كاتب فلسطيني ـ دمشق
كثرت التحليلات و الأحاديث في الأيام الأخيرة عن حكومة أبو مازن (قيد التشكيل) واختلفت الآراء حولها و لكن بشكل عام يمكن القول بأن هذه الآراء صبّت في ثلاث آراء أساسية:
الرأي الأول: ينطلق في حكمه على التعديل وتشكيل حكومة، من الظروف التي أدت ورافقت الإعلان عن استحداث المنصب وتكليف أبو مازن بشغله . في حين انطلق الرأي الثاني من حيث انطلق الرأي الأول مضيفاً إليه منطلقاً جديداً وهو تقيمه لشخص ( أبو مازن) والأفكار التي يحملها .
وبعيداً عن السطحية التي يمكن أن يغرق بها أصحاب أية أفكار مجتزئة فأن رأياً ثالثاً شق طريقه بقوة، فهو في الوقت الذي لا يقلل فيه من أهمية تأثير الظروف أو الوقائع التي أدت إلى استحداث المنصب. فإنه يعتبر هذا التعديل حدثاً مهماً بحد ذاته، لأنه يشكل خطوة جدية على طريق تطوير النظام السياسي الفلسطيني. و يحد من المركزية الشديدة التي كدست السلطات عملاً باتفاق أوسلو(2) 1995 في يد عدد محدود من القيادة الفلسطينية. كان لرأس الهرم فيها حصة الأسد من الصلاحيات .
ويرى هذا الرأي بأن الحكومة القادمة ستكون مضطرة للإقدام على إصلاحات جدية وملموسة وأن تضع ذلك في مقدمة الأولويات التي يتوقف عليها نجاح عملها من عدمه. وهذا ما سيفتح الباب لاحقاً على معارك من نوع آخر، ستتمحور حول الآليات العملية لتطبيق هذه الإصلاحات على الأرض وسَتحولُ دون ذلك وبالتأكيد قوى تعطيل لا يستهان بها. أبرزها تقاليد عمل فردية كرّسَ العمل بها على امتداد سنوات طويلة مراكز قوى ونفوذ و مصالح شخصية و فئوية قد لا يكون من السهل تجاوزها . ويرد مناصري هذا الرأي على أصحاب الرأي القائل بأنه يجب عدم إغفال الظروف والأسباب التي أدت إلى التعديل الدستوري وتكليف شخص أبو مازن بالمنصب المستحدث. بالموافقة على أنه لا يجب إغفال هذا الجانب. لكنهم يدعون في الوقت نفسه إلى النظر للموضوع من كل الزوايا ، فليس صحيحاً أن الضغوط الأمريكية ـ الإسرائيلية ـ الأوروبية مدعومة بضغط بعض الأطراف العربية هي التي أدت إلى ضرورة الإصلاحات . فلقد كان هناك على الدوام ضغوط ومطالب شعبية فلسطينية من أجل الإصلاح ومكافحة الفساد، وعكستها الكثير من فصائل العمل الوطني الفلسطيني في برامجها ( ولا نقول كلها ليس لأن البعض لم يضمنها في برامجه بل لأنه تعامل معها بشكلية، ولم يسع إلى تنفيذها حفاظاً على مصالحة الفئوية الضيقة) انطلاقا من هذا يمكن لنا أيضاً حسب هذا الرأي أن نقيّم الحدث من زاوية مصلحة الشعب الفلسطيني في الإصلاحات . أما الدور الذي سيلعبه أبو مازن وتأثير أفكاره الخاصة التي يحملها والدور غير المحمود الذي لعبه في المسيرة (الأوسلوية) ، فيًرُدُ عليه بأنه إذا كان صحيحاً بأن للأفراد و على مر التاريخ دور في صنع السياسات وخلق الوقائع. فإن هذا الدور ليس مطلقاً، وعلى كلٍ لا ينطبق بأي حال من الأحوال على(أبو مازن) تحديداً .فهو وإن احتل دورا مركزياً في مسيرة أوسلو التفاوضية، و يتحمل بناء على ذلك مسؤولية كبيرة جراء ما آلت إليه الأمور . فإنه لم يكن كما يحب البعض تسميته (مهندس أوسلو)، فلقد انضبط على الدوام ضمن الخط العام الذي رسمه له مهندس أوسلو الحقيقي ( ياسر عرفات). أما في ردهم على الرأي القائل بأن( أبو مازن) يأتي على أرضية أوسلو، يقولون بأنه على العكس من ذلك تماما.ً فهو يأتي على أرضية الفشل الذريع الذي وصلت إليه المسيرة الأوسلوية، التي حفلت بمسلسل تنازلات لم يستطع المفاوض الفلسطيني الذي أدار المفاوضات من خلف ظهر الشعب الفلسطيني ومؤسساته القيادية الشرعية أن يوغل فيها أكثر ،فكان الاستعصاء في مباحثات كامب ديفيد (الخلاف حول السيادة على القدس، وحل مشكلة اللاجئين تحديداً، الحدود، المستوطنات) . ولم يمض وقت طويل حتى رحلت حكومة (باراك) وجاء (شارون) الذي أطلق رصاصة الرحمة على مشاريع كامب ديفيد وطابا (ديسمبر 2000، يناير 2001 ).
فالمطروح أمريكياً وأوروبياً هو شق طريق جديدة للتسوية عبر ما بات يعرف بخطة ( خارطة الطريق )، التي تبدو حتى الآن الطريق أمامها غير سالكة، بسبب تراكم الاعتراضات الإسرائيلية .
من كل ما سبق وما سنورده لاحقاً يمكن لنا أن نفهم تغير الموقف التقليدي لبعض القوى الرئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية، التي تتبنى وجهة النظر الثالثة ( المقصود تحديداً الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين). فلأول مرة غاب الرفض التلقائي للمشاركة في الحكومة عن مواقف هذه القوى، ليحل محله إبداء الاستعداد للمشاركة أو عدم المشاركة على أساس البرنامج الذي ستتبناه الحكومة على الصعيدين السياسي ومشروع الإصلاح الديمقراطي بدءاً بقانون انتخابات جديد ديمقراطي عملاً بمبدأ التمثيل النسبي، ورهناً بتشكيلة الحكومة وإبعاد الوزراء الفاسدين منها.
ويمكن لنا إضافة لما سبق أن نسجل الملاحظات التالية (لأصحاب الرأي الثالث) :
• قد يكون من المبكر الحكم على البرنامج الذي ستتبناه الحكومة و ستعمل على تنفيذه لكن غياب عناصر هذا البرنامج حتى الآن (عن قصد أو غير قصد ) وحتى لو أخذنا الأمر بحسن نية. فإنه سيوقعها في ذات المنزلقات التي آلت إليها مسيرة أوسلو ( سيئة الصيت و النتائج) . وهذا ما بدأ الإسرائيليون الإفصاح عنه. فتصريح شارون الذي قال فيه:( لن نصل إلى نهاية الصراع إلا إذا اعترف العرب بيهودية دولة إسرائيل، ولأن هذا غير ممكن الآن يجب التوجه نحو التسوية على مراحل) مقابلة مع يديعوت 16/4 يعني بوضوح بأن الحكومة الإسرائيلية ستدفع الأمور نحو العودة إلى سياسات الخطوات الصغيرة، وبأنهم يخططون لتحويل خطة "خارطة الطريق" إلى سقف أعلى للمطالب الفلسطينية ، سيتم العمل على قضمها تدريجيا كما فعلوا مع اتفاقيات أوسلو.
والمعروف للجميع بأنه يتم الحديث عن خطط طريق وليس عن خطة بعينها. وهناك واحدة منها مجمع عليها في اللجنة الرباعية لم يعلن عنها بشكل رسمي بل تم تسريبها، وتم حتى الآن التحفظ على إعلانها بطلب أمريكي، والخطة حسب ما أقرته الرباعية هي خطة موضوعة للتطبيق، لا للتفاوض وهذا ما يفسر موقف الإسرائيليين منها، فهم يريدون من خلال الملاحظات و الاعتراضات التي وضعوها عليها أن يحولوها إلى مادة للتفاوض. بما يُمَكّنْ من إغراقها في التفاصيل التفاوضية الصغيرة، و إدخالها في متاهات كمثل تلك التي أُدْخِلَتْ فيها اتفاقيات أوسلو، مدعومين بالموقف الأمريكي، الذي أبقى الباب دواراً أمام المناورات الشار ونية عبر عدم رفضه مباشرة للتعديلات الإسرائيلية، التي تشطب الأساس الذي قامت عليه الخطة أصلا مثال ذلك: المطالبة بشطب حق العودة مقدماً ـ رفض الجدولة الزمنية و الاستعاضة عنها بجدول توقعات ـ جعل الحكم على ما ينفذه الجانب الفلسطيني بيد الإسرائيليين ـ رفض مبدأ التبادلية في تطبيق الخطة…الخ
• إن ( شارون) المنتشي بنتائج الحرب العدوانية الأمريكية ـ البريطانية على العراق، يحاول أن يستثمر ذلك في فرض الهزيمة على الفلسطينيين ، وكأن الطرف الفلسطيني هو الذي هزم في هذه الحرب، و في هذا مغالطة و مبالغة يدركها ( شارون) قبل غيره، فلقد جرب مع أركان حربه كل الوسائل التدميرية وأساليب التجويع والاعتقال والحصار ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وكانت نتيجتها أن لاقت سياساته فشلاً ذريعاً بفضل صمود الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية على مختلف ألوانها و تياراتها، وإذا كان يصح القول بأن ما جرى من احتلال للعراق سيعكس نفسه على موازين القوى والصراع في المنطقة وخصوصاً على القضية الفلسطينية، فإنه لا يجوز التهويل من هذه الآثار والنتائج . فلقد مرت القضية الفلسطينية بظروف أكثر دقة وتعقيداً، استطاعت تجاوزها بوحدة ونضال أبنائها.
• لا يبدو الطريق مفتوحاً أمام حكومة ( أبو مازن) للشروع في إعادة الروح إلى العملية التفاوضية، بدون الانحناء لعدد من شروط شارون، ولا يمكن في هذا الجانب الركون إلى التطمينات الأمريكية القائلة بأنها ستسعى إلى تسوية للقضية الفلسطينية، وقد لا يكون من المفيد استحضار تجربة ما بعد حرب الخليج الثانية، التي أدت إلى انطلاق مسيرة مدريد، حيث يبدو جلياً بأن الضغط الأوروبي ـ العربي لن يكون مؤثراً في المرحلة القريبة القادمة، فأمام إدارة بوش ملفات أكثر أهمية وراهنية من زاوية مصالحها، و في مقدمتها تثبيت وضعها في العراق، ومنع تطور الأمور إلى غير صالحها إلى درجة تتمخض عنها هزيمة سياسية، إذا لم تستطع تثمير النصر العسكري المزعوم " لأنه لم يكن نصراً ناتجاً عن معركة فعلية دارت على أساس معقول من توازن القوى، فضلاً عن انهيار القيادة العراقية السياسية والعسكرية بعد غياب صدام (8/9 نيسان/أبريل)"، وتشاطرها في محاولة الاستثمار هذه إسرائيل. وأمريكا التي خاضت حربها العدوانية دون أي غطاء دولي أو أخلاقي، قد لا تجد نفسها مضطرة لتحسين صورتها بالعمل من أجل حل مقبول ( طبعا ليس بالمقياس الفلسطيني) للقضية الفلسطينية ، ولعل ما يدعم هذا الاستنتاج، ما نقل على لسان( دان كيرتسر) السفير الأمريكي في تل أبيب في لقاء ضمه مع بعض المسؤولين الإسرائيليين حيث أبلغهم خلاله (بأن لا يكترثوا لخريطة الطريق لأنها ليست ذات صلة) نشرت بتاريخ 14/4/2003. وكذلك رَفضْ ( شارون) التقدم ببادرة اتجاه أبو مازن حين قال: )عندي لا توجد هدايا ، لا يوجد سبب لإعطاء هدايا لأي كان ، الأمور محددة بدقة في محادثاتنا مع الأمريكيين، واتفقنا كيف ستجري المفاوضات) مقابلة مع صحيفة يديعوت 16/4/2003.
وغني عن الذكر بأن ( أبو مازن) سيبقى أسير المعادلات التي جاءت به، و التي يمكن أن تُرَحِلَ حكومته في أي لحظة، فبغض النظر عن الصلاحيات الممنوحة له أو تلك التي يحاول جاهداً انتزاعها لن يكون مطلق اليد ولا صاحب كلمة فصل .
ويقول أصحاب الرأي الثالث بأن هذه الحكومة فوتت عليها فرصة ذهبية لتوسيع قاعدتها على أساس برنامجها و تحصين نفسها بإبعاد الفاسدين. وبأن التجاذبات الجارية حول تشكيل الحكومة تفتقد إلى المبدئية. وتنطلق من مصالح فئوية ضيقة أبعد ما تكون عن مصالح الشعب الفلسطيني، وسيتم حلها (فتحاوياً) على مبدأ المحاصصة.
وفي الختام يؤكد أن ثلاثة أحداث وقعت تحمل في دلالاتها الشيء الكثير وهي:
الحدث الأول: التعاون المفاجئ بين السلطة الفلسطينية في أريحا وبين الجيش الإسرائيلي ، فلأول مرة منذ اندلاع الانتفاضة نقل الفلسطينيون إلى إسرائيل وسائل قتالية عديدة، وضعوا أيديهم عليها في المدينة بعلم من أعلى المراجع في السلطة، بما فيها ( أبو مازن). وهذه نقطة تسجل في غير صالحه .
الحدث الثاني: هو نشر وزير المالية ( سلام فياض) بيان إعفاء علني من دفع أية ضرائب أو رسوم مضافة نشر في كل الصحف الفلسطينية بتاريخ 15/4/2003. ويهدف هذا البيان إلى وقف التجاوزات والضرائب الغير نظامية التي تفرضها أجهزة الأمن المختلفة على البضائع وخصوصاً جهاز الأمن الوقائي وهذه مبادرة تسجل لصالح (سلام فياض) وقد تسجل لصالح الحكومة القادمة إذا اتخذت من ذلك منهج عمل لاحقاً.
الحدث الثالث: هو تصعيد العمل العسكري الفلسطيني في الأيام القليلة الماضية الذي أدى إلى مقتل عدد من الجنود الإسرائيليين. و في هذا أكثر من إشارة على تمسك القوى الفلسطينية الأساسية والفاعلة بحق المقاومة المشروع في مواجهة الاحتلال بما في ذلك العمل المسلح.على خلاف ما يرغب ويدعو له ( أبو مازن).
فإلى ماذا ستؤول الأمور … هذا ما ستظهره لنا الأيام القليلة القادمة .