أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - فوبيا















المزيد.....


فوبيا


فرات المحسن

الحوار المتمدن-العدد: 6612 - 2020 / 7 / 7 - 17:46
المحور: الادب والفن
    


المساء الكالح المرمي عند الشفق البعيد، يدفعني لتأمل غيمات رصاصية تتهادى عند الجانب الشرقي خلف مئذنة الجامع القريب التي جاورها احمرار المغيب. بدت المئذنة وكأنها تسير الهوينى لتلحق بالغيمات. توقفت الحافلة فتدافعنا للصعود بعجالة مربكة، نحن الأنفار الخمسة. كنت الثالث منهم حين دفعت الأجرة وولجت إلى حوض السيارة لأجلس في مقعد يقع بالتحديد عند منتصف الحافلة. جوار النافذة أرحت جسدي المنهك من يوم عمل مضن. جلست فوق مقعد استهلك غطاءه الجلدي لكثرة الجلوس اليومي للركاب، لتظهر نتف صغيرة من أحشائه. من خلف زجاج النافذة المترب، تابعت احمرار المغيب وانتبهت لتوقف مئذنة الجامع عن اللحاق بالغيمات اللاتي اختفين خلف البيوت وتركن مكانهن في لوحة الغروب، فبدت السماء البعيدة مغلقة بلون رصاصي مشوب بحمرة خفيفة.
تهادت الحافلة وأنا ما زلت أتابع المنظر الذي أوحى لي شيئًا من كدر طالما كنت أحذر أن يطأ روحي، ولكني غالبًا ما أجده يحيط بيّ عنوة. رتابة العمل البدني اليومي البليد، دائما ما تقربني من حالات اكتئاب أو الأحرى إحساس بالضيق والتقزز. تبدأ الحالة بهمس داخلي، تقريع للذات، لوم لما أوقعت نفسي فيه جراء هذا العمل المضنك والمضجر، ولا تنتهي الحالة دون شتيمة أجترها لكل ما يدور حولي وانفر منه.
عند المنعطف جوار سوق الخضار بمحاذاة الرصيف المهشم، توقفت الحافلة ليصعد أليها شاب ملتح تبدو لحيته وكأنها مصبوغة توا بنقيع الفحم لشدة سوادها، كثة تغطي الجزء الغالب من وجهه حتى وجنتيه. طويل القامة حنطي البشرة يرتدي صديري فوق ثوب طويل تحته سروال. ما جلب انتباهي كون السروال كان يعلو بعض الشيء عن رسغ القدم. أعتدت أن أشاهد عبر شاشات التلفزيون هذا الزي الخاص برجال قبائل البشتون الأفغان ، ولكن من المستحيل رؤيتهم في أحياء مدينتنا،هكذا فكرت، ولن نعتاد وجودهم على الإطلاق إن ظهروا بيننا. فمثل مدينتنا نادرًا ما تضيع فيها ملامح الرجال عن بعضها البعض، ولن تعاف الأسئلة أحدًا حتى تتماسك المعلومة بتفاصيل دقيقة عن حياتهم بقضها وقضيضها.
توقف الرجل متصالب اليدين خلف مقعد السائق بعد أن ناوله الأجرة، ثم جال بنظرة فاحصة باردة أرجاء الحافلة. شعرت بالضيق كونه تسقطنا نحن الركاب واحدًا إثر الآخر. ما استراحت ولا أطمئنت روحي، فقد رأيت فيه شيئًا مريبًا. كان بؤبؤا عينيه يدوران في مآقيهما بحركات سريعة كأنهما يحاولان لملمة صورة خاطفة للمكان والركاب. بهدوء ظاهر جلس عند المقعد الثاني في الجانب الأيمن من سائق الحافلة وليس خلفه، ثم بدأ يدير رأسه شمالاً ويمينًا بحركات بطيئة واضحة وكأنه يتفحص حركة المشاة على جانبي الحافلة. أدرت وجهي متفحصا ردود فعل بعض من كان يجلس قريب مني فلم ألمح ما يشي باهتمام. لم يكن عدد الركاب يتجاوز العشرة وجميعنا نتكدس وسط الحافلة، أما باقي المقاعد فقد كانت فارغة وبالذات الخلفية منها.
وددت أن أسأل أحدهم عما شاهدته أنا من حركات ونظرات مريبة لذلك الراكب، وهل شعر أحدهم بالريبة منها، ولكني خجلت. لست أدري، فالطلب من الآخرين مشاركتك ظنونك وهواجسك ربما يكون في الكثير من الحالات مزعجًا أو الأحرى يكون عند البعض غير طبيعيا، ومن ثم تكون ردود أفعالهم غير متوقعة، وربما لا تتوافق إطلاقًا وما تفكر فيه. ومن الجائز أن مثل هذا الأمر لهو مبهم عندهم، عندها سوف أصاب بخيبة أمل.
حسب ظني أو الأحرى يقيني، بأن الحادث بلا ريب سوف يقع دون سابق إنذار أو تنبيه من أحد، عندها يكون الإهمال ولا مبالاة الجميع وسيلة لتكرس عدوانية من يريد اقتراف جريمة بعينها، وهو حتما غير معني أو غير مبال بظنون و تكهنات الآخرين أو حتى ردود أفعالهم، أو أي نوع من أنواع الحذر الذي يبدر عنهم. هذه ليست مسؤولية سهلة، حين تشعر بأن الخطر موجه للجميع وأنك مؤتمن على حياتهم وليس فقط حياتك، وفي الوقت نفسه تبدو عاجزا كليًا عن القيام بما يتوجب عليك القيام به. فكرت أن عليَّ، لا بل من واجبي هذه اللحظة أن أفتح حوارًا مع أحد الركاب الذين بقربي قبل وقوع الكارثة، ولكن مع مَن؟ والكل ساه في بلواه كما تفصح عنه الوجوه المتعبة اللاهية في حواراتها الداخلية. هكذا فكرت لا بل امتلأ رأسي بضجيج أسئلة وشكوك شعرت معها وكأني أقع في دوار ودوامة هلامية مربكة.
ما الذي يخبئه الشاب تحت ملابسه. منذ اللحظة الأولى ودون مقدمات دار في خاطري رسم لطبيعة ألواح الديناميت المربوطة فوق صدره مثل حزام ثقيل، وكيف كان يتزنر فخورا بها. تخيلت لون الألواح البني المغبر وأقنعت نفسي بلون محدد للحزام الذي يحيط بها. شعرت ذلك كما لو أنها الحقيقة الأكثر رسوخا في رأسي. يا ترى هل وضع في تلك الألواح غير مسحوق التفجير، فحسب ما يشاع فإن الأحزمة الناسفة تحشى بآلاف قطع الحديد الصغيرة لتكون أشد فتكًا وتحصد أكثر عددًا من البشر.
صاحبي البقال نواف في العام الفائت وبعد أن حدث التفجير الإرهابي الثاني جوار محله، أصبحت عنده خبرة في نوع المتفجرات حسب ما يدعي، وقد أخبرني، بأن أغلب هؤلاء يخلطون معادن صغيرة مع المواد المتفجرة وهذا ما عرفته أيضًا من وسائل الإعلام. دأب نواف التلويح بكلتا يديه عند الحديث، وكأنه يلقي قصيدة ملحمية. وكان يفعل هذا بشكل يجلب انتباه وفضول المارة، وتلك العادة يريد بها أن يؤكد للآخرين حقيقة ما يرويه ليثقوا بما يقوله، وكنت دائما واحدًا من هؤلاء. أصمت بإصغاء وأروح سارحًا مع الصورة التي ينقلها نواف عن الواقعتين، وأتخيل مكان وقوفه وقراراته الصائبة فيما اتخذه من موقف في مواجهة موت محتم، وأجد في حديثه الوصف الدقيق والشديد التماسك والخالي من ثغرات تستدعي مثل تلك التأويلات والشكوك، التي تصدر عن البعض. فأغلب مَن في السوق ومنهم رزاق أبو الطرشي دائما ما يجعل من نواف وحديثه سخرية يلوك بها طوال يومه. وحين يلتفت ويجد نواف قد بدأ الحديث في روايته المكررة، نسمع عفطة طويلة صادرة عنه يتردد صداها في السوق. ولكن تلك العفطة ما زعزعت يقيني بصحة ما يرويه نواف. فقد حضرت لمكان الحادث مساءً بعد عودتي من عملي فوجدت آثار الدمار تحيط بالمكان.
بقايا عربة محترقة ما زالت بعض قطع الخضار تتدلى منها وثمة دم خاثر يلتصق بواجهة محل طويت بابه نحو الداخل وبدت وكأنها ثوب مدعوك، وتداعت واحترقت بعض واجهة البناية والمحلات الواقعة أسفلها. مال عمود الكهرباء طاويا نفسه ليقع قرب باب البناية، وكانت هناك بقايا جسد سيارة محترقة شق لنصفين، وثمة حفرة بقطر مترين امتلأت بخليط داكن من ماء وزيوت وما يشبه دم قاني اللون. كان باب محل نواف مغلقًا ولم ألاحظ عليه آثار تدمير مثلما كان عليه حال واجهة البناية وبعض الدكاكين التابعة لها. كان نواف جالسًا عند نهاية الزقاق البعيدة، فوق تخت مقهى أبو حيدر الجايجي. كانت يداه تلوحان في الفضاء بسرعة جنونية فوددت أن استفسر منه عن الذي حدث، اقتربت منه، لم تكن نبرة صوته هي التي اعتدتها. شفتاه جافتان وعيناه تدوران في المكان بحثا عن المجهول. يداه تطوحان في الهواء دون استقرار، شعرت بارتعاش جسده. راح يعيد على مسامعنا نحن الذين جلسنا قربه، قصة ما حدث بالتفصيل، وكيف نجا من الحادث بقدرة الواحد الأحد، وفي نهاية حديثة أقسم بأن يبتعد كليا عن تناول الكحول ويبدأ بأداء الفرائض. سألته عن محله فأجابني بكلمة مختصرة، الدمار بالداخل.
ـ كانت الشظايا قريبة مني لا تبعد سوى سنتمترات قليلة والقدر عندها لا يضمن للإنسان حقيقة بقائه حيًا، ولكني فعلتها ونجوت. مَن يريد النجاة عليه أن يسارع لحظتها بالانبطاح أرضًا وحماية رأسه بكلتا يديه، هذا كل ما على المرء فعله لحظة الوميض، قبل أن يأتيه العصف وصوت الانفجار، إنها طرفة عين ليس إلا.
عندها صرخ سمير الأدرد الجالس على ذات التخت ويتسقط كلمات نواف، التي بدت له مثل حبات عنب تنفرط فيلتقطها ويتلذذ بطعمها مبهورًا مسحورًا بجو الحكاية، التي كان شاهدا عليها أيضًا.
" يمعوذين أعتذنا على مثلها بالحروب "
هذا السمير الأدرد، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع، جمع الناس جسده المبعثر، وكان رأسه قد تهشم وأحترق جراء انفجار آخر قرب مقهى أبو حيدر.
يقينا أن نصيحة نواف لها الكثير من الفائدة، أن حدث ما يشابه تجربته التي خرج منها سالمًا. هذه اللحظة فكرت بحاجتي لنواف. بكل تأكيد وحده كان قادرًا بحدسه على اكتشاف مثل هذه الكارثة المحدقة بنا الآن، والجائز أن نواف سيقف بجانبي ويكون حريا بإيجاد مخرجًا لمثل هذا الموقف الصعب. أليس نواف بصاحب تجربة وخبرة؟ ولكن الساعة أدرك أنه لأمر مبهم، فالظنون لوحدها لا تكفي للاستدلال على واقعة يخفيها شيطان تحت ثيابه، ونواف من المستحيل أن يكون منقذًا فذاً لو أراد هذا البشتوني تفجير نفسه داخل السيارة وقتلنا جميعا.
أنا أنتمي إلى الطرف الآخر من المدينة، ولكني وبشكل يومي أجتاز هذه النواحي وأعرف سكانها وأميزهم فرداً فرداً. خلال سنوات ليست بالقليلة كانت أشياء كثيرة قد تغيرت، ملامح الشوارع باتت تؤسى الناظر. فالمدينة لم تحضَ بعناية منذ عهد ليس بالقريب، وأصبحت أكثر اكتظاظًا بالعربات والبشر، والأرصفة افترشها الباعة، وأغلب الأبنية بدت آيلة للسقوط، والكثير من جدرانها شوهتها صور الملصقات الممزقة. حتى وجوه الناس تغيرت ملامحها وعافت تلك الملاحة والانشراح لتتحول نحو التجهم والعبوس. يمر أمامي يوميا آلاف الرجال المنهكين بوجوههم المدعوكة المقطبة المصفرة، يجرجرون أجسادًا مهدودة. بدوري تعودت بفضول أن أخزن في ذاكرتي جميع الوجوه التي تخطر أمامي يوميا، وكأني أمارس لعبة فرضت عليَّ فرضًا، يتوجب فيها أن أدون ملامح الوجوه كأنها أرقام هواتف يجب أن لا أتركها دون أن أعثر على وسيلة توصلني لبعض معلومات عن مالكيها. وكأني كنت أعلق روحي وذاكرتي بهذه المدينة عبر تقاطيع وجوه أهلها وطباعهم، وضجيج باعتها وزحام شوارعها. لا أجد لهوسي هذا غير تفسير وحيد لم أتعب روحي في التوقف طويلا عنده، وتركت الأمر على رسله، ولكن كنت أشعر بأني أتبعه ويتبعني دون ملل أو توقف أو حتى تساؤل. الضجر، الرتابة، الفضول، كلها مجتمعة تدفعني لتعقب جميع ما يدور حولي، عند كل انعطافة من جوانب تلك الأحياء وقاطنيها. فصول شتوية باردة، وصيفية مثقلة بالقيظ، كنت أغرق فيها بهوسي وفضولي بحثا عن لا شيء، أو لأسميه بحقيقته المفزعة،مس جنون، ويقال إنّ مثل تلك اللوثات دائما ما تكون ماحقة للفرح وطاردة لطمأنينة الذات وهدوئها.
قبل ثلاثة أشهر من اليوم أصبح عمري خمسة وأربعين عاما، أمضيت جلها شقيًا مغلول القدرة دون مقاربة لسعادة حقيقية إلا هوامش بالكاد كنت أتحايل للحصول عليها، وأنال مرامي منها في تجليات صبيانية ليس غير، خفة واستخفاف ومرح، جدية دون رصانة، ولكني كنت أستعذبها دون أن أجد عناءً أو تأنيبًا يمنعني من فعلها طيلة الوقت وفي أي مكان. آمالي وأمنياتي طالما كانت لا تتعدى آماد بعيدة، ولم أجد في يوم ما، ما يحقق اكتمالها ولو للبعض منها، سوى نثارات، لم تقدم في الغالب عون يذكر، ولذا وجدتني أؤمن إيمانًا قاطعًا بعجزي عن تغيير نمط حياتي، أو خلق حياة أخرى غير التي مارستها، وما فتأت أمارسها يوميًا. دورات وأعمال وممارسات متعبة، البدايات تبدو رضية مشوقة ثم يبدأ كل شيء يتسرب ويفلت بعيدًا، فأجدني في لجة أمواج من ملل ثم عجز وتعب واضطراب، بعدها أدرك سذاجتي وجهلي وعدم قدرتي على تحقيق شيء، شيء أجد فيه ذاتي، ولكني ومع كل تلك الشروخ لم يخطر في بالي ولو للحظة أن يهبني القدر ميتة تراجيدية، لا بل لم أفكر بالمطلق أن يكون خيار الانتحار الملحمي طريقًا مخلصًا لمتاهتي. لم يهبني جزعي مما يحيطني، الشجاعة الكافية للقيام بفعل ذلك، ودائمًا ما ورطت نفسي بالكثير من الظنون المبتكرة، وكان جلها باذخًا في تطرفه. ورغم ظني بامتلاكي معرفة مكتملة عن العديد من الطرق والمنافذ ومثلها المعارف والحكايات ولكني في الغالب أجد كل ذلك يرقد داخل جمجمتي ولن يخرج للعلن.
لماذا حضر إلى منطقتنا؟ حاولت أن أجد تفسير لهذا الآمر، فلم يسبق أن شاهدته هنا. لحيته، وجهه المدبب، وجنتاه، صدره، ومنكباه،هيكل جسده الناحل، جميعها لا تبعث الاطمئنان في النفس، تركيبة جسده العليا وساقاه توحيان بعدم تناسقهما، لقد لمحت فيهما منظرًا غريبًا. الصديري والثوب تحته يشيان بارتفاع ظاهر يوحي بالكثير من الشك. ما بدر منه من حركه بطيئة عند استدارته وجلوسه، مثير ومبعث للريبة. كان وكأنه يتحاشى احتكاك قطبين. إنهما القطبان اللذان سوف يحيلان المكان إلى شعلة من نار ودخان، تشوي الأجساد وتحيلها إلى فحم أسود مثل لحيته الكثة.
المصادفة العشوائية وحدها دفعت هذا الشخص لارتقاء ذات الحافلة التي أجلس فيها ليكون هو وسطنا ديناميتاً صاعقاً. لِمًّ لمْ يخطر على بال أحد من الركاب مثل ما يعتمر في رأسي من خوف وتوجس؟! الأكيد أننا وفي القريب العاجل سوف نكون ضحايا دون أن نلحق لمواساة بعضنا البعض. لا حاجة بنا لتعقب تفاصيل أحداث يومية جرت في حياتنا وكانت تغلف أرواحنا وتوشم جلودنا بما عليها الآن من ندوب وذنوب. اللحظة حين تقع الواقعة، سوف نتوحد، أظن أن ذلك سيكون ابتكارًا كافيًا لنكون حشدًا ضد واحد.
توقفت الحافلة ودلف فيها بعض ركاب، لم يجلب أحدهم اهتمامي، فقد تعلق ذهني بصورة الفتى الأسمر صاحب الرداء القصير، فأهملت البحث في وجوه باقي الركاب. فأنا أشعر الآن بالكثير من الفزع المبطن، بعد أن توضح ليَّ وجود خطر حقيقي من الصعب تجنبه، خطر يقع في مقدمة الحافلة جوار السائق، خطر أجبرني على وضع قائمة أمامي للعديد من الاحتمالات والخيارات، التي من الممكن حدوثها أو اتخاذها عند الواقعة. جميع الاحتمالات مهما كان شأنها ضئيلا. وضعت في خاطري حتى الروايات أو التأويلات التي سوف يتبادلها الناس عني ومنهم أهلي وأصدقائي وعند تخوت المقاهي أو حجرات النوم، وبالتحديد عن واقعة موتي.تلك الحكايات التي ستكون جميعها وبشكل قاطع بعيدة كل البعد عن حقيقة الذي حدث. فالناس ميالون لصناعة تراجيدياتهم الخاصة ولا يحتاجون سوى رأس خيط يحيكون به رواياتهم عن الذي جرى تلك اللحظة، وهم في ذلك يواسون أنفسهم أو يتلذذون بصنع أشرطتهم السينمائية الشديدة الخصوصية.
تابعت الحافلة المسير مقتربة من تقاطع وسط المدينة. كان الزحام على أشده وأصوات منبهات السيارات لشدتها تبعث على الغثيان. شعرت أن ما عاد لدي وقت للنجاة سوى التحول من وسط الحافلة والالتجاء إلى المقاعد الخلفية، فمن الممكن الاحتماء هناك من شرر الانفجار وعصفه إن صدقت ظنوني. فكرت بترك السيارة ووجدته الحل الأمثل لمثل هذه الحالة، قبل أن يستفحل الأمر ويقترف هذا المجرم جريمته. ولكني وجدت نفسي في الأخير وقد تحركت بعد جهد ليس بالهين، جهد من يريد الخلاص من موت محتم، واخترت الزاوية القصوى في نهاية الحافلة. لست في شك من الأمر. فالقدر وحده من دفعني لهذا الخيار واستجابت قدماي لأوامره. فتحت نافذة الحافلة القريبة مني ومثلها في الجانب الآخر. تجربة ونصائح نواف دلتني على إن نوافذ السيارة المفتوحة سوف تقلل من شدة عصف التفجير ولهب الاحتراق. هكذا قال نواف عن الجريح الوحيد الذي استطاع إنقاذه في إحدى حوادث الانفجارات المتكررة في محلتهم. كان الشخص يخرج رأسه من نافذة الحافلة المفتوحة وقت الانفجار، فأنقذه وضعه ذلك من موت محتم رغم جروح جسده النازف. وقتها لم أناقش الأمر مع نواف فهو الأعرف والأعلم والأقرب للواقعة، والوحيد الذي كان يستطيع احتواء المشهد ووصف ما حدث بدقة ودراية.
وأنا أتعقب المشهد حسب وصف نواف لتفاصيله المروعة لم أجد تفسيرًا لما يحدث من جرائم قتل، ولا لدوافع هؤلاء في قتل الناس الأبرياء. أعتقد أن هذا السلوك ليس له مبرر، وليس هناك من سبيل لتفسيره، ومثلما للجميع القدرة على تفسير الأحداث وإعطاء صورة متخيلة وافتراضية عنها، فإني ولحد اللحظة لم أجد أسبابًا منطقية تدفع المرء للانتحار وأخذ أرواح الآخرين معه، تأويل غير منطقي لهدف ديني يفتقد للواقعية أو أي شرعية يمكن أن تلصق به.
جلست مرتبكًا في المقعد الأخير عند نهاية الحافلة، متقطع الأنفاس أستمع لصدى دقات قلبي الوجلة دون أن أشيح نظري عنه، كنت أراقب حركاته والتفاتاته المتكررة التي كان دءوبا في تسريعها برسوخ، وما كان أحد يشعر بها غيري. لعل الجميع هنا ما كانوا ليروا ما هو أبعد من تسارع مناظر الشوارع وواجهات المحلات.
لو أني أستطيع انتزاع الخوف من قلبي لما ترددت الآن من وضع رقبته بين كفيّ وضغطت عليها بكامل قوتي لأنهي الكابوس المستعر في روحي والحائم في جوف الحافلة مثلما في قحف رأسي. ولكن مثل هذا الأمر وفي حالتي الركيكة المفككة يبدو مستحيلا، لا بل ضربا من هذيان. ابتهلت لأجل أن يشاطرني أحدهم ظنوني ومن ثم الترقب الصعب، ولكن وجدت نفسي وحيدا أتكور مثل جرذ محاصر مستكين خلف مقعد جلدي، أفتقد القناعة بكونه حاميًا لجسدي من التمزق أو الاحتراق، وعند هذا أعترف لنفسي بأني وبالكامل ملوث بالخوف. لم يكن الرعب الماثل في قلبي، وقد تمثل أمامي في صورة ذلك الرجل الملتحي، على أنه محض مشهد رهيب عابر، بقدر ما كان يمثل عجزي الروحي، والذي بدوره بات لا يجلب لي سوى ما يمكن للحواس المستفزة التقاط الأسوأ ما فيه على الفور.
بشيء من المباغتة غير المرتقبة، صر كابح الحافلة لتتوقف فجأة قرب رأس الجسر المفضي لطرف المدينة القديم. ضغطت بأصابعي المتيبسة على الإطار الحديدي للمقعد أمامي، محاولاً سحب ظهره الجلدي نحو صدري للتغطية. لبرهة خاطفة وبالتفاته سريعة وجه نظرة سريعة وخاطفة نحو الخلف وابتسم وهو يتمتم ثم أشاح وجهه باتجاه سائق الحافلة. بدأت لحظتها أعد ألثوان التي تسبق وقوع الحدث. لا تراودني الشكوك بنواياه التي عززتها التفاتته الهازئة التي وقعت على قلبي وقوع الصاعقة. نظرت له وقد نهض بقميصه الفضفاض وتطاولت قامته واتسع كتفيه. تقدم نحو الأمام ثم توقف. ضغطت على الإطار الحديدي للمقعد وأمسكته بقوة وتأهبت للصراخ. في هذا الوقت يتجمع الممكن والمستحيل ويتوقف الزمن عند ما يتزنر به الرجل، والذي سوف يتحول بعد لحظات إلى ومض لهب وقوة نارية تمزق الحافلة ومَن فيها، وتنشرها وأجسادنا عند زوايا الشوارع وفوق عربات الباعة الجوالين. سوف يهرع الناس نحو مكان الانفجار ويعم المكان إرباك تام. عندها سوف أكون جسدًا متفحمًا في آخر زاوية للحافلة، ومن الجائز أن لا أحد يتعرف على هويتي بعد تفحم جسدي الكامل، إن لم يتمزق لأشلاء متناثرة فوق البنايات القريبة وإسفلت الشارع. آه كم هو مؤلم أن تتعرض لمثل هذه الميتة البعيدة عن المنطق. أن تذهب أيام شبابك هباءً رغم كل ما شابها من خيبات، دون أن تنال ما يستحق من متع الدنيا. ربما حذري والمكان سوف يحمياني أو يكونا سببًا لواقعة موت أقل إيلامًا مادام ذلك الشخص ساع إلى حتفنا عبر تفجير جسده.
حاولت الصراخ بكل ما أوتيت من قوة ولكن صوتي تكسر في صدري وتيبست حنجرتي فابتلعت صرختي وكتمتها. اندلق جسدي عند أرضية الحافلة الملطخة ببقايا زيت وأوساخ وأعقاب سجائر، محاولاً اتخاذ ظهر المقعد كساتر ومتراس يصد عني لهب الجحيم الذي سوف يوقده جسد هذا العابث الأرعن. فكرت بالوميض، بالنيران، فكورت جسدي بين المقعدين تحاشيًا لعصف ولهب التفجير. غرزت أصابعي في أذنيّ، كي لا أسمع صوت الانفجار، ولكن اليقين وأزيز الرعب الذي يجتاح جمجمتي ويجبرني على التفكير بأن الواقعة لا محال ستكون أشد من أن يتداركها إصبعاي المرتجفان، وتحوطي هذا سيكون ضئيل جدا، لا بل شبه استدراك هزيل لا يلملم حتى ولا أجزاء صغيرة لأشلاء جسدي المبعثر، الذي سوف لن يتعرف عليه أقرب الناس من أهلي.
ارتج جسدي من رعشة باردة سرت فيه، وانتظرت متكورًا خلف الكرسي. مضت بضع دقائق ثقيلة حين دبت الحركة بالحافلة فشعرت باهتزازها واندفاعها، رفعت جسدي وطالعت جوار السائق بعيون خائفة. لقد اختفى الرجل الملتحي، ثم بحثت بنظرات حذرة وجلة في جميع الاتجاهات القريبة من الحافلة فلم ألمح له وجودًا. ولكن ليس هناك ما يبعث على الاطمئنان. فالوميض حتما يسبق صوت الانفجار ونحن مازلنا فوق جسر المدينة لم نعافه كليًا.



#فرات_المحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلم سينمائي
- من أكل الطلي الهرفي
- مهام ليست بالسهلة ولكنها ليست مستحيلة
- هل هناك تحولات مرتقبة للانتفاضة العراقية
- الأكاديمي حين يخطئ
- ما آل أليه حال سائرون
- مطاردة الأشباح
- وحدة قوى التيار الديمقراطي هل من مرتجى؟
- الإطاحة بعمر أحمد البشير كان طبخة سعودية
- هل السيد عادل عبد المهدي رجل مجموعة مستقبل العراق؟
- شعار الصداقة بين الشعوب بين النظرية والمآل.
- شعار الصداقة بين الشعوب، بين النظرية والمآل.
- يقال تمخض الجبل فولد فارا
- الولاء والحراك الجماهيري
- ضباع مجالس المحافظات
- خرج أو صرة أو خزائن السيد حيدر العبادي
- هل قرأ المكتب الاستشاري للحزب الشيوعي العراقي اللوحة جيدا؟
- تركيبة الحشد الشعبي، هل تؤهله أن يكون ظهيرا للقوات المسلحة ا ...
- شارع المتنبي تغتاله بسطات الكتب
- فضائح انتخابات الخارج تتكرر دون حياء


المزيد.....




- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - فوبيا