|
متى تستغني الجبال عن السلاح؟
آزاد أحمد علي
الحوار المتمدن-العدد: 6609 - 2020 / 7 / 3 - 00:40
المحور:
الادب والفن
متى بدأت هذه الاضطرابات الكردية من جديد؟ في الواقع أن هذا الاضطراب لم ينته أصلا... ص13 تبدو رواية جيمس أولدريج ( الجبال والسلاح – ت: صادق الجلاد – اربيل 2006). سردية تخص الحلقة الأهم في سلسلة الاضطرابات والثورات الكوردية المستمرة... هي ليست رواية بقدر ما هي فصل من قصة طويلة، قصة مازالت تستكمل عناصرها، هي لقطة، مشهد، مجرد قصة قصيرة من سيرة ملحمية لشعب مقاتل، بل فقرة من سيرة أمة تتلاطم سفينة تاريخها بين أمواج الزمن الشرق أوسطي المهدور، حتى تنضج عوامل اختتام هذه الملحمة والسيرة الجماعية المديدة. تبدو الرواية جزء صغير من سيرة أمة خانتها الظروف الموضوعية والذاتية، خانته البنية التحتية والفوقية، خانته الكيمياء وتكنولوجيا إبادة البشر، خانته في المحصلة شبكة وفخاخ الجيوتاريخ. سيرة أمة خائبة بقدر ما خيبت كل آماله طوابير الساسة الصغار. على الرغم من أن الدراسات والمؤلفات التي كتبت عن الشعب الكردي وتاريخه وبالتالي ثوراته ليست قليلة، لكن النصوص الروائية التي تعالج قضية كوردستان وتحررها، ثوراتها وخيباتها، مازالت قليلة، بل نادرة تلك الروايات التي كتبها كاتب أجنبي مثل جميس أولدريج (الإنكليزي). ربما لن نبالغ إذا قلنا أن رواية (الجبال والسلاح) هي من أفضل النصوص الروائية التي اتخذت من المسألة الكوردية وكوردستان موضوعا وفضاءا لأحداثها، أجاد عبرها تحويل الانتفاضات القاسية الى سرد روائي سلس، سردية صعبة، هي في الجوهر سياسية وثورية وملازمة لحركات مسلحة من الصعب الكتابة عنها. تبدأ أحداث الرواية في حوامة صغيرة تتجه من طهران إلى كوردستان إيران، في الطائرة ماك غريغور كبير الخبراء في شركة نفط الإيرانية، الانكليزي الجنسية. مصطحبا زوجته كيتي. ماك رجل يساري صديق للأكراد متعاطف مع قضيتهم، وبسبب هذا التعاطف يتجه إلى كوردستان للاجتماع بالزعماء الذين يخططون للانتفاضة الجديدة، ومنذ الصفحة الأولى من الرواية يتلمس القارئ جوانب من روح الكاتب (اولدريج) إذ تسمع أنفاسه المتعاطفة مع الشعب الكوردي، بدءا من تصوير حياة الجماهير القاسية وفقرها وإنتهاءا بمجازات لغته الكوردية (هذه اللغة البديعة حسب وصفه). تندمج الأحداث روائيا مع خصوصيات الكورد الاجتماعية والنفسية، لتكشف عن تفاصيل حياتيه، حتى يلقي بالقارئ في قاع الواقع، فتخيله وتصوره للواقع بالغ الدقة. لقد حاول اولدريج التقاط صور حية للقرى الكوردية البائسة، وللجبال العالية. ركز وثبت في متن النص اللقطات الحارة والمؤلمة، كتفاصيل عملية قصف الطائرات للمدنيين في إحدى القرى الكوردية: "انه النابالم أتت غشاوة النابالم السوداء مشبعة برائحة الغازلين تلتهم الطريق والحقول وأطراف القرية... من الذي اقترف هذه الجريمة؟ مر حوالي مئة من الرجال والنساء والأطفال في حلبة الدخان وهم يولولون ويزعقون وشاهد ماك غريغور وكيتي اللذان وصلا إلى حافة النيران خمسة أو ستة أجسام مرمية، كتل سوداء من اللحم المحترق، مازالت تشتعل فيها نيران النابالم اللزجة، وكان يسمع صوت الأنين والزعيق من البيوت الحجرية، والنعاج التي احترقت، كانت تشبه كتل خشبية مفحمة، امرأتان قد التهمتها اللهب كانتا تركعان بذعر وقد احترقت حتى السواد أرجلهما وأيديهما، وثمة ثالثة عادت إلى النهر، فصرخ ماك غريغور الذي كان يساعد الأكراد ويبحث عن المحروقين" ص41 أخيرا، بعد رحلة شاقة وصعوبات ومخاطر حقيقية، يلتقي ماك باللجنة القيادية الكردية (القاضي, ايلخان, علي العراقي, التاجر البيروتي...)، لكن محاولة الوصول إلى اللجنة ليس الحدث الأساسي في الرواية إذ يتكون النسيج الروائي من ترابط مستويين من الأحداث الأول داخلي متعلق باللجنة الكوردية التي تحضر للانتفاضة مع كل خلافاتها وتركيبتها ومشاكلها الكوردية النموذجية التي تتداخل مع الظروف الدولية، التي تشكل بدورها المستوى الثاني من أحداث الرواية. علما أن عقدة الرواية وبؤرة التوتر الدرامي ينبع أساسا من سعي اللجنة للحصول على الأموال المودعة باسمها في إحدى البنوك الأجنبية لتتمكن من شراء السلاح، والبدء بالانتفاضة. لذلك يتم تكليف ماك كرجل أوروبي للقيام بمهمة البحث عن الأموال المحجوزة وإعادتها إلى اللجنة، أو شراء السلاح بها مباشرة. من الصعوبة استعراض وتلخيص رواية ضخمة البنيان كهذه بالطرق الاعتيادية (35 فصل و396 صفحة) نظرا لخصوصية الأحداث وطابعها السياسي والعسكري، وانتقال ساحات الحدث من أجواء كوردستان إلى أوروبا: باريس, لندن, مكاتب الأمن الفرنسي, منازل تجار الأسلحة ورجال المال، مظاهرات الطلبة في جامعة السوربون، وكون مجموع مسارات الأحداث تعطي بحد ذاتها وهجا للرواية، كما أن عملية تفاعل القضايا العالقة، وهي أحداث سياسية كبيرة، بل صراعات سياسية واجتماعية مركبة وضبابية. شخصيات الرواية منوعة، لوجودها ودورها دلالات سياسية، تعبر عن أجيال وأنماط اجتماعية (طه) ممثل الشباب الكوردي المتحمس، (ايلخان) الزعيم القبلي، (القاضي) رجل الدين المعتدل، لكن من الملاحظ انه لا يوجد تنامي وتبدل في دور الشخصيات في سياق تقدم أحداث الرواية، لكن حركة الرواية وأحداثها السياسية تعطي زحما للنص. فهي رواية أحداث سياسية بامتياز، بل تبدو أحيانا، أنها رواية وثائقية، أو تاريخية بحته تكتسب صفات الرواية البوليسية ذات البعد الدرامي الشيق، لدرجة نصادف فيها لقطات كأنها من أفلام رعاة البقر: "عملية احتجاز طه ورفاقة للضابط الإيراني رزراما في سياق أحداث المدن الكردية" التي تبدو غريبة إلى حد ما من أجواء كوردستان وثقافتها. يمكن إحالة نجاح الرواية وتقنيتها الى عملية المزج بين ما هو بوليسي وما هو تاريخي سياسي، فضلا عن تصوير حرارة التنافس بين الأطراف الكوردية. كما يبدو الكاتب قد وفق في القسم الأوروبي من الرواية، في الكشف عن طبيعة العلاقات بين الدول الغربية بصيغة درامية داخل النص. يعطي مساحة للشخصيات المدنية الأوربية كتجار الأسلحة ورجال المال، وكذلك ضباط الأمن المختصين بالقضية الكوردية. تنتهي الرواية بفشل ماك في الحصول على المال وتأمين السلاح للانتفاضة الكوردية، يتقاتل أعضاء اللجنة، يستشهد القاضي وباقي الشخصيات الروائية، ومنها ماك غريغور: "الظلام الجليدي يفقده الوعي، فيضغط مرة أخرى ظهره على الصخر، وعندما يحس بالألم الحاد النافذ يفهم أنه مازال حيا، وأن طه سيظهر آجلا أو عاجلا مرة أخرى على المنحدر ويصيح أنه قادم على الطريق ولربما سيتحررون في هذا الطريق. ولدى طه عيون تتطلع الى ذرى الجبال وتحث على ذلك، والى بواكير الزهور التي تزين الجبال من أجل الحياة والفرح وليس من أجل مجازر الإبادة الوحشية." ص396 ختم النص الروائي برومانسية ثورية تنتمي الى عصره، مؤكدا على ثوابته وقناعاته، بأن الخلافات الكوردية والتنافس بين الرجعيين القبليين والديمقراطيين الأكراد، فضلا عن صعوبة الحصول على السلاح وعدم تلاؤم الظروف الدولية، اضافة إلى لعبة الحظ، كقيام المظاهرات الطلابية في فرنسا عشية موافقة باريس على دعم انتفاضة الأكراد، كلها لن تنهي أمل هذه الأمة في التحرر. وهي في الواقع ثوابت قد ترسخت في الوعي السياسي الكوردي، قبل أن تنتقل الى نص روائي انكليزي. مع كل ذلك لا يمكن اعتبار الرواية وثائقية تدون خطابا ثوريا، لكنها جسدت روح التاريخ، وعبرت عن فهم الكاتب الدقيق لمعطيات الواقع فسجلت جانب من الأحداث التي مرت بها كوردستان عموما، وكوردستان المحتلة من قبل طهران بشكل خاص. على الرغم من ذلك لا يمكن إسقاط أحداث الرواية بشكل مباشر على الواقع الكوردي، فمن غير المجدي البحث عن المعادل السياسي – التاريخي لتفاعل هذه الإحداث الروائية إلا في إطار الفهم العام لها. فهي تمثل الحالة الأكثر نمذجة للواقع السياسي الكوردي على امتداد العقود الثلاثة من أواسط القرن العشرين، رغم تغطيتها لفترة قصيرة أي نهاية الستينات، فالدلالات واضحة والشخصيات تعبر عن اتجاهات سياسية وفكرية، رسمها وتوظيفها اكتسبت القدرة على تمثيل الشرائح الاجتماعية (ايلخان, طه, علي العراقي)، وماك غريغور الذي يبقى محور الرواية والشخصية الأوروبية التقدمية المتعاطف إنسانيا مع القضية الكوردية، يظل بطلا رغم فشله. فثمة مؤشرات واضحة في القصة على انه ممثل الفكر الماركسي باتجاهه الثوري في أوروبا عهدئذ، المؤيد لحركات التحرر، على الرغم من أن ايلخان كان يسميه (جاسوس من جواسيس باكو= موسكو)، ولقد استطاع الكاتب اولديرج أن يصيغ ويحي شخصية تجسد الروح الأممية في مستواه النضالي، بكل آفاقها الرحبة المفتوحة على البطولة والتضحية والغيرية. حيث كان دائما في أحاديثه يتحاشى نصائح زوجته وأصدقائه في التخلي عن الأكراد، فكان يؤكد انه يؤدي الواجب الاممي... ربما تظل رواية الجبال والسلاح أيضا احد أشكال هذا الواجب والدعم الاممي الذي قدمه الكاتب البريطاني جميس اولدريج لقضية شعب مضطهد، روايته أبقت الباب مفتوحا على احتمالات مماثلة، فكم رواية مختلفة قد تكتب لتعبر عن جوانب من نضال هذا الشعب، وكم بطل أممي آخر سيتوجه لنصرة شعب كوردستان، إلى أن يأتي اليوم الذي يستغني فيها الجبال عن توريد السلاح، وتندمل على سفوحها جراح المجازر والحرائق، يومها سترتفع رايات الحرية والسلام على قممها ولن تكون جبال كوردستان بحاجة للسلاح.
#آزاد_أحمد_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو رسم ملامح المدرسة المعمارية السورية
-
دولة المجاز والجماجم ...من ماردين الى عفرين
-
مقاربة جديدة لمسألة الهوية والخصوصية في العمارة السورية
-
هل ولد الكتاب المقدس في بابل؟
-
لماذا تنعطف أمريكا نحو اليسار؟
-
الحرب الأمريكية الإيرانية المؤجلة
-
بعد سبعين سنة من تأسيس الناتو: الثوابت والمتغيرات
-
المطلوب نقد ومراجعة لدور الحركة الكوردية في سوريا
-
لماذا حلف أردوغان يشكل العدو الأول لشعوب المنطقة؟
-
منطقة آمنة في إقليم مشتعل، كيف؟!
-
إئتلافيّون أم أنفاليّون جدد في عفرين؟
-
غصن الزيتون أم شجرة الاستيطان؟
-
قصة أول بيان تضامني مع حلبجة قبل 28 سنة
-
سنجار من منظور ثقافي وكتراث انساني
-
لماذا تعادي بريطانيا-العظمى- كوردستان الناشئة؟
-
الإنتخابات التونسية رسخت الإصلاحات أم ودعت الثورات؟
-
كوباني: قصة نجاح على حافة التجميد
-
ملامح محنة العرب السنة
-
داعش بين خيوط اللعبة الأمريكية
-
معرفة الأكراد عربيا
المزيد.....
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|