|
العَوْراء
ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 6614 - 2020 / 7 / 9 - 19:49
المحور:
كتابات ساخرة
لم يصدّق أحدٌ بأن سبب توغّلي في غابة القضاء من خلال تسجيل اسمي بجدول الخبراء الزراعيين لدى القصر العدلي، كان بهدف تزجية الوقت والتعرّف على أحوال البشر، ورصد الفساد الذي استشرى بصورة لم يعد من الممكن حتى مجرّد الحلم بالقضاء عليه. ولمّا كنتُ في وضعٍ ماليٍّ مريح، وأزعم أنني أتمتّع بعصاميّة وعزّة نفس.. فقد كنت مستغنياً عن التوسّط لدى المعنيين بالأمر، بتذكيرهم باسمي من أجل (منحي فرصة) تقديم خبرتي في الدعاوى التي تحتاج إلى إجراء خبرة. ولهذا لم أكن معروفاً من قبل القضاة أو دوائر التنفيذ لدى مختلف درجات المحاكم. وبالتالي لم يستدعني أحدٌ للمشاركة بلجنة خبرة وقد شارفتْ مدة تعييني السنتين، وهي المدة التي أحتاج بعدها إلى تجديد تسجيلي. وفي أحد أيام الشتاء الباردة حيث الثلوج تغطي المرتفعات. والبرد يقصّ المسمار كما يقال، جاءني اتصالٌ هاتفيٌّ من قبل مديرية التنفيذ في إحدى المناطق، يطلبون مني ضرورة الحضور إلى مقرّ المحكمة التابعة لتلك المنطقة، من أجل المساهمة بخبرتي في إحدى الدعاوى. تساءلتُ في سرّي: تُرى هل اعتذر أحد الخبراء لسببٍ ما. أم أن عدد الخبراء في تلك المحكمة غير كافٍ. أم.. ما جعلهم يضطرّون إلى تكليفي بهذه الدعوى؟ أياً تكن الأسباب فقد كنت وسيارتي الخاصة في الوقت المحدّد للموعد أمام المحكمة. واتجهتُ فوراً إلى غرفة رئيس دائرة التنفيذ محيّياً ومعرّفا بنفسي. نظر صوبي من تحت نظّارته الطبية باشمئزاز وبالكاد ردّ التحية بصوتٍ خافتٍ وتظاهر بالانكباب على أوراقه. وحيث أنه تجاهل دعوتي للجلوس على كرسيّ بجانبه، فقد انكفأت كالمطرود إلى البهو أتمشّى ريثما يحين موعد المغادرة لإجراء الكشف والخبرة. وبعد انتظارٍ طويلٍ مملٍّ دام حوالي الساعة، كنت أتنقّل خلالها ما بين بهو المحكمة والشارع المحاذي لها، محاولاً تدفئة جسمي الذي يرتعد من شدة لسعات البرد، أرامقُ متأمّلاً وجوه الداخلين والخارجين والناطرين.. وإذ بصوت الآذن يناديني باسمي: - أستاذ تفضّل الكلّ بانتظارك.. هرعتُ باتجاه غرفة رئيس التنفيذ وإذ به خارجاً يحمل إضبارة تحت إبطه يرافقه ثلاثة رجال، أحدهم شابٌّ في العقد الثالث من عمره والآخران في العقد الرابع، وخلفهم صبية في أواسط العشرينات. عرفت بأن أحد الرجلين عضو بلجنة الخبرة (مسّاح طبوغرافي)، والآخر مهندس مدني (خبير عقاري) الذي سرعان ما اعتذر عن المهمّة بسبب انشغاله، على أن يُعتبر وكأنه موجود بسبب ثقته الكبيرة بنا، وتمنّى لنا التوفيق وانصرف بعد أن ربّت على كتف رئيس التنفيذ قائلاً جملته الأخيرة مصحوبة بغمزة ذات معنى خاص: «لا تنسى لقاءنا مساءً هه!» . أما الثالث فهو قريب تلك الصبية صاحبة الدعوى، والتي تنوي الحجز على عقار تعود ملكيته لابن عمّها، الذي تسبّب لها منذ أكثر من عشر سنوات بفقدان عينها اليسرى من جرّاء قذفها بحجر إثر مشاجرة بينهما. وقد حكمت لها المحكمة بتعويض عن العطل والضرر الذي أصابها بمبلغ (75) ألف ليرة. مع العلم أن ابن عمّها قد سافر إلى لبنان بقصد العمل منذ عدة سنوات وانقطعت أخباره هناك نهائياً. وصلنا معاً إلى خارج المحكمة وإذ بسيارة خاصة صغيرة تنتظرنا لتقلّنا إلى موقع العقار المنوي إجراء الخبرة عليه، بغية حجزه وبيعه بالمزاد العلني إيفاءً لحقّ الصبية المنكوبة. هرْولَ السائق وفتح الباب الأمامي للسيارة تكريماً لرئيس التنفيذ. قذف هذا الأخير بجسده وتكوّم مرتعداً وقد غاصت رقبته بين كتفيه لتلامس ياقة معطفه منتصف قذاله. أغلق السائق عليه الباب بإحكام وأشار إلى البقية الركوب في المقعد الخلفي والذي لا يتّسع لأكثر من شخصين. توقّفتُ متردّداً متسائلاً ما إذا كان موقع العقار المراد الكشف عليه بعيداً. أجابت الصبية إنه يبعد أكثر من ثلاثين كيلومتراً، وإنها ستدلّنا عليه بأن تتقدّمنا من خلال ركوبها على الدرّاجة النارية خلف ابن خالها وأشارت بيدها إلى الشاب الثلاثيني. تخيّلتُ حالة الصبية وهي تمتطي درّاجة وسط هذه الأجواء القارسة، تأكّدتُ من أنها لن تصل إلاّ مجمّدة، هذا إذا وصلت. رأيتُ أن الحكمة تقتضي أن أركب سيارتي المكيّفة ومهما تكبّدت من خسائر مادّية، فأتخلّص بذلك من مذلّة ومنّية رئيس التنفيذ وشركاه. اقتربتُ من رئيس التنفيذ مخاطباً: أستاذ أودُّ الركوب بسيارتي. أنزل بلّور النافذة قليلاً ليسمعني جيداً. كرّرتُ عبارتي مجدّداً. وثبتْ من عينيه نظرة احتقار قائلاً بلؤمٍ: (أيه اركب سيارتك مين ماسكك..) وأسرع برفع البللور متفادياً البرد الشديد وهو يتمتم بقرف وكأنه شمّ رائحة كريهة. ركب إلى جانبي (المسّاح الطبوغرافي) واقترحتُ على الصبية الركوب معي على أن يتقدّمنا ابن خالها على دراجته. ويبدو أن الفكرة راقت لها وسرعان ما حشرت نفسها في المقعد الخلفي. عندئذٍ تمكّنتُ من التمعّن بعينها المصابة عدة مرّات من خلال مرآة السيارة. وكم كانت الصدمة كبيرة، يا للهول! إنّ عينها بيضاء تماماً. تضاريس الطبيعة في تلك المنطقة قاسية جداً مليئة بالمنحدرات والجبال والوديان. وإلى جانب الثلوج المتراكمة على التلال، فقد كانت تعصف بنا الرياح اللئيمة من كلّ حدبٍ وصوب.. البرد الشرس يكاد يجمّد الأوصال. والدراجة العجيبة تغذّ السير أمامنا بقيادة ذلك الشاب الساخط الغاضب، والذي أعتقد أنه لم يترك شتيمة في قواميس العرب إلا وصبّها على رأسي، كوني حرمته من الدفء الأنثوي باقتراحي الآثم بأن تركب تلك الصبية معي بالسيارة عوضاً عن درّاجته. ما إن سرنا عدة كيلومترات حتى سارعت الصبية وفتحت بلّور الشباك لاستنشاق الهواء الطبيعي كونها أصيبت بنوعٍ من الدوار سبّب لها الغثيان، فهي غير معتادة على الجلوس في الأماكن المحصورة أو المغلقة كما أفادت. أفهمتها بأن هواء المكيّف الساخن سيتبدّد وستصطكّ أسناننا من شدة البرد. رجتني أن أسمح لها بفتح الشباك ولو سنتيمتراً واحداً وإلا فإنها ستفرغ ما في أمعائها ولن تستطيع إكمال مشوارها معنا. لم يكن أمامي من خيار آخر. وافقتها على مضض، فاشرأبّت بعنقها ووضعت أنفها على فتحة الشباك طوال الطريق. وصلنا إلى مشارف قريةٍ أغلب بيوتها تنبعث منها الأدخنة البيضاء معلنةً أنها تستخدم الحطب للتدفئة، بعد أن رفعت الحكومة الدعم عن المازوت وارتفعت أسعاره عدة أضعاف، وأصبحت الثروة الحراجية في البلاد تلامس خطر الإبادة. استقبلتنا شاخصة صدئة على جانب الطريق تشير إلى اسم القرية، وقد طمستها عدّة أوراق نعي لمتوفّين قدامى وجدد. وبالكاد استطعت قراءة الشاخصة بمساعدة الصبية. ويا للسخرية المرّة فقد كان اسمها قرية "السعيدة"! البيوت متناثرة على هضبة، كثيفة متآخية في أوسطها تكاد أن تكون متلاصقة. متباعدة على أطرافها بسبب النمو السكاني. يمكن لأيّ عابر قراءة أوضاعها الاقتصادية بسهولة من خلال الطريق المؤدّي إليها، حيث الحُفر والمطبّات الطبيعية.. ومن خلال بيوتها التي كلها في طور التجهيز. إذ لا يمكن أن تجدَ بيتاً جاهزاً للسكن وقد توفرت فيه الضروريات؛ فهذا ينقصه تلييس، وهذا يفتقر إلى الدهان، وذاك إلى مرحاض - أو إلى حمّام كما بات يُستخدم هذا المصطلح من قبل أكثرية (المتمدّنين). وتمّ الاستغناء تقريباً عن مفردات مثل (تواليت، دورة مياه، مغاسل..) وذلك كنوعٍ من رفض أية كلمة تشير إلى حقيقة فيزيولوجية يعيشها كل البشر. وكأنهم بهذا التجاهل أو الرفض سيكفّ (البني آدم) عن التبوّل والتغوّط وما إلى ذلك.. إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود شقق فارهة وفيلاّت على جوانب القرية، أغلبها شاغرة بُنِيت على الطراز المعماري الحديث لبعض حديثي النعمة من الذين استغلوا مناصبهم. لكن عددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. المهمّ، خفّف سائق الدرّاجة من سرعته إشعاراً منه باقتراب الوصول إلى الهدف. وهتفت الصبية من خلفي بأن بيت ابن عمها (المجرم) قبالة تلك الشجرة الواقعة على الأرض بسبب عاصفة ضربت المنطقة مؤخراً، اقتلعت خلالها عدداً من الأشجار المعمّرة وخاصةً الهرمة منها، والتي تفتقر إلى إرادة مغادرة هذه الحياة البائسة في هذه المنطقة المبتلية بالفقر الأسود. وإلا لكانت أقدمت تلك الأشجار على الانتحار من تلقاء ذاتها.. كما أفادت بذلك تلك الصبية. وبسبب الخلاف العائلي مع بيت عمّها الذي نشب منذ أن فقدت الصبية عينها، فقد اعتذرتْ عن الدخول معنا إلي البيت المقصود. ولم تنسَ تذكيرنا بأن نساعدها بتخمين البيت مع الأرض الزراعية المحيطة به. وأنها استدانت تكاليف الدعوى ونفقاتها الكثيرة خلال السنوات العشر المنصرمة. خاتمةً توصياتها بالدعاء على ابن عمّها وعلى أمثاله، متمنّيةً له فقدان عينيه الاثنتين بدل الواحدة، ليذوق مرارة العيش كما تذوّقتها.. وطلبت منا برجاء زيارتها في بيتها الكائن في قرية مجاورة بعد الفراغ من مهمّتنا. كان كلامها متدفقاً تودّ أن تقول كل شيء دفعةً واحدة، وكأنها تنتقم من حالة الصمت التي سادت رحلتنا. ترجّلنا من السيارتين وتوجّهنا إلى البيت. عندها سارع سائق الدرّاجة بحماس إلى الصبية ليقلّها إلى بيتها ولينعم بالدفء اللذيذ معها، عسى أن يعوّضَ جزءاً مما فاته. قبل وصولنا بأمتار نبح كلبٌ هزيلٌ باتجاهنا، يربض أمام البيت بكسلٍ تكاد عظامه تخرج من جلده. كان باستقبالنا رجلٌ سبعيني يعتمر قبّعةً رماديّة من الصوف، يظهر من تحتها وجهٌ متغضّن يتدحرج نحو خريف العمر، تتدلّى من شفتيه لفافة من التبغ البلدي مطفأة. رحّب بنا دون أن ينتزعها من فمه ودعانا للدخول. ما إن تجاوزتُ عتبة البيت حتى بدأت عيناي تلوبان المكان متفحّصةً في تفاصيله، كسائحٍ فضوليٍّ يودّ أن يخزّن في ذاكرته ما أمكنه من وقائع وأحداث قبل أن يعود لموطنه. البيت مؤلّف من غرفتين مظلمتين تستخدم إحداهما كمطبخ وحمّام بآنٍ معاً، والأخرى كغرفة استقبال. يفصل بينهما باب وقد أُسدلت عليه ستارة من الخيش عُلّقت من طرفيها بمسمارين من أجل سهولة التنقّل بينهما. الصالون إذا صحّت التسمية، واسعٌ نوعاً ما، تتوسّطه مدفأة حطب مشتعلة وحولها عددٌ من الكراسي البلاستيكية. الأرض مفروشة ببساطٍ قديم ووسائد ومساند وطرّاحات مهلهلة النسيج باهتة الألوان. اتجهتُ فوراً نحو المدفأة لاكتساب الدفء، وبدأتُ أفرك راحتيّ فوقها إلى أن سرتْ الحرارة فيهما. وطلبتُ بحياء ما إذا كان ممكناً تناول الشاي الساخن إمعاناً منا باستزادة الدفء. جلسنا جميعاً حول المدفأة نراقب ألسنة النيران البرتقالية وطقطقة الحطب المشتعل. بغتةً انبعث صوتٌ من طرف الصالون مرحّباً! انتبهتُ إلى مصدره وإذ بعجوزٍ مستلقيةٍ على سريرٍ خشبي مغطاة حتى رقبتها بنوعٍ من البطانيات المهترئة. اعتذرتْ عن عدم قدرتها على القيام للترحيب بنا، بسبب كسرٍ في ظهرها الناجم عن سقوطها عن الحمار. (يا إلهي أيّ أسرةٍ منكوبةٍ هذه؟) قلت في سرّي وأنا أجول ببصري في أرجاء هذا البيت فاحصاً حيطانه المبرقعة بندف الرشح الكلسي راسمةً أشكالاً سوريالية معبّرة، وكأنها تجسّد حالة الشقاء الإنساني وصراعه الأزلي مع شرور الطبيعة. أثناء قيام الرجل العجوز بإعداد الشاي، مال بجسده رئيس التنفيذ صوبي سائلاً بصوتٍ خفيض: «هل يوجد معك (500) ليرة؟» أجبته دونما تفكير كالمأخوذ وأنا أسارع إلى إدخال يدي في جيبي للتبرّع بما تجود به نفسي على هذه الأسرة المثيرة للشفقة: طبعاً. وأخرجت حزمة من النقود من ذوات الألف وسألته ببراءة كم ستدفعون؟ أجاب بفتور: «لا أريد ألفاً هات خمسمائة وخذ ألف وخمسمائة.. حصّتك». فتحتُ عينيّ على وسعهما وأجبته بذهولٍ حائر: حصتي!؟ حصة ماذا؟! أجاب بعصبية وقد ارتفعت نبرة صوته: «يا أخي ثمن البنزين، ألم تأتي بسيارتك الخاصة إلى هنا؟» (هه! إذن الخمسمائة ليست من أجل التبرّع، بل من أجل تقاسم الغلّة التي أعطته إياها تلك الصبية المنحوسة) تطلّعتُ إليه بازدراء قائلاً: أنا لا أتقاضى أيّ مبلغ لقاء قيامي بواجبي.. حدّق بوجهي بكرهٍ واضحٍ قائلاً: «أخي خذ حصّتك وبلا لفّ ودوران.. خلّصنا». أجبته بإصرار واستنكار: قلت لك لا يمكن أن آخذَ قرشاً واحداً.. الحمد لله أحوالي جيدة. وأردفتُ كاشفاُ الحافز الذي دفعني لقبول هذه المهمة: صدّقني أنا كمهندس زراعي لم أسجّل اسمي بجدول الخبراء من أجل اكتساب الفائدة المادّية، بل من أجل التسلية والتعرّف على أحوال البشر ليس إلا.. لمعت عيناه ببريق الدهشة والإعجاب لأن حصته ستتضاعف لقاء امتناعي. التفتَ إلى المسّاح الطبوغرافي هازئاً: «وهل أنت أيضاً شريف مكّة ولن تأخذ حصتك؟» أجاب المسّاح متلعثماً متأرجحاً بين رغبته الذاتية وبين حالة الحرج التي سبّبتها له: «أأنا..أأ..» عندها عاجله رئيس التنفيذ بحزم قبل أن يترك له فرصة الكلام، بأن دسّ في يده مبلغاً من المال. ومن بين أسنانه خرجت كلماته الموبّخة بما يشبه الهمس: «أيه خذ حصّتك وخلّصنا ياه.. كل واحد عاملّي حاله شريف مكة.» سحب المسّاح يده القابضة على الحصة بهدوء ووضعها في جيب سترته، وتشاغل بإشعال سيجارة مدارياً فرحٍ مكتوم. جاءت صينية الشاي واندفعنا إليها بلهفة العطشان إلى قطرة ماء في صحراءٍ قاحلة. شرب كلٌّ منا كأسين، شعرتُ بعدها برغبة شديدة في التمدّد إلى جانب المدفأة على البساط سانداً رأسي على مسند القش، وأخذ قسطٍ من النوم على همسات الحطب المشتعل، بعد أن قدّم العجوز لها المزيد من القرم الخشبية. قطع سيلَ تداعياتي الصوت العسكري لرئيس التنفيذ وهو يخاطب العجوز موضحاً طبيعة مهمتنا بصوتٍ واثقٍ: «شوف يا عمّ.. نحن قادمون من المحكمة للقيام بتخمين هذا العقار الذي يملكه ابنك سنداً للقرار الصادر بحقه كما تعلم.. والقاضي بإلزامه دفع مبلغ (75) ألفاً إلى الصبية التي قلع لها عينها ودمّر حياتها.. لذلك نرجوك أن تسهّل لنا مهمتنا». انتفض العجوز كمن لسعته أفعى واللفافة المطفأة مازالت عالقة بين شفتيه، وكأنها باتت جزءاً أصيلاً من وجهه الذي سرعان ما اربدّ، وقال بصوتٍ متهدّجٍ: «لا حول ولا قوة إلا بالله، يا جماعة واللهِ وبكسر الهاء نكاد نموت جوعاً. كما ترون وأشار بيده إلى زوجته العجوز الراقدة، الله وكيلكم وضعتُ الذي فوقي والذي تحتي من أجل تعافيها، ونحمد الله ونشكره أننا لم نستفد شيئاً. كل ما نملكه في هذه الدنيا، هذا البيت وتلك الحكورة المحاذية له التي نعيش منها، نزرع مساكب البقدونس والنعناع ونحملها أجلّكم على الحمار – الله يقصف عمره مثلما كسر ظهر الختيارة – إلى سوق المنطقة لبيعها». أضاف بلهجة استرحام وكأننا على وشك انتزاع روحه من حلقومه: «بأيّ حق ستحجزون عليها.. يا أخي آمنّا وصدّقنا بأن الصبية مسكينة يشهد الله، لكن من غير المعقول أن تعمّروا بيتاً وتهدموا آخر.. الله وكيلكم سوف تجعلوننا نشحذ الملح إذا ما..» وهنا قاطعه رئيس التنفيذ زاجراً: «عمّي! إذا سمحت، لا علاقة لنا بكل هذه التفاصيل، مهمتنا تنحصر بتخمين العقار وبيعه في المزاد العلني، ما لم يسارع ابنك ويدفع المتوجّب عليه». فتل العجوز رأسه يمنة ويسرة كأنما يبحث عن منقذ.. وردّ بصوتٍ معجونٍ بالقهر: «حسبي الله ونعم الوكيل، يا جماعة طوّلوا بالكم والله حرام عليكم، نحن جماعة دراويش كما ترون، الله وكيلكم أنا والختيارة مقطوعان من شجرة، لا ولد ولا تلد». وأضاف من قلبٍ محروقٍ: «الله يلعن أبو هالعيشة، ضنانا الوحيد ذهب إلى لبنان، وبالمناسبات يبعث لنا كم قرش حتى نتزقّم. ولولا الحمار الذي نقوم أحياناً بتأجيره لبعض الجيران في القرية، لمتنا من الجوع». أجابه رئيس التنفيذ بنفاد صبر: «عمّي يرضى عليك، لدينا شغل كثير، لا تضيّع وقتنا بكلام لا يفيدك ولا يفيدنا بشيء..» والتفت صوبنا بكامل جسده وبنبرة جادّة صارمة: «هيّا يا أساتذة دعونا نصعد إلى السطح لنلقي نظرة على أرض الحكورة وعلى موقع العقار ككلّ». وهنا بعق الرجل العجوز محذّراً وقد رضخ للهزيمة وسط بربرات زوجته المتوجّعة: «يا جماعة كيف ستصعدون إلى السطح؟ الله وكيلكم السلّم منخور ومسوّس، لا سمح الله قد ينكسر بأحدكم ونقع بمصيبة جديدة..!» تطلّع صوبي رئيس التنفيذ مستفتياً، أومأت له بموافقتي على كلام العجوز. مقدّراً في سرّي لهفة العجوز الصادقة بألاّ يصيبنا مكروه رغم مهمّتنا الحقيرة بنظره. عندها تمّ التغاضي عن موضوع السطح وانتقلنا إلى الحكورة وخلفنا الرجل العجوز يمشي متراخياً وكأنه يمشي في جنازة. قام المسّاح بقياس أبعادها بصورة تقريبية، وقمنا بإحصاء ما فيها من مزروعات. وتوجهنا مغادرين مشيّعين بأدعية العجوز المكسورة من داخل البيت على الصبية وعلى ابنها وعلى حظها وعلى ظروفها وعلى الأيام.. وآخر ما سمعناه من رثائها قولها: «يا حسرتي لقد تفسّر حلمي، هذا الذي كنت أخشاه، آخ يا الله.. متى ستأخذ أمانتك وتريحني من هذه الحياة.. الله يلعن أبو الفقر وساعته..» قبل أن أصعد إلى سيارتي دنا صوبي رئيس التنفيذ وقد ارتسمت بسمة مشرقة على وجهه، بعد أن رمى جانباً كل مظاهر الغطرسة والاستعلاء، وأمسكني من مرفقي محاولاً احتضان خاصرتي بودّ: - أستاذ والله أحببتك.. حبّذا لو تتكرّم وتعطيني عنوانك وأرقام هواتفك، يبدو أننا سنحتاجك كثيراً في الأيام القادمة.. يا أخي سبحان الله، رفقتك ظريفة جداً، بشرفي كأنني أعرفك منذ دهور.. شكرته على مجاملته والأصحّ على نفاقه. واعداً بتلبية أيّ نداءٍ من قبله. وقبل أن أنطلق بسيارتي منفرداً عائداً إلى بيتي. ألقيتُ نظرة أخيرة على بيت العجوز، ألفيتُ صاحبه يداعب كلبه الهزيل، الذي ولسببٍ أجهله، لم ينبح علينا لدى مغادرتنا المكان. تُرى، هل لأنه مريض لا يقوى على النباح؟ أم لأننا شربنا الشاي فاعتبرنا من الضيوف؟ أم أنه لاحظ تقاسم الحصص بين رئيس التنفيذ والمسّاح، فاستخسر فينا حتى النباح؟
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وأنا الشيوعي، كيف نسّبوني إلى «البعث»؟
-
حلاوة
-
نبوءة صادقة في حرفها الأول!
-
لكنّنا لم نلتقِ!
-
مسلمة الحنفي – قراءة في تاريخ محرّم
-
هل وحدة الشيوعيين السوريين ممكنة؟
-
وأغلقَتِ الخطّ!
-
«جبال الأغاني والأنين»
-
«البلد»
-
ألو بابا، أنا ابنك!
-
«النباتية»
-
«أعدائي»
-
التحقيق رقم (1)
-
«الإسلاموفوبيا»، ثُمَّ الكورونا، ثُمَّ..؟
-
اللِّصُّ الغبيّ
-
«المترجم الخائن»
-
صاحب الأنف الضخم!
-
«وردَّدتِ الجبالُ الصدى»
-
ما بعد كورونا..
-
حظر التجوّل
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|