|
معمار الذات
محمد حاذور
الحوار المتمدن-العدد: 6590 - 2020 / 6 / 11 - 19:41
المحور:
الادب والفن
"معمار الذات"
قلتُ مرةً، على مسمع أحد أساتذة الأدبِ وشخصٍ آخر، إنني أعيش عزلةً حقيقيةً، فردَّ الأخيرُ بسؤالٍ؛ هل تتصفح الإنترنت؟ فقلت نعم!، فقال؛ هذه ليست عزلة. صمتُّ وإبتسمتُ بداخلي لسطحية الإدراك والتأويل وبساطته. واضحٌ هنا، إنَّ مفهوم العزلة، مرتبطٌ تماماً بالحركة فيزيقياً/مرئياً، كاشفٌ عن وحدة المرء وانعزاله/انطوائه، وليس غربته/ضياعه. وكبر سؤاله القائم والمتجدد على توسّع فم الحيرة نحو الوجود ومعول الشك الذي أُنزِل عميقاً. تقول مستغربةً حَنَّة آرندت "إنك لا تشعر بالوحدة ما دمت تخوض محادثة مع نفسك" لمن يقول أنا أشعر بالوحدة. ولو أننا تفحّصنا وتأمّلنا جيداً قول آرندت!، لتجلّتْ لنا، محادثة المرء لذاته/لسريرته أو لبنيته الداخلية التي شُيِّدتْ بفعلٍ أو بنقيضه. وذلك تماماً، غير مفهوم العزلة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بغربة الذات وسؤالها المتجدد بأعمق نقطة قاعها.
تختلف كثيراً، المفاهيم الثلاثة، الاختلاء، العزلة والوحدة. وبرؤيةٍ أوليّةٍ، إن المفاهيم آنفة الذكر، بَنَتْها نتائجُ تراكميةٌ وفق محدداتِ محيطٍ ما داخل كينونة المرء، عَمّرتِ البيئة والمحيط، تركيباً سايكولوجياً، مرتبطاً أشد الارتباط بالحسي والمرئي، فبالابتعاد أو النّفي أو السفر، بديهياً يرتفع شعور المرء بالافتقاد/الحنين. ويطلق مفردة الغربة/الغريب على من لم يجد من ينادمه ويُصابره جزعه. يفرّقُ هايدغر أيضاً بين العزلة والوحدة قائلاً "المدنيون(سكان المدن) يندهشون أحياناً لعزلتي الطويلة الرتيبة في الجبال، إلا أن ما أعيشه ليس عزلة وإنما الوحدة. في المدن الكبيرة، بإمكان الإنسان أن يكون منعزلاً وبسهولة متناهية أكثر مما في أيّ مكانٍ آخر، إلاّ أنه لا يستطيع البتّةَ أن يكونَ وحيداً، ذلك أن للوحدةِ نفوذاً متميّزاً تماماً في ألاّ "تعزلنا" بل بالعكس، هي تُلقي بحياتنا بجوار كل الأشياء" موضحاً بذلك تعالق وتعلّق وارتباطنا بالبيئة والمحيط الواسع، نتيجتهُ، تشظّي الكينونة وذاتها باتساع محيطها ومتطلباته. غير أن الاختلاء/الخلوة، يحتاجها المرء لتصفية وتشذيب تلك الارتباطات المادية والسايكولوجية. ما يعني، إعادة صهر الكينونة وطرد وإذابة الشوائب العالقة. طوال تلك السنوات التي عشتها، لم يمت أحدٌ وأنا على مسافةٍ مكانيةٍ قريبة، إلاّ قبلَ سنةٍ، في مكانٍ ما، كنت مع تماسٍ شبه يومي وعلى أوقاتٍ كثيرة، صباحاً ومساءً وعشيةً، مع أحدهم. بعد وفاته المفاجئة لي ولمن حولي، حينئذٍ لم أهضم وأتفهّم وأعي موته، كما يموت الكثيرون. وربما الموت صار من المألوفات!. السؤال هنا؛ ما هي علاقة الموت بالذات، أو لماذا يرتفع شعور الغربة بعد موتِ ذوي أحدهم؟ تاركاً خلفه فراغاً وفجوة داخل من يحيطونه سواء ذويه أو غيرهم!. الحداد أو مواساة وتعزية ذوي المتوفى، تكاد تكون محاولةّ لإبعاد وتخفيف خسارة الكينونة أو الذات بتحويطها بوجوهٍ لها أواصر وتعالق وطيد مع الذات الجريحة نفسها. من صوبٍ آخر، ستشعر بالفقدان والخسارة والوحدة -بنسبة ملحوظة- لو كانت لك داخل حياتك، علاقة مع حيوان ما. غير أنك تسمع وتشاهد وتعرف أن الكثير من المخلوقات، تلقى حتفها بالساعات وربما الدقائق! يزامنها الأسى الطفيف.
تُعمِّرُ الذات داخل الكينونة، مبنىً-تكويناً جوهرياً- لما تشاهده وما تجالسه وتعيشه وتتعايش معه، من كل المكونات الملموسة والمحسوسة أيضاً. ذات القرويّ تخلتف تماماً عن ذات المدنيّ رؤيةً وتجسّداً، بدليل الحداد متباين الصورتين بينهما وما الى ذلك من قضايا تصنعها البيئة ويمثلها أشخاصه. في لقاءٍ متلفزٍ، يقول سعدي يوسف في حديثه عن الشعر والأمكنة بعد سؤال المستضيف "أنا إعتبرت الحنين عدوّاً فاستقام ظهري. صرتُ أسافر بين البلدان والمحيطات وكل الأمكنة، متمرداً على مرض الحنين" وهو أيضاً دائم القول "في كل رحلاتي وترحالي، أبحثُ عن التوطّنَ". وهنا أختتم ما أردت إيصاله وقوله ببضعة سطور -أعتقد أنّ فيها إشارات ولمحات كافية وتوضّح بتمام عن أكثر ما قلته هنا-لسعدي نفسه بكتابه "خطوات الكنغر" الصادر سنة 1997 عن مؤسسة المدى. "على الشاعر في المنفى، أن يتوطّن. عليه أن يقيم علائق مع محيطه، المشهد الطبيعي-البشر-اللغة، وعليه أن يقيم توازناً نفسياً جديداً، بينه وبين المحيط، وإلا فقد إمكانَ الاستمرار، سوياً، على وجه الارض، وسقط في الجنون، أو المرض المميت، أو الانتحار. أنت في غرفة صغيرة، مائلة السقف، في الطابق السابع من مبنىً بلا مصعد، في باريس. أنت لا تعرف اللغة الفرنسية، والشجر الذي تلمحه من مربع الزجاج الصغير (النافذة) في غرفتك، هذا الشجر لا تعرف له اسماً، إنه ليس النخل، لا الدَّوم، ولا السيسبان. هنا، في منتَذِبك بالطابق السابع، لن يزورك أحد، رجلاً كان أو امرأة. حتى الشمس، لا تمر بك إلا عابرة لمدة خمس دقائق، تحيِّيك مسرعة من مربع الزجاج الصغير، وتمضي لتضيء عالماً أنت لست منه. الأيام تمر ومع مرورها، يقل هبوطك من الطابق السابع الى الشارع والمقهى والمطعم الرخيص الذي تصادف فيه أحد أصدقائك أو معارفك القدامى. قد تقصي اسبوعاً كاملاً في المنتَبذ العالي محشوراً بين ارضية باردة، وسقفٍ مائلٍ، تشعر تدريجياً بأنه يُطبقَ عليك أكثر فأكثر، حتى لتضيق أنفاسك في ما يشبه الاختناق" ص119/120.
محمد حاذور. كاتب من العراق.
#محمد_حاذور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آفاق المقالة عند سعيد عدنان.
المزيد.....
-
الحكومة الأوكرانية تلزم ضباط الجيش والمخابرات بالتحدث باللغة
...
-
تناغمٌ بدائيٌّ بوحشيتِه
-
روائية -تقسيم الهند- البريطانية.. وفاة الكاتبة الباكستانية ب
...
-
-مهرج قتل نصف الشعب-.. غضب وسخرية واسعة بعد ظهور جونسون في
...
-
الجزائر تعلن العفو عن 2471 محبوسا بينهم فنانات
-
أفلام كوميدية تستحق المشاهدة قبل نهاية 2024
-
-صُنع في السعودية-.. أحلام تروج لألبومها الجديد وتدعم نوال
-
فنان مصري يرحب بتقديم شخصية الجولاني.. ويعترف بانضمامه للإخو
...
-
منها لوحة -شيطانية- للملك تشارلز.. إليك أعمال ومواقف هزّت عا
...
-
لافروف: 25 دولة تعرب عن اهتمامها بالمشاركة في مسابقة -إنترفي
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|