أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدلي عبدالفتاح شبيطه - الحلقه المفقوده















المزيد.....


الحلقه المفقوده


عدلي عبدالفتاح شبيطه

الحوار المتمدن-العدد: 6615 - 2020 / 7 / 10 - 21:27
المحور: الادب والفن
    


Get Outlook for Android
From: adli shbeta
Sent: Thursday, February 19, 2015 6:52:45 PM
To: Adlishbeta Shbeta
Subject:
 


נשלח מהiPhone שליالحلقة المفقودة
 

- بقلم: عدلي شبيطة

 

جلس يوسف مع المغيب على شفير البئر الموجودة في صحن داره.جلس يتأمل شارد الذهن صامتا. تسلل الحبل من بين يديه ببطء شديديتدلى الى قاع البئر وقبضته على الحبل تشتد وترتخي بحركة لاارادية. حاول وهو جالس جاهدا اعادة تنظيم افكاره المشتتة دونجدوى. تفشى الدفء الى جسده من راحتيه جراء احتكاكهما بالحبل، فأحس ببعض الطمأنينة وراحة النفس. غمره ذاك الشعور الذي كانيعتريه وهو جالس فيحضن جدته فاطمة رحمها الله، تفرك له يديه فيايام البرد القارس، وهي تبرم حبل الصوف بخفة ومهارة ويتدلىبانسياب من بين راحتيها. وقع نظره على حزمة الحبال المعلقة علىالحائط، فارتجف جسمه وارتجفت يداه كأنه لم يفرق بين خشونةراحتي يدي جدته فاطمة وخشونة الحبل، أو بين ربطة الحبال المعلقةعلى الحائط وعقال المرحوم جده عبد الحميد.

وعندما بانت صورتها بخاطره وتراءت أمام عينيه جالسة وسط الغرفةوفي يدها المنوال، تنفش الصوف وتغزله خيوطا كالحبال وجديلتاهاتنحدران الى اسفل خصرها ينافسان بطولهما أيامها، تلألأت ببريقعينيها الدموع وهي تغني بصوت حنون شجي ينم عن وجع عميق:

"من سجن عكا طلعت جنازة.."

تزاحمت الافكار في رأسه كعادتها، وتراءت في مخيلته صور ووقائعمن طفولته، معظمها غير واضحة المعالم، بل مبهمة.

إلا القليل مما بقي عالقا في ذهنه منذ طفولته المبكرة من حركاتواقوال جدته فاطمة وجده عبد الحميد، وفقط في مرحلة متأخرة منعمره أدرك بعضا من واقعهما. لقد علم أن أحد المناضلين الثلاثةالذين اعدموا على يد الاستعمار الانجليزي في مدينة عكا هو اخوها.

كانت المرحومة تحكي له بحسرة قصصا شيقة عن مدينة عكا، مسقطرأسها. عن بحرها وشوارعها، عن دكاكينها وروائح اسواقها، عنمساجدها، كنائسها، وحتى كنيسها. عن اسوارها، أهلها، ناسهاوصياديها، وهي تردد قولها وقلبها يعتصر ألما:

"لو عكا تخاف من هدير البحر.."

بات يوسف يحلم بعكا وهمه الاكبر زيارتها لرؤية البحر أولا، فهو لم يرالبحر في حياته، كما اﻷماكن التي رسمها في مخيلته، وعلى حائطالبيت المطل على ساحه الدار، اذ رسم خارطة عكا بمعالمها المختلفة،من شارع السوق إلى حمام الباشا فخان العمدان وخان الشواردةوفي زاويته الجنوبية برج السلطان وجامع الجزار والسرايا القديم..الاسوار والبحر..

رسمها بألوانها المختلفة، حسب ما وصفته له الجدة فاطمة تماما.

ما عدا زرقه البحر..!

 

منذ تفتح وعيه على الدنيا واللون الأزرق يثير اشمئزازه، كما حفيظته.كان يمقت ملابسه المدرسية بلونها الأزرق وقلبه ينقبض لمشهد ساحةالمدرسة الغارقة، فيبحر من الزرقة كل صباح.

أحب يوسف جدته فاطمة وجده عبد الحميد ويشتاق إليهما، وكثيرا مايفتقدهما، يتأوه حين يحدث نفسه:

"اه لو تعلمان كم أنا مشتاق إليكما. "

تحرقه الفرقة وحبه لهما لا يخلو من بعض العتب..

كانت رغبته جامحة، رغم صغر سنه ان يقتحم جدار عيني جدته ليدخلأعماق تفكيرها، عله يعلم، ما أحزنها وأشغل بالها، و "أشعل غليلها"ليشيل عنها ولو القليل مما تحمله.

ترجل هاشم الراعي عن ظهر حماره وشبابته تحت حزامه. قطع هاشمحبل أفكار يوسف عندما فاجأه بفتح بوابة الدار يجر حماره بالحبلوخلفه الماشية تتزاحم مسرعة الى زريبتها. رمقه يوسف بنظرة خاطفةحائرة لا تخلو من الشفقة. ابتسم ابتسامته العريضة المألوفة لرؤيةهاشم وشبابته تحت حزامه.

ضحك يوسف..

نشل الماء وأنزله في القناة المؤدية إلى مشارب الماشية والعتمة تنزلفوق رؤوسها.

 

ضحك يوسف

وهز رأسه بأسف!

أضحكه منظر الراعي هاشم وشبابته. رغم أنه لا يجيد العزف لكنها لاتفارقه أبدا! فإما يطلق صفيره في الهواء ويحسبه عزفا، وإما يتأتئمغنيا:

"يا زرررييف ال ال طووول"

يرددها لازمة دون انقطاع.

أخذ يوسف يدور حول ساحة الدار وأفكاره معه تدور في ذهنه حولواقعه. توقف أولا، كعادته، عند فرس المرحوم جده عبد الحميد يحدثها،وقد يطول، أحيانا بينهما الحديث، بطول علاقتيهما، وهو يربت عليهاويطعمها بيده. كلاهما يفتقدانه ويشتاقان إليه كثيرا، كل بطريقته،وربما اعتقد أحدهم أن يجد "حلقته المفقودة" لدى الآخر...

أكثر ما حيره، أمر هذه الفرس الأصيلة. لم يفارقها حزنها على فراقفارسها منذ ما ينوف عن سبعة عشرة عاما. منذ صباح ذلك اليومالمشؤوم الذي قتل فيه جده عبد الحميد، تخرج كل صباح وهي تشقطريقها بين أزقه البلدة إلى المقبرة. تقف على قبره حتى الغروب.

لم تسرج من بعده لأحد. وقد أبت ان يمتطيها أحد من بعده.

وقف يوسف ويده اليسرى على الفرس والأخرى على جبينه، رفع رأسهالى السماء يعتصر ذاكرته..

يستقطرها..

يجول بنظره في عتمة أول الليل وقد بدأ يغرق المكان بالسكون، وهويدور في حلقه مفرغة يبحث في عتمة الليل عن "الحلقة المفقودة."

فجأة سمع يوسف صوت غناء يأتي من بعيد، يخرج من سكنة الليل:

من سجن عكا طلعت جنازة..

 

حن يوسف لحنين هذا الصوت، طرب له واستهواه. لكنه ذهل، خفق قلبهفي خوف. أخذ يتمتم مغنيا والصوت يتردد في ذهنه والحبال تتراءى لهفي مخيلته تتدلى منها ثلاث جثث معلقة.

حبال، حبال، حبال، في كل مكان حبال..

بين يدي جدته حبال.

جديلتاها حبال،

عقال المرحوم جده حبال،

وفي البئر حبال،

أعنة الدواب حبال،

مرابطها حبال،

حول الزريبة حبال،

وجد يوسف نفسه محاصر بالحبال...

وقع نظره على ربطة الحبال المعلقة على الحائط فأرتجف ثانية. كلماوقع نظره عليها ارتجف جسمه. إحتار يوسف بأمرها، لا بد من أمر فيذلك. كيف يفسر انفعاله لرؤيتها؟! أخذ يتساءل مع نفسه حائرا..

اشعلت ام يوسف الفانوس داخل البيت. تسرب النور عبر النافذة إلىالساحة.

تململت المواشي في مكانها تهمهم.

انفعل يوسف بشدة وهو يركز نظره في النور المشع من الطاقة كأنهاقاع بئر توهجت بأشعة الشمس مياهه. أخذ يطل من فوهته يستأنسبرؤية صور وجهه وجده البشوش منعكسين في الماء. فهو عادة مايقف في منتصف النهار عندما تلقي الشمس أشعتها متسللة عبرفوهة البئر الى قعره وامتزاجها بمياهه ليستذكر المشهد.

بينما هو واقف متكئ يحضن الفرس غارقا في افكاره متأملا، دخلالدار اخوه عبد الحميد (يحمل اسم جده) عابرا الحوش مسرعا.

مر الأخ بأخيه دون أن يلتفت إليه أو يعيره اي اهتمام. بينما لاحقهيوسف بنظرات ثاقبة ملؤها الدهشة والاستغراب. تغيرت ملامح وجهيوسف لرؤيه أخيه عبد الحميد الملتحي، وأحس كأن شوكة وخزته فيقلبه، وكأن حياته لا تخلو من المصائب، وهو الذي شال هموم عائلتهعلى كاهله منذ نعومة اظافره.

انزعج يوسف.

انزعج يوسف بالروح واضطرب. قال لنفسه:

"لا فرق بينه وبين شبابة الراعي هاشم."  

انزعج ليس لرؤية اخيه عبد الحميد فحسب، بل لأنها المرة الأولى فيهذا الموقف ومنذ سبعة عشرة عاما يقترب هاجسه من ازاحة الغبار عنذاكرته التي أصابها النسيان وهو يبحث عن "الحلقة المفقودة".

قبل بضع سنوات خلت أعلن عبد الحميد تدينه. أرخى لحيته وحفشاربه، ارتدى عباءته، حلق شعره ووضع الطاقية على رأسه واتخذالصمت المبهم وسيلة، فهو الحاضر الغائب.

لا أحد يعلم عنه شيء. يأتي ويخرج من البيت دون أن يكلم احدا. قديغيب أسبوعا أو أكثر. منظره تغير، انتفخ جسمه، تدلى عرفه وبرزرديفه (مؤخرته) وبانت نقشة سوداء كالبصمة على جبينة. حتى قالوا:

سيماهم في وجوههم..!

كفّر من دونه. حتى والديه الذين هم من أورع الناس وأتقاهم وأدينهم.وهم أكثر الناس حزنا عليه، تساءلوا وساءلوا، فقيل لهم، هذا سلفي أوجهادي وقد يكون تكفيريا أو إخونجنيا وربما وهابيا..

قال أبو يوسف لزوجته مستغربا: "يا زريفة، أنا اليوم ابن خمسوسبعين سنة، قضينا العمر نصلي ونصوم والحمد لله حججنا ومحبةالله في قلوبنا. هيك كانوا آبائي وأجدادي. جدي الشيخ عبد الحفيظرحمه الله ازهري ومن أشهر مشايخ البلاد. ما عمري سمعت هيكمسميات."

هزت أم يوسف رأسها بأسف وخيبة امل وقد بدا الاحباط واضحا علىوجهها وقالت بصوت ضعيف مرهق ويداها ترتجفان "الله يهديالشباب ويعيد لهم صوابهم. أنا يا أبا يوسف أكثر ما يحيرني هذهالبصمات التي على وجوههم.."

ثم  تساءلت: لماذا لم نر مثل هذه البصمات على جباه آبائنا وأجدادناولا على جباه من خلفهم من مصلين ورعين ورجال دين اتقياء؟!"

تنحنح ابو يوسف، بلع ريقه، حبس دمعته والكلمات وجدت طريقهاصعبة حين قال: لا حول ولا قوة الا بالله..

ثم تذكر ما قاله له الشيخ خليل عندما زاره في صومعته وهو يبحث عنأجوبة لأسئلة كثيرة أثقلت رأسه عن حال ابنه عبد الحميد: "ما كل دامجبينه عابد" (للمتنبي).

مرت الأيام مسرعة والليالي طالت مكحلة ويوسف يحلم برؤية الفلاحاتفي سوق عكا وعلى رؤوسهن سلال القش محملة بالتين والصبروالعنب وغيرها من فواكه وخضروات الموسم، وأقفاص الطيور.

رقص قلبه ولأول مرة أحس يوسف بالفرح منذ وفاة جده عبد الحميدوجدته فاطمة. عاد الى البيت مسرعا وهو يردد:

"لو عكا تخاف من هدير البحر"..  

وقف أمام الخارطة التي رسمها على الحائط ليعيد رسمها في مخيلتهمن جديد، وقال لنفسه: إن غداً لناظره قريب.

سيتحقق الحلم!

فبحكم صداقته مع مدير المدرسة، سمح له الأخير بالانضمام الى رحلةطلاب المدرسة في صباح اليوم التالي. اذ حصلت المدرسة، الوحيدةفي القرية، على تصريح من الحاكم العسكري لزيارة مدينة عكا.

وصلت بهم الحافلة بعد طول انتظار وعناء طويل على حواجز الجيشإلى موقف السيارات الواقع في مدخل المدينة القديمة. هرول يوسفمسرعا نحو مدخل السوق الشمالي دون ان يأبه لأحد.

دخل يوسف السوق يحمل أفكاره، ومعه سنون طفولته، جالس فيحضن الجدة فاطمة يقبض على جديلتيها كاﻷرجوحة، وهي تحدثه عنعكا ومعالمها.

أخذ يوسف يرى الاشياء بعيونها. خال نفسه طفلا يتبعها في السوقتمشي على مهلها قابضة على يده.

عبق التاريخ به فأخذ يخاطب جدته بصوت قوي هرج:

عبرت الحدود والموانع،

طفت في اﻷزقة والشوارع،

دخلت الجوامع والكنائس والصوامع

أغرق في زمن ضائع.

هل يا ترى الى المكان الذي

لم اتركه يوما

أنا راجع؟!

اذكر يوم كنت معي

قبل ألاف السنين

من هنا مررنا،

وهنا وقفنا

وهنا تعانقنا،

قبل كل الغزاة والأنبياء والمبشرين.

الذين مروا من حيث مررنا

صلوا صلواتنا واكلوا من اكلنا،

تينا، زيتونا، عنبا وصبرا،

هم بقوا، ورحلنا.

انت هناك وانا هنا،

اتذكرين يوم كنا نتمشى سويا؟

انا الان وحيد بين اﻷبنية العتيقة،

حجارتها تشكو الزمان حزينة،

تحاصرني الحجارة واﻷسوار

تحاصرني اﻷمواج والمواجع

تحاصرني الذكريات

والحبال

ورائحة المدينة.

ولكنني حتما سأعود

الى المكان الذي

لم اتركه يوما دقيقة..

 

في السوق توقف طويلا عند أبو محمد الخضرجي وعند ابو سليم بائعاﻷقمشة وأبو خالد زوج بنت خالتها عديلة، وابو مهدي في عريشةالبطيخ.. إنه يعرفهم وقد حدثته عنهم كثيرا.

ثم تذكر جارهم ابو ذياب الذي نعتته "بالخنزير" ولن تنسى كيفضربها ووبخها وهي طفلة، أخذ "حبة الملبس" من يدها وطردها باكية.

وقف يوسف يقرأ اللافتات فوق أبواب المحلات. ها هي ملحمة أبو جابرصديق والدها، وقد أطالت الحديث عنه ايضا. تقدم ببطء نحوها، وقفباب الملحمة سارح الذهن شارد اللب يتأمل "ذبيحة" معلقة بالحبال،رأسها الى أسفل. ارتجف جسمه، انتابه الذعر وارتعد لمنظر الذبيحةالمتدلية من الحبل، كأنه استفاق من حلم مرعب طويل، وسرعان ماأخذت علامات الصدمة تظهر على ملامح وجهه النحيل شيئا فشيئاحتى بدا متوترا.

أوردت وجنتاه خجلا من جدته فاطمة، لأنه اعتقد، ولو للحظة، وهو يقلبيديه وشفته السفلى أنها لم تقل له الحقيقة كاملة عن واقع المدينة.  

وقف يوسف وسط السوق يعتريه القلق ويعتريه التيه وتعتريه الحيرة.

وقد اصطدم حلمه بواقع المدينة، بدا السوق خاليا من الزحمةوالمباني الحجرية مهملة آيلة للسقوط. الشوارع غير نظيفة تنبعث منهارائحة منتنة كريهة والبؤس ظاهر في الوجوه العابسة.

احتار يوسف بأمره، أيهما يصدق، ما تراه عيونه أم عيون جدتهفاطمة؟؟

أخذ يجول بنظره ويحدق بمن يمر حوله. أمعن النظر برجل دينمسيحي لابسا عباءته وزنر وسطه بحبل تدلى طرفه على خاصرته، وآخر يهودي سقط سالفاه كالحبال من تحت قبعته وآخر مسلم ارتدىدشداشته، رافع هامته، وقد عنقر عقاله. شراشيب عقاله تدلت كالحبالعلى ظهره.

هز يوسف رأسه وهو صامت يفكر بأخيه عبد الحميد وقال لنفسه:

"أرجوحة افكارنا لا تأخذنا ﻷبعد من طول حبالهم"

واستطرد قائلا:

"هذا بناقوس يدق وذاك بمئذنة يصيح وآخر بمزماره كالديك الفصيح..معذرة أبا العلاء المعري، في المعرة نبشوا قبرك وفي عكا نستبيحشعرك"

وأخذ يشق طريقه مسرعا إلى شاطئ البحر، التحق بمجموعتهوصعد معهم على ظهر السفينة في جولة بحرية قصيرة.

وقفت الشمس حارقة في وسط السماء متلكئة عن المغيب، ويوسفواقف خاشع لصوت الآذان يتأمل المباني المقببة واﻷسوار والمآذنوالمنارة واﻷبراج، فبدت المدينة من الخارج حالمة جميلة، والجو يبعثفي النفوس الراحة والطمأنينة حتى.. حتى أخذ ربان السفينة بشدالحبال التي تربط السفينة بالمرسى.

تحركت السفينة شاقة عباب البحر إلى الأعماق.

من هنا، بدأت رحلة المتاعب.. ما أن وقع نظره على الحبال تجرد كفييدي ربان السفينة حتى اخذت تتراءى نصب عينيه حبال تتدلى في كلمكان.

 

"تبا لهذه الحبال.. تلاحقني الى كل مكان"

قالها غاضبا ونظره يرنو في الأفق البعيد يحدق بزرقة السماء، تعانقزرقة البحر، وقد راقصت الأمواج خيوط الشمس.

في طريقها، مرت السفينة بقارب صيد على متنه اربعة صيادينبفليناتهم الحمراء يشدون بحبالهم الشباك، ينشلونها من اﻷعماق. أخذالمشهد في مخيلته بعدا آخرا، اجتمعت فيه عوامل لها في نفسه أثرعميق:

الحبال، الماء واللونان اﻷحمر واﻷزرق.

لكن المشهد بالنسبة له بدا ناقصا غير مكتمل فأخذ جاهدا يبحث فيدهاليز ذاكرته عن حلقة ضائعة مفقودة. بينما هو غارق في افكاره،متعمق في تأملاته وعيناه محدقتان بمن على المركب بفليناتهم الحمراءوالحبال بأيديهم كأشطان بئر ينشلون بها الشباك المنصوبة فيأعماق البحر، أخذت تظهر وتطفو في الماء بقعة زرقاء تتفشى وتكبرعلى السطح وتنتشر بكل اتجاه، تزيد من الزرقة إزرقاقا.

ارتاب يوسف لرؤيه الزرقة تموج متفشية في البحر والجو. اختلطتبداخله الحواس والمشاعر، وانتابته نوبة من الهيجان والفزع، شيئافشيئا اخذ يفقد سيطرته على نفسه وهو يتحرك بعصبيه على سطحالسفينة ذهابا وإيابا مما أثار انتباه واستغراب كل من تواجد معهعلى السطح. وإذا به يركز ناظريه على الصيادين بفليناتهم الحمراء،يحدق بهم ويشير بيده نحوهم.

وفجأة!

فجأة، أخذ يصيح بأعلى صوته: "لصوص، لصوص، حرامية، قتلة،مجرمون.. أمسكوهم!!"

لكن الصدمة جاءت صاعقة للجميع، حين تسلق يوسف الدربزين ملقيابنفسه في الماء وهو ما زال يصيح: لصوص، لصوص، لصوص، لصو..

ذعر الجميع، تعالت صيحات الاستغاثة وهو يرقص في زرقة الماءكطير يرقص في دمه، ثم أخذ يهوي رافعا يديه إلى أعلى وهو يختفيعن اﻷنظار.

غرق يوسف واختفى.. كيف لا وهو لا يجيد السباحة ولم يلج يوماالبحر أو حتى بركة ماء؟

ألقى أحد الملاحين بعجلة إنقاذ وغطس في البحر لإنقاذه، وقد لحق بهأحد الصيارين اﻷربعة ايضا. 

كتم الجميع أنفاسهم، وأخذ الصمت يخيم على المكان، وبان الوجوموالصدمة على الوجوه الحائرة وساد التوتر في الجو..

صمت، ترقب، خوف، قلق ورعب.

توقفت عقارب الساعة عن الدوران ولحظات الترقب والانتظار مرت ثقيلةعلى الجميع.

شخصت أنظارهم تحدق في الماء ترقبا والبقعة الزرقاء تموج أمامعيونهم وتنتشر في الماء. بعضهم تساءل عن مصدر هذه الزرقة فأجابقبطان السفينة أن مصدرها حبار وقع في شبك الصيادين. عندمايستشعر الحبار بالخطر يفرز هذه المادة الزرقاء دفاعا عن نفسه.

ما هي إلا لحظات قليلة حتى خرج الغطاسان ومعهم يوسف. صعداالسلم إلى سطح السفينة بسرعة، ألقوا به على السطح خائر القوىمنتفخ البطن. حاولا جاهدين إنقاذه وأخذا بإفراغ الماء من جوفه ثمنفخ أحدهم في فمه.

أبحرت السفينة مسرعة الى الشاطئ. كانت سيارة الإسعافبانتظارهم.

نقل يوسف في الحال إلى المستشفى وحالته الصحية غامضة ومصيرهأصبح في المجهول. أسئلة كثيرة دارت في رأس مدير المدرسة وفيرؤوس الطلاب والمعلمين. احتار المدير بأمره، لا يعرف كيف يتصرف،فقلقه على صديقه يوسف افقده القدرة على التركيز. كيف يعود الىالبلدة من دونه؟ ماذا يقول لوالديه؟ كيف يهدئ من روع تلاميذه؟ هليلحق بيوسف الى المستشفى، أم يبقى مع طلابه وهم في حالة هلعوخوف من هول الصدمة؟

رقد يوسف في المستشفى وهو في غيبوبة موصولا بجهاز تنفسوانبوب تغذية. عاد الطلاب والمعلمون إلى بيوتهم ومعهم المدير ليعودلاحقا للوقوف بجانب يوسف. شاع الخبر بسرعة البرق في البلدة. كثرالقول وطال بين الناس الحديث. قالوا غرق المسكين في البحر.. قالوااصيب بالجنون فألقى بنفسه في البحر، بل انتحر..

رغم زوال خطر الموت عنه، بقي يوسف تحت المراقبة في غرفة العنايةالمركزة.

جلس والداه بجانب سريره لا يفارقانه، يراقبان ويرصدان كل إشارةتصدر عنه.

بعد أسبوع عادت له بعض حواسه، وعلى ما يبدو أخذ يدرك بعض مايدور من حوله، لكن دون أن تكون لديه القدرة على ردة الفعل.. أحيانايفتح عينيه ويغلقهما، ربما لا إراديا، وفي مخيلته تظهر صور منفصلةلأحداث ووقائع لا ترابط بينها، تظهر وتختفي فتنعكس على ملامحوجهه بعبارات الحزن او الابتسام.

لاحظ والداه في إحدى الليالي أنه، على غير عادته، يتململ في فراشه.يحرك اطرافه بعصبية وتشنج. يحاول تركيز نظره في ظرف المغذي(اﻷنفوزيا) المعلق فوق رأسه يتوهج بنور المصباح المثبت على الحائطكجمرات جفت في كانون جده توهجت بكحلة الليل. أحس يوسفبالدفء ينساب على فخذيه مع قطرات الماء التي تتدحرج على فخذيهومؤخرته كتلك النقاط التي تنطف من ظرف المغذي في اﻷنبوبالموصول بذراعه.

ما أن أحس بالدفء من جراء تبوله اللاإرادي حتى انتابه ذاك الشعوروهو يرقد في فراشه بجانب جده عبد الحميد، رحمه الله، فوضع رأسهبين ذراعيه وانكمش في فراشه يرتجف.

ارتجف يوسف وانكمش، تماما كما ارتجف وانكمش وقتها وعمرهخمسة اعوام، عندما بال في فراشه من شدة الخوف. أخذت الصورةفي مخيلته تكتمل معالمها، تتضح وتتراءى له:

"الحلقة المفقودة". 

 

كانت تلك ليلة من ليالي الشتاء القارس، قبل سبعة عشرة عاما وعمرهلم يناهز الخمسة اعوام. في كحلة الليل وقبل ان يزيح الفجر اللثام عنوجه العتمة، إستفاق يوسف من نومه على صوت جده عبد الحميد يئنمكتوما وهو يعارك ملثمين. أحدهم كبّل يدي جده وكتم فمه والآخرأمسك بإبهامه وبيده اوراق ودواة حبر محاولا تبصيمه على تلكالاوراق. قاومهم الحاج عبد الحميد وعاركهم بكل ما أوتي من قوة ولمينالوا منه. تناول أحدهم عقاله المعلق على الحائط فوق رأسه ولفه حولعنقه محاولا خنقه. رقد يوسف في فراشه يرتجف، لا حول له ولا قوة..

حاول الملثمان الهروب، لكن المرحوم أمسك ببنطلون أحدهم.

جره الملثم إلى خارج البيت، ولما فشل بالتخلص من قبضته، ضربهبآلة حادة على رأسه وخنقه زميله بعقاله حتى سلم روحه لبارئها، ثمألقى به على اﻷرض تحت المطر يسبح بدمه. وقعت دواة الحبر من يدأحدهم فأخذ الحبر يتفشى في الماء وينتشر.

وضحت الصوره امام عيني يوسف واكتملت، اختلطت الدماء بالحبروتفشيا في الماء في ساحه الدار وعقال جده حول عنقه كحبال المشنقة،وإذا به يصيح في سريره:

لصوص، لصوص، لصوص..

ذعر والداه، قامت أمه تحتضنه قائله: "إسم ألله عليك، يا بني" وأخذتتقبله وتقرأ القرآن ودموعها تنهر جارية تنقط من وجنتيها. وقف أبويوسف يبكي صامتا والقرآن بين يديه. فتح يوسف عينيه، جال بنظرهفي الغرفة، راى والده واقفا والدمع في عينيه وأمه تحتضنه باكية.

استفاق يوسف من غيبوبته.

تساءل مذعورا: أين أنا؟


صمت يوسف مفكرا يسترجع الاحداث في ذاكرته فتوقفت عند جدهعبد الحميد وجدته فاطمة..

استوقفته المشانق والحبال، واخوه عبدالحميد والبصمات هز يوسفرأسه، وقال:

سيمانا في وجوهنا و..

"عقلنا مشانقنا"

!



#عدلي_عبدالفتاح_شبيطه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدلي عبدالفتاح شبيطه - الحلقه المفقوده