أحمد عمر النائلي
الحوار المتمدن-العدد: 6615 - 2020 / 7 / 11 - 02:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
خبرتك الحياتية وتوجهاتك الأيدلوجية قد تكون في أغلب الأحيان طريقتك المثلى والوحيدة لتفسير ما يحيط بك من ظواهر ,فهي قد تبدو تحصيلاً حاصلاً لا يمكن تجاوزه ,رغم أنّها حالة إكراه منك لواقع مختلف , فلا يمكنك وكما يرى توماس كون في أطروحة البردايم The paradigm الخروج من صندوق أفكارك بسهولة , وهذا يذكرني في ذات الوقت بما قاله الدكتور نصر حامد أبوزيد في كتابه " نقد الخطاب الديني " عن رؤية الرأسماليين والشيوعيين للإسلام , حيث رأي الرأسماليون الإسلام رأسمالياً والشيوعيون شيوعياً , فالمقدمات الأيدلوجية قيدٌ محكم لا يمكن تجاوزه بسهولة ,وهي تعبر عن حالة الرفض لقبول عدم وجود التفسير , فنحن مضطرون عقلياً ونفسياً لتبني إدراك وتفسير ما يحيط بنا من ظواهر , ومن ثمّ القبول بقالب أيدلوجي شامل يُكره الواقع مؤقتاً , في انتظار استبداله بقالب أيدلوجي آخر , فكل الأفكار والنظريات العلمية يبدو أنها تخضع لمبدأ القابلية للتكذيب Falsifiability كما طرحه الفيلسوف كارل بوبر, فزوالها المحتم في المستقبل يجعل قابليتها للتكذيب أقرب للتصديق .
ربما قد تنطبق هذا المقدمة على الفيلسوف وعالم الاجتماع والنفس السلوفيني سلافوي جيجك Slavoj Zizek , والذي يَعده البعضُ من أهم وأشهر الفلاسفة الأوربيين الحاليين ومن أفضل مائة مفكر في العالم وفق رأي مجلة الفورين بولسي Foreign Policyعام 2012, و صاحب التوجه الشيوعي اليساري المائل إلى المزواجة بين مثالية هيجل ومنهج التحليل النفسي لجاك لاكان , والذي يكِن عداءً للرأسمالية باعتبارها حالة استغلالية تقف ضد الإنسان في سبيل الربح رغم ما أصابها من إصلاحات صنعها الكفاح العمالي والأزمات الاقتصادية .
هوصاحب أول إصدار عالمي فكري حول تبعات أزمة كورونا , والمكون من مائة وعشرين صفحة , والذي أصدره قبل نهاية المائة يوم الأولى لشيوع هذه الجائحة , وتحديداً في الرابع والعشرين من شهر مارس الماضي , متضمناً مجموعة مقالات تتفق مع توجهه الأيدلوجي و الموسوم بعنوان : جائحة كورونا تهز العالم (Pandemic : COVID-19 Shakes the World ) , والذي أشار فيه إلى الكثير من الآراء التي أحدثتها هذه الجائحة ,والتي تتفق مع توجهه اليساري , والتي من أهمها ومن وجهة نظري أن العالم بعد فيروس كورونا ليس هو العالم قبله ,فلقد خلقت هذه الجائحة عدواً مشتركاً للبشرية , يمارس القتل يومياً دون أن تكون لدينا نحن البشر قدرة على مواجهته ,ويشبه العدو الفضائي الذي يأتي من خارج الأرض ويبتغي قتل سكانها , وهو ما يجعلهم متنازلين عن بعض حقوقهم وامتيازاتهم في سبيل القضاء عليه . لقد جعلت جائحة كورونا العالم مضطراً إلى أن يكون متظافراً لمواجهة هذا الفيروس , فلا سبيل لذلك إلّا بهذا النهج ,من خلال العمل الجماعي والذي اتضحت فيه طريقة إدارة الصين للازمة وفي تكليف الحكومة الأمريكية للشركات الأمريكية الخاصة بصناعة أجهزة التنفس الصناعي , وفي دفع رواتب العمال وهم نائمون في بيوتهم ,وفي مساعدة الدول لبعضها , و توحيد الجهود الدولية في سبيل الوصول إلى لقاح يقي شر هذا المرض , لأن القضاء على المرض في المجتمع الغربي المتقدم وبقاءه في الدول المتخلفة لا يعني توقف متوالية الموت في المجتمعات المتقدمة . الشيوعية العالمية : وفي هذا الإطار طرح سلافوي جيجك فكرة ظهور الشيوعية العالمية وبشكلها الجديد كبديل للرأسمالية العالمية والتي تمر بأزمة وفق قوله , فهي ضرورة تفرضها متطلبات البقاء وتقوم على مبدأ التعاون والتضامن بين سكان المعمورة لوجود خطر ومصلحة عامة عالمية للجميع , دون أن يكون هناك احتكار لطرف ضد الأخر , بل توحيد جهود الجميع لمواجهة هذا الخطر ,حتى يشيع ويفيض السلام بين الجميع لوجود خطر وجودي يهددهم , وهي ليست الشيوعية السابقة بالمفهوم التقليدي , ولكنها حالة جديدة تزيد عوامل الثقة في الناس والعلم , وتزيد من دور تدخل الدولة , بل وقد تؤدي إلى تخليها عن بعض آليات السوق , فهذه الجائحة خلقت حالة حرب إنسانية طبية ضد الفيروس , ربما ستؤدي إلى نشوء شبكة تضامن صحية عالمية , فلقد كشفت الكثير من عيوب النظم الرأسمالية في مواجهة مثل هذه الأخطار , مثل الفوضى التي حدثت في ايطاليا والتي زادت من حالات العدوى ومن ثمّ الموت , وفي الجهة الأخرى استطاعت الصين أن تفرض التباعد الإجباري ضد مواطنيها , دون أن تكون هناك نداءات شعبية تعتبر ذلك اعتداءً على حريات الناس لوجود حالة الذعر من الموت لديهم والتي تبرر كل شئ , فالتباعد مصلحة فردية ذاتية للنجاة من الموت , مما جعل الصين تتعافى بشكل سريع في ظل الضخامة والكثافة السكانية مقارنة بالدولة الامبريالية الرأسمالية الوحيدة في العالم "أمريكا" وصاحبة الاقتصاد الأول عالمياً ,حيث الديمقراطية جعلت الناس يتظاهرون ضد الحبس الاجتماعي , فشهدت أعلى حالة من الوفيات وخاصة بعد فترات لاحقة من صدور هذا الكتاب , رغم أن سلافوي جيجك أشار إلى أن عدم وجود الديمقراطية في الصين أخفى الإعلان عن وجود المرض لفترة طويلة مما فاقم من تأثيره , ولكن مع ذلك استطاعت الصين أن تبرز كقوة بارزة تجيد الإدارة العامة للازمة , وفي هذا الصدد لا ننسى ما قاله حاكم ولاية نيويورك الأمريكية من أن كل شئ تحتاجه أمريكا في أزمة كورونا هو من صنع الصين ,فماذا تصنع أعظم إمبراطورية حالياً , وهل هذه النتائج هي مؤشرات لبداية الأفول الأمريكي ؟ .
إن هذا الطرح وفق رؤية سلافوي جيجك ليس مؤقتاً ينتهي بانتهاء جائحة كورونا بل هو دائم , لأن الأزمات الكونية لن تنتهي , فهناك أزمة المناخ والتي ستبرز و ستؤدي إلى أضراراٍ بشرية كبيرة تستدعي التضامن العالمي , فنحن أمام شيوعية جديدة تصنعها الأزمات الدولية ستحد من الدولة القومية وستفضل مصلحة البشر على الرخاء الاقتصادي , وستزيد من قيود توحيد الجهود العامة والخاصة وتزيد من اهتمامها للعلم باعتباره طوق النجاة من هذه الكوارث, فعندما تقوم حكومة بريطانية محافظة بتأميم السكك الحديدية بشكل فعال ، ستذوب الأرثوذكسية القديمة في الهواء كما يقول سلافوي , ولكن الأجمل أن هذه الشيوعية العالمية لا تعتمد على أنماط اليسار التقليدية حتى لا تُضطر إلى تبرير فشلها السابق , فهي من جانب انبثاق جدلي ديالكتيكي جديد يختلف عن الشيوعية القديمة والرأسمالية , ومن جانب أخر هي طرح يحمل رائحة اليسار القديم لأن المتون لم تتغير .
سلافوي جيجك هو الفيلسوف الشعبي الهزلي والناقد والكاتب السينمائي و صاحب النكات والدعابات السياسية (والتي جُمعت مؤخراً في أحد الكتب) الموجهة لفضح الدولة الرسمية البرجوازية المحصنة بالقوانين وتبرير ادعاء الحرية , لتكون أداة لتبيان هلامية المجتمع الرأسمالي , والساعي إلى إدراك الظاهرة الإنسانية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً باعتبارها منظومة هيكلية واحدة , هو الفاعلية الفكرية التي لا تكتفي بالفكر بل تعمل على توطينه في الواقع وتؤمن بالديمقراطية البعيدة عن سطوة الرأسمالية , والتي شبّه مجتمعاتها في أحد نكاته أنه يوجد بها كل شئ ماعد الحبر الأحمر كناية عن عدم وجود شئ ,رغم أن الظاهر العام يوحي بذلك . يرى سلافوي جيجك أن الربيع العربي قد فشل في بناء مجتمعات ديمقراطية نظراً لاختطافه من قبل المتطرفين الدينيين بالإضافة إلى الدخول في نهج التسويات السياسية بين مراكز القوى , كما أشار إلى بؤس الاتجاه الشعبوي القومي وتأثيره على العدالة في المجتمع رغم أنه أيّد دونالد ترامب في انتخابات عام 2016.
الخلاصة : ...... رغم أن سلافوي رجل أكاديمي في المجال الفلسفي والاجتماعي والنفسي والثقافي, وله أكثر من أطروحة وكتاب : أي أنه مُطّلع على التجربة الفكرية والسياسية للبشرية ولا ينطلق إلّا من خلال مقدمات مبررة , فهو رجل أيدلوجي فلسفي لايكتفي بإنتاج الكتب والمقالات بل يمارس الحضور الدائم في وسائل الإعلام والميادين المناهضة للرأسمالية بفاعلية وجسارة ,إلّا أنه ومن وجهة نظري المتواضعة تسرّع كثيراً في طرح هذه المصادرة والتي تبدو وكأنها نتاج قانون تاريخي يُنتج إضطراداً للظاهرة , فلماذا كتب هذه الأطروحة قبل المائة يوم الأولى من أزمة كورونا ,فهل استضاءت له هذه البارقة بكل وضوح منذ البداية ومن أول اختبار , أم هي شرارة فكرية تشبه البزوغ الحدسي القاهر و المُقنع والنابع من دليل ذاتي , أليست هذه الجائحة هي حالة استثنائية لا تصلح للتعميم ولن تتكرر دائماً بالتالي لاتخضع للاستقراء الناقص ؟ فهي تبدو الاختبار الأول لازمة المناخ القادمة والتي بدأت شرارتها تلوح في الأفق .
هل أساليب التعاون الدولي الحالية تعكس النتيجة التي توصّل لها سلافوي؟ , فكم هو حجم المساعدات الدولية المعلنة و التنازلات المغرية التي تمّ تقديمها من قبل الدول الغنية لصالح الدول الفقيرة والتي ستهتدي بنا إلى هذه النتيجة التي تم الوصول إليها , وهل ستتنازل الرأسمالية العالمية المتوحشة عن كل امتيازاتها في سبيل الشيوعية العالمية ,فلقد تعلمنا أن الرأسمالية تتلاءم مع كل مشكل جديد ولكن لا يعني ذلك انتفاءها البتة وهذا ما سيحدث مع الوضع الحالي , وهل الشيفونية الوطنية والتي تبدو أنها حالة غرائزية بامتياز ستقبل بالشيفونية الإنسانية , لقد رأينا إيقافاً للدعم المالي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لمنظمة الصحة العالمية وإقفالا للحدود وانطلاقاً لحرب التصريحات ضد الصين , إلى درجة أن الرئيس دونالد ترامب استخدم مرادف الفيروس الصيني بديلاً عن فيروس كوفيد19 ,وهذا يؤكد أن جائحة كورونا لم توقف الحرب الباردة بينهما بل تمّ استثمارها من قبل أمريكا عند انطلاق الجائحة ,
ربما يتحدث سلافوي عن أمنياته ورغباته الشيوعية القديمة القابعة في اللاوعي ,أو أنه يبحث عن إصدار جديد مُعدل ومُطور عن الماركسية القديمة المرتبطة برأسمالية الحزب الواحد وظروف المجتمع الصناعي وسيطرة طبقة العمال, إلى شيوعية تحترم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وتتوافق مع تطلعات المجتمعات الإنسانية باعتبارها قيم مطلقة تُنهي استغلال الأقوياء الذين يقعون تحت وطأة تأثير الرغبة الجامحة في الربح ويصممون على بناء مجتمع دولي يتفق مع هذا النهج , , إنّ سلافوي يعترف أن اليسار يناضل منذ زمن ليس باليسير ضد الرأسمالية دون وجود طرح فكري جديد بديلاً لها , والتي تُعد أفضل الممكن وفق رؤية فوكوياما البالية والتي تتعارض مع تاريخ تطور الأفكار .
إن استمرار غريزة الاستحواذ والقتل عبر التاريخ وعدم قبول الأخر والتي نراها في المعمورة كسلوك تمارسه المجتمعات المتقدمة قبل المتخلفة منذ القدم , يؤكد أنها سلوك يتوازى مع وجود الإنسان ولن ينتهي مع تقدمه , فهي تخضع لقانون التطور الدائري وليس الطولي ,وهذا بالطبع سيمنع أي استدامة لفكرة الشيوعية العالمية إلّا وقت الأزمات العالمية الخانقة التي لا تدوم بالطبع , فحالة الاستغراق في الذاتية وتفضيلها عن الأخر وتقاطع المصالح سيكون واضحاً لدى البشر في أعتى الأزمات , والغريب في الأمر أنه ورغم الازدياد والتطور المذهل لوسائل الاتصال إلا أن العلاقة مع الآخر ليست في تطور نحو الأفضل , فمازال الشعور العنصري متعمق في الذهنية البشرية , بل صارت وسائل الإعلام عارضاً لما هو موجود وليست فاعلاً في تغييره , فمعرفة الأخر ليست كفيلة بتقبله , فسيظل الأخر ليس نحن ,فهو المختلف الذي قد يتحول إلى النقيض الذي لا يمكن أن نتفق معه , وهنا لا ننكر قدرة وسائل الاتصال كافة على خلق صورة ذهنية ايجابية عن الأخر بالتالي إمكانية تقبله بسهولة ولكن ذلك هو اليسير .
#أحمد_عمر_النائلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟