|
تكنيس التاريخ من بعض القمامة
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 6607 - 2020 / 7 / 1 - 12:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في "كيب تاون" ثمة تمثال متوسط الحجم لأول مستعمر هولندي يطأ أرض جنوب أفريقيا "جان فان ريبيك"، ومع أن هذا الرجل جلب ثلاثة قرون ونصف من العنصرية والاستعباد لجنوب إفريقيا، ومع ذلك، بعد سقوط نظام الفصل العنصري 1994، إلا أن السكان لم يزيلوا تمثاله، ولم يحطموه! ربما لأنهم أرادوا الاحتفاظ بذكرى ما عن تلك الحقبة البائسة، أو لأن الديمقراطية الجديدة استدعت منهم الصفح والتسامح، من أجل التعايش والمستقبل..
من وجهة نظري، إذا كان لا بد من الاحتفاظ بتماثيل لرموز من حقبة الاستعمار والعبودية كنوع من الاحتفاظ بسجل تاريخي توثيقي، فيمكن ذلك، على أن تُخصص لهم ساحة معينة، ويفضل أن تكون مكب نفايات، وهناك توضع رموز تلك الحقب المظلمة، بحيث يظل الذباب والبعوض وسائر الحشرات تنهش وجوههم، وتقض مضاجعهم، فلا تهدأ أرواحهم.. وكل من يأتي للتفرج عليهم، سيشتم روائحهم النتنة، ويراهم على حقيقتهم البشعة.
إذا تم اعتماد هذا الاقتراح، سنجد في تلك الساحة تماثيل كلٌ من: "كولومبوس"، "خوان دي أونيت"، "توماس جيفرسون"، "جون سوتر"، "جيفرسون ديفيس"، "روبرت ميليغان"، "إدوارد كولستون"، "سيسيل رودوس"، "ليوبولد الثاني"، "ونستون تشرشل".. وهؤلاء من تم تحطيم تماثيلهم حتى الآن، أو إلقائها في النهر من قبل محتجين على العنصرية، خلال المظاهرات الغاضبة التي اجتاحت مدن أمريكية وأوروبية عديدة بعد مقتل الأمريكي من أصل أفريقي "جورج فلويد" في أيار الماضي، على يد شرطي أبيض متعصب، وبطريقة قاسية. وبالتأكيد هنالك عشرات التماثيل الأخرى حول العالم التي يجب وضعها في تلك الساحة، والتي سيكون اسمها "مزبلة التاريخ"، حيث مكانهم الطبيعي.
ماذا حصل لتماثيل هؤلاء المجرمين؟
تم تحطيم تمثال "كولومبوس" في فنزويلا وبوليفيا والأرجنتين قبل سنوات عديدة. وهذا العام في أمريكا نفسها، حيث تم إسقاط تماثيله من بوسطن حتى ميامي، أو تشويهها من قبل المتظاهرين المناهضين للعنصرية. إضافة إلى تحطيم تماثيل لكثير من رموز الكونفدرالية المرتبطة بحقبة العبودية (وهي فترة انفصال الولايات الجنوبية).
و"كولومبوس"، وهو من يُنسب إليه اكتشاف أمريكا، والذي تعامل مع السكان الأصليين بوصفهم حيوانات، ولا يستحقون رحمة الرب. كان يقتل كل من يُصاب بالزكام، أو بأي مرض آخر، خشية العدوى، ويقدم أجسادهم طعاماً للكلاب. سخَّر السكان الأصليين بما لا يطيقونه، واستعبدهم، وكان يطلب من كل شخص حتى الأطفال جمع مثقال كشتبان من الذهب، ومن يعجز عن ذلك كان يأمر بقطع أذنيه، أو إحدى يديه، وتركه ينزف حتى يموت، وهكذا قتل في عامين 250 ألفاً من السكان الأصليين في جزر الكاريبي.
في نورث كارولاينا، وسكرامنتو تم تحطيم تمثال لعنصري أبيض اسمه "جون سوتر"، وهو مستوطن مشهور بدوره في حمّى الذهب في كاليفورنيا، الذي استعبد واستغل الأمريكيين الأصليين بطريقة وحشية ولا إنسانية.
في ريتشموند ، فيرجينيا، حطم المتظاهرون تمثال "جيفرسون ديفيس"، رئيس الولايات الكونفدرالية في فترة الحرب الأهلية، والذي كان من أشد أنصار العبودية.
وضمن موجة التظاهرات ضد العنصرية، أضرم محتجون بلجيكيون النيران في تمثال ليوبولد الثاني في العاصمة بروكسل، وفي مدينة أنتويرب، كما فككت السلطات تماثيل أخرى، بعد أن صبغها المتظاهرون بالطلاء الأحمر في مدينتي غينت وأوستند. و"ليوبولد الثاني"، هو ملك بلجيكا، المتورط بقتل 10 ملايين إنسان، خلال فترة استعمار الكونغو، وكانت ممارساته في غاية الوحشية والدموية، حتى أن الدول الاستعمارية الأخرى أدانتها، فقد كان يطلب من كل شخص (بما في ذلك النساء والأطفال) جمع مقدار معين من المطاط، ومن يعجز كان يقطع يده، وقد قطع بالفعل مئات آلاف الأيدي. في نيومكسيكو، حطم المتظاهرون، وبمعاونة البلدية تمثال "خوان دي أونيت"، الغازي الإسباني، والحاكم المستبد للمكسيك في القرن السادس عشر، والذي نفي منها بسبب معاملته القاسية والوحشية للسكان الأصليين.
في لندن، أزيل تمثال لتاجر العبيد الشهير "روبرت ميليغان" من أمام متحف دوكلاندز، تحت إلحاح الجماهير الغاضبة، نظرا لسوء سمعته في الاتجار في العبيد، ومعاملتهم دون رحمة، والذي كان يمتلك مصنعين للسكر في جامايكا وأكثر من 500 عبد. وفي مدينة بريستول جنوب بريطانيا، أزال المتظاهرون المناهضون للعنصرية تمثالا لتاجر العبيد "إدوارد كولستون" من إحدى الساحات. وفي مدينة ساندرلاند شمال بريطانيا، حطم المتظاهرون تمثالا للجنرال "هافلوك"، المسئول عن سحق المظاهرات الشعبية في الهند عام 1857، عندما كان تخضع للاستعمار البريطاني. كما أعلن عمدة لندن "صديق خان"، عن إجراء مراجعة لكل التماثيل الموجودة في المدينة وأسماء شوارعها، وضرورة إزالة أي تمثال أو اسم شارع له علاقة بالعبودية. كما قامت الشرطة البريطانية بتغطية تمثال "ونستون تشرشل" المنتصب في ساحة البرلمان بألواح خشبية، خشية تحطيمه من قبل المتظاهرين، حيث أن اسمه ارتبط بالعنصرية.
وكانت بريطانيا قد دمرت سجلات الجرائم التي ارتكبت خلال حقبة الاستعمار بعد استقلال مستعمراتها السابقة؛ حيث حرصت وزارة المستعمرات خلال السنوات الأخيرة من حكم الإمبراطورية البريطانية على إتلاف سجلاتها للحيلولة دون وقوع المعلومات المحرجة المتعلقة بالممارسات الاستعمارية في أيدي الحكومات المستقلة حديثًا.
تحطيم تلك التماثيل، وهذه المظاهرات الشعبية التي جرت في مدن عديدة في أوروبا وأمريكا منذ بداية حزيران 2020، على أثر مقتل "فلويد"، لها دلالات عميقة، من أبرزها أن العالم الجديد بدأ يتعافى "إنسانيا"، ويسترد جزءا من إنسانيته التي فقدها لقرون عديدة، وكان خلالها يمارس أفظع أشكال التنكيل والاضطهاد بحق الشعوب المستضعفة، ويمارس العنصرية بأبشع صورها، خاصة ضد السود، ويتاجر بالعبيد دون أي اعتبار لإنسانيتهم.
في تلك الحقب البائسة كانت مثل تلك الممارسات عادية ومقبولة وغير مستنكرة، ولكن منذ إلغاء العبودية، وبعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، بدأ ضمير العالم يصحو شيئا فشيئا، في البداية على شكل قوانين تتخذها الحكومات والمنظمات الدولية، ثم بدأ الوعي الجمعي يستوعب مدى بشاعة العنصرية واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان. ولكن العالم لم يبرأ تماما من هذا الوباء؛ فما زالت العبودية والعنصرية موجودة بأشكال عديدة، لكن تلك المظاهرات تدعونا لإعادة الثقة بالإنسانية من جديد، وتحيي الأمل بأن بنو البشر سيتخلصون ذات يوم من كل أشكال العبودية والاضطهاد والعنصرية والاستقواء على الضعفاء.
شكرا لكل من أدان العنصرية، ولكل من تخلص منها في أعماقه الدفينة.
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر التي نحبها
-
هل المعتزلة تيار عقلاني؟
-
جرائم ضد الإنسانية
-
سأتخلص من كل من لا يشبهني
-
منشأ العنف والتطرف؟
-
البشير والإخوان المسلمين
-
الدولة المقدسة
-
مشروع نهر الكونغو
-
العقل السياسي العربي
-
ما بعد الصهيونية
-
فلسطين الكنعانية
-
في وداع محمد شحرور
-
مسلسل SEE
-
لغتنا الجميلة
-
متى، وكيف نشأت الأمة العربية؟
-
1990~1994 سنوات الجمر والحسم
-
من أنا؟
-
الخوف
-
اعتذار عائض القرني
-
تايه، رواية فلسطينية للأديب صافي صافي
المزيد.....
-
تركي آل الشيخ وآخرون يتفاعلون مع لقطة بين محمد بن سلمان وأحم
...
-
قصة العالم النووي كلاوس فوكس.. -لا تتحدثوا معي عن المال مرة
...
-
من قطر إلى السعودية.. لغة التفاصيل في دبلوماسية الشرع
-
خبير يعلق على اعتراف زيلينسكي الذي صدم الغرب
-
ترامب: الوكالة الأمريكية للتنمية تديرها مجموعة من المجانين
-
إعلام: تركيا قد تنشئ قاعدتين عسكريتين وتنشر مقاتلات -إف 16-
...
-
-الأورومتوسطي-: الحالة الصحية التي يخرج بها المعتقلون من سجو
...
-
ترامب يكشف عن موعد اتصاله مع ترودو ويؤكد: سيدفعون الرسوم الج
...
-
برتراند بيسيموا زعيم حركة -إم 23- في الكونغو الديمقراطية
-
تداعيات فصل ضباط أتراك بعد حادثة أداء قسم الولاء لأتاتورك
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|