أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صادق محمد نعيمي - جذور التعصب الديني الحديث















المزيد.....


جذور التعصب الديني الحديث


صادق محمد نعيمي

الحوار المتمدن-العدد: 1591 - 2006 / 6 / 24 - 11:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


1- بداية التعصب الدينى الحديث
تعد مشكلة التعصب الدينى إحدى المشكلات الجوهرية التى واجهتها أوربا فى مطلع العصر الحديث بسبب تراكمات ظهرت مع ظهور البروتستانتية على يد مارتن لوثر (1483-1546)، وعمقها وأطر لها من بعده جان كالفان (1509-1564) وقد شهد القرن السادس عشر تعصباً كاثوليكياً ضد البروتستانت، وردود فعل متعصبة من قبل أتباع كالفن0 ويمثل هذا التعصب بداية التعصب الدينى فى العالم بما فيه العالم الإسلامي لاحقاً0 وقد ظل هذا التعصب الدموي بين الديانتين طوال القرن السادس عشر، وحتى إصدار مرسوم نانت فى سنة 1586 فى عهد هنرى الرابع الذى كان قلبه مع البروتستانت، وإن كانت ديانته الرسمية الكاثوليكية للاحتفاظ بالعرش0 وقد ظل هذا المرسوم الذى أعطى حرية ممارسة الشعائر للبروتستانت حتى ألغاه الملك لويس الرابع عشر فى 1685 0
وقد أعاد إلغاء هذا المرسوم من جديد مشكلة التعصب الدينى وحروب الدين الدموية، بل ويعد هذا الإلغاء بداية مرحلة مفصلية استمدت روافدها من تيارات فكرية متعددة0 وقد انتقلت هذه الكراهية المتبادلة بين الكاثوليك والبروتستانت إلى العالم الجديد ( مع تحفظي فى استخدام هذا التعبير) و إلى الدول الأخرى التى كان يذهب إليها الرحالة الاوربيين0 وقد توازى مع إحياء روح التعصب فى نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر بداية روح من التفكير العقلانى0 وتعد هذه الروح مرحلة مفصلية أو إن شئت فهى انقطاعة مع التفكير القروسطى الأوربى0 وهذا ما أنطرق إليه الآن ثم أعود بربط هذا مع كيفية تأثر الشرق بروح التعصب التي سار فى أوربا فى القرنين السادس والسابع عشر0
2- عودة سريعة إلى الوراء:
بدأ التفكير الدينى القروسطى فى ارويا منذ تبنت الدولة الرومانية للمسيحية كديانة رسمية فى عهد الإمبراطور قسطنطين (306-337) وما ساد بعدها من اضطهاد واضح لمن أطلق عليهم وثنيين فى أوربا، ونفس الأمر تبناه الإمبراطور ثيود وسيوس (379-395) فى مصر ضد أتباع ديانة ايزيس حيث تم تدمير معبد سيرابيس وحرق مكتبة الإسكندرية بسبب التعصب الدينى، هذا الحريق الذى أضاع أهم حلقة فى تاريخ المعرفة الإنسانية، وكان هذا بداية حقيقية للتعصب حيث تم أيضاً حظر الشعائر المصرية القديمة، وهو ما لم يمارسه أتباع ديانة ايزيس ضد المسيحيين عندما كانوا مستضعفين0 وكان فلاسفة عظام مثل أفلوطين وبورفير متسامحين مع أتباع الديانة الجديدة، رغم ما كان لهما من سطوة وتأثير0
وبعد ثيودوسيوس، انقسمت الدولة الرومانية إلى إمبراطورية الشرق وعاصمتها القسطنطينية والدولة الرومانية الغربية وعاصمتها روما كما نعلم0 ومع انقسام الدولة الرومانية وما سبقه من تعصب كنسي واضح ضد ”الوثنيين“ وأتباع ديانة آمون، بدأت أوربا مرحلة العصور الوسطى حتى بداية عصر النهضة وظهور الإصلاح الدينى0 وفى تلك الفترة - أى ما بين انقسام الدولة الرومانية حتى مطلع عصر النهضة- نجد أن حدثاً تاريخياً مشابهاً لحرق مكتبة الإسكندرية، ولكن هذه المرة فى القسطنطينية حيث أحرقت- فى عهد ليو الأيسورى- الكلية الملكية وكانت مكتبة هذه الكلية تحوى 36.500 مجلداً لدرجة أن زائر المكتبة كان يستطيع الإطلاع على ”مخطوط قديم لهوميروس على بكرة من الرق طولها مائة وعشرون قدماً0 وقيل إنها أمعاء ثعبان ضخم“ ( ) وفى نفس المرحلة التاريخية، كان القديس جريجوريوس يحرم القراءة0
يدفعنا الموقف المتعصب لهذا الإمبراطور الروماني تجاه أتباع الديانات غير المسيحية إلى رصد نقطة مفصلية في تاريخ التعصب الديني, فهذا الحاكم الذي تم غسل مخه من قبل رجال دين متعصبين, وجد فقها دينيا يدعو إلى أمرين : اولهما أن الحاكم مسئول أمام الله إذا ترك المشركين و الكفار يمارسون شعائرهم في بلاده, وثانيهم أن ابغض الموبقات التي ترتكب في حق الله هو عبادة اله غيره. ومعنى هذا أن تبني السلطة السياسية للفقه الديني, يدفع النظام أيا كان نحو التعصب تجاه أتباع الديانات المخالفة لمن هم في كرسي الحكم.
3- رافدا العقلانية الغربية:
قبل الحديث عن هذين الرائدين، أذكر أنه باستثناء كتابات محدودة تحاول فهم أبعاد مرحلة التفكير العقلانى والعلمانى فى أوربا من خلال روافد متعددة بعدية عن المركزية العرقية الغربية، كتابات يتم تهميشها سريعاً فى إقصاء فكرى غير محسوس، فإن الخطاب العلمى الغربى عن أسباب بداية هذه المرحلة التى تمثل كما أشرت بداية انقطاعه مع الفكر القروسطى، يرجع هذه الأسباب إلى عوامل أوربية بحتة مثل بداية عصر النهضة الذى عمل على إحياء الفلسفة الأفلاطونية والثقافة اليونانية، وبداية الجهود العلمية فى فلورنسا واختراع الطباعة واكتشاف العالم الجديد وظهور فلاسفة أمثال ديكارت وبيير بيل B. Bayle وباسكال وهوبز وجن لوك، وعلماء أمثال بيكون ونيوتن، ثم ظهور جيل فلاسفة عصر الأنوار0
إن هذا الخطاب الغربى فى حاجة إلى مراجعة منا، لأنه للأسف تم تمريره إلينا فى ظروف مختلفة، وليس فقط لأن الطباعة لم يخترعها جتنبرج (1400-1468) فى ألمانيا، بل اخترعها الصينيون من قبله، وقام هذا الألماني باستجلاب الفكرة وبرمجتها على الحروف اللاتينية ، وهذا الخطاب فى حاجة إلى مراجعة أيضاً لأن هذا الذى سمي بالعالم الجديد كذباً، لم يكن جديداً، بل كانت فيه شعوب ذات ثقافات وحضارات ثرية وأن كولومبس (1450-1506) لم يكتشفه أو إن شئت لم يعرفه على شعوب أوربا وأفريقيا وآسيا، بل اكتشفه الصينيون من قبله بحوالى ثمانين عاماً0 ويحتاج هذا الخطاب إلى مراجعة لأن هناك رافدين غذيا العقلية الأوربية، دفعاها نحو الوصول إلى مرحلة الانقطاع مع الحالة المأساوية التى أنتجها التعصب الدينى فى القرن السادس عشر0
- الرافد الأول :
هو الديانة المصرية القديمة0 وقد تعرفت أوربا على الحضارة الفرعونية بشكل غير مباشر، بمعنى أن علماء الإنسانيات Humanisme كانوا يريدون العودة إلى اليونان فى محاولة لإحياء تاريخ وثقافة الإغريق، إلا أن كتب اليونانيين كانت تشير دوماً إلى مصر كمرجع لهم وعن التتلمذ سواء فى مصر أو بفضل الثقافة الفرعونية0 ومن يقرأ أفلاطون وبليتارك وهيرودوت وديدور الصقلى يرى هذا التأثير الواضح للثقافة المصرية على اليونان، وأنهم قد نقلوا عن حضارة مصر الفرعونية0
إلا أن نصاً أثار الفضول كثيراً لدى المثقفين الإيطاليين أو إن شئت لدى الطليعة فى عصر النهضة، وهو ”هرمس مثلث العظمة“، وذلك النص الذى اكتشف فى سنة 1471 الذى توازى اكتشافه مع اكتشاف نص آخر سنة 1505 وهو ”هيروغليفية هواربولون“0 وكان النصان باللغة اليونانية القديمة، سرعان ما ترجما إلى اللاتينية مما جعلهما فى متناول شريحة اكبر من العلماء0 وجعل ”هرمس مثلث العظمة“ مثقفى عصر النهضة والقرن السابع عشر يلتفتون إلى قضايا غائبة عن أذهانهم، قضايا تمثل الخط المباشر للعقلانية الغربية التى سادت لاحقاً0 ويعد هذا الكتاب اليونانى بمثابة إعادة إنتاج الديانة المصرية القديمة0
وكان من أكثر علماء فترة النهضة تأثراً بالديانة المصرية القديمة، عالماً دفع حياته ثمناً لمعتقداته وهو جيوردانو برينو(1548-1600) الذى اعتنق ديانة ايزيس واعتبرها الديانة الطبيعية0 ومن خلال هذا النص اكتشف كوبرنيكوس أن الشمس هى مركز والأرض تدور من حولها0 وكان رد الكنيسة عنيفاً إذ أحرقت هذا النص الهرمسي.
ويبقى السؤال كيف اعتبرت الحضارة المصرية القديمة الخطر الأكبر الذى يهدد المنتج الاعتقادى السماوي فى تلك الفترة؟
كان الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وخاصة القديم منه يأخذ على أنه نص مقدس شكلاً ومضموناً، و لا يجوز المنازعة في أي من آياته و إلا اعتبر ذلك هرطقة وكفر وبدع يقتل من اجلها من يرفض هذه القدسية0 وتحتوى التوراة- كما نعلم- على قصص بنى إسرائيل وعلى ما يعرف بالجغرافيا المقدسة بالإضافة إلى بعض التعاليم الأخلاقية على ما يعرف الجغرافيا المقدسة بالإضافة إلى بعض التعاليم الأخلاقية، أخذ معظمها من مصر القديمة0 وكانت الجغرافيا المقدسة والتواريخ المدخلين للتفكير فى كون هذه التوراة وحى من عند الإله العليم بكل شيء 0
وهنا تأتى مصر بتاريخها الذى يمتد إلى ما يزيد عن خمسة آلاف سنة فى حين أن الكتاب المقدس يتحدث عن بداية الحياة على الأرض كانت تصل إلى ألفى عام ونصف الألف تقريباً0 فأيهما اصدق المعلومات التاريخية المتواترة عن كتب اليونان من أن مصر كان بها حضارة مكتملة لما يزيد عن الخمسة آلاف السنين من الحضارة و تشهد الآثار عليها أم هذا النص المسمى بالمقدس 0
وأعتقد أن هذه هى الهزة الأولى التى تعرض لها الفكر الديني، بالإضافة إلى المشكلة المتعلقة بكون الأرض هى المركز وان الشمس تابعة لها0 وكانت الهزة الثانية عن طريق الاخلاق0 كيف؟ كانت الثقافة التى ينشرها رجال الدين تقول إن كل ملحد ليس له أخلاق، وكل كافر يسكن الشيطان فى نفسه ولا يفعل إلا الشر0 ولكن كانت قصص الرحالة تتوالى عن عادات وأمم غير مسيحية ، ولكن بها اخلاق0 ورغم ما شاب هذه القصص من مبالغات وتركيزها على الغريب الشاذ، فإنها لعبت دوراً فى زحزحة المعتقد الذى حاول رجال الدين زرعه فى الناس0
صحيح أن الإطلاع على تاريخ مصر، وبداية معرفة بتاريخ الصين وأدب الرحالة والمنتج الفلسفي العقلاني، كان محصوراً فى فئة محدودة، ولكنها ما لبثت تتسع رويداً رويداً0
- الرافد الثاني: الفلسفة العربية:
كان رافد مصر القديمة يغذى الشك لدى النخبة المثقفة تجاه المعطيات السماوية، ولكنه غير كاف لخلق صحوة أو رأى فكانت أزمة الضمير تسيطر على عقلية الصفوة0 أزمة رؤية للكون وللإنسان وللإله, أزمة توازت مع عوامل أخرى, مما أدى إلى خلق تيار عقلاني يسعى لطمأنة هذا العقل الإنساني الذي تشكك فى الثوابت حسبما كان يصورها له مجتمعه أو بالا حرى الثقافة الارثوزكسية السائدة0 وكان من بين هذه العوامل، إطلاع الصفوة على الفكر الفلسفي العربي فى القرن السابع عشر بفضل حركة ترجمة جديدة من العربية إلى اللاتينية0 وقد عرف هذا القرن تراكم معرفي ضخم لم تتم قراءته فكريا-أو إن شئت نقده عقليا- إلا في القرن التالي0 وضمن هذا التراكم، نجد ترجمات لمؤلفات عربية عن أدب وتاريخ وفلسفة العرب، لن أعدد هذه المؤلفات حتى لا أخرج عن السياق0 ولكن كانت الترجمات اللاتينية لأعمال مثل ”حى بن يقظان“ لابن الطفيل، و أعمال ابن رشد- المعروف في الغرب Averroes-- والكندى والفارابى نصر الدين القوسى والرازى، تساعد بفضل ما فيها من رسائل فلسفية عقلانية دفع الصفوة من حالة الشك و أزمة الضمير إلى الخروج من هذه الدائرة التي رسمها الفكر الديني نحو الوضوح العقلى0
4- العقل: الدين الطبيعي
كانت إذن مصر القديمة بتاريخها الطويل، تضع التواريخ المقدسة فى مأزق وكان العلم الحديث يضع الجغرافيا المقدسة فى موقف القديم المترهل العاجز، مما أدى إلى أزمة مضير، توازت مع حركة ترجمة للفلسفة العربية0 وقد أدى كل هذا إلى ميلاد جيل من الفلاسفة والأدباء فى القرن الثامن عشر يوظفون التراكم المعرفى الموروث من القرن السابق فى سبيل الوصول إلى رؤية جديدة للدين وللإنسان وللكون0
وكانت كلمة السر فى هذه الرؤية الجديدة هى العقل0 كان العقل هو المعيار للحكم على الحدث التاريخي بالإضافة للوثائق0 وامتدت الرؤية العقلية للتاريخ لتشمل الأحداث التى توصف بالمقدسة0 فنرى فولتير (1696-1778) يعيد قراءة التاريخ العبرانى الوارد فى التوراة وفق هذا المنهج0 ولذا نراه يرفض تماماً، ضمن أشياء كثيرة، قصة شمشون الذي يقتل ألف فلسطيني بفك حمار، ويرفض أن يقوم هذا الرجل بربط 300 ثعلب من ديلهم0 وقس على هذا الأحداث العبرانية سواء فى مصر- وادى وسيناء- أو فى فلسطين0 و نفس هذه الرؤية التاريخية نراها عند قراءة القصص المتعلقة بغرق الجيش المصري القديم في البحر و السحرة وابتلاء المصريين بالجراد والضفدع و القمل. و النقد الموجه لمصداقية هذه الأحداث في فكر هذا الفيلسوف هو أن الحوليات المصرية لم تذكر شيئا عن هذه الأحداث الجسام-عند افتراض وقوعها- فكيف بنا أن نترك الرأي التاريخي المؤكد إلى رأي ملحمي شفهي منقول لنا عن أمة بدوية غير ذات حضارة تريد أن تعلي من شأن نفسها في نرجسية قومية واضحة و متناقضة مع العقل, مصادرة-في نفس الوقت- حق الناس في النقد تحت غطاء سماوي.
وهكذا كان العقل هو المنقذ لفيلسوف مثل فولتير ونفس الأمر بالنسبة لديدرو Diderot (1712-1784)الذي يصل به الأمر إلى اعتبار أن الدين الطبيعي هو العقل0 ولنقرأ له هذا النص القصير المعبر :
"لو سألت صينياً ما هي الديانة الصحيحة إن لم تكن ديانة كونفوشيس؟ فسوف يرد إنه دين العقل0 ولو سألت يهودياً ما هي الديانة الصحيحة إن لم تكن اليهودية؟ فسوف يقول إنها العقل0 ولو سألت مسيحياً ما هي الديانة الصحيحة إن لم تكن المسيحية؟ فسوف يقول إنها العقل0 ولو سألت مسلماً ما هي الديانة الصحيحة إن لم تكن الإسلام ؟ فسوف يقول إنها العقل".
5.هل الكافر له أخلاق؟
تنتج المؤسسة الدينية فقها يربط بين الأخلاق و الدين الذي تدعو إليه مثل تلك المؤسسة. و هذا نوع آخر من إقصاء الإنسان و مستوى التربية العقلية و النفسية التي يدعو إليها العقل الإنساني. و يؤدي هذا إلى بث الريبة و الحذر في نفس المؤمن بعقيدة ما تجاه من يخالفونه المعتقد مما يؤدي إلى التعصب ضده. و لذا نجد انه ظهرت في عصر الأنوار كتابات متعددة أنتجها أصحاب التيار العقلاني تندد ضمناً أو تصريحاً باستغلال المؤسسة السياسية للدين( السلطة الزمنية) وتواطؤ السلطة الروحية مع الزمنية0 وتظهر هذه الكتابات كيف أن التعصب مرض معد ينتقل بسرعة بين العامة والغوغاء كما يرى مونتسكيو0 وكيف أن الكافر يمكن أن يكون له أخلاق كما نرى في مسرحة "زايير "Zaïre (1732) التي أظهرت شخصية مسلمة متسامحة وذات أخلاق وتعرف كيف تحب وكيف تقدر المرأة0 بل يصل الأمر أن نسمع بيتا في هذه المسرحية الشعرية يصف أورسمان, السلطان المسلم, وبطل المسرحية :
يا لها من أخلاق عظيمة في نفس كافرة
وليس هذا هو النص الوحيد الذي يستحضر فيه الإسلام كرسالة تسامح و لكن هناك نصوص متعددة استشهد بها في ظل توظيف العقل فى محاربة التعصب الديني، إذ كان الإسلام يستحضر على أن حضارته متسامحة تجاه الأقليات، كما نرى عند أغلبية أصحاب التيار العقلانى فى عصر الانوار0 وليس هذا معناه أنهم يعتبرون الإسلام دينا صحيحا, ولكن مقارنة مع الديانتين السماويتين الأخريين, تعد الحضارة التي أنتجها هذا الدين الأكثر تسامحا, و في هذا نقد شديد آخر للمنتج الثقافي الذي زرعته الثقافة الكنسية التي تصور هذا الدين بأن أتباعه يعبدون شيطانا اسمه محمد, كما يتضمن نقدا مرا للثقافة التي جعلت الأخلاق مرتبطة فقط بالمعتقد الديني السماوي الذي يدين به المجتمع. وهذا مأزق آخر يواجه الفكر الديني الذي يربط الدين بالأخلاق ربطا عضويا.

6.طمس فكرة
كانت فلسفة الأنوار، فلسفة إنسانية وكونية، أى كانت تدعو إلى عولمة العقل، وضد التوظيف السياسي للدين وضد الاستبداد السياسي و كان خير من أبرز هذه الفكرة الفيلسوف كوندورسيه في كتابه "عشر لوحات عن تقدم العقل الإنساني" الذي كتب في نهاية القرن الثامن عشر, مختصرا و معبرا بصدق عن روح المنتج التنويري . والسؤال الآن : إذا كانت النخبة الفكرية فى عصر الأنوار قد تبنت الاتجاه العقلاني- الذي غزاه روافد شتى ذكرت اثنتين منهما- كأساس للوحدة الإنسانية فى مقابل التفرقة التى يبثها الدين بين البشر، وأن المجتمع الإسلامي مجتمع متسامح قياساً على تاريخ أوربا اللاتينية، فأين هى هذه الآراء؟
ما أن بدأ الربع الأول من القرن التاسع عشر حتى صارت الفكرة الاستعمارية مسيطرة على أوربا بسبب إدراك الأوربيين لتفوقهم التكنولوجي على الآخرين, صحيح أن الفكرة الاستعمارية بدأت قبل ذلك, ولكن الإمبريالية الغربية كوعي جمعي أوربي بدأت في هذا الوقت. ومن هنا أعيد إحياء الأفكار التى تجعل من غير الأوربيين همجيين, وعلى الغرب أن يعمل على تحضيرهم0 وبدأ الانتشار الاوربى فى بلاد العالم الإسلامى، وقد حمل معه فكرة سلبية الآخر وحمل أيضاً بذور التعصب العرقى والدينى، فبدأ فى نشرها، تارة لتفريقهم ليسهل له السيطرة عليهم, وفي جزء منه لتنصير سكان البلاد الأصليين, ليس رغبة في خلاصهم, ولكن رغبة في جعلهم أتباع أوفياء للاستعمار- الذي استخدمه هنا بمعنى اقتصادي-باسم الدين بلا جهد و لا سلاح.
ومن هنا بدأت بذور التعصب تؤتى ثمارها المرة فى العالم العربي. و من أمثلة ذلك ما حدث للمجتمع المصري الذي كان يعيش فى ظل تسامح واضح بين فئات مختلفة من أرمن وروم كاثوليك وأرثوذكس ويهود وأقباط وسط أكثرية مسلمة، يعرف التفرقة0 وكما يرى بنوا ماييه في ”وصف مصر“ 1735، أن المسيحيين كانوا يقولون استخر الله وينتشر الختان بينهم ويعرفون الخلع والطلاق وكان بعضهم يتوضأ قبل الصلاة، وكانوا يغتسلون من الجنابة0 وأظن أن هذا ليس تشبهاً بالمسلمين، ولكن المصريين احتفظوا ببعض العادات الفرعونية0 ويذكر ماييه Maillet أيضاً أن المسلمين يفعلون مثل المسيحيين عندما يقدمون قرباناً من الزيت والشمع لكنيسة مار جرجس، وكان المسيحيون يقدمون قرباناً إلى أولياء الله المسلمين0
7. الخاصية المتوسطية.
وفكرة التعايش مع الآخر الديني ليست خاصية مصرية وحسب ولكنها مرتبطة بثقافة البحر الأبيض المتوسط, كيف لا وقد عايشت البلاد المطلة عليه وخصوصا في شرقه, ثقافات متعددة على مدار ما يزيد عن الثمانية آلاف عاما, مما أورثها ثراء نفسيا وثقافيا جعلها لا تقبل بالآخر فقط, بل ترى الاختلاف هو الأصل, لان ثراءها النفسي-بسبب هذا الميراث التاريخي العريق المنفتح على معتقدات متعددة- دفعها نحو ثقة بذات لا تنظر بخوف للآخرين ولا بما يمارسونه من شعائر. و قد يصل الأمر إلى اعتبار أن الاختلاف العقدي يمثل ثراء ثقافيا, يحسن رعايته لأن كل معتقد وراءه تاريخ إنساني ما, و آثار فنيه أبدعها المرء في جو نفسي و طقسي يمثل ميراثا للحضارة البشرية كلها, وان الافتئات على هذا المعتقد أو ذاك, إزاحة لجزء مهم من تراث الإنسانية.
بينما كان أبناء حوض البحر المتوسط يتمتعون بهذا الوعي الجمعي المدرك لقيمة وثراء التنوع الديني, جاء أرباب الاستعمار الحديث, القادمون من مناطق منغلقة تاريخيا على ذاتهم بدون عمق ثقافي, قياسا على الشرق, كالإنجليز و الهولنديين و الفرنسيين, حديثي عهد بالحروب الدينية و القومية, و في محاولة لا شعورية منه لنقل عقلية المعتقد الواحد الذي ورثها عن أجداده. ولذا فهم يأتون محملين-بالإضافة للسلاح – بطموح اقتصادي و بأفكار مغلوطة تماما عن فضاء يسكنه سكان بدائيين لا ثقافة لهم, وزاد الأمر أن المستعمر في الشرق عمل على إعادة إحياء التراث القروسطي المعادي للإسلام.
و علاوة على أن المستعمر بدأ في تدمير الثقافة المحلية من مأكل و مشرب و ملبس, لإنشاء ثقافة جديدة تجعل أبناء البلاد يحتقرون ثقافاتهم المحلية, لربطهم في تبعية اقتصادية للمستعمر, منشأ منظومة تعليمية تجعلهم يخجلون من ثقافاتهم و يحيون بعقدة نقص تجاه الأوربي في واستلاب حضاري, فانه بدا كذلك في توظيف التنوع الديني, الذي يعبر عن ثراء ثقافي تاريخي عظيم في خدمة أهدافه, و التجربة الأمريكية في العراق الآن تعيد إلينا السياسة الاستعمارية في القرن التاسع عشر.
الخاتمة :
و أخيراً إذا أرادت أية أمه الخروج من مأزق التعصب عليها أن تسعى لبناء دولة مدنية ذات قانون مدني يطبق على الجميع بما فيها الأحوال الشخصية، مع ترك الأفراد وشأنهم فيما يتعلق بدينهم على أن لا يفرضوه على المجتمع حتى لا يتم نظيف جماعة ما لفكرة غيبية من اجل تضليل العوام، والطبقة الوسطى غير العقلانية من اجل مصالح دنيوية0



#صادق_محمد_نعيمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحداث فرنسا الأخيرة
- من الرغبة في الإصلاح إلى الرغبة في التغيير


المزيد.....




- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...
- بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م ...
- مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ ...
- الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض ...
- الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض ...
- من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟
- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال ...
- الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت ...
- تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صادق محمد نعيمي - جذور التعصب الديني الحديث