عبير خالد يحيي
الحوار المتمدن-العدد: 6592 - 2020 / 6 / 13 - 04:10
المحور:
الادب والفن
نقد العلوم بمنظور ذرائعي
أهميّة التّواصل بين الثّقافات والحضارات
ودور البلاغة
دراسة ذرائعيّة مستقطعة في كتاب ( البلاغة والتّواصل عبر الثّقافات) للدكتور عماد عبد اللّطيف
بقلم الناقدة الذّرائعيّة الدكتورة عبير خالد يحيي
بداية:
أودّ التّعريف بالمنهج الذرائعي الذي سأقدّم به دراستي هذه:
المنهج الذرائعي الذي تساءل فيه الكثير من المفكّرين والأخوة النّقاد والباحثين العرب, منهم من اتّجه به نحو فكر النفعيّة البراغماتيّة البغيض الذي نشأ في العام 1878والذي أسّس للاستعمار والاستغلال السّياسي والوضع المتأزّم الذي ما نزال نعيشه إلى الآن, هذا التيار تسيّده (جون ديوي) و( ويليم جيمس) وآخرين, وذرائعيتنا بعيدة كلّ البعد عنه, ومنهم من اتّجه به نحو البراغماتيّة اللّغوية اللّسانية التي أرسى دعائمها الفيلسوف الأمريكي (ريتشارد رورتي), وذلك في الربع الأخير من القرن العشرين...
وما أودّ قوله هو توضيح للذّريعة العربيّة النقديّة -وليس اللّسانية- التي لا تنتمي لتيار غير التّيار العربي, ولو ترجمت إلى الإنكليزية كمفردة تقع ترجمتها في كلمتين تشير إلى عموميّة وجودها في جميع اللّغات كمفردة وليس كمصطلح نقدي, وهما ( pretext / pragmatic) وهي موجودة في البلاغة كمجاز المعنى في كلّ لغة, ولها مفردة معينة تقابل تلك الكلمتين, أما لو أخذناها كمصطلح فتقع في حقلين:
- الحقل الأول: الذّرائعيّة اللّسانيّة
وهي ما تدرس المعنى في كينونة السياق, وهذا لنا فيه جزء تحليلي مهم وهو المعنى.
- الحقل الثاني: الذّرائعيّة النّقديّة
وهي حقلنا العربي الذي نعمل فيه مع كلّ الذّرائعيّين الآخرين, وهو حقل علمي يستند على نظرة النّاقد في تحليله النّقدي بنظرة علميّة تثبّت بذرائع وحقائق علميّة تسند الخيال, وتحوّله من حالة اللّا واقع إلى حالة الواقع المسنود بذرائع وأسباب واقعيّة ومنطقيّة مقرونة بحقائق علميّة, وليس إنشاء فوضويًّا كفيفًا يسوقه مزاج وثقافة الناقد...
لذلك تعرف الذّرائعيّة العربية لدينا على أنّها المنهج الذي يقوم بتحليل النّصوص ومخبوءاتها, بإعطاء ذريعة علميّة لكلّ جانب أو زاوية تُقال في النّصّ الخاضع للتّحليل, وتتأتّى تلك الذّرائع من الانطلاق من جنس النّصّ وتكويناته الفنّيّة والجماليّة المسنودة بالأخلاق أي بالرّسالة الإنسانيّة والمجتمعيّة, أمّا علاقتها بالذّرائعيّة اللّسانيّة, فتأتي من منطلق المنفعة الإيجابيّة وليس من النّفعيّة السّلبيّة, وهناك فرق شاسع بين المنفعة والنفعيّة.
وتأخذ المنفعة أشكالًا في التّحليل النقدي الذّرائعي:
1- المنفعة الأخلاقيّة التي تسند المجتمع, والتي يطلقها الكاتب في نصّه.
2- المنفعة الجماليّة التي تسند المجتمع والتي أيضًا يطلقها الكاتب في نصّه.
3- المنفعة السيكولوجيّة التي أيضًا تسند المجتمع ويطلقها الكاتب في نصّه.
4- المنافع الأخرى, العقائديّة, السياسيّة, الاقتصاديّة, ووووو ... التي تسند المجتمع والتي يطلقها الكاتب في نصّه, والحديث يطول في هذا الموضوع.
السؤال الكبير, كيف يكون النّقد علمًا...؟
وجوابه, يكون النّقد علمًا بحتًا يسند الأدب حينما يتّكئ على منهج علميّ نقديّ, والأدب له علاقة تبادليّة مع جميع العلوم التي فوق الأرض, فهي جميعها تكتب بمكوّناته اللّغوية, وهي – أي العلوم- تنضوي تحت جناح النقد لتساعده في دراسة الأدب. وهذا التبادل بين العلوم والأدب جعل النّقد أهمّ علم يعتني بعرابة الأدب, لذلك يعتمد النّقد على المنهج النّقدي, وهو الذي يتضمّن العلاقة بين العلوم في دراسة النّصّ الأدبي, أي أن المنهج مجموعة من العلوم المتكاملة التي يتناول كلّ علم منها زاوية لغوية معينة, ويقوم بتثبيت حقائقها بمنطقيّة بحتيّة لا تقبل التّأويل, أذكر جزءًا بسيطًا منها:
- علم النّفس يثبّت الحقائق السّيكولوجيّة في السّلوك الأدبي.
- علم البيان والبديع يثبّت الحقائق الجماليّة والبلاغيّة في النّص.
- علم الجمال يثبّت الحقائق الإيجابيّة في النّص والتي تقترن بالطّبيعة وجماليّات الخلق والكون.
- علم الفونولوجي وهو العلم الذي يثبّت عمليّة التفويه الفمي للأصوات, وتوزيعها في الفم وعلى اللّسان.
- علم المورفولوجي: وهوالعلم الذي يثبّت الكلمة المتكوّنة من مجموعة من الفونيمات النّاتجة عن التّفويه الفمي.
- علم الكلمة وهو العلم المرتبط بعلم المورفولوجي بعد اكتمال المورفيم من التّكوين وانتقاله نحو المعنى أي يصبح كلمة ذات معنى.
- عل المعنى وهو الذي يهتمّ بإعطاء المعنى في حيّز الإدراك العقلي.
- علم النّظم وهو الذي يهتمّ بالتّعبير السحري الذي يفهمه الدّماغ في إعطاء المفهوم المنتظر في عمليّة التّواصل.
- علم الإشارة وهو العلم الذي تؤخذ فيه الدّلالات على شكل إشارات أو مصطلحات تعطي عموميّة في التحليل.
- علم الدّلالة وهو العلم الذي يثبت الإشارة باتّجاه الصّورة العقليّة التي تتكوّن في قناة التّواصل بين المتكلّم والمخاطب.
- علم التّشريح وهو العلم الذي يهتمّ بحركة الصّوت وانتقاله من الرّئتين كنفخة هوائيّة ثمّ يصل إلى الدّماغ ليكون عبارة عن شيفرات ونبضات كهربائيّة يفسّرها المخ.
- علم البيولوجيا وهو العلم الذي يهتمّ بمناطق الاستيراد اللّغوي والتّصدير اللّغوي في مناطق اللّغة ( منطقة بروكا ومنطقة فيرنيك) لانتاج اللّغة الصّادرة والواردة.
- علم السّيسيولوجي وهو العلم الذي يهتمّ بالتّأثير الاجتماعي في اللّغة.
- علم الفيسيولوجي وهو العلم الذي يهتمّ بالوظائف العصبيّة التي تنقل الشّيفرات والنّبضات الكهرومغناطيسية من مصادر إنتاج الأصوات إلى مركز اللّغة في المخ.
- علم الكرافولوجي وهو العلم الذي يهتم بالصّورة المرئية للّغة
- علم السّياق وهو العلم الذي يثبت المعنى طبقًا للسّياقات اللّغوية التي يتخلّلخها الإرجاء والأثر في المعنى والاختلاف.
- علم الإدراك وهو العلم الذي يفصل بين المعنى المنطقي السّيمانتيكي والمعنى الخيالي أو الرّمزي الذّرائعي في الفسحة الإيحائية.
- علم التأويل وهو العلم الذي يحدّد التدرّج الحركي والديناميكي للمعنى في مراوغة مستمرّة بين الدّلالة ومدلولاتها.
- علم الأنثروبولوجي أو علم الأنسنة وهو العلم الذي يدرس الإنسان وعلاقته باللّغة والعلوم الحيويّة الأخرى.
وهناك علوم أخرى أكثر بكثير مما ذكرت يحتويها المنهج الذّرائعي الذي سأنتهجه في دراستي العلمية هذه.
السيرة الذاتية للدكتور عماد عبد اللطيف:
أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بقسم اللّغة العربية, كليّة الآداب, جامعة القاهرة. درس في جامعة لانكستر الإنجليزية وجامعة القاهرة, وحصل على درجة الدكتوراه في تحليل الخطاب السّياسي المصري المعاصر من جامعة القاهرة. حاضر في جامعات مصريّة وانجليزيّة ونرويجيّة ومغربيّة وبلجيكيّة. اختير عضوًا للهيئة الاستشاريّة لمجلّة al-Arabiya journal التي تصدر عن الرّابطة الأمريكيّة لأساتذة اللّغة العربيّة, ودورية " اللّغة" التي تصدر عن جماعة اللّغويّين بالقاهرة. له مساهمات في تحليل الخطاب السّياسي العربي في صحف مصريّة وعربيّة وقنوات تلفزيونيّة مصريّة وعربيّة عديدة, له عدد من الكتب والمقالات الأكاديميّة بالعربيّة والانجليزيّة.
كتبه المطبوعة:
1- لماذا يصفّق المصريّون ؟ بلاغة التّلاعب بالجماهير في السّياسة والفن (2009)
2- استراتيجيات الإقناع والتّأثير في الخطاب السّياسي( 2012)
3- البلاغة والتّواصل عبر الثّقافات (2012)
4- بلاغة الحرّيّة: معارك الخطاب السّياسي في زمن الثّورة (2012)
5- تحليل الخطاب البلاغي ( 2014)
بالإضافة إلى العديد من البحوث في دوريّات محكّمة.
البؤرة الثابثة Static Core:
يحاول الدكتور عماد عبد اللطيف في هذا العمل أن يطرح مجموعة من القضايا التي تتمحور حول الواقع العربي وعلاقته مع الواقع العالمي, في زمننا المعاصر الذي يموج بالصّراعات على مختلف المستويات, ويطرح قضيّة التّواصل بين الشّعوب والثّقافات كقضيّة محوريّة ثابتة, وضرورة حتميّة يمكن أن تكون الحلّ السّلمي الوحيد الذي قد يخفّف من شدّة الصّراعات بين العالم العربي والعالم الغربي, أوأن يقلّل من حدوثها ما أمكن, وقد تطرّق بالحديث عن كلّ الوسائل التّواصليّة المتاحة, واضعًا الحوار في مقدّمة تلك الوسائل المطروحة من قبل الكثير من الدّعوات الثّقافية إلى التعايش السلمي بين الشّعوب, والتي تعتبر الحوار الإنساني أيسر الوسائل وأنجعها وأكثرها مباشرة للوصول إلى الهدف السّلمي.
لكنّ هذا التواصل بكلّ وسائله ليس سهلًا أبدًا, بل هناك جملة من المعوقات التي تعترض طريقه, وأهمّها الجهل المعرفي بالأدبيّات السّياسيّة والثّقافيّة والبلاغية والدّلاليّة والتّواصليّة المعاصرة, ما يجعل الحديث دائمًا مقصورًا على الجانب النّظري أو التّنظيري فيها, بعيدًا عن الجانب العملي التّطبيقي والعلمي التّجريبي, حيث تعتبر عمليّة التّواصل من أخطر الفعاليّات البشريّة, والتي إن أُسيء تطبيقها انقلبت إلى صراعات أكبر, وقد تنتج حروبًا. فنجد الدّكتور عماد مخلصًا في أدائه البحثي من حيث بحثه عن جميع الإمكانيّات التي تفيد الإنسان العربي من النّواحي العلميّة, والتي تمكّنه من مجاراة العالم الغربي في السّباق المعرفي والثقافي القائم في كوكبنا الأرضي, فقد امتاز هذا الرجل بالبحث عن أدقّ علامات التّواصل التي لا تقع على بال الإنسان العادي, وسايرها بمسيرة علميّة ثقافيّة تجلب الانتباه, كالتّصفيق مثلًا, مما حدا بنا كعرب للتّفكير في أدقّ التّفاصيل الحياتيّة التي تربط العربي بالعالم الكبير, وكأنّه يرفع سؤالًا ثقافيًّا علميًّا كبيرًا, لم نحن متخلّفون عن العالم الغربي مع أنّنا أساس ثقافاتهم؟؟
وسنعرض فيما يلي -وعبر مناقشة ديناميكيّة الطّروحات في هذا العمل- لأهمّ تلك المعوقات التي استعرضها الدّكتور عماد عبد اللطيف, والدّراسات السّابقة التي قُدّمت بصددها, وجدوى المقترحات التي اقترحها المؤلف.
المستوى الديناميكي Dynamic Level :
ويبحث هذا المستوى بجميع الأمور التي تتعلّق بالذّرائعيّة, ويكون خارجًا عن دراسة النّصّ الأدبي, وهذا لا يعني أنّ الذرائعية لا تهتمّ بدراسة العناصر المعرفية الأخرى غير الأدب, فها نحن نهتمّ ذرائعيًّا بدراسة علميّة في أحد العلوم المحيطة بالأدب, والبلاغة تقودنا بشكل مباشر نحو الأدب, فالعالم المعرفي العام محكوم باتّجاهين معرفيين لا ثالث لهما وهما :
1- العلم: وهو المعرفة الإنسانيّة التي تعتمد على جميع الحقائق والمحرّكات التي تحرّك الكون والحياة والدّيمومة, وأيّ توقّف أو عطل في زاوية من زوايا هذا الجانب يتداعى لها جميع الجوانب الأخرى, كما شاهدنا في ثقب الأوزون, فالتقدّم في الجانب العلمي هو المحرّك العام في الحضارة الإنسانية, فلا حضارة بدون علم, ورقيّ الشّعوب وحضارته تقاس بالعيار العلمي, والحديث طويل ومتشعّب.
المساهمة المعرفيّة التي خاضها الدكتور عماد عبد اللطيف في مؤلّفه هذا وضعنا أمام جدليّة كبرى, تربط بين العلم والأدب, وكل جانبين لا يرتبطان إلّا بجسر, فوضع البلاغة كجسر لربط الضّفتين المعرفيّتين, ليجمع بين العلم والأدب بجسر البلاغة, فالبلاغة تحمل الجمال, والحياة بلا جمال لا قيمة لها, تصبح حياة بيضاء كصحراء ثلجيّة يتزحلق عليها المرء, ويعجب بجمال بياضها, لكنّه لا يجد ألوانًا أخرى, لأنّ تلك الألوان قد غطّاها الثّلج ببرودته وبياضه, حتى يأتي الربيع فنرى الجمال يبزغ من تحت البياض, وهكذا البلاغة في العلم كصحراء ثلجيّة, لكنّها لا تعطي الألوان إلّا بربيع الأدب, وهذه هي الأهميّة التي يعيشها الإنسان بين العلم والإنسانيّة, كما يقول المؤلف:
" ما الذي يمكن أن تكونه البلاغة؟ ربما هذا السّؤال المحوري الكامن وراء الدّرس البلاغي عبر تاريخه, فالبلاغة العجوز التي عمّرت ما يقرب من أربعة آلاف عام استطاعت تغيير جلدها ولغتها وصورتها وممارستها عشرات المرّات. وقد شهدت العقود الأخيرة تناميًا مذهلًا للدراسات البلاغيّة من حيث الكمّ والنّوع والتّخصّص" .
ويرى المؤلف أنّ:" الدّراسات البلاغية ارتادت آفاقًا لم يكن يحلم دارسوها يومًا أن يلجوها, مثل بلاغة صفحات الأنترنت, والبلاغة الجنائيّة وبلاغة العوالم الخوائليّة .. إلخ".
إغناء:
و يقول ابن خلدون في تعريفه لهذا العلم ( البلاغة): "وهو من العلوم اللّسانية لأنّه متعلّق بالألفاظ وما تفيده, ويقصد بها الدّلالة عليه من المعاني" ثم ينتقل بعدئذ إلى الحديث عن ركن مهمّ في النّظرية البلاغية, وهو ما يعرف بمراعاة الكلام لمقتضى الأحوال, فيقول: " ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدّلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين, وما يقتضيه حال الفعل, وهو محتاج إلى الدّلالة عليه؛ لأنّه من تمام الإفادة, وإذا حصلت للمتكلّم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه. وإذا لم يشتمل عليها شيء منها فليس من جنس كلام العرب؛ فإنّ كلامهم واسع, ولكلّ مقام عندهم مقال يختصّ به بعد كمال الإعراب والإبانة"
وتلك الأنواع وما يضاف لها من علوم لغوية أخرى كالفونولوجي, والمورفولوجي, وعلم السياق, وعلم النّظم, والبرغماتيك, والسيمانتيك (علم المعنى), تلك العلوم تهتمّ -مع علم الجمال- بالجمال اللّغوي الذي يسمّى بالعمق الأدبي, وهنا يفتح د.عماد عبد اللطيف البوابة على مصراعيها لعنصر الأدب, العنصر الثّاني بالديمومة .
2- الأدب : ويشكّل الأدب الضّفة الأخرى في المنظومة المعرفية في الكوكب الأرضي, فهو يتعلّق بالإحساس الإنساني وخياله وكفاحه اليومي, فلا يستطيع العلم أن يدير الإحساس والجمال والكفاح اليومي, فيترك هذا الجانب الإنساني في ضفّة الأدب, ويسهم العلم فيه مساهمة ثانوية تحيط به من كلّ الجوانب, وتغطّي جميع الثّغرات التي يمكن أن تتشكّل أو تحدث فيه, عن طريق علم البلاغة, وعلم اللغة, وعلم النقد, بشكل نظريات ومناهج علمية, على سبيل المثال: علم الجمال الكوني الكوزمولوجي, فهو علم الكون الذي يتقاسم فيه العلم مع الأدب بمشترك واحد هو الجمال, والبلاغة علم يحوي البيان والبديع, يتقاسم فيه العلم والأدب بالجمال اللّغوي, وعلم النّظم وهو العلم الذي يهتمّ باللّغة كأنظمة, يتقاسم فيه العلم مع الأدب في النّظام اللّغوي, وهكذا.... مع بقية العلوم الأخرى, إذ نجد أن هنالك علاقة تبادليّة بين العلم والأدب, حيث يشكّل الأدب الكينونة اللّغوية لجميع العلوم, حين تكتب به هذه العلوم, وتقوم العلوم ضمن تلك العلاقة التّبادليّة بالإحاطة بالأدب لسّد ثغراته, ونستنتج من ذلك الحقائق التالية :
- لا يمكن للأدب أن يكون علم؛ لأنّ كينونته الداخليّة هي الخيال واللّا واقع والرّمز.
- لا يمكن أن يكون العلم أدبًا؛ لأنّ كينونته الداخليّة حتمًا هي حقائق واقعيّة بحتيّة لا تقبل التأويل. فلا يفرض أحدهما نفسه على الآخر, بل هناك احترام مشترك بين العملاقَين اللّذين يحكمان الدّيمومة, وعلاقتهما علاقة تبادليّة.
كما يقول الدكتور عماد عبد اللطيف: "وأمّا أهمّ الإنجازات التي تُحسب للبلاغة فهي أنّها استطاعت أن تقيم تحالفات معرفيّة مع حقول جديدة مثل علم المعرفة والاتصال ( التّواصل) والإناسة وتحليل الخطاب .
أما أهمّ تجليّات التّجديد البلاغي في العشر سنوات الأخيرة فهو اهتمام علماء البلاغة ب (التّواصل عبر الثّقافات واللّغات المختلفة) ما أدى إلى ظهور حقول معرفية جديدة, منها:
- البلاغة التّقابلية Contrastive Rhetoric
- البلاغة بين الثّقافات Intercultural Rhetoric
- البلاغة عبر الثّقافات Cross-cultural Rhetoric
وهي حقول تهتمّ بدراسة الأبعاد البلاغية للتّواصل ( الكتابي) بين الثّقافات واللّغات المختلفة.
- البلاغة المقارنة Comparative Rhetoric
وهي تهتمّ بمقارنة المعايير والمبادئ البلاغيّة في الثّقافات المختلفة .
ثم يستعرض المؤلّف التّحدّيات التي تواجه الدراسات البلاغية العربية المعاصرة, والتي حصرها في أربعة أمور هي:
- انشغالها بالتّراث البلاغي العربي, وإهمالها للمنجزات النّظريّة والتّطبيقيّة المعاصرة
- انشغالها بالخطابات العليا مثل الشّعر والنثر الأدبي, وإهمالها خطابات الحياة اليوميّة.
- انفصالها عن مشكلات المجتمع وتحولها إلى ممارسة أكاديميّة شبه منعزلة عن سياقات إنتاجها الاجتماعية والسياسية.
- تجاهل الطّبيعة غير النّوعيّة لعلم البلاغة, والإخفاق في الانفتاح على معارف وثيقة الصّلة مثل علوم الاتصال والسّياسة والاجتماع وعلم النّفس .
ويقصد هنا أنّ الجسر الرّابط بين الثّقافات هو الجسر المعرفي, سواء كان علمًا أم أدبًا, فهنا يشير المؤلف إلى التّنوع المعرفي الذي مرّ به العرب, وهي النّقلة من العلم نحو الأدب, فقط اشتهر العرب قديمًا بالتّفوّق على الغرب بالجانب العلمي, كالطّب (ابن سينا), والفلسفة (الفارابي), والفلك (جابربن حيان)... وغيرها من العلوم التي كانت -ولا تزال- قواعد للتّقدم العلمي في أوروبا, لكن العرب في العصر الحاضر أحجموا عن التّقدم العلمي, وانهالوا أدبًا على السّاحة المعرفيّة, مقارنة بالوضع الغربي المعكوس, فكانت نقلة الغرب من التخلّف نحو العلم على سلالم العرب, التي هجرها العرب أنفسهم, وهاجروا نحو الأدب, فهنا يريد المؤلّف أن يؤكّد أنّنا- العرب- لسنا متخلّفين, وإنّما لكلّ شيء مرحلة, وهو دفاع مشروع عن أبناء جلدته بغضّ النّظر عن الوضع الإنساني الذي يخوضه العرب مع التخلّف والموت.
ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى تحديد:
أهداف الكتاب:
كان هناك هدفًا عامًّا وهو: توظيف الذّخيرة المعرفيّة لإنجاح التّواصل بين الثّقافات فيما يخصّ الأبعاد اللّغوية والبلاغية للحوار بين العرب والغرب.
وقد فصّل المؤلّف هدفان:
الأول: عملي : وهو تشخيص المشكلات اللغوية والبلاغية التي تعيق التواصل العربي – الغربي, أو تفشله, مع اقتراح بعض الحلول العملية, عبر محاولة رسم خريطة للمعارف الضرورية التي يحتاجها مخططو التواصل مع الغرب.
الثاني: نظري: هو محاولة وضع تأسيس نظري لأوجه الشّبه والاختلاف بين اللّغة والثّقافة العربيّة وبين اللّغات والثّقافات الغربيّة, هذا التأسيس يجمع بين عناصر بلاغية وتداوليّة واتصالية .
الهدف العام هدف معرفي نبيل, بذريعة الاعتماد على العنصر المعرفي لبلوغ غاية نبيلة (التواصل)
لم يقدّم لنا المؤلّف تعريفًا محدّدًا عن التّواصل, وكثيرًا ما ذكر (الاتّصال) بدلًا من التّواصل, لذلك أحتاج إلى إغناء في هذا الجانب:
إغناء:
التّواصل : يعرّف التّوصل لغة بأنّه الاجتماع والاتّفاق, وهو ضدّ الانقطاع, وقد يأتي بمعنى التّتابع.
أما في الاصطلاح فهو عمليّة إرسال المعلومات واستقبالها, وهو يعبّر عن عمليّة تبادل الآراء, والأفكار, والمشاعر, والمعلومات عبر الوسائط المتعدّدة, سواء كان ذلك التّبادل بين الجماعات, أو بين الأفراد .
مفهوم الاتصال:
الاتصال في اللّغة هو عكس الانقطاع, ويعرّف بأنّه الاجتماع والالتقاء , نقل المعلومات أو الرّسائل من شخص إلى آخر, بهدف التّأثير على سلوكه, ويتمّ ذلك عن طريق استخدام اللّغة, أو المعاني, أو الإشارات, أو المفاهيم
الفرق بين التواصل والاتصال:
اختلف العلماء حول مفهومي الاتّصال والتّواصل, وانقسموا في آرائهم إلى قسمَين رئيسيين هما:
• يقتصر مفهوم الاتّصال على وجود طرف واحد فعّال في عمليّة الاتّصال, مثل مشاهدة التّلفاز والبرامج المختلفة وهي عملية ليست تشاركية.
أما التّواصل فهو عملية اتصال مشتركة ذهابًا وإيابًا, كالتّواصل بين المعلم والطالب في الغرفة الصفيّة.
• اعتبر بعض الباحثين أنّ مفهومي الاتّصال والتّواصل مرادفان لبعضهما, فعرّفوا عمليّة الاتصال والتّواصل بأنّها عمليّة اجتماعيّة متبادلة بين أطراف العمليّة التفاعليّة, وهما المرسل, والمستقبل, ويتمّ من خلال هذه العمليّة التّعبير عن الذات, والمشاعر, والأفكار, ونقل الانطباعات, والمعلومات, والخبرات, والتي تؤدّي إلى إشاعة الفهم والتّعاطف بين الأفراد, وتساعد على تحقيق الأهداف, وتطوير العلاقات.
وأجد أنّ الدكتور عماد عبد اللطيف يتبنّى الرأي الثّاني, لذلك استخدم المصطلحين (التّواصل والاتّصال) لأداء نفس المعنى.
منهج الكتاب وتقسيم فصوله:
انتهج المؤلّف المنهج الوصفي المقارن: حيث يتتبّع ويقارن بين الخصائص اللّغوية والبلاغية التّواصليّة للثّقافتين العربيّة والغربيّة, بالإضافة لاعتماده على منظور معياري يقترح من خلاله بعض الحلول والتّوجيهات التي تسهم في تقليل الاختلافات أو تجاوزها.
أقسام الكتاب:
مقدّمة – أربع مباحث- خاتمة
المبحث الأول: الحوار بين الثّقافات مفاهيم ومساجلات
المبحث الثاني: دور اللّغة بشكل عام في التّواصل مع الغرب, من حيث أنّه أداة للحوار وأداة لتشكيل الثّقافات المتحاورة مع مناقشة ومعالجة بعض جوانب العلاقة بين اللّغة والفكر والمجتمع التي تخصّ الحوار العربي- الغربي.
المبحث الثالث: التّواصل مع الغرب من منظور بلاغي, ويعالج تأثير اختلاف الأنماط البلاغيّة للثقافتين العربيّة والغربيّة على التّواصل الكتابي بينهما.
المبحث الرابع: خطوات التّواصل الشّفهي بين العرب والغرب, ودراسة تأثير اختلاف الثّقافتين العربيّة والغربيّة على دلالة العناصر غير اللّغوية مثل الإشارات والأصوات والحركات.
الخاتمة: تتضمّن النتائج العامّة للبحث, مع لائحة ببعض التّوصيات.
وهذا ترتيب تتابعي جيّد ومنظّم.
موقف التّواصل المعرفي طبقًا لمنظور عماد عبد اللطيف:
هنالك آلاف الطّرق والمسالك التي يسلكها الباحث للوصول لسبيل مشترك للتّخاطب المعرفي بين الشّرق والغرب, وتصادم الحضارات بين الجانبين اللّذين يحكمان كوكبنا الأرضي, استطاع د.عماد عبد اللّطيف أن يضع مسلكه بأربعة طرق وهي :
المبحث الأول
الحوار بين الثّقافات مفاهيم ومساجلات
ابتدأ الفصل بقول ل ( روجيه جارودي) والذي كان لدراساته قسط كبير, كمصادر للعمل.
" الحوار بين الحضارات يفترِض أن يكون كلّ طرف مقتنعًا بأنّ ثمّة شيئٌ يمكن أن يتعلّمه من الطّرف الآخر ".
قسّم الفصل إلى فقرات تسلسليّة بدأها ب:
1- السّياق التّاريخي للحوار بين الحضارات: حيث عرّف الحوار الحضاري أو الثقافي بأنّه" شكل من التّفاعل بين القوى الاجتماعية, ووسيلة للتّواصل أو لتجنّب الصّراعات وتلطيف المجابهات" .
واستعرض نشأة وطرح مفهوم الحوار بين الثقافات عبر الفترات التّاريخية الطويلة قبل أن يتبلور نهائيًّا بشكله وتعريفه أعلاه, وعرّج على طرح روجيه جارودي في أواخر السّبعينات دعوته للحوار بين الحضارة الغربيّة من ناحية وبقيّة حضارات العالم, وذلك في كتابه " في سبيل الحوار بين الحضارات", وكان الحوار من هذه الزاوية تعني تبادل الخبرات والمعارف على أساس وحدة المعرفة البشريّة مع تنوّعها وتكاملها, كان الحوار في جذره الحقيقي "التعلّم".
ونظرتنا الذرائعية عن هذا المبحث, عماد عبد اللطيف لم يضف لنا شيئًا عن صراع الحضارات سوى صراع الحضارت نفسها, وهذا الصّراع معروف لجميع المثقّفين والباحثين في الحضارات, فهو صراع بين نظريّتين ذكرهما في سياق السّرد التّاريخي, أختصره كما يلي:
في أوائل التسعينات أعيد طرح الدّعوة للحوار بين الحضارات في سياق تفنيد ومواجهة نظريّة صمويل هنتنجون حول صراع الحضارات. في مقاله في العام 1993 بعنوان " صدام الحضارات" الذي رأى فيه أنّ الحضارة الإسلامية أوّلًا, والحضارة الصّينيّة الكونفوشيّة ثانيًا سوف تكونان جبهات المعارك مع الغرب في المستقبل.....
في العام 1998 وفي خطاب الرئيس الإيراني السّابق محمد خاتمي في الأمم المتّحدة طرح فيه مشروعًا سياسيًا كردّ فعل مباشر على أسطورة صمويل هنتنجون ( العالم ستحكمه صراعات حضاريّة بين جبهة الغرب من جهة, والكونفوشيّة والإسلام من جهة أخرى.
وبذلك كان العالم أمام مشروعَين متمايزين للحوار بين الثّقافات, الأوّل ثقافي ( روجيه جارودي) والثاني سياسي( محمد خاتمي) .
لكن الشيء الملفت للنّظر أشار له د.عماد إشارة سريعة بكلمة (التعلّم), لكنّه لم يشر إلى بقيّة الموجات المعرفية التي صدّرها الغرب باتجاه الشّرق بعد الحرب العالميّة الثّانية, والتي تسمّى بالحداثة وكانت تشمل تيارات لا تزال غصونها ممتدّة إلى يومنا هذا, كالصّراع الرأسمالي والاشتراكي, والتّيار الأحادي في الفلسفة, والتّيار الوجودي, والتّيار المادي... إلخ, وتسيّد تلك التّيارات التّيار الكبير وهو الاستعمار التي لا تزال آثاره مستمرّة لحدّ الآن, والذي ركب موجة التطور العلمي والسياسي المكشوف, والذي كانت آخر موجاته الحرب بالنّيابة, أي إيقاد الصّراع العقائدي والمذهبي بين الشّعوب العربية, لنهب ثرواتهم بطرق وقحة مكشوفة, حتى وصل الحال بها حدّ الابتزاز, لكنّ تلك التيارات بمجملها كانت سلبيّة بنظر العرب, لأنّها تخالف الأخلاق العربيّة, إلّا التّعليم, لذلك ركّز عليه د.عماد عبد اللطيف, لأنّه تيار حضاري, استفاد منه الشّرق والغرب على حدّ سواء وظهر ذلك فعلًا في نهاية السّبعينات من القرن المنصرم, وقصد دكتورعماد اعتماد التواصل communication)), والتّواصل هو طريق تعليمي انتهجته الجامعات والكلّيات والمدارس الأخرى بكلّ مراحلها في التّدريس, ويعني توصيل المعلومة بشكل حر, وبطرق ووسائل مختلفة, ومنها وسائل التّواصل الاجتماعي واستخدام النت, واستخدام التّواصل بالتّربية والتّعليم مكّن المعمورة من تسريع عمليّة الانتشار المعرفي في جميع أنحاء العالم. كما جاء في كتاب (أهميّة التّواصل في عمليّة تعلّم اللّغة الإنكليزيّة) لمؤلّفه المنظّر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي.
وفي ذات السّياق التّاريخي تحدّث الدكتور عماد عن:
2- دور العرب والمسلمين في طرح مبادرة الحوار بين الحضارات وتعزيزها: أيضًا كان سردًا تحليليًّا لماهيّة المشروعَين السيّاسي والثّقافي السّابقين, كما كان سردًا تاريخيًّا للمجريات والمحدثات التي انبثقت عن طروحات هذَين المشروعَين....
3- الحوار العربي- الغربي: تاريخه, طبيعته, وغاياته:
تاريخه: مَن العرب؟ مَن الغرب؟ وأيّ حوار يمكن أن ينشأ بينهما؟
وقد قدّم المؤلّف تعريفات مفترضة وموضوعيّة لمصطلحَي ( العرب- الغرب), وقام بتفنيدها بسهولة لينتهي إلى النّتيجة التالية: إنّ الوعي بماهيّة الذّات وماهيّة الآخر المتحاور معه شرط مسبق لتحديد طبيعة الحوار الذي نستهدفه, وغاياته ووسائله, لذلك فإنّ الخطوة التّالية لتحديد طرفَي الحوار هي تحديد طبيعة الحوار المُستَهدف بينهما.
طبيعته: الحوار بين العرب والغرب هو حوار بين بشر بالأساس, يكون سياسيًّا, أو ثقافيًّا أو رياضيًّا..... , فرديًّا أو جماعيًّا... رسميًّا أو غير رسميًّا ....منتظمًا أو عفويًّا ....
يرى المؤلّف ضرورة الاهتمام بالحوارات الشّاملة, وضرورة نقل الحوار من دائرة النّخبة إلى دائرة الجماهير, لذلك يجب الاهتمام بدراسة لغة الحوار لتوفير معارف دقيقة لكلّ من يرغب في الانخراط فيه, كما يعوّل الكاتب على الحوار الفردي بين العرب والغربيّين كوسيلة لإزالة سوء التّفاهم والصّور النّمطية المشوّهة لنا كعرب, وهي أفضل من حوارات القاعات المكيّفة والاستقبالات الرسميّة .
لكنّه لم يُشر وبشكل واضح إلى الطرق والوسائل التي يتمّ فيها هذا الحوار الشامل بين العرب والغرب, سابقًا كان الحوار يتمّ عن طريق السّفر والتّرجمة والتّجارة والتّبادل الرّسمي, أمّا الآن فقد اتّسعت الدّائرة ودخلت التّكنولوجيّة الحاسوبيّة لربط الجهات الأربعة بمحور واحد, عندها يكون الحوار ممكنًا, وأصبحت المعرفة مكشوفة في كلّ زاوية من زواية كوكبنا الأرضي.
4- أسس الحوار الأمثل وسماته:
يتبنى المؤلف المفهوم الآتي للثقافة : الثقافة هي الطرق المتنوعة لإدراك العالم وتنظيمه التي يتم تبنيها على نحو شائع من قِبَل جماعة بشرية ما, ويتم نقلها بين الأشخاص أو الأجيال". وبناء عليه يكون مصطلح الثقافة أكثر خصوصية من مصطلح الحضارة, فالحضارة الواحدة قد تنطوي على عديدة متنوعة .
ويشير المؤلف إلى أنه على الرغم من الاختلاف المفاهيمي بين مصطلحي الحضارة والثقافة إلا أنه يستخدمهما في إطار هذا الكتاب على سبيل التبادل, ويعلل ذلك بأن الحوار ممكن وقابل للتحقق في المستويات المادية والمعنوية, وعلى المستويات العامة التي تمثلها الحضارة, والمستويات الخاصة التي تمثلها الثقافة. فيكون استخدام تعبيري ( الحوار بين الثقافات) و( الحوار بين الحضارات) على سبيل الترادف.
احترمت وجهة نظره هذه بشدة, لأنه قدّم لما يمكن أن يؤخذ عليه كخطأ اصطلاحي, لأن البلاغة العربية تتيح له استخدام هذا الترادف.
5- الحوار مع الغرب حوار أم جدال ؟
سؤال يمكن أن ندخله في المدخل السّلوكي الذّرائعي, لنبحث عن إجابته عبر طرح المؤلّف, المؤلّف يميّز لنا الفرق بين الحوار والجدال, فالجدال –كما يتبنّاه-: شكل من أشكال التّواصل بين طرفَين, يدفع فيه المجادل الحجّة بالحجّة بهدف البرهنة على صدق رأيه وصحّته وتفنيد الرّأي الآخر والبرهنة على نقصه وخطئه, وهو يختلف عن الحوار من خلال استعارتي ( الرقص والحرب) .
في الثّقافة الغربيّة الجدال يتمّ التّعبير عنه بواسطة استعارة أساسيّة هي الجدال حرب, وعلى النقيض من ذلك فإنّ الحوار يمكن تصويره بواسطة استعارة " الرقص".
لذلك فإنّ نجاح الحوار بين الثّقافات مرهون بتبنّي استعارة الرّقص لا الحرب.
وأنا أوافقه على ذلك على هذا الاتجاه, وهذه الاستعارة.
6- الحوار مع الآخر( الغربي) واكتشاف الذّات ( العربيّة):
وحسب رأي الباحث -د. عماد- فإنّ: الآخر مرآة الذّات, والحوار مع آخر مختلف بوابة سحريّة لمعرفة ذات لا تنكشف بسهولة لنفسها, فالحوار بين الثّقافات لا يؤدّي إلى تعريف الآخر بثقافة الذّات فحسب, بل تعريف الذّات بثقافتها قبل كلّ شيء, ومن الثّابت أنّ بعض المعارف والخبرات لا تُدرك بشكل عميق إلّا من خلال توصيها للآخرين, ومن هذه الزّاوية فإنّ الحوار بين الثّقافات يتيح الفرصة أمام استبطان الثّقافة العربيّة لذاتها.
وهذا مدخل ذرائعي يدخل ضمن المستوى النّفسي نطلق عليه عنوان المدخل الاستنباطي التّقمّصي.
7- رفض الحوار مع الغرب:
يقول الكاتب: "ظهرت آراء معارضة للحوار بين العرب – المسلمين- والغرب مشكّكة بجدواه :
الأوّل : يستند إلى أيديولوجيّة دينيّة ترى في الغرب شرّ أصيل لا يُرجى منه خير, حجّتهم التّاريخ الطويل من إساءات الغرب للعرب والمسلمين, وأنّ العداوة بين العرب والغرب أبديّة لا تنتهي إلّا بالقضاء التّام على أحد الطّرفَين. ولا مجال للتّعايش السّلمي..
الثّاني: يرفض الحوار بين العرب والغرب استنادًا للتّشكيك في غرض هذه الدّعوة في السّياق التّاريخي الحالي , بمعنى أنّها تخدم المصالح الغربيّة.
يتّبع المؤلّف مبدأ دحض الذّريعة بذريعة أقوى, فيدحض ذريعة الاتّجاه الأوّل بأنّ الغرب ليس هو السياسة أو الاستعمار والآراء العنصريّة فحسب, بل هو أيضًا ملايين البشر الذين يرغبون في العيش بسلام وتفاهم مع جميع البشر....
ويدحض الاتّجاه الثّاني: بأنّها ذريعة على أهميّة الحوار وليس ذريعة على نبذه, فالمصالح لا تلغي ضرورة الحوار.
الفصل الثاني
اللغة والحوار بين الثقافات
الحوار بين الثّقافات وعقبة اللّغة :
يقول الدكتور عماد عبد اللّطيف في هذه الحيثيّة:
جهل لغة الآخر يحول دون إمكانيّة التّواصل اللّغوي معه , هناك بعد آخر من أبعاد المشكلات النّاتجة عن اللّغة في موضوع الحوار بين الثّقافات, وهو ظاهرة صعود الإنكليزية في العقود الأخيرة إلى مرتبة اللّغة العالميّة : لتصبح اللّغة الأولى للسّياسة والثّقافة والتّعليم في العالم, وتزامن ذلك مع اعتمادها لغة للحوار بين الحضارات , وهذا يقودنا إلى موضوع ترجمة النّصوص, بمعنى أنّ المشاركين في أيّ مؤتمر يقدّمون أوراقهم مترجمة. أي أنّهم قاموا بالترجمة من لغة أخرى _ هي لغتهم الأم- إلى الإنكليزية, وهكذا فجميعهم يلتقون بلغة ليست لغتهم الأم, ولكن للترجمة حدود, وينتج عنها شيئان, الأول: إمكانية التّرجمة بين اللّغات ما يجعل الحوار بين الحضارات ممكنًا.
الثاني: المتحاورون سوف يظلّون يشعرون بالغربة لو تكلّموا نفس اللّغة واستخدموا نفس المفاهيم. فإذن استخدام الانكليزيّة كلغة يجعل الحوار ممكنًا, لكنّه يجعل المشاركين فيه يعيشون داخل غربة اللّغة, والحوار الذي يسعى لتأسيس الحميميّة بين المتحاورين عليه أن يبحث عن سبل للخروج من غربة اللّغة الواحدة إلى رحابة التعدّد اللّغوي.
وتعقيبي على هذا الكلام هو: موافقتي معه بشكل جزئي مع التّعديل لفكرته في الدّعوة لفكرة اللّغة الواحدة في العالم, والسّبب منطقي, حين نجد التّطوّر الحاسوبي كالإنترنت قد غزا العالم, وجعل الكوكب الأرض قرية صغيرة, فهذه القرية تحتاج للغة واحدة في التّفاهم, والقرية مكوّنة من عدّة بيوت, ومن الصعب بمكان أن نتفاهم مع كلّ بيت بلغته( نتعلّم لغته), معنى ذلك أنّ المعلومة لا تأخذ مجرى سريعًا في التّواصل, بل تأخذ مسالك متعرّجة ضمن زمن طويل تضيع فيه أهميّة المعلومة في عمليّة التّواصل, فالتّقدّم التّكنولوجي في انتشار المعلومة في الميديا بشكل لحظوي تشير بإصبع غليظ إلى تبنّي لغة واحدة عالميّة, وتلك ذريعة في التّواصل الثّقافي والحضاري للعالم أجمع, حيث أصبح ممكّنا لقدرة التّواصل الحاسوبي اللحظوي On Line.
وقد لفت نظري قوله في موضوع الترجمة, وهي الوسيلة الثّانية المهمّة في التّواصل الثّقافي والمعرفي والحضاري بين شعوب المعمورة, حيث يجمل مشاكل التّرجمة وأسبابها:
1- نقص المفردات المكافئة : بسبب تباين البيئات الثّقافية والطبيعيّة وانشغال كّل ثقافة بالمكوّنات المهيمنة على بيئته, مثل أسماء الثّلج في الدول الاسكندنافية, وأسماء الرمل والبلح في الدول العربيّة, وعدم وجود مفردات مكافئة للمفردات الموجودة في الثّقافة الأخرى.
2- التّعبيرات الاصطلاحيّة : مثل( إن شاء الله, الحوار أخد وعطا... ) عدم وجود مكافئات لها في الثّقافات الأخرى يقود إلى انهيار التّواصل .
3- عدم التّكافؤ التّركيبات اللغوية :
الجملة في اللّغة العربيّة ذات بنيّة حرّة, يمكن أن تبدأ بمبتدأ أو فعل أو حرف جر.... بينما في الجملة الإنكليزيّة مقيّدة, تستلزم البدء بالفاعل, وتفرض أبنية ثابتة لتركيبتها.
4- عدم التّكافؤ التّجريبي: غياب الخبرة بشيء ما يجعل من الصّعب ترجمته , يتجلّى ذلك في خبرات الموروث الشّعبي.
5- عدم التّكافؤ المفاهيمي: مفهوم واجب الضّيافة عند العرب لا يمكن وجوده في المجتمعات الغربيّة, هنا التّرجمة الحرفيّة وحدها لا تكفي, ولا بدّ من وجود هوامش تشرح الاختلاف العادات الثقافيّة في المجتمع المترجم عنه.
وردّي على ذلك أنّ التّرجمة هي العامل المهم والوحيد باستناد التّجارة والسّفر للتّواصل قديمًا, وقد أخذت حيّزًا منفردًا في توصيل المعلومة العربيّة إلى الشّعوب الأخرى, ومع تطوّر التّرجمة التّكويني, بظهور التّرجمة الفوريّة, والتّرجمة الإجماليّة, وترجمة المعنى للمعنى, وترجمة الجملة للجملة, وترجمة الفكرة للفكرة, والترجمة الأدبيّة, لكن تبقى التّرجمة مستنقعًا تغوص فيه اللّغة, حين تخرج منه تفقد أشياء من مكوّناتها, فالتّرجمة تبقى عمودًا شامخًا في نقل المعنى فقط, والمحتوى فقط, والسّبب في ذلك أنّ النّصّ الأدبي أو المقدّس حين يدخل بالتّرجمة يفقد شكله, ويحافظ على المضمون, وكما نعلم أنّ النّصّ الأدبي والمقدّس له شكل ومضمون, وهذا الذي يؤخذ على التّرجمة, لكن هذا لا يمنع أن تكون التّرجمة هي أهم العوامل التي تقوم بنقل المعرفة من لغة إلى أخرى, وذلك باستعارة الشّكل من اللّغة المترجمة إليها لتكون التّرجمة بتصرّف, وخصوصًا بالنّصوص الأدبيّة, بغضّ النّظر من أن التّرجمة بتصرّف هي خيانة ترجميّة, لكون محتوى النّصّ يعود للّغة المترجمة منها, والشّكل يخصّ اللّغة المترجمة إليها, أما قوله بعدم وجود المكافئات التّرجمية في اللّغتين, فهذا قد حُلّ بالوقت الحاضر بظهور معاجم وقواميس عربية تحتوي على تأويلات لكلّ مفردة جديدة دخلت على العالم بولادة تكنولوجية أو صناعيّة أو أدبيّة, وساعد على ذلك عمليّة التّعريب باللغة العربية, أي كتابة الكلمة دون ترجمتها ولكن بحروف عربية مع صوتها الأصلي باللّغة, وهذه الحالة استخدمت في جميع اللّغات للكلمات المستعارة.
المبحث الثالث
البلاغة وحوار الثقافات
في هذا المبحث قام الكاتب بفحص الدّراسات التي قارنت بلاغة الكتابة العربيّة ببلاغة الكتابة بغيرها من اللّغات, هذه الدّراسات اهتمّت بمقارنة السّمات البلاغيّة للكتابة العربيّة بالسّمات البلاغيّة للكتابة باللّغات الأخرى, والهدف الرّئيسي من هذا الفحص هو بلورة مدخل بلاغي للحوار بين العرب والغرب بواسطة لغة مكتوبة .
ترجع نشأة دراسات البلاغة عبر الثّقافات إلى المقال الذي نشره روبرت كابلان في العام 1966 بعنوان ( أنماط التّفكير الثّقافي في التّعليم عبر الثّقافات), وذهب كابلان في هذا المقال إلى أنّ الأنماط البلاغية في اللّغات التي درسها- العربيّة والفرنسيّة والصّينيّة والأسبانية والرّوسيّة- يمكن أن تقسم إلى خمس خطابات مختلفة بحسب الثّقافة التي يعبّر عنها:
الثّقافة الأولى الثقّافة الأنجلو _ أمريكية : خطابها واضح ومنتظم ومتتابع بخط مستقيم
الثّقافة الثّانية هي الثقافة الشرقية: يتّسم خطابها بأنّه دائري يتناول موضوعه عن منظورات مختلفة تجمع بينها الرّوابط المفتعلة لا المنطق الصّارم.
الثّقافة الثّالثة هي ثقافة الرّومانس وتضمّ الثّقافات الفرنسيّة والألمانيّة والأسبانيّة وغيرها, ويتّسم خطابها بأنّه يتأسّس على الاستطراد من موضوع مركزي, ويمكن أن يشبّه بالطّريق الملتوي.
الثّقافة الرّابعة هي الثّقافة السّامية- وتشمل الثّقافتين العربيّة والعبريّة -وخطابها حافل بالتّراكيب المتوازية التي تكرّر ما قيل وتضيف المعلومات الجديدة بتقتير.
الثّقافة الخامسة والأخيرة هي الرّوسيّة: ويتّسم خطابها بأنّه يتشكل من استطرادات طويلة وتغيّرات مفاجئة تضفي عليه سمة عدم التّماسك .
بنظري -وبشكل حضاري- البلاغة في جميع اللّغات هي واحدة, لكن ما أخّر توحيدها هو البعد التواصلي بين تلك اللغات, والدليل على ذلك حين نتفحّص أي نصّ شعري أو نثري أدبي فإنّنا نتلمّس الجمال اللّغوي فيه, والجمال اللّغوي نوعان :
- علم الجمال: وهو جمال الكون والطّبيعة فهي موجودة في كلّ لغات العالم.
- أمّا الجمال اللّغوي ونقصد به عناصر البديع والبيان وما تسمى عالميًّا بالمجاز, فلا لغة تخلو من المجاز, وإن لم تكتشف فعند تطوّر علم الأنثلوج أي دراسة المقارنة بين جميع اللّغات عالميًّا وتحديد اللّغات الميتة واللّغات الناشئة, والمقارنة بينها, توحّدت تقريبًا المصطلحات المجازية في كلّ لغات العالم, وقد بدأت النّشاط في هذا التطوّر عند اكتشاف البراغماتيكيّة اللّغوية في الربع الأخير من القرن المنصرم, وظهور علماء لغويّون ولسانيّون في هذا المضمار وبدأ التحدّث عن الخيال واللاواقع والمعاني التأويلية والمعاني المؤجلة في علم المعنى, حيث تطور علم المعنى تطورًا ملحوظًا, ودخلت مصطلحات جديدة كانت مستخدمة في لغات دون لغات أخرى. والدليل على ذلك مراجعة معجم المصطلحات البلاغية في اللّغة الانكليزيّة, لكون اللّغة الإنكليزيّة هي القاسم المشترك بين لغات العالم, سنجد مئات المصطلحات قد دخلت تلك اللّغة حديثًا, وبدخولها الإنكليزيّة أخذت طريقها باتجاه اللّغات الأخرى.
المبحث الرابع
التّواصل عبر الثّقافات
يعرّف المؤلّف التّواصل عبر الثّقافات بأنّها : عمليّة رمزيّة تأويليّة تفاعليّة سياقيّة, يخلق فيها بشر متعدّدو الثّقافات معانيهم المشتركة, وقد يتمّ التّواصل عبر الثّقافات بواسطة اللّغة المكتوبة, أو المنطوقة, أو السّلوكيات غير اللّغوية, كالإشارات والحركات والألوان والرّموز, أو بهما معًا .
وعند دراسته للأبعاد الثّقافية للاتصال غير اللّفظي بين العرب والغربيّين يقول:
سلوكيّات التّواصل غير اللّفظية تمثّل ما يقارب 85% من كلّ سلوكيات التّواصل, ومعظم المشكلات التقنيّة التي تواجه الحوار مع الغرب ترجع إلى تباين العرب والغرب في هذه السّلوكيّات.
ورأيي وبشكل مبسّط: تشكّل اللّغة بالتّواصل 25%, و75 % يتمّ عن طرق تواصلية مختلفة غير لغويّة أو غير لفظيّة, ومادامت المعمورة تحكمها ممالك ثلاث, وهي المملكة الحيوانيّة, والمملكة النباتيّة والمملكة البشريّة, فقط المملكة البشريّة تأخذ تواصلًا لغويًّا, بينما تكون باقي أشكال التّواصل غير اللّغوي في الممالك الثّلاث, كما يلي:
1- التّواصل الحركي: وهو التّواصل بحركات الجسد والوجه, والحركات الأخرى التي تحوي في داخلها انفعالات متّفق عليها أو مدروسة مسبقًا, وهذه تحدث في الأداء المسرحي, أو بين الصّم والبكم, أوبين النّباتات, حركة الأغصان, انتقال البذور للتلقيح, وحركة التزاوح بين الأنثى والذّكر.
2- التّواصل الصّوتي: فهو تواصل شامل يشمل الممالك الثلاث, اللّغة للمملكة البشريّة, وأصوات الحيوانات في المملكة الحيوانيّة.
3- التّواصل الفيزيائي: وهو التّواصل بين مخلوق وآخر عن طريق التّقليد, وهو التّواصل الذي تمّ فيه تدجين وتدريب الحيوانات, وتحويل الحيونات المفترسة إلى أليفة, عن طريق النّظرية السلوكيّة بإعطاء الأسد أو النّمر مايسدّ جوعه, بعد أن يقفز من خلال القوس النّاري, فالمدرّب يخلق محفّزًا لدى الأسد وهو الطّعام مستغلًّا جوعه, ليعطيه الأسدُ استجابة باجتياز القوس النّاري للحصول على العطيّة ( الطّعام), وتكرار هذا الفعل يكوّن تواصلًا وثيق الصّلة بين الإنسان والحيوان المفترس, باستغلال المبدأ الفيزيائي ( محفّز- استجابة)...
4- التّواصل الحسّي: وهو التّواصل الاستشعاري الذي يحدث عند الحيوانات عند حدوث زلازل, حيث تشعر الحيوانات به قبل حدوثه, وهناك تواصل حسّي بين البشر أنفسهم بالحاسّة السّادسة ونظام الغرائز.
استنتاج ذرائعي شخصي:
كناقدة ذرائعيّة, راقني هذا البحث الذي موضوعه التّواصل بين الثّقافات, ما شجّعني على إبداء رأيي فيه مُدعّمًا بما جاء فيه من حقائق واستنتاجات, وسأعرض رأيي بكلّ موضوعيّة :
كثرة المصادر- برأيي- تحدّ من توسّع الباحث في فرد أفكاره وآرائه وأبحاثه, وتوجّهه باتّجاه دحض أو تأييد الآراء الواردة بالمصادر, ما يجعل عمله تكرارًا لمصادر قليلة قد كُرّرت آلاف المرّات, وهي صفة سلبيّة في الثّقافة العربيّة, وفي الأبحاث العربيّة الأكاديميّة تحديدًا للأسف.
ما أردت قوله- كاستنتاج- لهذا البحث حول التّواصل بين الثّقافات والحضارات, بين العوالم العربيّة والغربيّة, بالتّأكيد هذا التّواصل لن يكون جدّيًّا ومثمرًا إذا كان بشكل شفوي بين العالَمين كما جاء في إحدى طروحات هذا البحث, فلن يكون هذا التّواصل مجديًا كما ينبغي إذا كان بين الأفراد في الشوارع أو القاعات الأدبيّة أو العلميّة أو الثقافيّة بشكل عام, لكن حتمًا سيكون مجديًا عندما يكون تواصلًا بالبحوث, لأنّ البحث هو سيّد المعلومة الجديدة, وسيّد الاكتشاف, فما عرفنا شيئًا علميًّا جديدًا إلّا عن طريق البحث المطبوع أو المنشور, المرئي أو المسموع, ولا أدلّ على ذلك من أنّنا الآن نناقش بحثًا علميًّا اطّلعنا من خلاله على الكثير من الخبرات والأبحاث السابقة, ولا ننكر أنّ هذا الموضوع( كثرة وتكرار المصادر) متعب وثقيل جدًّا على الباحث والمتلقّي على حدّ سواء, حيث قام الباحث بمراجعة هوامش ومصادر وقعت في حوالي 40 صفحة, و كان للبحث تصدير أكثر من رائع للأستاذ الدكتور أيمن تعيلب, لكنّه أخذ أكثر من عشرين صفحة من صفحات الكتاب, والكتاب بالمجمل المكوّن من 194صفحة, وتتخلّلها أيضًا صفحات بيضاء لضرورة التنسيق المطبعي! فما كتبه الباحث كمتن للبحث حوالي 120 صفحة فقط, وفيها الكثير من الشواهد من الهوامش والمصادر, وهذا برأيي كناقدة صفة سلبيّة, ليس عند الدكتور عماد عبد اللطيف فحسب, بل كصفة عامة في البحوث العربيّة, وخصوصًا البحوث الأكاديميّة ( الماجستير والدكتوراة), حيث يُطلب من صاحب البحث أن يأتي بمصدر واحد أو أكثر في كلّ صفحة! وهذا تقويض للعلوم الجديدة التي لم يتح لها الوقت ليكون فيها مصادر.....
وما دام التّواصل بين الثّقافات يتأتّى عن طريق البحث, فكثرة الاعتماد على المصادر يكون سلاحًا ذو حدَّين, كما سأبيّن:
1- المصادر تساعد الباحث على ملأ فراغات بحثه بآراء وفِكَر كثيرة من جهة, ومن جهة أخرى تجعل الباحث ناسخًا لمصادر قد تكرّرت عند غيره من الباحثين آلاف المرّات, والبحث لم يأتِ بشيء جديد, إلّا ما ندر.
2- المصادر تجعل الباحث اعتماديًّا على النسخ والتّكرار الممجوج لفكر أكل عليه الدّهر وشرب, والحلّ في ذلك يكون معكوسًا عندي. وهو أن يكون التركيز من قبل الباحث على أفكاره الجديدة وجدليّاته مع كلّ فكرة طرقت في كلّ مصدر, وإعطاء ذريعة بالاتفاق مع صاحب المصدر أو الاختلاف معه.
3- على الباحث أن يكون بحثه عن الجديد, أو الإضافات التي تسند الجديد والقديم, وبذلك تكون البحوث العربيّة غير متكرّرة وغير روتينيّة, وتلك نقطة مهمّة جدًّا, لأنّنا لو بحثنا في خزانات الجامعات ورفوفها في كلّ أنحاء العالم لوجدنا ملايين البحوث المهملة بذريعة أنّها روتينيّة التكوين, وهذا رأي نقدي خاص أيضًا, قد أكون مخطئة أو مصيبة فيه.
في الختام:
لا شك أنّ الدّكتور عماد عبد اللّطيف وضع في بحثه هذا وبكلّ اهتمام وعناية عصارة جهده وعلمه, إدراكًا منه لعمق هذا الموضوع وأهميّته في عصرنا الحالي, عصر العولمة الذي أحال الكرة الأرضيّة بكاملها إلى قرية صغيرة محكومة بحتميّة التّواصل, عبر كلّ الوسائط المتاحة, سواء أكانت لغويّة أم سلوكيّة, وإلّا فإنّ الصّراع والتّصادم بين سكان هذه القرية الصّغيرة سيكون بديلًا منطقيًّا في بيت ينعدم فيه الحوار, ويكتظ بغربة أهله, وهذا الإدراك العميق لخطورة الوضع, والحرص الشّديد على الإحاطة به من جميع جوانبه, عن طريق طرح المشكلات والعقبات اللّغوية والبلاغيّة والتّواصليّة التي تعترض إمكانية انعقاد هذا الحوار, وتلوّح بإفشاله, وبالتالي تساهم في تقويض وهدم الرّسالة الأساسيّة التي أناطها الله تعالى بمملكة البشر, وهي التّعارف ( يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) 13 سورة الحجرات
والتّعارف يكون سبيلًا للتّعاضد وإعمار الأرض, ولعلّي – ومن خلال هذا الحرص الشديد- أستطيع أن أبرّر- ولا أؤيّد- استخدام الكاتب لهذا الكمّ الهائل من الكتابات الأكاديميّة المعنيّة بدراسة هذه الأبعاد اللّغويّة والبلاغيّة والتّواصليّة, وهي دراسات غربيّة بمجملها, ويعلّل المؤلف اعتماده عليها بذريعة نقص الدّراسات البحثيّة العربيّة, وهذه نقطة جدليّة قد يختلف معه عليها بعض الباحثين الذين كان موضوع التّواصل شغلهم الشّاغل, لكنّ هيمنة البحوث العلميّة الغربيّة حالت دون انتشار أبحاثهم تلك, لفتتني أيديولوجيّة المؤلف وإيمانه الراسخ أنّ الحوار مع الغرب هو مشروع معرفي, من منطق الأمر الإلهي ( لتعارفوا), بقدر ما هو مشروع سياسي أو اجتماعي, كما تُحسَب له دعوته إلى التزوّد بالعدّة المعرفيّة والمنهجيّة من باب إعداد العدّة لخوض غمار أيّ أمر جلل, وكذلك دعوته للتّواصل من خلال البحث الأكاديمي المتعمّق, من قبل باحثين متخصّصين, لسدّ الفجوة الكبيرة في الكتابات العربيّة المعاصرة المتعلّقة بالحوار, هي دعوة باحث عربي غيور على الثّقافة والحضارة العربيّة نأمل أن يُحشد لها جيوشًا من المؤيّدين, بل والمنفّذين الفاعلين.
أخيرًا, هذا ما وفقني الله إليه, وأعترف أنّ التقصير من نفسي, والفضل من الله...
بارك الله مؤتمركم هذا, وبارك الله جهد الدكتور عماد عبد اللطيف, وإن شاء الله تتزيّن به صحائفكم...
#دعبيرخالديحيي
المراجع والمصادر
1- الذّرائعيّة وسيادة الأجناس الأدبيّة –تأليف عبد الرزاق عودة الغالبي – دار النّابغة للنّشر والتّوزيع –طبعة 2019 –
ترقيم دولي 978-977-799-170-4
2- الذّرائعيّة بين المفهوم الفلسفي واللّغوي – تأليف عبد الرزاق عودة الغالبي – دار النّابغة للنّشر والتّوزيع – طبعة 2019
ترقيم دولي 978-977-799-169-8
3- الذّرائعيّة في التّطبيق طبعة مزيدة منقّحة – تأليف عبد الرزاق عودة الغالبي –دار النّابغة للنّشر والتّوزيع – طبعة 2019
ترقيم دولي 978-977-799-168-1
4- البلاغة والتّواصل عبر الثقافات – د.عماد عبد اللطيف – إصدار وزارة الثّقافة المصرية – الهيئة العامّة لقصور الثّقافة سلسلة كتابات نقدية 208 ترقيم دولي 978-977-216-175-1 طبعة 2012
5- ابن خلدون, المقدمة: 458, دار العودة بيروت
6- تعريف ومعنى تواصل في معجم المعاني الجامع
7- عبد الصمد زهور " فلسفة التّواصل"
8- تعريف ومعنى اتّصال في معجم المعاني الجامع
9- د. محمد بن علي شيبان العامري. " مفهوم وأهميّة الاتّصال"
10- سناء محمد سليمان "سيكولوجية الاتّصال الإنساني ومهاراته" صفحة 23
#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟