|
توصيف عام للعالم العربي المعاصر
عبدالله تركماني
الحوار المتمدن-العدد: 6614 - 2020 / 7 / 9 - 20:40
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يبدو أنّ أبرز مفارقات التحدي المكاني في العالم العربي يتمثل في دور الفراغات والفواصل والحواجز الصحراوية الشاسعة، الممتدة بين معظم الأقطار العربية، في تقطيع وتجزئة المنطقة العربية عمرانيا وسكانيا، وبالتالي مجتمعيا وسياسيا. وحقيقة هذه القطيعة أنّ الفراغات الخالية قد منعت نشوء نسيج حياتي عضوي، بدورة تفاعل واحدة ومتكاملة لمجتمع موحّد ولدولة موحّدة ثابتة. فمن الحقائق الأساسية التي ميّزت المنطقة العربية، وما زالت تميّزها، كونها منطقة صحراوية ذات مناخ جافٍّ، تغطّي الصحراء ما يزيد عن 80% من مساحتها الإجمالية. فنحن لو نظرنا إلى خارطة العالم العربي الطبيعية لوجدنا فيها ظاهرة فريدة تتميّز بها عن أغلب مناطق العالم الأخرى. هذه الظاهرة هي سيطرة الصحراء عليه من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تشكّل مساحته الكبرى. وإضافة إلى ذلك، ولّدت الطبيعة الصحراوية قطيعة أخرى في الزمان، وذلك بتقطيع مجرى التراكم والتطور الحضاري والسياسي في التاريخ العربي بموجات التصحّر والجفاف المتعاقبة، مما أدى إلى إعاقة سرعة التطور في العالم العربي واستنزاف طاقات أكثر وأزمانا أطول قياسا بالأمم المستقرّة الأخرى، فبالإضافة إلى تخلخله الحضري في الوسط، بسبب الفواصل الصحراوية بداخله، كان العالم العربي مفتوحا أمام موجات رعوية من جميع الجهات تقريبا: صحراء آسيا الوسطى في الشرق، صحراء الجزيرة العربية في الجنوب، الصحراء الأفريقية الكبرى في الغرب. فضلا عن الصحاري الداخلية كصحراء شبه جزيرة سيناء، وبادية الشام، والصحراء الشرقية والغربية حول الشريط النيلي ...الخ. وباعتبار أنّ البدو" لا ينشئون دولا "، فإنّ الشروع في تنمية القاعدة الحضرية العربية – مجدّدا - لم يبدأ إلا مع قيام الدولة الوطنية ...وعمره من عمرها!! وتحتاج خصوصيات الجغرافيا العربية إلى إعادة درس وتقييم، لأنها تمّت " أدلجتها " قوميا بتكرار القول: إنّ العالم العربي وحدة طبيعية. في حين أنّ المعطيات الجغرافية، طبيعة وموقعا، ليست لصالح العرب تلقائيا. لذا، فإنّ هذه الحقيقة الطبوغرافية عن العالم العربي لا بدَّ من تحليل آثارها بجلاء، إذا أردنا صورة دقيقة عن نوعية " الوحدة " و" الدولة الموحَّدة " التي شهدها في ماضيه، أو عن إمكانات توحيده في المستقبل، والعقبات الحقيقية التي تعرقل هذا التوحيد. إضافة إلى أنّ المعطيات الجغرافية والبيئية في العالم العربي أدت إلى بقاء طرائق العيش ووسائل الإنتاج مغلَقة وشديدة الاختلاف " بداوة في المناطق الصحراوية، أرياف مسحوقة تحت وطأة الضرائب والسخرة في السهول المروية، قرى معزولة تعيش مستكفية بذاتها على موارد ضئيلة في المناطق الجبلية، وأخيرا مدن تستأثر بالثقافة وبفائض الزراعة الاقتصادي وبالإنتاج الحرفي، وبطبيعة الحال بالسلطة السياسية والدينية. وما كان لهذا التنوّع أن يضيق نطاقه، وعلى نحو رديء في غالب الأحيان، إلا مع مجيء الاستعمار الأوروبي، ثمَّ قيام دول (حديثة)، ودمج الاقتصاديات العربية بالاقتصاد العالمي ". وهكذا، تَشكَّلَ في العالم العربي مجتمعان: أولهما، هامشي أو مهمَّش يتكون من غالبية الأرياف والبوادي وبعض المدن أو أقسام من المدن. وثانيهما، جديد/ سياسي، مجتمع مدن، مهن وحرف جديدة أو متغيّرة، طلاب وتعليم حديث، سياسة وأحزاب. وتذهب بعض التحليلات حول الأوضاع والعلاقات الطبقية في البلدان العربية إلى " أنّ الأوضاع والمواقع والعلاقات الطبقية في البلدان العربية هي أوضاع انتقالية ومتحركة، نتيجة التحولات العميقة التي لحقت بالهياكل الطبقية وعلاقات الإنتاج خلال الفتــرة الممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا. ولذا يصعب الحديث عن هياكل وعلاقات طبقية مستقرة وثابتة ... فمعظم المواقع والعلاقات الطبقية في حالة تَشَكُّلٍ وتداخل وتبادل بين القديم والجديد، بين العلاقات ما قبل الرأسمالية، حيث أشكال الترابط والتضامن على أسس قبلية وطائفية وعشائرية وخدمية، وبين الأوضاع والعلاقات الجديدة التي تتشكل بفعل علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة وأنماط التقسيم الدولي للعمل ". ومن ناحية أخرى، تتفق معظم التحليلات على أنّ البورجوازية البيروقراطية، المدنية والعسكرية، في البلدان العربية " لم تنشأ مع نشوء الدولة والجيش، بل تشكلت في مرحلة متأخرة من نشوئهما (منذ أواخر الثلاثينات وحتى نهاية الستينات). وقد ساعد نمو وتعاظم دور الدولة في الحياة الاقتصادية في بعض البلدان العربية (مصر، سورية، العراق، الجزائر...) في الخمسينات والستينات، في ظل أزمة التطور الرأسمالي التقليدي، إلى نمو عناصر" بورجوازية الدولة " نتيجة سياسات التصنيع السريع، وعسكرة الاقتصاد، وسيطرة الدولة التدريجية على" القمم المسيطرة " في الحياة الاقتصادية: التجارة الخارجية، النظام المصرفي، التجارة الداخلية، البناء والتشييد ". إنّ العلاقات الجديدة قد أدّت إلى انتقال حقل السياسة من الطبقة الوسطى إلى الدولة الرأسمالية الجديدة، خاصّة منذ ستينيات القرن العشرين، حيث امتلأ الحقل السياسي بـ" بورجوازية الدولة " وطبقتها الوسطى السياسية، وبأيديولوجيتها " القومية- الاشتراكية "، وحزبها وأجهزتها الأمنية. وبذلك حصلت أكبر عملية فرز سياسي وطبقي، إذ جرى تبديل عميق للحقل الاجتماعي حين وصلت الرأسمالية المنظمة عينها، التي كان يُفترَض بها هي نفسها أن تنشرها. فما أن نالت الأقطار العربية استقلالها السياسي، حتى وجدت نفسها بحاجة إلى قوة ذاتية تولّد سيطرة الدولة، وعندها انكشف الضعف الذاتي في البنية المدينية العربية، التي سرعان ما تسربت إلى قمة السلطة والقوة فيها العناصر الريفية التي ظلت مضطهَدة من سادة المدن، فأقامت حكمها الشعبوي. وهكذا، تمَّ ترييف المدن العربية، وانسحاب قوى المجتمع المدني العربي، بعناصره المتعلمة والمتطورة، مخلية الساحة للانقلابات الشعبوية ذات المنطلق والتكوين الريفي في العديد من الدول العربية. إنّ ترييف المدينة وبَدْوَنَتَهَا هو الإشكالية المطروحة على الفكر العربي السياسي، فقد " جلبت التحولات الاجتماعية ما بعد عهود الاستقلال الأولى إلى الحواضر العربية إما أبناء الريف العربي أو أبناء البادية، وهؤلاء لم يقفزوا على السلطة بالطريقة التقليدية، التي نوّه إليها ابن خلدون بالعصبية القبلية، ولكنهم حازوها من خـلال المؤسسات " الحديثة " المنظمة كالجيش والأحزاب " الحديثة " التي جمعتهم لأسباب اقتصادية وأيديولوجية وعصبوية أيضا، فأصبح العمل السياسي العربي - إلا فيما ندر- في أيدي هذه الفئات بعد أن تخلّصت، تحت شعارات شتى، من الأرومة المدنية العربية في الحاضرة، التي قادت العمل السياسي والصناعي والتجاري برهة من الزمن بُعَيْدَ الاستقلال ... فأصبحت قيم وممارسات العمل السياسي في المدينة العربية قيَماً وممارسات ريفية، مما اصطُلِحَ على تسميته بترييف المدينة ". ربما كانت المدينة العربية أقدر على إيجاد المواطن الحرّ من الريف العربي، لكنَّ سكان المدينة لم يكونوا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من عدد السكان. ناهيك عن أنّ المدينة نفسها لم تتحرر من ظاهرة الولاءات لما قبل المواطنة. من هنا نفهم " أنّ القضاء على التجربة الديمقراطية الوليدة (بعيد نيل الاستقلال الوطني) لم يُثرْ ردَّ فعلٍ شعبياً، بل على العكس من ذلك وجد ترحيبا من قبل الجماعات التي لم يصل وعيها إلى حدِّ استيعاب معنى المواطنة وحرية إنتاج السلطة، وهي الجماعات الأكثر عددا وحضورا. وبدا أنّ الإجهاز على الديمقراطية يمثّل انتصارا شعبيا ". لذلك فإنّ الدارس للسياسات العربية بشكل عامٍّ، في أغلب منعطفات القرن العشرين، يجدها موسومة بالخصائص الرئيسية التالية: (1) - اللاعقلانية، إذ لم يعرف الفكر السياسي العربي مخاضا أيديولوجيا مثل الذي عرفته أوروبا في عصر الأنوار والثورات القومية الديمقراطية التي عصفت به، فجعلته ينتقل بالسياسة من إسار اللاهوت والأخلاق إلى سياق العلم والممارسة. ونتيجة لذلك فقد تميّزت السياسات الحديثة بالواقعية، أي أنها انطلقت في تعاملها مع الأحداث من الأمر الواقع وموازين القوى القائمة باتجاه المحافظة عليها (السياسة المحافظة) أو تغييرها (السياسة الثورية)، وبذلك عبّرت هذه السياسات عن المصلحة القومية. (2) - اللاديمقراطية، إذ أنّ السياسات العربية أُديرت من قِبَلِ نخب بالغة الضيق، بمعزل عن الشعب بمختلف طبقاته وفئاته وتياراته السياسية والفكرية، مما جعلها سياسات مُرتَجَلة وغير منسجمة مع مصالح الأمة حينا أو في تناقض معها أحيانا أخرى. إنّ السبب الرئيسي للاعقلانية السياسة العربية، الموصوفة أعلاه، يتلخص في عدم امتلاكها الوعي المطابق لحاجات الواقع، وفي الفاعلية المحدودة جدّاً للرأي العامِّ العربي، وفي تغليب مصلحة فئوية أو طبقية على المصلحة العامة، وتعود أخيرا إلى التأخر العربي العامِّ وإفرازاته.
#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهوية من منظور علماني (3)
-
الهوية من منظور علماني (2)
-
الهوية من منظور علماني (1)
-
من أجل نجاح عملية التحوّل الديمقراطي في مستقبل سورية (5)
-
من أجل نجاح عملية التحوّل الديمقراطي في مستقبل سورية (4)
-
عن الحريات الأكاديمية في - سورية الأسد -
-
ثلاث وخمسون عاماً على هزيمة العرب الكبرى
-
من أجل نجاح عملية التحوّل الديمقراطي في مستقبل سورية (3)
-
مقوّمات نبذ الكراهية والعيش المشترك بين المكوّنات السورية
-
من أجل نجاح عملية التحوّل الديمقراطي في مستقبل سورية (2)
-
من أجل نجاح عملية التحوّل الديمقراطي في مستقبل سورية (1)
-
لماذا وصلت الثورة السورية إلى كل هذا الخراب؟
-
في الأسباب العميقة للثورة السورية
-
تساؤلات حول سرديات الثورة السورية
-
عبدالله تركماني - كاتب ومفكر سوري، وباحث في مركز حرمون للدرا
...
-
قراءة متمعنة في كتابات ياسين الحافظ
-
المجتمع المدني السوري .. الواقع والتحديات
-
محددات المبادئ فوق الدستورية
-
المقاربة التنموية التشاركية
-
جدل الموارد والتنمية والديمقراطية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|