سلام ( ت 231 هـ) انه (( سبق العرب الى اشياء ابتدعها ، واتبعه فيها الشعراء منها… شبه النساء بالظباء والبيض… واجاد في التشبيه)) ( 9 ) . وذلك ما نتأمله في هذه الصورة التي يبدو فيها شعر محبوبته التام السواد مشبها بعذق النخلة وهو متداخل لكثرته: وفرعٍ يُغّشى المتنَ أسودَ فاحمٍ أثيثِ كقنو النَّخلة المتعثكــلِ وقال المرقش الاصغر مشبها شعر حبيبته بالحبال : ألا حبذا وجهٌ ترينَ بياضــهُ ومُنسدلاتٍ كالمثاني فواحمــا اما عنترة عندما اراد وصف شعر حبيبته الاسود شبهه بالليل لانطوائه على بعضه ولشدة سواده فقال: خطفَ الظّلامُ كسارقٍ من شعرها فكأنّما قرنَ الدُّجى بَديــــاجِ وقال عبد الله بن العجلان: كأنَ دمقساً ، أو فروعَ غمامـةٍ على متنها ، حيثُ أستقرَّ جَديلُها فهو قد شبه شعر حبيبته الاسود بالغمامة متراميا على متنها الابيض فعند استقرار شعرها كأنما استقر وشاح من حرير فان جمال المرأة يشعر الشاعر بالبهجة والسرور ناقلا هذه الاحاسيس في فضاء ابداعه الشعري. ويبدو ان ادوات التشبيه الاكثر دورانا في ابيات الشعراء ( الكاف ، وكأن) وذلك لما لهاتين الاداتين من اهمية في ابراز لفكرة الشاعر. وان استخدام كاف التشبيه مع ان التوكيد لها القدرة على تشكيل صورة تتضمن شعورا اعمق على حمل الانفعال من الكاف وحدها. وهذا ما اكده الدكتور صلاح فضل فقال: (( ان اكثر اشكال التشبيه دورانا في الشعر واعظمها قدرا من الشاعرية والبلاغة هو الذي يستخدم فيه (كأن) لما تقيمه من تخييل وتنهض به من صور فنية… خاصة انها كثيرا ما تتصدر الجملة الشعرية مما يضاعف من قدرتها على استفزاز الخيال ويشحذ فاعليتها في التصوير))( 10 ) . اما الوجه فنجده يسترعي انتباه الشاعر العاشق اكثر من أي جزء فيها فقد كرسوا كثيرا من الشعر لتصوير قسماته وتقاطيعه فهي كالشمس والبدر والمصباح والدنانير. فقد منحت البيئة الشاعر الخيال الذي صوروا به عواطفهم فقد التفتوا الى ما في البيئة من جمال وعقدوا بينه وبين المرأة الحسناء صلة او صلات، مع علمهم ان جمال المحبوبة اقوى فتونا واحلى فنونا . ولو ان عندهم اجمل مما شبهوا به لالحقوا الحبيبة به. يقول الجاحظ في هذا المعنى (( وقد علم الشاعر وعرف الواصف ان الجارية الفائقة الحسن احسن من الظبية، واحسن من البقرة ، واحسن من كل شيء تشبهه، ولكنهم اذا ارادوا القول شبهوها باحسن ما يجدون ، فيقول بعضهم كانها القمر. وكانها الشمس. والشمس وان كانت بهية فانما هي شيء واحد، وفي وجه الجارية الحسناء وخلقها ضروب من الحسن الغريب والتركيب العجيب. ومن يشك ان عين المرأة الحسناء احسن من عين البقرة، وان جيدها احسن من جيد الظبية)) ( 11 ) . فقد شبهه امرؤ القيس وجه حبيبته بمصباح الراهب فقال: تضيءُ الظّلامَ بالعشاءِ كأنّها منارةُ ممسي راهبٍ مُتبتل فاراد امرؤ ان يشبه وجه حبيبته بمصباح الراهب ، لانه ينير في الفضاء والظلمات حوله، وذلك ابين لنوره التي تكون مضيئة باستمرار فكذلك وجه حبيبته مضيء كالسراج لحسنها وجمالها وبياضها. فتشبيهات امرئ القيس تنبعث من خيال شاعر عاش في البادية وهي (( تشبيهات حسية مشتقة من الصحراء ومظاهر الحياة لذلك كانت قريبة يسيرة، وقلما نجد له تشبيهات عقلية تحتاج الى شيء من اعمال العقل ومعاناة الفكر)) . اما المرقش الاكبر قد عبر عن جمال وجه حبيبته بالدنانير في بياضها ونصعانها فقال: النشرُ مسكٌ والوجوهُ دنـا نيرٌ وأطرافُ البنانِ عَنــمْ ففي هذا البيت وردت ثلاث صور فقد شبه اولا رائحة المحبوبة برائحة المسك ثم شبه الوجه بالدنانير واخيرا شبه اطراف الاكف بشجر العنم التي اغصانها حمراء وهذا يشبه لون البنان المخضبة بالحناء. وسار عنترة على نفس المنهج فشبه وجه حبيبته كالشمس مرة والبدر مرة اخرى فقال: أشارتْ اليها الشّمسُ عند غُروبِها تقولُ: أذا أسودّ الدُّجى فاطلعي بعدي وقالَ لها البَدرُ المنيرُ: ألا أسفري فأنكِ مثلي في الكمالِ وفي السَّعــدِ فقد وصف وجهها بالصفاء والنقاء فهي منيرة كالشمس فاذا غابت حلت مكانها. فالشاعر عقد محاورة بين الشمس وحبيبته فهي تطلب منها ان تطلع بعد غروبها. اما القمر فان كلامه اعذب واجمل فهو قد جعل حبيبة عنترة مساوية له في الجمال والكمال. فما ابلغ ذلك التشبيه. وقال ايضا: ويطلعُ ضوءُ الصّبحِ تحت جبينها فيغشاهُ ليلٌ من دُجى شعرِها الجعدِ ويرسم عبد الله بن العجلان صورة حبيبته مشبها اياها بالهلال ومستعينا بالاداة (مثل) قائلا: غرَّاءُ مثلَ الهلالِ صورتهـــا أو مثل تمثال صورةُ الذهـــبِ وان هذه النزعة المادية في تجسيم المعاني والتعبير عنها بصورة حسية كان لها اثرها على الشعر حيث انها حددت الخيال والصور ولم تتح للشاعر ان يتعمق في وصف الخواطر والافكار او يحلل العواطف والاحاسيس فجاء وصفه لمحبوبته واشواقه نحوها وصفا خارجيا باردا ، وذلك لتوفر تلك الصور لدى الشاعر فهي مستمدة من البيئة والحياة البدوية فلا يجد صعوبة في استحضارها فهي واضحة وضوح الصحراء وبسيطة بساطة الحياة البدوية . ويستمر الشعراء العشاق في تشبيه محبوباتهم ووصف كل ما بدى لهم من جمالهن وكل ما ابصرته عيونهم. فتشبيه رائحة وطعم الفم قد اخذت الكثير من الشعراء العشاق، فهذا خزيمة بن نهد يجعل فم حبيبته بطعم الزنجبيل فقال: فتاةٌ كأن رُضاب العصيــرِ بفيها يعلُّ بهِ الزنجبيــــلُ ويذهب المرقش الاصغر في تفضيل هذه الصورة وتعقيدها مذهبا اخر فشبه عذوبة ريق حبيبته بالخمر في قوله: كأن فيها عقاراً قرقفــــاً نشّ من الدُن فالكــأسُ رذومْ وعبد الله بن علقمة جعل نفسه لا تشفى من ثغرها الذي تشبه رائحته ريح المسك فقال: وهل أشتفي من ريقِ ثغركِ مرةً كراحٍ ومسكٍ خالط ضربَ النَّحلِ وعنترة حين يريد وصف صاحبته عبلة بطيب رائحتها، يختار لذلك صورة يبث فيها لونا من الحركة والحياة تتألف من عناصر كثيرة: وكأن فأرةَ تاجرٍ بقسيمــــةٍ سبقتْ عوارضَها أليكَ من الفـمِ فهذه المرأة حين تهوي اليه ليقبلها ، تنتشر من فيها رائحة طيبة كالمسك تسبق عوارضها الى انفك. ان مجرد هذا التصور الحسي لجمال المرأة يقنعك بمدى التشابه الذي وفق الشاعر العاشق الى رؤيته ونقله في تشبيهاته البارعة. حيث ان (( التشبيه الجيد هو حين يقارن الشاعر بين شيئين بينهما اختلاف، فيلفت نظرنا الى الشبه الموجود بينهما على الرغم من ذلك الاختلاف، وكلما كان هذا الشبه اكبر حاجة الى دقة التصوير ونشاط الخيال، كان التشبيه أجود وكان تقديرنا للشاعر اعظم)) . فالشاعر العشاق حينما يعمد الى التشبيه لا يقصد به التسجيل المادي وانما يستعين به لحمل عاطفته الينا في تمام قوتها وحرارتها. واذا تجاوزنا الصورة الحسية لدى الشعراء العشاق ان امثل نظرة الى العاطفة عرضها شعر العشاق تتمثل في اشعار يملؤها الاسى على ما فات حين يتذكر الشاعر لحظات السعادة التي مرت، اذا الشاعر العاشق لم يقف عند جمال المرأة الجسدي فحسب وانما فطنوا الى جوانب اخرى وهي الجوانب المعنوية فراحوا يجسدون ويشبهون الامهم التي احسوا بها نتيجة حبهم المفرط وشغفهم بمن يعشقون، حيث ان التشبيه قد امتزج بمشاعر الشاعر العاشق وتلون باحساساته فانجب صورا معبرة ومؤثرة، وما ذلك الا لصدق التجربة العاطفية التي عاناها الشاعر ، ومن الصور التي عبرت عن نفس الشاعر وما تحسه ازاء الحبيب في مواقف مختلفة قول مضاض الجرهمي: كأني حينَ اطلبهُ وصــالاٌ ويصرمهُ أطالبهُ بديــــنٍ وقوله: كأني أنادي حيةً حينَ أقبلت سقاها فما تزدادُ ألا تغضبــا فهذه الصورة تجدها قد انبثقت من اغوار الشاعر وامتزجت باحاسيسه ومشاعره فهي تخفي وراءها تصورا مأساويا للتجربة الشعورية وهاهنا بالضبط تكمن قدرة الصورة على تفجير العواطف وتثويرها. وعبر قيس بن الحدادية عن المه مشبها حال قلبه قائلا: وأني لأنهي النفسَ عنها تجمّلاً وقلبي اليها الدهرَ عطشانُ جائعُ كأن فؤادي بين شقَّين من عصاً حذار وقوعَ البينِ والبينُ واقعُ تأخذ هذه الصورة الفنية مسارها المنطقي ، من زاويتها الرئيسة وهي عذاب الشاعر ، فقد جسد قلب الشاعر هذا العذاب الذي يشعر به فالقلب متعطش لها ولكن النفس تنهى عن ذلك. والتعطش والتشوق قوة لا تقهر ولا تغلب، تقتحم حياة الشعراء وتسلبهم راحتهم وتورثهم الهم ومن ذلك ما عبر عنه عبد الله بن علقمة قائلا: كأن الحشى حَرُّ السَّعيرِ يحشّهُ وقودُ الغضى والقلبُ مستعرا حيث ان القلوب مادة موروثة في شعر العشاق وذلك لتصوير معاناة الحب والهجران. وقال عروة بن حزام: وقد تركتْ عفراءُ قلبي كأنّهُ جناحُ غُرابٍ دائمُ الخفقـــانِ فقلب عروة كانه جناح غراب دائم الخفقان من حب عفراء ، فالقلوب بين يدي الهوى ليس لها الا ان تكون طائرة ، محاولة الوصول لمن تحب، وقال ايضا: فويلي على عفراءَ ويلٌ كأنّهُ على النَّحرِ والاحشاءِ حدُّّ سنانِ فالشاعر يجسد لنا معاناة حقيقية احسها واقعا من خلال صورة فنية جميلة واكتسبت قوتها من خلال قدرة الشاعر على تشبيه حاله والامه.
الاستعارة:- تعد الاستعارة من اهم وسائل تشكيل الصورة الشعرية وذلك لقدرتها على التخييل وقد تنبه البلاغيون القدماء لاهمية الاستعارة لما لها من القدرة على التخييل فقال ابو هلال العسكري ( ت 395 هـ) (( وفضل الاستعارة وما شاكلها على الحقيقة انها تفعل في نفس السامع ما لاتفعل الحقيقة)) . وقد اوضح عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) الخصائص الفنية للاستعارة فقال (( ومن الفضيلة الجامعة منها ان تبرز هذا البيان ابدا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلا، وتوجب له بعد الفضل فضلا، وانك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد حتى تراها مكررة في مواضع ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد، وشرف منفرد … ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها، انها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ … فانك لترى الجماد حياً ناطقاُ… والمعاني الخفية، بادية جلية… وان شئت ارتك المعاني اللطيفة التي هي خبايا العقل كانها قد جسمت حتى رأتها العيون )) ( 12 ) . والاستعارة في رأي عبد القاهر الجرجاني (( ان تريد تشبيه الشيء بالشيء فتدع ان تفصح بالتشبيه وتظهره وتجيء الى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجري عليه)) وقيل عن خصائص الاستعارة (( تشخيص المعنويات وتشخيص المجردات، وخلع الحياة على ما لا حياة فيه، فتصبح المعنويات والامور المجردة شاخصة امام الاعين، ويصير فاقد الحياة بالاستعارة حيا متحركا )) ( 13 ) . لذلك فان بعض النقاد قالوا ان (( الصورة التي تعتمد على الاستعارة تكون ابعد خيالا واكثر دقة والصق بالفن… وذلك ان الاستعارة في نظرهم تمثل مرحلة النضوج والرقة الفنية وقوة التصوير وبعد الخيال حيث يمكن للشاعر من خلال الاستعارة ان يخلق علاقات جديدة مبتكرة تثير الدهشة فتحفز لها الذهن وتستمتع بها النفس العاشقة وهي بذلك تعد مجالا حافلا بالرموز والمعاني التي تقودنا الى الكشف عن التواترات المختلفة التي تحكم العالم وما يتصلى به من المواقف والقضايا . فان احلال لفظة مكان اخرى ينشأ عنه رد فعل خيالي ينتهي بمعاني جديدة بسبب ما تكتسبه المعاني القديمة من اضاءة وزخرف وسحر بياني وشعري. وفي مقدمة الشعراء العشاق الذين وردت في منجزهم الشعري الاستعارة هو امرؤ القيس فقال: وأن كنتِ قد ساءتكِ خليقـةٌ فَسُلِّى ثيابي من ثيابكِ تنسلِ حيث ان كلمة الثياب تستوي في مدلوها استعارة تصديحية بمعنى القلب وهو يسلم لصاحبته ويرضى بكل شيء منها وان تكون قد ساءها شيء منه فعليها ان تنتزع قلبه من قلبها ان استطاعت الى ذلك سبيلا. فهو قد منح القلب صفة لا يمتلكها الا الكائنات الحية حيث ان الكلمة (تنسل) تعنى سقوط الريش والوبر وهي صفة مختصة بالطيور والحيوانات. فيحاول الشاعر ان يقرب الينا بانه كان مقيدا من غير لا حول ولا قوة يتمنى التحرر مما فيه ولو كان تحرره في صورة من تجرد عن كل شيء وخسر كل شيء . وقوله: وما ذرفتْ عَيناكِ ألاَّ لتقدحـي بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقَتَّلِ فهنا العين لا تقدح بالسهام وانما تنظر فاراد بذلك ان عيونها لا ترسل اليه نظرات وانما ترسل اليه سهاما تصيب قلبه فان تأثير نظرتها كان في قلبه ما للسهام من اثر. فهنا استعارة قد حذف المشبه (النظر) وابقى المشبه به (سهميك) وجاء يقربنه داله على المشبه وهو العين فهي استعارة تصريحة. فما اجمل التعبير عن العيون وما تصيبه في قلوب المحبين ففيها تأثير عظيم فهي، تحي في النفوس محبة الحياة، وتشيع اسعادا لمن يرنو اليها، أو ترنوا اليه… وشجاعة القلب النابض بالحب تظهر في تلقي ما توحى اليه الحياة عبر العينين. وقد صرح عبد الله بن العجلان عن فعل العيون وتأثيرها فيه وما ادخلت في قلبه من المشقة والعناء فقال: أتتنى سهامٌ من لحاظِ فأرشقتْ بقلبي ولو أستطيعُ ردّ أرددتها فقد استعار السهام بنظر العين فهي استعار تصريحية حيث حذف المشبه وهو (العين) وابقى المشبه به وهو (السهام) وجاء بقرينة وهي (لحاظ) فهي عين لا ترمي بنظرات عذبة وانما سهام قاتلة. وقد تتميز بعض صور العشاق بقدرة الشاعر على النفاذ في صميم الاشياء الدقيقة التي ربما لا يلتفت اليها الاخرون ومتابعتها ومن ثم تصويرها كما يبدو في تصوير عنترة لاثر النظرة في قلبه بوقع النبل التي يصعب شفاؤها فقال: يا من رمتْ مُهجتي من نَبلِ مُقتلتها بأسهمٍ قاتلاتٍ برؤها عَسِــرُ ويصور مرة اخرى وقع السهم العميق الاثر الذي لا يخطأ اثره قائلا: رمتْ عبيلةُ قلبي من لواحظهـــا بكلُّ سهمٍ غريقٍ النزعِ في الحورِ فأعجبْ لهُنّ سِهاماً غير طائِشَــةٍ من الجُفونِ بلا قَوسٍ ولا وتـرِ وبين المرقش الاكبر حاله وما فعلت اسماء به في صورة قوامها الاستعارة قائلا: وأسماءَ همُّ النفسِ أن كنتَ عالمـاً وبادى أحاديثُ الفؤادِ وغائبـهُ فمكمن الاستعارة في لفظة (الفؤاد) حيث قرنه بصفة لا يمتلكها الا الانسان وهو الحديث. وكانما اراد ان يثبت ان النفس لو كان باستطاعتها التكلم لتعبر عن الالم لفعلت. وقد ابدع الشاعر في بناء صورته على التضاد المثير في قوله ( بادي، غائب) أي الظاهر والخفي فهو تجسيد للمعاني التي تختلج في نفس الشاعر وتعظيم لحاله فهي تمثل المعاناة سواء كانت حاضرة أو غائبة ، وقال عبد الله بن العجلان: جديدةِ سربالِ الشّبابِ كانَّهـــا سقتَّهُ بردي نمتها غُيولهـــا حيث ان السربال في الاصل معناه الدرع فاستعارة عن غضارة الشباب ونضارته فهي في عنفوان الشباب وهو قد حذف النضارة وجاء بقرينة وهي الشباب لتدل عليه. وترد الاستعارة في ابيات الشعراء العشاق شاخصة في التشخيص فيحاول الشاعر ان يرتفع بالاشياء المحيطة به الى مرتبة الانسان مستعيرا لها صفاته ومشاعره فتبرز نابضة بالحياة وبذلك تقوى الاستعارة عندما تستعرض في الاشياء غير الحية وكأنها مخلوقات انسانية مدركة وهو ما يسمى بالاندماج الوجداني فهذا الاندماج كانه انتقال بحياتنا واحساسنا من نظامنا العادي الى نوع اخر تتعمق فيه صلتنا بما حولنا فنشعر بانه جزء منا واننا جزء منه. واغلب صور العشاق مستمدة من البيئة غير الحية محاولين ان تشاركهم مشاعرهم فهو يرى الاشياء كلها من خلال عاطفته فيضفي عليها من الاحاسيس والمشاعر التي يحس بها من ذلك قول عنترة الذي استعار الشمس ليشبه بها حبيبته: رفعو القبابَ على وجوهٍ أشرقتْ فيها فغيَّبت السُّها في الفرقـــدِ والشّمسُ بين مُضرَّجٍ ومُبَلَّــجٍ والغُصنُ بين مُوشَحٍ ومُقلَّـــدِ فالشاعر حاول ان يمزج بين عاطفته والبيئة المحيطة به بان شبه اشراق الوجوه بالفرقد والقباب التي سترها الفرقد وباستعارة هذا الاشراق بالشمس الصافية. وقال المرقش الاكبر: دقاقُ الخصورِ لم تُعفَّر قُرُونها لشجوٍ ولم يحضُرنَ حُمّى المَزَالفِ فهو قد استعار صفة الحيوان ونسبها للانسان وهي وصف الظفائر بالقرون فقد حذف المشبه (الشعر) وجاء بقرينة هو (التعفر) اذا هي استعارة تصريحية.
الكناية:- ان الكناية كغيرها من المحسنات ذات اهمية في تشكيل الصورة الشعرية وهي نمط من التعبير يؤدي المعنى بصورة غير مباشرة، يرى ابو هلال العسكري (ت 395هـ) ان الكناية هي ان يكنى بالشيء، ويعرض به ولا يصرح على حسب ما عملوا باللحن والتورية عن الشيء . وعرفها عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) (( ان يريد المتكلم اثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء الى المعنى هو تاليه وردفه في الوجود فيوميء به اليه ويجعله دليلا عليه)). ويمكن ان يطلق عليها ايحاءات المعنى لذلك يسميها عبد القاهر (معنى المعنى) حيث ان معنى المعنى ان تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى الى معنى اخر . وهذا ما يمثل بالكناية والاستعارة والتمثيل. وان استخدام هذه السبل لا يعد تغيرا في المعنى حيث (( اعلم ان سبيلك اولا ان تعلم ان ليست المزية التي تثبتها لهذه الاجناس على الكلام المتروك على ظاهره والمبالغة التي تدعي لها في انفس المعاني التي يقصد المتكلم اليها يخبره، ولكنها في طريقة اثباته لها وتقريره اياها)) . ويرى اخرون ان الكناية (( لفظ اريد به لازم معناه مع جواز ارادة معناه حينئذ)) ( 14 ) . اذا الكناية هي (( ضرب من العدول عن لفظ يقرر معناه حقيقة وصراحة والاتيان بلفظ اخر يؤدي هذا المعنى في شيء من التأويل على ان تكون هناك علاقة لازمة بين اللفظتين)) ( 15 ) . ومن مزايا وخصائص الكناية ان (( تضفي على المعنى جمالا وتزيده قوة… وافادة المبالغة في المعنى، لان التعبير عن المعنى الكنائي بروادفه وتوابعه له من القوة والتأكيد ما ليس في التعبير عنه باللفظ الموضوع له)) ( 16 ) . وقيل عن محاسنها (( تفخيم المعنى في نفوس السامعين)). ومن امثلة الكناية قول امرئ القيس: كبكرِ مُقاناةِ البياضِ بُصفرةٍ غَذاها نميرُ الماءِ غيرَ المحلَّلِ فهو يورد (كبكر المقاناة) فيكني بها عن شرف المرأة وصيانتها فهي نقية وصافية كنقاء البيضة الاولى من بيض النعام، حيث ان الاولى لا يخلص بياضها خلوص سائرها. فالمرأة نقية مثلها ولا يخالطها شيء. يجب ان لا ننسى لما للخيال من دور فاعل في رسم المعاني التي تعرض من خلال الكناية. وقد برع الشعراء العشاق في عرض تلك المعاني فيكفي امرؤ القيس عن المرأة المعشوقة المترفة ( بنوؤم الضحى) قائلا: وتُضّحي فَتيتُ المسكِ فوقَ فِراشها نوؤمُ الضُّحى لم تنتطِقُ عن تفضُّلِ ثم كنى الشاعر نفسه عن نعومة المرأة التي يعشقها وتاثير الذر فيها في قوله: من القاصراتِ الطَّرفِ لو دبَّ مُحولٌ من الذَّرِّ فوقَ ألاتبِ منها لاثَّــرا فهو يكنى بـ (المحول) الذي يعني الصغير حيث انها بيضاء ويؤثر فيها أي شيء حتى لو كان بمقدار الذر لبياضها ونعومتها ورقة بشرتها. وقال المرقش الاكبر: وفي الحيَّ أبكارٌ سبينَ فــؤادهُ عُلالةَ ما زوَّدنَ، والحبُّ شاعفـي نواعمُ أبكارٌ سرائرٌ بــــدَّنٌ حِسانُ الوجوهِ ليَّناتُ السوالــفِ فان الشاعر قد كنى بلفظة ( البكر) تأكيدا على صفة العذرية فيها وانها حرة كريمة . وكنى المرقش الأصغر عن المرأة المترفة بقوله: في كلّ مُمسى لها مِقطـــرةٌ فيها كِباءٌ مُعدُّ، وحميــــــمْ لا تصطلي النَّارَ بالَّليـــلِ ولا تُوقظُ للزَّادِ، بّلهاءُ نـــــوؤمْ فهو يريد ان يكنى عنها بكونها امرأة شريفة منعمة مكفية وإنها تنام متى شاءت وبعيدة عن الفواحش لأنها لا تعرفها. وقد كنى عنترة عن الحبيبة بالشاة وهي صفة للحيوان ولكنه جعلها للمرأة قائلا: يا شاةَ ما قنصٍ لمن حلَّت لهُ حرمتْ عليَّ وليتها لم تحـرُمِ فان الذي يحصل لهذه الحبيبة يفرح كما يفرح الصياد بحصوله واصياده للشاة اذا فقد عنم. وقد كنى عنترة عن المرأة المصونة الشريفة الكثيرة الحياء انها غضيضة الطرف فقال: دارٌلأنسةِ غضيضِ طرفُهــا طوعِ العناقِ لذيذةِ المتبسِّـمِ فهذه كناية عن عفتها وحيائها وانها عندما تنظر، تنظر بنظرة فاترة كما هي نظرة المريض السقيم. وقال عبد الله بن العجلان: وحقةِ مسكٍ من نساءٍ لبستهــا شبابي وكاسٌ باكرتني شمولها فهو كنى عن المعشوقة بقوله ( حقة مسك) وذلك لطيب رياها ورائحتها كظرف المسك. وان من ضمن موضوعات الكناية هو الرمز وهو من اقسامها وفروعها وصارت دراسة صورته ودلالته الايحائية من المواضيع المهمة التي تهم دارسي البلاغة. ثم ان الشعراء العشاق اتخذوا من الرمز طريقا للتعبير عما يريد حيث ان المبالغة في وصف الحبيب ووصف الوجد والشوق والالم فتأخذ من الرمز خير طريق للتعبير بها من ذلك قول المرقش الاكبر الذي وصف جمال حبيبته بان رمز لها بأحياء تلك الارض كلما مرت منها فقال: أينما كنتِ أو حللتِ بــأرضِ أو بلادِ أحييتِ تلكَ البلادا لاشك في ان هذه الصورة تجمع المبالغة والرمز والايحاء فنرى الارض الميتة قد احيت بعد ان حلت بها حبيبته. وهذا يجعل المعنى ارسخ في الذهن وتأثيره اقوى في النفس. حيث ان فاعلية الصورة تتعاظم كلما تعاظمت قدرتها على تنشيط الاحساسات شريطة ان يكون في مقدورها ان تثير تيارا حركيا في مجالات الخيال وتفجيرا لا اراديا في العاطفة وان الصورة لا تؤدي طاقتها الا اذا احتوت على الفاظ بعينها ذات طاقة حركية جبارة، حيث ان الصورة التي قدمها امرؤ القيس تخفي وراءها تصورا مأساويا للعيش والحياة . وذلك في قوله: ظللتُ ردائي فوقَ رأسي قاعداً أعدُّ الحصى ما تنقضي عبراتي فشاعرنا هاهنا ينبئنا امة في حالة نفسية من القلق والهم والحزن ، وصور لنا حالته ببناء بديل عن عبارات صريحة مباشرة مثل (انا حزين). وذلك لان ((التصوير الرمزي على الرغم من خفائه قريب الى المتلقي لا يتيه في الاغراب ولا ينقطع عن المقصود بكثرة وسائطه واختلال سبله)). وصرح عروة بن حزام معبرا عن المه بالرمز فقال: تحملّتُ من عفراءَ ما ليس لي به ولا للجبالِ الراسياتِ يــدانِ فهو قد ابتكر صورة تعبر عن عظيم عذابه وتمزقه نتيجة حبه لعفراء فهو تحمل من هذا الحب ما لم تتحمله الجبال الراسيات بعظيم قوتها ومقدار ثباتها فما ابرع ما يصور العاشق المعذب. وقد لجأ بعض الشعراء العشاق الى الحيوان ليعبروا من خلالها عن افكارهم وعواطفهم دون البوح بها بصورة مباشرة محاولا عكس ما يشعر به على الحيوان الذي يصفه ويمثله في قصيدته من ذلك قول عنترة: ظعنَ الذينَ فراقهم أتوقَّـعُ وجرى ببينهمُ الغرابُ الأبقعُ فالشاعر يصور حزنه والمه نتيجة رحيل المحبوبة فالحيوانات ترمز الى حالات نفسية يحس بها الشاعر وعبر عروة بن حزام عن المه من خلال الرمز بالغراب فقال: ألا يا غرابي دمنةِ الدارِ بيّننا أبا لصَّرمِ من عفراءَ تنتحبانِ وكأنما خلق الشاعر علاقة بينه وبين هذا الطائر وهي علامة توحي بالالم والفراق فهو رمزا للشؤوم حيث يصور من خلالهم سخطهم من الفراق ومشاعرهم التي تفيض بالغيظ والالم. فبذلك نجد ان هذه الالفاظ قد ارتفعت من مستواها المادي الى مستوى الايحاء والرمز والذي يحوي في طياته معاني الحب والالم والخوف والجزع والامل في الوقت نفسه. وان النصوص التي لا تكشف عن نفسها وعن المقصود منها بسهولة ويسر تكون اكثر فاعلية وتأثيرا في المتلقي من النصوص الواضحة ، فالتأمل والتفكير يمتع المتلقي شريطة الا يستغلق المعنى وتلك سمات البناء والتصويري الناجح. وقد كان الطلل يرمز الى حالات نفسية يشعر بها الشاعر العاشق فهو يحاول من خلاله ان يعبر عن لواعج نفسه فالطلل يرتبط بتجربة الشاعر وما تلك الاجواء النفسية التي يوحي بها الطلل الا تعبير عن تجربة الشاعر العاشق القائمة على التذكر والتشوق والحنين. من ذلك قول عبد الله بن العجلان عندما وقف على طلل من يحب: عاودَ عيني نصبها وغرورها أهمُّ عُراها أم قذاها يَعُورها أم الدارُ أمست قد تعفَّت كأنَّها زبورُ يمانٍ نقشتهُ سطورها فهو رمز الى تلك الطلل بانها سطور كتب محت فأصابه ذلك بالهم والحزن الشديد على خراب الديار وتغيرها. وقال قيس بن الحدادية: سقى اللهُ أطلالاً بنعمٍ ترادفـت بهنَّ النوى حتى حللن المطايـــا فان كانت ألايامْ يا أمَّ مــالكٍ تُسلِّيكم عني وتُرضي الأعـــاديا فلا يأمنن بعدي امرؤ فَجَع لذَّةِ من العيش أو فجعَ الخطوبِ العوافيا فاننا نحس من خلال هذه اللوحة الطللية مقدار حزن الشاعر على ايام مضت فقد وصف مظاهر التبدل والتغير التي حلت بالارض التي عاشت فيها محبوبته (نعم). ومن ذلك نحس ان الصورة التي ارتفعت من مستواها المادي الى مستوى الايحاء اصبحت ذات طاقة تعبيرة اقوى واشد فهي تحوي بين طياتها معاني الثبات والديمومة للحب الصادق الذي شعر به الشاعر العاشق ولا تزال تلك الالفاظ ترمز الى ما في النفس من تعلق بأمل ينير لها طريقها في عتمت الفراق. المصادر 1 . الحيوان ، للجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون: 3/131. 2 . اتجاهات النقد الادبي في القرن الخامس الهجري، منصور عبد الرحمن: 368. 3 . الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، جابر عصفور: 18-19. 4 . الصورة الفنية معيارا نقديا، عبد الاله الصائغ : 159. 5 . قضايا النقد الادبي بين القديم والحديث ، محمد زكي العشماوي : 108. 6 . الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية : 188. 7 . الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية: 238. 8 . الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء ، المرزباني: 243. 9 . طبقات فحول الشعراء: 1/255، وانظر الشعر والشعراء: 1/68. 10 انتاج الدلالة الادبية، صلاح فضل: 231. 11 . رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون: 2/116. 12 . اسرار البلاغة ، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق احمد مصطفى المراغر بك: 49-50. 13 . علم البيان دراسة تحليلية لمسائل البيان ، بسيوني عبد الفتاح: 231. 14 . الايضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني: 183. 15 . الصورة الفنية في البيان العربي: 328. 16 . علم البيان دراسة تحليلية لمسائل البيان: 68.
#سعد_سوسه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التشكيل الفني في خطابات الشعراء العشاق ج . 2
-
التشكيل الفني في خطابات الشعراء العشاق
-
بكاء الاطلال ج – 2
-
بكاء الأطلال
-
الألم والتحسر في الشعر الجاهلي ج . 2
-
الألم والتحسر في الشعر الجاهلي ج .1
-
الأمل والتفاؤل في الشعر الجاهلي
-
الإقدام والتحدي في شعر الحب الجاهلي
-
ق .قصيرة
-
حكمت سليمان مديرا ً للمعارف
-
انضمام حكمت سليمان إلى جماعة الأهالي ج 2
-
انضمام حكمت سليمان إلى جماعة الأهالي ج 1
-
بواكير الفكر السياسي لحكمت سليمان
-
المرحلة المبكرة من حياة حكمت سليمان وبعض ملامح شخصيته وثقافت
...
-
المرحلة المبكرة من حياة حكمت سليمان
-
المؤثرات الفكرية في شخصية حكمت سليمان
-
دراسة حكمت سليمان وخدمته العسكرية . 1
-
نشاة حكمت سليمان
-
البحث عن الذات
-
رحيل ؟
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|