أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شاهر أحمد نصر - ندوة طرطوس حول العلمانية















المزيد.....



ندوة طرطوس حول العلمانية


شاهر أحمد نصر

الحوار المتمدن-العدد: 6612 - 2020 / 7 / 7 - 16:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    




بتاريخ 26/6/2020 نظم فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب ندوة في قضايا وآفاق العلمانية – شارك في الندوة السادة:
المهندس محمود صقر – عضو قيادة فرع طرطوس لحزب البعث العربي الاشتراكي (سابقاً) وأ. شاهر أحمد نصر، وقد أغنت الندوة مداخلات السادة الحضور، كما تلقينا مداخلة من السيد طلال الامام باسم "منتدى العلمانيين السوريين في السويد"، ونظراً لأهمية المداخلات، نرجو من السادة الذين قدموا مداخلاتهم أن يرسلوها لنا لنقوم بنشرها.
نبدأ بنشر مداخلة "منتدى العلمانيين السوريين في السويد"، ومحاضرة أ. شاهر أحمد نصر، على أن نقوم بنشر محاضرة الأستاذ محمود صقر والمداخلات الأخرى لاحقاً...
- مداخلة "منتدى العلمانيين السوريين في السويد":
"اتحاد الكتاب العرب /فرع طرطوس
تحية واحتراما !
تلقينا بسرور بالغ نبأ تنظيم فرعكم لندوة حول قضايا وافاق العلمانية بمشاركة الاساتذة : المهندس شاهر نصر ، د.حسان اسحاق والمهندس محمود صقر .
كنا نتمنى المشاركة في الندوة لما لهذه المسألة من اهمية حيوية لسورية ومستقبلها .نأمل ان يتم ذلك مستقبلا .نحن كلنا شهود محاولات القوى الارهابية /السلفية نشر افكار التعصب الديني والطائفي لغايات ليس لها اية علاقة بآمال السوريين وطموحاتهم بحياة افضل .
من هنا نعتقد ان ندوتكم هي خطوة جيدة ومطلوبة في الاتجاه الصحيح لسببين اساسيين :
أولا -:اعطاء مفهوم العلمانية معناه الصحيح وتخليصه من التشويهات المقصودة او غير المقصودة وما تلحق به من نعوت العلمانية منها براء . يردد البعض مثلا ان : العلمانية تعني الكفر والالحاد ومحاربة الاديان ، العلمانية تدعو الى الاباحية والفجور ووووو
ثانيا - على امل ان تكون هذه الندوة مقدمة لتجميع القوى العلمانية في المجتمع السوري وهي كثيرة كما نعتقد لمواجهة المد السلفي الذي يعيد مجتمعنا قرونا للوراء .ومن اجل العمل على ان ينص الدستور السوري المنشود على العلمانية.
ايها الاعزاء!
نحن هنا في السويد نعمل منذ فترة في مضمار العلمانية تحت اسم : "منتدى العلمانيين السوريين في السويد" .
اسمحوا لنا ان نقدم عرضا سريعا لمنتدانا .جاء في التعريف بالمنتدى الذي انطلق قبل نحو خمس سنوات : " نحن مجموعة من العلمانيين السوريين المقيمين في السويد جمعنا القلق من تنامي نزعات التطرّف الديني والطائفي والعرقي بين بعض أوساط الجالية السورية.نسعى من اجل خلق بيئة صحية علمانية لابناء الجالية السورية في السويد"
نقيم فعاليات شبه دورية يحضرها المهتمون ،نحاول من خلالها القاء الضوء على العلمانية من مختلف جوانبها انطلاقا من التجربة السويدية .لدينا موقع على الفيس بوك ننشر فيه فعالياتنا وبعض المقالات ذات الصلة كما نجيب على التساولات التي تردنا .بدأتا في الفترة الاخيرة بث فعالياتنا بشكل مباشر على موقعنا .يمكنكم الاطلاع عليه عبر البحث عن "منتدى العلمانيين السوريين في السويد "
اقمنا حتى الان عدة فعاليات منها :
* جلسة حوار حول العلمانية
* الشباب في المجتمع العلماني /السويد نموذجا .
* المرأة في المجتمعات العلمانية /السويد نموذجا .
* الزواج المدني في المجتمعات العلمانية /السويد نموذجا .
* الاسرة الشرق اوسطية في المهجر .
* العلمانية والهوية الوطنية .
* الاديان والموسيقى
اضافة الى مقالات واستبيانات نطرحها على المهتمين .
ندرك تماما ان عملنا في هذا المجال ليس بالسهل ابدا ولكن لابد من السير فيه من اجل وطننا والاجيال القادمة .
نتمنى متابعة اقامة مختلف الفعاليات حول العلمانية ندوات ، محاضرات ، حوارات وغيرها .
نقترح اقامة فعالية واسعة على مستوى القطر حول العلمانية يدعى اليها مهتمون من داخل سورية وخارجها .
نتمى لندوتكم النجاح وشكرا ثانيه للسادة المشاركين ولاتحاد الكتاب العرب /فرع طرطوس على مبادرته .
مع التقدير !
منتدى العلمانيين السوريين في السويد
طلال الامام .
ستوكهولم 26/06/2020"


- نص المحاضرة -
"لماذا العلمانية؟
شاهر أحمد نصر
هل مجتمعاتنا في حاجة إلى بناء الدولة على أسس علمانية؟
مَن المستفيد، ومَن المتضرر من قيام دولة المواطنة العلمانية؟
مَن يحمل لواء معاداة العلمانية، ومًن يخدم؟
لماذا تزدهر مذاهب وديانات المحبّة في الدولة العلمانية؟ ولماذا يحذر بعض رجال الدين من العلمانية، وهي حامية حرية الإنسان المتدين وغير المتدين، وحامية كلّ دين ومذهب يدعو إلى المحبّة؟
أسئلة ملحة تزداد أهميتها مع احتدام الصراع على مستقبل الدول والشعوب، فضلاً عن أنّها جزء من الأسئلة والتحديات التي تواجه الإنسانية والفكر الإنساني، في بداية الألفية الثالثة، وتحتاج إلى تضافر جهود مؤسساتية حثيثة لفك ألغازها ومعالجتها بالسبيل القويم.
تزداد أهمية الإجابة عن هذه الأسئلة والتحديات مع بروز مسألة ملحة تحتاج إلى بحث، أيضاً، ألا وهي مسألة تراجع العلمانية في معاقلها، وعدم إبداع فكر وأساليب حكم وحياة جديدة، تعزز من حضورها، أو تتجاوز ثغراتها، بل على العكس نجد العلمانية تتراجع أمام فكر غيبي منغلق، يساهم في انتشار وعي يقارب الغرائز المتوحشة، ويساعد في نمو التطرف والإرهاب والعدائية...
يتجلى تراجع العَلمانية في معاقلها في الدول المتقدمة صناعياً، ناهيك عن الأطراف، في ذلك الخبل الفكري الذي أخذ يعمّ تلك الدول والعالم، والذي عزّز صعود التيارات والمذاهب الفكرية الغيبية المنغلقة على ذاتها المستترة بالدين ، والترويج للفكر الغيبي في المجتمع، وفي مناهج التعليم في مختلف أنحاء العالم... يترافق ذلك مع تراجع دور الفكر العقلاني التنويري، وتقلص مساحات تأثير هذا الفكر عالمياً، وانتشار وسائل الإعلام التي يتحكم بها رأس المال المتوحش، وانطفاء جذوة الفكر والفلسفة، وغياب أو تغييب المفكرين والفلاسفة، إن وجدوا، عن دائرة الفعل والتأثير... لقد أصبحت الإنسانية في حاجة ماسة إلى مصباح ديوجين، حاجتها إلى العقل... إنّ البشرية في حاجة إلى فلاسفة ومفكرين كبار لعلّهم يستطيعون إقناع رجال الحكم والسياسة، بمن فيه حكام أكبر وأقوى الدول المتطورة علمياً وصناعياً، التي تحكم بلدانها بموجب دساتير (علمانية)، بأنّ تهميش الفلسفة، ومناهج التفكير العقلانية، وممارستهم الطقوس الغيبية - كأنّ يذهبوا إلى جدران الهياكل والمعابد ويدسوا رسائلهم الورقية إلى الله في شقوق جدرانها – كأنّ جداراً يقف في وجه تطور البشرية يتعذر عليها التقدم إن لم تتجاوزه - أو أن يمارس علماؤهم وكهانهم طقوساً غيبية برش المياه المقدسة بالمكانس عند تدشين مصنع طائرات، أو إطلاق سفينة فضائية، أو تدشين مركز أبحاث علمية - تتناقض مع الفكر العلماني، وتمهد لانتشار الفكر الغيبي الحاضنة اللازمة والضرورية للتعصب والتطرف والإرهاب.
إنّ مسألة تراجع العلمانية في معاقلها تعبر عن الأزمة التي تعيشها البنى السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية في الدول التي يزعم أنّها تنتهج نهجاً علمانياً... فضلاً عن أنّ هذه الظواهر تعبر عن أزمة تعيشها المجتمعات البشرية... لم يكن الهجوم المتعصب ضد العَلمانية ليجد "صدى له لو أنّ الحضارة الصناعية، وهي مهد العَلمانية، لم تكن هي نفسها تعاني من أزمة ـ أخلاقية، واجتماعية، وفكرية ـ ولم تعد تقدم نموذجاً جذاباً يحفز بقية العالم... في اللحظة التي أخذت البنية السياسية المهيمنة في الدول في عصر الصناعة تمضي نحو أزمتها هوجمت الفلسفة العَلمانية"(1)، وأخذت النزعة الأصولية والدينية المنغلقة تتبوأ مركز الصدارة، وهذا تعبير واضح عن الأزمة التي تعاني العلمانية منها، ومن مظاهر هذه الأزمة البؤس الفكري الذي يعاني منه كثير من الكتاب والمفكرين، ذلك البؤس الناجم في بعض تجلياته عن الدور الذي تلعبه إدارة السلطة المالية العابرة للقارات، وتحوّل العالم إلى النزعة الاستهلاكية البغيضة مع غياب القيم الوطنية والتاريخية العليا في كثير من الدول... وتتعمق آثار بؤس الفكر عموماً، خاصة مع ازدياد الأغنياء غنى، والفقراء فقراً، ويطال هذا البؤس المجال الثقافي العالمي: حيث يجري بشكل حثيث العمل على نشر ثقافة تطغى عليها ميزات الربح والاستهلاك، فتنتشر سلسلة أعمال الخيال والسرد الغرائبي، كسلسلة الروايات التي تدور أحداثها في عالم مصاصي الدماء، والتي تعالج موضوعات فوق الوطنية، وتلك التي تستخدم السحر والأرواح الشريرة كعنصر هام، ليس في بنية العالم فحسب، بل وفي تحديد مصيره... وتنتشر الكتب التي تتلاعب بالأحداث التاريخية، وتلوي عنقها - منها، على سبيل المثال، المؤلفات التي تزعم أن أهم الحضارات التي عرفتها البشرية من صنع أفراد وشعوب قدمت إلى الأرض من المريخ، وتلك التي تربط أسباب الكوارث الطبيعية بمواقف سياسة، كإعادة أسباب الكوارث التي تحصل في الولايات المتحدة الأمريكية بالمواقف السياسية لحكومتها ورئيسها من إسرائيل- ... توجد مآرب مختلفة وراء نشر هذه الثقافة، وتبدو تلك الأعمال واسعة الانتشار كأنّها مساهمة من ضمن المساهمات المتعددة والنشاط المحموم لتشتيت العقل وتلويثه، وهي ثقافة تتناقض مع قيم العلمانية التي تضع مسألة السمو بإنسانية الإنسان وبناء وعيه السليم على أسس عقلانية سليمة... يزيد هذه الأزمة تفاقماً الصراع داخل القوى العلمانية نفسها...
الصراع داخل معسكرات العلمانية:
عرفت المجتمعات البشرية في أوربا وأمريكا، في بداية القرن العشرين، حضوراً متعدداً ومتنوعاً للفكر العلماني، تمركز في دول المعسكرين الشرقي والغربي، (الاشتراكي، والرأسمالي)، إلاّ أنّ هذين المركزين عاشا حالة صراع تناحري، فانغلق كلّ معسكر على بنيته الفكرية والسياسية وتحولت أيديولوجية السلطة الحاكمة المنغلقة إلى نوع من الديانات، واحتدم الصراع فيما بينهما، مما زعزع عملية صعود الفكر العلماني، فعانى من الانكفاء نتيجة الصراع الذي شهده العالم إبان الحرب الباردة، بين هذين المعسكرين، واحتدام الصراع بين الطبقتين العاملة، والبرجوازية، اللتين يفترض أن تكونا حاملتي الفكر العلماني، كما تمت معاداة تيار بكامله في الفلسفة؛ هو الفلسفة المادية، التي هي حامية فكرية أساسية للعلمانية، وبانكفاء هذه الفلسفة كان لا بد أن يعبئ الفكر الغيبي مكانها، ووجد في بعض الفلاسفة المثاليين حماة لهذا الفكر...
إنّ تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية والفكرية الخانقة التي عصفت ببلدان ما عرف بالمنظومة الاشتراكية (العَلمانية)، وعدم تمكنها من معالجة أزماتها وإيجاد الحلول المناسبة لها، أوصلت مجتمعاتها، ومن سار في فلكها إلى طريق مسدود، ووجه ذلك ضربة إلى أحد أشكال تطبيق النهج العلماني على الصعيد الإنساني عموماً، كما أنّ المجتمعات الرأسمالية في أوربا وأمريكا واليابان لم تستطع معالجة مشاكل الاستغلال والتمييز في داخلها، وأخذت تطغى وتهيمن فيها مرحلة تقانة المعلومات على المرحلة الصناعية، بما يتركه ذلك من أثر على الوعي الاجتماعي، كلّ ذلك، فضلاً عن استمرار معاناة شعوب العالم الثالث من مخلفات الاستعمار والاستغلال، والاحتلال... مما خلق الظروف المناسبة لزعزعة ثقة الناس بالعَلمانية، ومهّد السبيل للبحث عن بدائل أخرى...
لقد أخذت تظهر على الصعيد العالمي حركات تعبر عن الأزمة التي تعيشها الإنسانية: فظهر عبدة الشيطان، والحركة الهيبية التي شنت هجوماً عنيفاً على منجزات العَلمانية، وعلى ثقافة المجتمع الصناعي، وتوسعت ظاهرة المغالاة في التصوف، وانتشرت المخدرات، والتنجيم، والإيمان بأديان تكاد لا تكون معروفة... وأخذت الحركة الهيبية تبشر بالعودة إلى ماضٍ أسطوري مليء بالمفاتن، يلتصق بالأرض بعيداً عن بهارج المجتمع الصناعي، وصارت حتى الدول التي تدعو إلى العلمانية تشجع رسمياً الفكر اللاعلماني؛ ففي اليابان، على سبيل المثال، أصدرت وزارة التربية في عام 1989 قراراً مثيراً للجدل يقضي بأن يتعلم التلاميذ احترام الإمبراطور الذي هو الكاهن الأكبر للشنتو، كما ترافق بدء عملية الإصلاحات في الاتحاد السوفيتي (السابق)، ورفع القيود، وتنفس نسيم الحرية مع انبعاث لهيب الأصولية الدينية الإسلامية، والمسيحية الذي بدأ يلفح البلاد، فأخذ الأذريون المسلمون والأرمن المسيحيون يتذابحون في القوقاز، ثم نشبت حرب الشيشان، وتأججت النزعات المتطرفة والغيبية والدينية المتطرفة بعد سبعين سنة من الحكم الشيوعي (العلماني)، وأخذت ظواهر الفكر الغيبي تتغلغل وتؤثر في سلوك شخصيات ذات مواقع هامة في مفاصل السلطة الحاكمة، وأصبح الشيوعيون يشعلون الشموع للأيقونات في المعابد ويركعون أمامها ويقبلونها طالبين البركة والغفران... ويشنّ الأصوليون المتدينون، عموماً، حرباً مضادة ضد العَلمانية... لقد تكاتفت قوى كثيرة، بعضها من أصول علمانية لتوجيه سهامها إلى هذا النهج العقلاني في الحياة والحكم...
فهل تستطيع العلمانية، والدولة العلمانية الصمود، هل لا تزال حية، تقدم الحلول المناسبة لمعالجة التناقضات الاجتماعية، لا سيما في المجتمعات متعددة الأعراق، والمذاهب، والأديان، وتفتح آفاقاً أمام تقدمها؟
ما علاقة الدولة الحديثة بالعلمانية؟ هل يمكن للدولة العلمانية أن تؤدي وظيفتها في عصر المعلوماتية؟
في تاريخ نشوء الدولة العلمانية
تتطلب مسألة تحديد أسس بناء الدولة في الألفية الثالثة بحثاً جديداً، ينسجم مع التطور الذي حصل في البنية الاجتماعية، لا سيما في مجتمعات انتاج واستثمار تقانة المعلوماتية، وأثر تقانة المعلوماتية على المنظومة الفكرية الجديدة الناجمة عنها، وتوحيدها العالم بشبكة الأنترنت، ودور ذلك في صياغة بنية جديدة للدولة الحديثة...
مما لا شكّ فيه أنّه ينبغي لبنية الدولة الحديثة أن تستقيد من البنى السابقة، وتتجاوزها...
ولتجاوز أي بنية من الضروري التحرر من تقديسها، والابتعاد عن عدّ أي صيغة أنّها كاملة، مكتملة، تامة، ناجزة ونهائية...
يتطلب ذلك ضرورة تجاوز رؤية بعض المفكرين الغربيين للدولة؛ تلك الرؤية القائمة على تقديس الدولة وتمجيد ثباتها، على العكس من رؤية ابن خلدون؛ الذي يؤكد أنّ الدولة ليست دائمة؛ وأنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم ودولهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر.(2) لقد أثبتت مسيرة تطور الدولة في المجتمعات البشرية، صحة رؤية ابن خلدون تلك، كما أنّ دراسة تاريخ نشوء وتطور الدولة العلمانية يثبت نظرية ابن خلدون هذه، ويفيد في البحث عن صيغة عصرية لأسس بناء الدولة الحديثة في عصر المعلوماتية...
قيام الدولة العلمانية في الغرب
يرى كثير من المؤرخين أنّ تفاقم التناقضات، واحتدام الصراع على خلفية الإصلاح الديني بين البروتستانت والكاثوليك قاد أوربا إلى حرب الثلاثين عاماً التي انتهت بتوقيع معاهدة وستفاليا عام 1648. تعدّ هذه المعاهدة أهم أركان ولادة الدولة السيادية، "إذ تم الاعتراف بموجب تلك المعاهدة باستقلال وسيادة كل دولة من دول (الإمبراطورية المقدسة) استقلالاً تاماً وناجزاً، وتقرر أيضاً منع كلّ اضطهاد ديني، ونصت المعاهدة على أنّ ديانة كلّ دولة يجب أن تحددها ديانة حاكمها. بموجب هذه المعاهدة انتقل ولاء الناس من الولاء للكنيسة، إلى الولاء للوطن، وأن تكون علاقة الفرد بالكنيسة علاقة تحكمها الإرادة الحرة والاقتناع، وليست علاقة خضوع بالقوة، أو حاكم ومحكوم، وبذلك تم الفصل تاريخياً بين الدين والدولة، بين العقيدة والسياسة، كان هذا المبدأ "أول تأسيس رسمي في التاريخ للعلمانية".(3)
ويرى مؤرخون آخرون أنّ السلطة الكنيسة في أوربا عندما أعلنت في حوالي عام 1120م تحررها من سيطرة السلطة الدنيوية وتخلصها من التدخل في تعيين رجال الدين وإدارة شؤونهم، بعد معركة فكرية وقانونية؛ ساهمت في وضع أول نظام قانوني شمولي هو القانون الكنسي (قوانين الكنيسة لغريشن 1140م)... وخلقت بذلك "أول نظام قانوني غربي حديث". كما أدى هذا التعديل الثوري إلى مولد سلطة قريبة في الشكل من سلطة الدولة الغربية - كان المثال الأول عليها هو الكنيسة نفسها (وليس الدولة العلمانية) برغم ما في ذلك من مفارقة - مارست الكنيسة منذ ذلك التاريخ كل الوظائف القانونية لسلطة تشبه سلطة الدولة، طبقت لنفسها قوانينها ونظامها الهرمي وحكم البابا من خلال ممثليه. أي إنّ الكنيسة أقامت مثالاً تحتذي به الحكومات الدنيوية لتنظيم أمورها، وتأسيس محاكمها، واختيار موظفيها وتنفيذ قوانينها من أجل أن تحكم في حقولها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لقد مهد انفصال البابوية عن السلطة الدنيوية لتطور البنى القانونية الدنيوية المماثلة وشجع عليها. بينما كانت السلطة البابوية تميل إلى توسيع مجال عملها والتأكيد على سيطرتها على مساحات واسعة من الأمور المدنية والعائلية كالزواج والعائلة والإرث والطلاق وما إلى ذلك، فإنّ السلطة المسيطرة على هذه الأمور كانت تستند إلى العرف والقانون الروماني أكثر من استنادها إلى الأوامر الكتابية (نسبة إلى الكتاب المقدس). هذا أحد الأسباب التي جعلت السلطة البابوية مضطرة فيما بعد للتنازل عنها للسلطات الدنيوية، علماً أنّ القانون الكنسي يتضمن أموراً دينية دنيوية، تتضمن عناصر من القانون الشعبي الألماني والقانون الروماني.
في المجال النظري لعبت نظرية القانون الطبيعي - هذه النظرية التي تقابل حالة الطبيعة بحالة المجتمع وتدعو لإعطاء الإنسان الحرية كحق من حقوقه الطبيعية، التي تبناها طليعة المفكرين الغربيين كـ هوبز (1588-1679) - لعبت دوراً رئيساً في إرساء الأساس النظري للدولة العلمانية الجديدة، التي ظهرت أجنتها بعد معاهدة ويستفاليا عام 1648، ومهدت للفكر الجديد في أوربا الذي تمخضت عنه شرعة حقوق الإنسان، والعقد الاجتماعي عند جان جاك روسو؛ أي إنّ الترتيبات المؤسسية الجديدة في أوربا في تلك القرون أرست مناخاً لم يكن بالإمكان تصوره في شرقنا مناخاً اقتصادياً، علمياً، واجتماعياً تجري فيه الدراسة الطليقة، والنقاش العلني للفلسفة، والعلوم الطبيعية في مؤسسات معترف بها قانونياً. سواء أكان الأوربيون القروسطيون على دراية تامة بمعنى ما عملوه أم لا، فإنّهم أوجدوا مؤسسات مستقلة للمجتمع تدير نفسها بنفسها، عرفت باسم مؤسسات المجتمع المدني. هذه أحد أهم شروط ظهور وانتشار الفكر العلماني في المجتمع.
لقد أتت دولة الحق والقانون، والدولة العلمانية، في أوربا نتيجة مخاض تاريخي كبير عرفته المجتمعات الأوربية في عصر نهضتها الاقتصادية، والثقافية التي تميزت بصراع العقل والعلم مع الأفكار الغيبية التي كانت تغذيها الكنيسة، والتي انتهت بالقطيعة المعرفية مع ما يعيق التطور والحداثة، بما في ذلك التصور الديني للعالم والحياة، مع ظهور وتجذر طبقات ثورية صاعدة في المجتمع هي البرجوازية والطبقة العاملة ومفكروهما...
استمر الباحثون والمفكرون يبحثون في أسباب نشوء الدول، وسبل تطورها، ويعدّ كتاب انجلس "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" من أهم المصادر للتعريف بنشأة الدولة، والذي يؤكد فيه النظرة الماركسية، الشبيهة بنظرية ابن خلدون، القائلة إنّ "إنتاج الخيرات المادية وتجديد إنتاج الحياة المباشرة هو العامل الحاسم في التاريخ".(4) إذ استدعى تطور العملية الإنتاجية وجود مؤسسة لحماية الثروات التي اكتسبها الأفراد، وحل النزاعات بين الجماعة البشرية، (استدعى) وجود مؤسسة يُعترف بها من قبل المجتمع على العموم، وقد ظهرت هذه المؤسسة وعُرفت باسم الدولة.(5)
يرى الفلاسفة الماركسيون أنّ الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد الطبقات الاجتماعية، وبما أنّها قد نشأت في الوقت نفسه ضمن الاصطدامات بين هذه الطبقات، فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصادياً والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة السائدة سياسياً أيضاً، وتكسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة واستثمارها. فالدولة القديمة كانت دولة مالكي العبيد لقمع العبيد، والدولة الإقطاعية هيئة النبلاء لقمع الفلاحين التابعين والأقنان، كذلك الدولة البرلمانية التمثيلية الحديثة هي أداة استثمار العمل المأجور من قبل رأس المال. برغم ذلك، ثمة حالات استثنائية في مراحل تاريخية تبلغ فيها الطبقات المتصارعة درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة فترة معينة نوعاً من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهر وسيط بينهما...(6)
لقد ثار الناس على مرّ العصور على سلطات الدول في المجتمعات التي لا تتجاوب مع متطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري... وكانت تلك الثورات تعبيراً عن حاجة المجتمعات البشرية إلى صيغة جديدة في الحكم وسلطة الدولة، أي الحاجة إلى بناء دولة جديدة... لقد تطورت قوانين وأنظمة ودساتير بناء الدولة عقب تلك الثورات... وما يزال الصراع الفكري حول أنظمة الحكم يتركز بين مذهبين أساسيين:
- مذهب الحكم المطلق في الدولة الثيوقراطية: الذي يرى في الحاكم استمراراً لسلطة الله على الأرض... لقد سارت الحكومات الشيوعية في القرن العشرين، ومن سار في فلكها على هذا النمط، على الرغم من تبنيها العلمانية في دساتيرها، وكانت في أغلبها أشبه بالحكم الثيوقراطي المطلق، هذا ما أوصلها إلى طريق مسدود، وكذا صيغة الحكم الليبرالية المتوحشة، التي حولت رأس المال إلى صنم ومعبود، وأصبحت أيديولوجيتها أقرب إلى الديانة، مما زاد من تناقضها مع العلمانية، فأضر ذلك بالعلمانية تاريخياً...
- مذهب "العقد الاجتماعي" في الدولة العلمانية: الذي يدعو إلى بناء الدول على أساس التعاقد بين الأفراد كجماعة، أو بينهم وبين الحكام... من محاسن العقد الاجتماعي في الدولة العلمانية أنّه يمكن تعديله، وتطويره بما ينسجم مع تطور الحياة، هذا يكسب السلطة في الدولة العلمانية مرونة، تتجاوز تقديس الحاكم والدساتير، وتقبل كلّ ما هو جديد في الحياة، ومعالجة التناقضات الاجتماعية كي لا تتحول إلى تناقضات تناحرية تودي ببنية المجتمع والدول، فإحدى أهم مهام الدولة العلمانية هي معالجة التناقضات في المجتمع.
لكنّ المجتمعات البشرية شهدت بعد تدشين عصر الدولة العلمانية عدة ثورات، وهذا يدلّ على عجز السلطة فيها عن معالجة تلك التناقضات، ويعبّر عن قصور تلك السلطة عن تلبية متطلبات التطور الاقتصادي الاجتماعي السليم... جاءت بعض الثورات الكبرى في مراحل معينة من التاريخ لتعبر ليس عن قصور السلطات في مجتمعاتها وحدها، وليس عن حاجة مجتمعاتها وحدها إلى سلطة أو صيغة حكم جديدة، فحسب، بل ولتعبر عن حاجة الكثير من المجتمعات البشرية لهذه الصيغة الجديدة المنسجمة مع المرحلة الجديدة من التطور الاقتصادي الاجتماعي...
إنّ الثورة الفرنسية عام 1798 لم تكن تعبيراً عن حاجة المجتمع الفرنسي - الذي أنهكه فساد واستغلال الإقطاع، وبطانية الأسرة الملكية الحاكمة بالتواطؤ مع رجال دين - وحده إلى صيغة حكم جديدة فحسب، بل تعبيراً عن حاجة المجتمعات الأوربية عموماً في فترة انتقالها من الإقطاعية إلى الصناعة، إلى صيغة حكم جديدة تتجاوب مع متطلبات ذلك العصر، ومتطلبات التطور والتقدم الاقتصادي والعلمي والثقافي، في أوربا، والارتقاء في صيغة العقد الاجتماعي لتلبي متطلبات حقوق الإنسان، فالثورة الفرنسية كانت حاجة عالمية أيضاً لاعتماد صيغة حكم علمانية جديدة، أو عقد اجتماعي جديد يكرس حقوق الإنسان في العصر الحديث، كذلك الأمر بالنسبة إلى الثورة البلشفية عام 1917 في روسيا التي لم تكن تعبّر عن حاجة المجتمع الروسي - الذي أنهكه فساد واستغلال الحكم القيصري المتحالف مع رجال الدين - وحده إلى صيغة حكم علمانية جديدة، فحسب، بل جاءت نتيجة لنضال الطبقة العاملة الأوربية، وعبّرت عن حاجة المجتمعات الأوربية والعالم إلى صيغة حكم علمانية جديدة تكرس العدالة الاجتماعية وتلبي متطلبات التطور في القرن العشرين...
تبين دراسة التاريخ الحديث أن المجتمعات البشرية تحتاج كل فترة من تطورها (تقارب قرناً من الزمان) إلى صيغة جديدة من أسلوب الحكم العلماني (أو ما عرف بالسلطة العلمانية) تتجاوز أساليب الحكم السابقة، وتلبي متطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي بلغته البشرية... أي إنّ البشرية في الألفية الثالثة في حاجة إلى صيغة حكم أو سلطة علمانية جديدة في الدولة العصرية، تعالج أزمات السلطة وتناقضاتها، وقصورها عن تلبية متطلبات المجتمع في عصر المعلوماتية والانترنت... إذ وصلت صيغتا الحكم (العلمانيتان) الأساسيتان اللتان عرفتهما المجتمعات البشرية صيغة الحكم البلشفي الاشتراكي، وصيغة الحكم الليبرالي المتوحش إلى طريق مسدود... ففي عصر المعلوماتية وتشابك العلاقات بين شعوب العالم، من غير المنطقي أن تبقى صيغة حكم الشعوب، وبناء الأحزاب، وفق الأسس المكيافلية، كما هو الحال في القرن التاسع عشر أو العشرين، واختزال خيارات المجتمع في حزبين اثنين أو ثلاثة، وإجبار شعوب أكبر وأقوى الدول العلمانية على اختيار رئيساً لها من بين اثنين سيئين، أي اختيار الأكثر سوءاً، أو الأقل سوءاً، من بين مرشحين سيئين اثنين، وهذا أكبر تعبير عن التناقضات، والأزمة العالمية في أساليب الحكم العلماني المعاصرة...
أدت التناقضات التناحرية التي عرفتها المجتمعات في العالم العربي إلى براكين اجتماعية تطالب بصيغة حكم جديدة... يمكن عدّ ما جرى في البلدان العربية في العقد الثاني من الألفية الثالثة أفضل تعبير عن حاجة هذه البلدان والعالم إلى صيغة حكم جديدة. لا تقل تلك البراكين أهمية، ولا شأناً عن الثورتين الفرنسية، والاشتراكية في روسيا...
نظراً للحصار الشامل الذي تعرضت إليه القوى العلمانية في العالم العربي، فإنّها لم تستطع أن تفرز مفكرين علمانيين على مستوى الأسئلة والتحديات التي يطرحها العصر، لإبداع واعتماد عقد اجتماعي جديد، أو صيغة حكم علماني جديدة تستفيد من الصيغتين العلمانيتين السابقتين (الاشتراكية، والليبرالية) وتتجاوزهما نحو صيغة حكم في الدولة العصرية الجديدة... يحتاج ابتكار هذه الصيغة إلى تضافر جهود مفكرين كبار... لو استطاع المفكرون العرب ابداع عقد اجتماعي جديد، أو صيغة جديدة للحكم العلماني التي يتطلبها عصر المعلوماتية، لساهموا مساهمة هامة في صنع التاريخ. يوجد من يتساءل بحق: وهل يسمح لهم بذلك؟ لعل ذلك يفسر الهجوم المضاد من مختلف قوى وأدوات العالم القديم ضدهم.
ونعود إلى سؤالنا الرئيس، لماذا نحن في حاجة إلى صيغة أو أسلوب الحكم العلماني؟ هل العلمانية ماتزال تحمل طاقة تؤهلها لأن تكون صيغة مناسبة في الألفية الثالثة، ما هي الشروط المطلوبة لتتجاوز الثغرات التي شابتها، وتشوبها خاصة في المجتمعات المتقدمة. هذا يقودنا إلى التعرف والبحث في مفهوم العلمانية.
فما هي العلمانية
العلمانية من Secularity (سكيوليريتي اللاتينية) وСветский (سفيتسكي الروسية)، تعني الدنيوية، هي مفهوم يصف ممارسة شؤون الحياة وفق متطلباتها الدنيوية (الزمنية)، وعدم تقييدها بالقيود الدينية، كالسفر واستخدام وسائل المواصلات يوم السبت، خلافاً للقيود الدينية اليهودية، أو تقييد الاستحمام وأساليب وأنواع الأكل وعدم حضور دروس الأحد في الكنيسة، أو دروس الجمعة في الجامع، وقص الشعر يوم الاثنين، وتنظيف المنزل من الأوساخ ليلاً...الخ. كان أحد أسباب ظهورها وانتشارها تحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين، ووقوف الكنيسة في أوربا ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها محاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة... مثال على ذلك تحريمها كتاب حركات الأجرام السماوية لكوبرنيكوس الذي نشر عام 1543م... وتعود أجنة التفكير العلماني في أوربا إلى القرن السابع عشر، فكان من الداعين إليها فولتير (1694- 1713) وروسو، وليسنغ (1729- 1781)، وجون لوك (1632- 1714)، وهوبز ( 1577- 1679). تطور الفكر العلماني في أوربا على يد فيورباخ، والماركسية.
العلماني المتنور يضع الدين في مكانة إنسانية ذاتية سامية، مع اعتقاده أنّ من المتعذر إدارة شؤون الحياة اليومية وفق التشريعات الدينية، ومواكبة متطلبات العصر بما تقتضي من تشريعات جديدة واستحداث قوانين تنظم شؤون الحياة اليومية التي لم تكن موجودة في النصوص الدينية، كتنظيم الأعمال التجارية والشركات، والمنظمات الاجتماعية، والجامعات التي تتصف بالصفات الدنيوية أي (العلمانية)، فضلاً عن سن القوانين العصرية الملائمة لحقوق الإنسان وفق المعايير الدولية الحديثة، لذلك، ولغيره من الأسباب، يعتقدون بوجوب عزل الدين عن السياسة؛ نتيجة لذلك ظهرت الحكومات العلمانية التي تتبع القوانين المدنية...
العلمانية تحمي حرية العقيدة والإيمان:
ثمة من يرفع لواء معاداة العلمانية بدعوى أنّها معادية للدين؛ إنّ في هذه الدعوى كثيراً من التجني على العَلمانية، والسهو عن الإلمام بجوهرها. لعل بعض أسباب تلك المعاداة يكمن في تضرر مصالح بعض مستغلي الدين من العلمانية التي تدعو لتقويض سطوتهم واستغلالهم للدين لفرض عقائدهم الجامدة على المجتمع واستغلال ولاء الناس لمفاهيم وقيم شبه غريزية وما قبل وطنية، كي تسهل السيطرة عليهم واستغلالهم.
وكما أنّ العلمانية ليست معاديةً للدين، فهي ليست مرادفة للإلحاد، بل كثر يعززون ضرورتها وأهميتها استناداً إلى قول السيد المسيح "أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، وفي هذا السياق من المفيد التمعن في المسائل التالية:
- هل قارب يسوع المسيح مسألة الخطيئة مقاربة دنيوية لمّا قال «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»؟
- هل قارب الرسول العربي محمد بن عبد الله المسائل الاقتصادية الزراعية مقاربة دنيوية لمّا قال لأهل المدينة "أنتم أدرى بشؤون دنياكم"، بعد قصة تأبير النخيل المشهورة؟
- هل قارب على بن أبي طالب مسألة التربية مقاربة دنيوية لمّا قال: "لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم، فإنّهم خلقوا لزمان غير زمانكم"؟
- هل قارب عمر بن الخطاب مسألة بناء الدولة مقاربة دنيوية لمّا قال "دون الدواوين"؟
ألا تدل هذه الأمثلة أنّ العلمانية لا تتناقض مع الدين، ولا مع موروثنا الفكري النبيل المتحضر، وأنّها أحد سبل خروجنا من أزماتنا"؟
لقد استطاع العرب المسلمون إقامة دولة، ونشر فكر وعلم استفادت منه البشرية - باعتراف المؤرخين الأوربيين والعالميين الموضوعيين - وتم للعرب المسلمين ذلك لا سيما إبان الحكمين الأموي والعباسي، بفضل اعتمادهم على السنن الدنيوية في بناء دولتهم.
يؤكد البحث العلمي في تاريخ تطور الحضارة العربية - الإسلامية في العصر الوسيط، والبحث المجرد عن الهوى في الواقع الموضوعي الذي عرفه العرب، مع انتقالهم إلى المجتمع الطبقي منذ عصر الدولة الأموية والعباسية، أنّه لمّا أخذت أسس بناء الدولة في العهدين الأموي والعباسي تتناقض عملياً، مع الأيديولوجيا الغيبية بدأ العرب - المسلمون بناء الدولة على أسس أقرب إلى الزمنية الدنيوية العقلانية، وأبعد عن الغيبية، فتطورت نزعات فلسفية تقارب العقلانية، وأكد بعض المفكرين كالمعري أن "لا إمام سوى العقل..." كلّ ذلك يدل على أن للعلمية والعقلانية، وللدنيوية (العلمانية) جذور في الفكر العربي الإسلامي، إنّها ليست غريبة عن مجتمعاتنا، ولا عن شعوبنا، ولا عن فكرنا... لولا تلك النزعات العلمية، وبعض الأسس التي استندت على مقومات دنيوية (عَلمانية) لم يستطع العرب المسلمون بناء دولة يصل إشعاعها إلى أوربا والصين...
يخطئ من يعتقد أن علاقة العلمانية بالدين علاقة سلبية، وأنّ العلمانية تفرض إقامة الحياة بعيداً عن الدين، أو الفصل الكامل بين الدين والحياة، ويخطئ من يعتقد أنّ الإسلام يرفض العلمانية من ألفها إلى يائها، لقد دعا كثير من المفكرين المسلمين إلى الأفكار العلمانية، فكان الشيخ رفاعـة رافع الطهطاوي، على سبيل المثال، من أوائل الداعين إلى الأفكار العلمانية في مصر، بعد اطلاعه على كتب المفكرين الفرنسيين، وترجمته عدداً منها، ومعاينته الحياة الفرنسية وسعيه لتطبيق المفيد منها في بلاده، وهو من أوائل الداعين إلى (تحرير المرأة)، والمساهمين في بزوغ وعي وطني بمفهوم حديث، فـ «كان هو الأول في تمييز (الوطن) عن (الأمة الإسلامية)... كما ساند محمد علي في عملية (إصلاح) التعليم، فشرع في تأسيس المدارس النظامية والمعاهد المتخصصة، وسعى لتقليص نفوذ القضاء الشرعي، وشجع على سن القوانين العصرية...
إنّ العلمانية كمفهوم وكفكر هي نتاج إنساني عام... على الرغم من أنّها وجدت وطبقت في صيغتها المعلنة في الغرب أولاً، فلا يعني ذلك أنّها حكراً على الغرب، وأننا لسنا في حاجة إليها، أو أنها غريبة عنا... فكما أنّ الفكر الإنساني العام ليس غريباً عن أي شعب من الشعوب فهي ليست غريبة عنا، بل مثلها مثل الديمقراطية، والاشتراكية، فكرة، وقيمة إنسانية عامة تهم البشرية جمعاء، ولما كان جوهر العَلمانية هو بناء حياة الإنسان على أسس حقوق دنيوية يصونها القانون، وتحفظ كرامة الإنسان وحريته، فالعَلمانية تحمي حرية جميع المعتقدات بما فيها الحقوق الدينية كحق من حقوق الإنسان الشخصية طالما هي لا تسيء أو تضر بالآخرين وبالدولة، أي إن العلمانية حامية المعتقدات والديانات السامية التي تصون إنسانية الإنسان وتسمو بها.
والعَلمانية سلاح فعال في يد الشعوب لتوحيدها في النضال في وجه الاحتلال ومقاومة التخلف، وأكبر مثال على ذلك، دور الأفكار القريبة من العَلمانية في توحيد نضال الشعب السوري ضد الاستعمار الفرنسي، لمّا وحدت تلك الأفكار الثوار وقادتهم حول هدف وطني دنيوي شامل... فكان قادة الثورة السورية مؤمنين ورعين حقيقيين، ودنيويين (علمانيين) في تعاملهم مع مسائل النضال الدنيوي ضد الاحتلال.
لقد وحد سلطان باشا الأطرش مجاهدي الوطن، ومختلف قيادات الثورة من مختلف الأديان، والطوائف، والمذاهب، ومن مختلف المناطق بإجماع وطني منقطع النظير، لّما أطلق شعاره العلماني «الدين لله، والوطن للجميع»... وعبرت مواقف المناضل الشيخ صالح العلي عن نهج وطني يعلو على الطائفية والمذهبية والإقليمية، وتجلى ذلك في معاركه ضد المحتل، وفي التنسيق الذي حصل بينه وبين الشريف حسين، كما تجلى في قرارات المؤتمر الذي عقد بناء على دعوته في الشيخ بدر مسقط رأسه في 15/10/1918 والذي طالب بضم الساحل السوري إلى سوريا الداخلية، والتنسيق مع الملك فيصل. وعرف المجتمع السوري عدداً كبيراً من الشخصيات الوطنية كالشهبندر، وهنانو، وفارس الخوري، والجابري، والأشمر، وغيرهم الذين تميزوا بتاريخهم الوطني العريق، وبنشاطهم ومواقفهم وفكرهم المتنور الداعي لتجاوز الطائفية والمذهبية، والنهضة بالفكر والشعب والوطن، ودعوا إلى بناء الدولة على أسس دستورية معاصرة، وهي مواقف عَلمانية بينة، ساهمت في تحرير البلاد، وإقامة حكم وطني جامع لجميع مكونات الشعب السوري العرقية والدينية، وهذه أحد ميزات العَلمانية.
واقع العَلمانية في الوطن العربي (لماذا يتعثر المشروع العَلماني في مجتمعنا)
على الرغم من الدور الإيجابي الذي لعبته العَلمانية في بلداننا، إلاّ نّ هذا المشروع لم ينجح، ولا يزال يلاقي معارضة ومقاومة شديدة من قبل قوى وشرائح مختلفة في بلداننا.
يبقى السؤال مطروحاً بإلحاح: لماذا نجح المشروع العَلماني نسبياً في الغرب، ولم ينجح في البلدان العربية؟ وما السبل لنجاحه؟
لم ينجح المفكرون العرب في غرس الفكر العلماني في المجتمعات العربية، ولعلّ أسباب ذلك تعود إلى عوامل ذاتية، وعوامل موضوعية في البنية المجتمعية؛ من أسباب ذلك أنّ الفكر الأوربي، إبان، وبعد نهضته، قام على جملة من الأمور المتكاملة أساسها العقل والعقلانية، أمور تشمل العلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والميكانيك وعلم القانون والمنطق، والفلسفة بمختلف اتجاهاتها العقلانية والتجريبية غير غافل لقوانين الطبيعة... تم له ذلك في كنف نهضة اقتصادية وصناعية واجتماعية... في حين اكتفى العقل العربي بمقولات عامة مترجمة وشبه لفظية، ولم يتعرض بعمق لأسباب الانحدار والانحطاط، وابتعد عن دراسة بنية المجتمع والأمة، لمعرفة الأسباب الكامنة في البنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية لهذا الانحطاط التي ولد في كنفها..
يكمن الخلل الجوهري المسبب لتعثر انتشار الفكر العَلماني في بلداننا في نشاط الأحزاب اليسارية والعَلمانية عدم إعارتها الاهتمام الكافي لمسائل الديمقراطية، والحرية، والمجتمع المدني، وحقوق الإنسان، وعدم تمكن تلك الأحزاب التي استلمت السلطة من تحقيق النهضة الشاملة في كافة المجالات التنموية الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وأساس هذه النهضة هو البنية السياسية السليمة... كلّ ذلك فضلاً عن الصراع داخل الأحزاب العلمانية، وفيما بينها، مما أفقدها كثيراً من عوامل التأثير في الوعي الاجتماعي.
ترافق تعثر المشروع النهضوي التنويري مع هجوم شرس ضد العلمانية في بلداننا، وخاصة في نهاية القرن العشرين، وبداية الألفية الثالثة... وهذا يستدعي دراسة تلك الظواهر الفكرية والاجتماعية، التي أخذت تنتشر في العقد الثاني من الألفية الثانية في بلداننا وظهور قوى وأحزاب، في داخل السلطات الحاكمة وخارجها، تدعو وتعمل على تحطيم كل ما له علاقة بالعلمانية في وعي أبناء المجتمع، ليسهل لها التجييش الطائفي الغريزي، هذا ما يساهم في تحطيم أسس بناء الدولة...
لقد أخذت ترتفع في كثير من المناطق أصوات تترافق بممارسات تحارب العلمانية، وفرض مجموعة من القيود التي تحد من الحرية، وحقوق الإنسان... تجد هذه التصرفات مرجعاً فكرياً لها في أيديولوجيا الكثير من التنظيمات الدينية المنغلقة... تجلى ذلك، على سبيل المثال، في مطالبة العديد من المشاركين في اجتماع ممثلي الأحزاب، والتنظيمات، والشخصيات الإسلامية الذي عقد في القاهرة في ربيع عام 2013 باعتماد موقف صريح معاد للعلمانية، واعتماد أكثر من دولة عربية القوانين والتشريعات التي تزيد من تدخل وزارة الأوقاف والتنظيمات الدينية في حياة الناس الدنيوية والثقافية، وفي مناهج التعليم... كما أنّ تطور الأحداث ودخول قوى متطرفة من خارج المجتمعات العربية إلى بلداننا، وتدخل دول لا تأبه بمستقبل شعوبنا، أخذ يشكل خطراً على مستقبل العلمانية، حتى إنّ بعض المثقفين والباحثين، الذين يزعمون أنهم يتبنون العلمانية نهجاً في تفكيرهم – وعدد منهم كانوا قياديين في أحزاب قومية علمانية وشيوعية - أخذوا يبحثون عن الذرائع، والحجج ليبرروا لتلك القوى والمجموعات المتطرفة سلوكها، وانشغل عدد منهم في الهجوم على ما يسمى بالأقليات، وأخذوا يتهمونها بالإباحية، وما شابه من الصفات المنفرة... من الممكن أن تجد في صفوف المسلحين المتطرفين المعادين للعلمانية وأنصارهم، من كان منتمياً إلى الأحزاب التي تزعم تبني العلمانية... يدل ذلك على الخلل الكبير في عمل تلك الأحزاب، وفي النشاط الثقافي، والتعليمي، والسياسي بشكل عام...
من المخاطر التي تهدد المجتمع تقييد حريات النشاط الفكري والثقافي العلماني، وفي الوقت نفسه إصدار المراسيم والقوانين التي تفسح المجال للتنظيمات الدينية بأن تتدخل في شؤون الناس الفكرية والثقافية، وتمكينها من امتلاك الكلمة العليا في النشاط الاجتماعي والثقافي والفكري في المجتمع، فضلاً عن تغلغلها في المؤسسات التعليمية، وتدخلها في مناهج التعليم... هذا أكبر دليل على أنّ العلمانية في بلداننا في خطر، وحيثما تكون العلمانية في خطر تكون الأوطان والدول في خطر... فما السبيل لمعالجة هذا الخطر؟
لماذا الدولة العَلمانية؟
لا تزال فكرة "الغاية تبرر الوسيلة" لمكيافلي هي المسيطرة في ذهن السلطات في مختلف دول العالم، بما فيها العلمانية، كما أنّ تلك السلطات في أكثر الدول العلمانية تطوراً تعتمد فكرة مكيافلي، في دور الدين في قوة الدولة، والتي تقول: "لا تستطيع أي دولة ضمان أمنها إلاّ إذا اعتمدت على الدين وشجعته"(6)، كأنّه يعد الدين من الناحية السياسية مجرد أداة يمكن للدولة استخدامها لإقناع الجماهير بعمل ما تريده هي منهم...
مع تطور الحياة ودخول البشرية في الألفية الثالثة عصر المعلوماتية ينبغي أن تتطور نظرتها إلى الدين، وإلى أسس بناء وقوة الدولة، ووظيفتها في عصر المعلوماتية تتجاوز رؤية مكيافلي، فضلاً عن أن دراسة تاريخ ظهور وتطور الدولة تبين أنّ الدول التي بنيت على أسس ثيوقراطية لم تعد تلبي متطلبات العصر، ليس لها أفق، كما أن التطور الذي تشهده البشرية في مختلف المجالات العلمية والتقنية وهيمنة عصر المعلوماتية والانترنت، يجعل من عملية بناء الدولة مسألة لها أبعاد عامة إنسانية تتعلق بعلاقة الشعوب فيما بينها، وعدم إمكانية انعزالها في بنى مغلقة تجاوزها الزمن...
الصيغة المجربة التي تستطيع معالجة التناقضات الداخلية في المجتمع هي ما يعرف بالعقد الاجتماعي المبني على أسس علمانية، الذي يؤمن الفضاء المناسب لتقدم المجتمع وتحضره، وتأمين تلاحم بنيته، ولا سيما في المجتمعات متعددة القوميات والديانات، فضلاً عن أن هذه الصيغة تؤمن علاقة سليمة للدولة وأبنائها مع مختلف دول العالم... وتكمن قوتها في قيامها على أسس سليمة، تساعد المجتمع في معالجة أمراضه، وتفتح أمامه آفاق التقدم، ومن الأسس التي تكسب الدولة العلمانية قوتها ومشروعيتها:
- بناء المجتمع والدولة على أسس ديمقراطية حضارية حديثة تنسجم مع متطلبات العصر، باعتماد بنية سياسية تعددية، تداولية، دستورية، عادلة، توفر ظروف التنمية الاقتصادية العادلة، وفق عقد اجتماعي يلبي تطلعات أبناء المجتمع، بعيداً عن المحاصصة الطائفية التي تكرس انقسام المجتمع... وتنسجم الدولة العلمانية مع متطلبات العصر بجعلها إنسانية الإنسان، وصون حريته وكرامته، في صلب اهتماماتها، وبانفتاحها على جميع أبناء المجتمع من مختلف الانتماءات، وتوفيرها المعلومة والتواصل المباشر معهم، لأن عصر المعلوماتية هو عصر الشفافية، والتفاعل بين الناس والمجتمعات البشرية...
- إنّ البلدان متعددة الديانات والقوميات في حاجة إلى حكم عَلماني يوحد نسيجها الاجتماعي على أسس حضارية مجربة سليمة... لأنّ السلطة العَلمانية تحقق درجة من توازن القوى بين جميع طبقات ومكونات المجتمع المتعددة والمختلفة، وتلعب دور الوسيط بينها، وتعالج التناقضات في المجتمع كيلا تصل إلى الحالة التناحرية، وتساعد في بناء مؤسسات المجتمع الأهلي والمدني المستقلة التي تدير نفسها بنفسها، وتعمل على تحقيق متطلبات بناء الدولة العصرية الحديثة، والتحقق دائماً منها، وأهمها: "رضا أبناء المجتمع وقبولهم بها"، وتحقيق المساواة القانونية والحرية والتنوير لجميع أبنائها من الذكور والإناث على حد سواء، بوضع مسألة حقوق الإنسان بما في ذلك نيل المرأة حقوقها كاملة من مهامها الأساسية...
دولة المواطنة العَلمانية الديمقراطية هي الضامن الموضوعي لتحرير وتحرر المرأة، والارتقاء بها للارتقاء بالرجل والمجتمع بعيداً عن التشوه النفسي وما يرافقه من أمراض اجتماعية. تتطور الدولة عندما تحصل المرأة على حقوقها بالتعادل والمساواة مع الرجل.
- تؤمن الدولة العلمانية الحرية وعدم طغيان أي فكر ديني، أو دنيوي علماني، أو تنظيم على المجتمع، وتتم معالجة هذه المسائل في دستور الدولة العلمانية، بما في ذلك معالجة مسألة طغيان الأغلبية في الأنظمة الديمقراطية على الحياة السياسية في الدولة، بوضع مواد ونصوص تتضمن أسس ومبادئ لتحقيق المساواة والحرية لجميع أبناء الشعب، وعدم طغيان أي فكر أو قوة سياسية على المجال والفضاء الاجتماعي السياسي والاقتصادي في الدولة. ووضع عتبات دنيا وعليا لتمثيل الأحزاب والقوى السياسية في البرلمان، ومؤسسات الدولة.
- تحقق الدولة العَلمانية، على عكس الدولة الثيوقراطية فصل السلطات، وحصر المناصب الحكومية الأساسية في الدولة وأعضاء المحكمة الدستورية والقضاة، ومناصب المدراء بمهنيين مستقلين (تكنوقراط)، وإبعاد الصفة الحزبية عنهم، وعدم احتكارها من قبل حزب الأغلبية، وتعد المدرسة ومناهج التعليم من أهم الركائز التي تعتمد عليها الدولة العلمانية في نشر قيم العلم، والمحبّة، والتسامح ونشر مناهج التفكير العقلانية السليمة...
- الديمقراطية من أسس بناء دولة المواطنة العَلمانية التي تمتاز صيغة الحكم فيها بالتعددية والتداول السلمي للسلطة.
- العدالة الاقتصادية الاجتماعية هي أساس العدالة القانونية في الدولة العَلمانية، وتسعى سلطة الدولة العلمانية باستمرار لتحقيق التنمية في مختلف المجالات لتحقيق العدالة، ولتأمين شكل من العدالة الاجتماعية تُعتمد نصوص دستورية تحدد نصيب المركز والأقاليم من الدخل الوطني، وتحدد نسبة الشباب والنساء في البرلمان والمؤسسات الحكومية...
- من محاسن عصر المعلوماتية أنّه سيلزم الدولة العَلمانية بوجود مؤسسات رقابية موازية لمؤسسات الدولة، ومنها وجود برلمان وحكومة إلكترونية، ومؤسسة رئاسة الكترونية ومؤسسات الكترونية أخرى موازية تعمل على إيصال أصوات المواطنين إلى المؤسسات الحكومية، ومراقبة وتصويب عمل مؤسسات الحكومة... ينبغي أن تؤمن مؤسسات الدولة العَلمانية، بما فيها الإلكترونية، أوسع مشاركة لأبناء الشعب في اتخاذ القرارات التي تتعلق بشؤون حياتهم، ومن حق كلّ مواطن أن يشعر بكيانه الذي لا يقل شأناً عن أي مسؤول في الدولة، مما يساهم في إيجاد مناخ اجتماعي صحي سليم يساهم في تطوير قوانين وأسس بناء الدولة...
- من أهم ميزات العَلمانية أنّها لا تقدس القوانين الوضعية، وبالتالي تبقي مواد الدستور، والقوانين سهلة التطوير والتعديل بما ينسجم مع متطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي يطرأ على المجتمع، وهي تؤمن تكاتف وتعاضد جميع أبناء المجتمع، وتعمل باستمرار على معالجة أسباب التناقضات التناحرية في المجتمع... من هنا يدعو العلمانيون إلى مقارعة الفكر بالفكر، والحجة بالحجة بعيداً عن القمع أو إلغاء الآخر، بل يجدون في التعددية ووجود الآخر المختلف والمعارض ضرورة لتصويب المسار وللتقدم الفكري والحضاري، وتصبح عملية تآلف العلمانيين والمتدينين المتنورين وسيلة ضرورية لتقدم الحضارة الإنسانية، وعاملاً مساعداً في خروج الإنسانية من أزمتها ومن الخبل الذي يفرض على وعي أبنائها... طبعاً، يوجد من يعترض على هذه الأفكار، وعلى هذا التآلف، ويصف مثل هذه الدعوة والأفكار بالطوباوية بحجة أنّ رجال الدين كانوا ولا زالوا يعملون على "احتكار العقول"، وهم بذلك يسدون جميع سبل الاعتراف بالآخر العلماني، إنما عقلانية العلمانيين تجعلهم يؤكدون دائماً على ضرورة وأهمية الحوار مع الجميع بمن فيهم المتدينين، لإيجاد الحلول المناسبة لمعالجة التناقضات، والأزمات التي تعاني منها المجتمعات البشرية، وإيجاد أفضل صيغة للارتقاء بإنسانية الإنسان كأسمى هدف للدولة العلمانية...
وتبقى مسألة الدولة العَلمانية مسألة مفتوحة للنقاش، وتحتاج إلى ندوات وأبحاث مستمرة ومفتوحة في مختلف المنابر الفكرية والثقافية المهتمة بتقدم المجتمع وتحضره وبنائه على أسس قانونية سليمة، أسس توحد جميع أبناء المجتمع من مختلف الأطياف والمذاهب والأعراق، وتحرر طاقاتهم من مختلف قيود الانغلاق في فضاء الإخاء والمساواة والتقدم...
لمّا تذكر العلمانية نتذكر بناء الدولة الوطنية وفق مبادئ الديمقراطية واحترام القانون.
لمّا تذكر العلمانية نتذكر حقوق الإنسان، وتحرر المرأة.
لما تذكر العلمانية نتذكر مناهج التفكير العقلانية، وازدهار العلم ومبادئ التعليم والتفكير المتحضرة.
لمّا تذكر العلمانية نتذكر حرية العقيدة والمذاهب والأديان، وسيادة مبدأ "وجادلهم بالتي هي أحسن"، ووضع الدين في منزلته السامية كحق من حقوق الإنسان...
الدولة العلمانية هي دولة الحرية، وتفتح الإبداع لأنّها تحرر الإنسان من مختلف القيود، ولا سيما قيود تقديس البدع والدوغما، وتتعزز حرية الإنسان في الدولة العلمانية بتأمين حياة حرة كريمة له، لمّا يسمو وعيه وتفكيره، وينتقل ولاؤه، من الولاء للعشيرة، أو القبيلة، أو الدين، أو الحزب إلى الولاء للوطن، للدولة الوطنية، من دون انكار للمشاعر الشخصية والخصوصيات الفردية في حسن العلاقة مع الأسرة، والوسط الاجتماعي، لتصبح دولة المواطنة هي ملاذ المواطن لمعالجة كافة همومه وتلبية تطلعاته وأمانيه، وليس تلك البنى ما قبل الدولة الوطنية... يعزز ذلك حرية الإنسان، ويساهم في تطوره ونموه في حياة كريمة تسمو بإنسانيته؛ فالعَلمانية تساعد في إيجاد الفضاء المناسب لمعالجة الأمراض الاجتماعية، وتطوير البيئة المناسبة لتنمية وازدهار المجتمع، وتمتين الروابط بين أبنائه، وتعزيز وحدته.
الهوامش
(1) من أفكار ألفين توفلر ـ تحول السلطة ـ ترجمة حافظ الجمالي ـ أسعد صقر ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1991 ـ ص 673 (بتصرف)
(2) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي ـ مقدمة ابن خلدون ـ دار القلم ـ بيروت - الطبعة الرابعة 1981. ص41
(3) علم الدين عبد اللطيف ــ المقدس والدولة - دار الحوارـ اللاذقية - 2016- ص103ص104
(4) انجلس ـ أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ـ مختارات ـ دار التقدم ـ موسكو ـص171
(5) المصدر السابق. ص409 -410
(6) نيقولا مكيافلي – مطارحات مكيافلي – تعريب خيري حماد – دار الاتفاق الجديدة – بيروت 1979



#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في يوم من أثمن الأيام، ازددت غنى بلقاء درة من أغلى الدرر: ري ...
- باقة حب لكِ
- في التكريم
- الثقافة في مواجهة الموت
- مقدمة ترجمة مجلد -عذاب الروح-
- مقدمة رواية العسس الليلي كلمة لا بد منها
- بعض من صفات الدكتور طيب تيزيني
- الشعب السوداني والوصفة السحرية
- شبح المكيافلية وبؤس الفكر السياسي المعاصر
- الجزائر وصناعة التاريخ
- لماذا الدولة العلمانية؟
- النقد فن أدبي!*
- في جذور وآفاق بنية الدولة
- جذور وأفاق بنية الدولة
- أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي
- في الترجمة ووحدة الوعي الإنساني
- في تحولات وآفاق بنية الدولة
- فرصة روسيا التاريخية
- متى يحال من يتسبب في اغتيال الفكر و المفكرين إلى القضاء؟
- شاهر أحمد نصر - باحث وكاتب يساري سوري - في حوار مفتوح مع الق ...


المزيد.....




- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شاهر أحمد نصر - ندوة طرطوس حول العلمانية