|
بين الضفتين
منهل السراج
الحوار المتمدن-العدد: 1589 - 2006 / 6 / 22 - 09:15
المحور:
الادب والفن
لميا المجنونة مازالت تروح وتجيء على الجسر بين الضفتين حاملة صرة، الله وحده يعلم ما بداخلها، تقطع الجسر إلى الضفة التي كانت مملوءة بالبيوت وأصبحت فارغة إلا من بناء حديث، تبصق على واجهته الزجاجية اللامعة وعلى اللوحة الكبيرة التي تحمل إعلاناً عنه، تبصق على النهر الذي يعكس صورة البناء وإعلانه. ذاتَ يومٍ، ليلاً أو نهاراً، صعِدَت ضفة النهر الثانية إلى البيوت التي كانت تسترخي عندها، متطاولة، أسقفها قبب تعلوها أهلّة، أو أسقفها من قرميد. شرفاتها صغيرة، خجولة، كثيرة ومترابطة، قريبة وشفافة، مسوّرة بالحديد المشغول بانحناء ودقة. هناك كان شموخ البيوت كتلاً حجرية كتيمة، راسخة، تتخللها نوافذ رفيعة وطويلة. في البدء اسطبلات الخيل التي كانت زاخرة، حين كان الفرسان يعرفون كيف تُروّض الخيول وكيف يعتلونها، ينشدون معيّرين وزير الفرنسيين بحاله، يغنون للصبية بثقة الرجولة وتوق عال للأنوثة المتخفية وراء النوافذ. هناك، بعد الجسر الصغير، كانت الشرفات تتقدم البناء لتطل على النهر، تكاد أن تلتقي نوافذ الضفة المقابلة طالبة عفو النهر الذي لا تستطيع تجاوزه، فهو رغم هدوئه، كان يوماً يفور فوراناً مخيفاً. كانت الشمس تشرق من أجل هذه البيوت فقط، تضيء الواجهات ثم ترتد إلى الشرفات المقابلة، فتشكّل لوحات حيرت فناني الضفتين الذين تباروا في تمثيلها، لكن عبثاً. كان من يسكن الشرفة التي تشرق عليها الشمس أولاً، وتتلقى شعاعاً مضيئاً دون حرارة، يدعو الناس أن يصدقوا أن شمسه مختلفة في شروقها وغروبها، وأنها ترسل ضفيرتها أولاً كطفلة حرون، لتلمس خده بضربة خفيفة. تسكن الشرفة طوال النهار متنقلة من زاوية إلى أخرى، ثم تنسحب في المساء ببطء، قاصدة التأخر. هناك كان بيت لميا المجنونة، التي لم تكن مجنونة، محشوراً بين بيوت كبيرة، بدون أن يبدو ناتئاً، هم أهل حارة واحدة والأبواب كلها مفتوحة، الشرفات أيضاً، فلا فرق إن كانت أسقف البيوت قرميدية مزينة من الداخل بطبقات خشبية معقدة في زخرفتها وفخامتها وتلوينها الفستقي، الزهري والأزرق الفاتح، وبين سقف "سادة " يتدلى منه مصباح هزيل ينير سهرتهم القصيرة. لا فرق بين أرض مرمرية وأرض اسمنتية سوداء تلمع بعد الغسل عصراً. لا فرق بين الخياط وبين صاحب الضيعة، ربما كان هناك فرق كبير، أما اليوم، وبعد أن هُدمتْ كلها وصارت دارسة خواء فقد تذكروها، تذكروا جمالها فقط. رأوا الضفة الثانية تتحول إلى أكوام، أكوام الأسقف، الأرضيات، الجدران والشرفات، الحدائق والشجر، الأسرّة، الصحون، الأوراق، الحقائب، لباس الأطفال، قمصان النساء النايلونية، جلابيات الرجال ـ ثم ماذا بعد ؟ كانوا يا ما كانوا، كانوا يركضون من الضفة الأولى إلى الثانية، قاطعين الجسر الذي لم يكن مسوّراً بالحديد بل بأحجار القناطر، يصلون إلى الحارة الرفيعة المعتمة، المخيفة للأطفال في الشتاء، بصوت الطاحونة المرافق الذي يجلب النعاس للكبار. صبراً، فلميا بعد ساعات ستصبح لميا المجنونة، تماماً عند الفجر. باقي في تنكة المازوت ليتر أو أقل، موضوعة خلف باب بيتها عند ركن الخطر مع منقل الفحم ووابور الكاز وكل ما تتوقع منه أن يؤذي طفلتها الشقية "سحّورة " لميا في فراشها، ثديها مع طفلها "أنس"، دفن زوجها رأسه و تنهيدته بين كتفيها، طفلتها ابنة الثلاث سنوات نائمة نوماً عجيباً غريباً عند قدميها. نامت، من تعبها، لميا اليقظة دائماً، كذلك زوجها المريض. لكن الطرق الشديد جعله يقفز من فرشته ومن خوفه ليفتح الباب. تراجع إلى الخلف بقامته النحيلة، ركلوه، داسوا أرض الدار الاسمنتية السوداء، خطوتان، وجدتهم أمامها. سحبت ملاءتها وشدّتها عليها وعلى ابنها المتشبث بثديها. غضبت من الولد الرضيع فرمته فوق ظهرها. ظل متمسكاً بكتفيها اللتين تحولتا إلى شرفة لمراقبة هؤلاء الغرباء. نخزوا بالحراب الثياب المعلقة، دفعوا "بأبواطهم" خف الطفلة البلاستيكي الأحمر، المقصوصة مقدمته، رفعوا الوسادة التي تحمل رأس الطفلة، فتشوا تحتها، لم يجدوا شيئاً، تركوها، هوى رأس سحورة، لكنها لم تستيقظ. كانت عينا الولد ترقب كل شيء من شرفته المتنقلة المرتجفة، تصعد، تهبط، تلملم وتسوي ما يخربه المقتحمون. لميا كانت كالنحلة، تقطع الجسر في اليوم الواحد عشرات المرات بين الضفتين، تصل إلى البيوت، تدفع أي باب بدون تكلّف، تضع خفها تحت أول شجرة وملاءتها فوق أول غصن، تغسل يديها ووجهها ورقبتها، ترتب ماحولها، تلملم بيديها كل ما تجده في طريقها، تسقي الأحواض على عجل، تشوي الباذنجان، تقطف الملوخية، تقلي بطاطا لعشاء الأطفال المدللين، تهرع إليها دجاجات البيت وأولاده، تثرثر مع الجميع، ولا تكف. إن لم يكن هناك أحداً تثرثر معه، فسوف تغني. قد تجد أمامها صندوق فاكهة، تتناول واحدة تمسحها بثوبها، وتأكلها على تعبها مواصلة ثرثرتها. عندما تصادف مجهولاً، مسجّلة حديثة أو آلة كهربائية، فإنها تضحك ساخرة من جهلها معتذرة من كل من حولها. لا تسأل أحداً ماذا يحتاج ؟ فهي تعرف ما يحتاجه الجميع، ولا أحد يعرف ما تحتاجه لميا، اللهم إلا حاجتها لتأمين حاجاتهم. كان ياما كان، كان هناك لميا عاقلة وثلاثة أطفال، لا طفلان وزوج.كان زوجها كالحمَل يرتدي بنطالاً رقيقاً وعريضاً بلون الحنطة، ينظّف البيوت الجميلة ويطعم الخيول المتبقية. تطعم لميا من يديها كل البيوت، كوسا بالبندورة و"عرايس" زعتر. وتحوش الخبيزة، تغطي النائم، تحقن بحقنة الماء الطفل الذي يعاني من الإمساك، وتدهن بطنه بالزيت. إن صادفت في سعيها على الجسر الأولاد يسبحون، فسوف تتناولهم، تجفف وجوههم وأعناقهم بطرف ثوبها، وتمصّ الماء من آذانهم ثم تضربهم على مؤخراتهم مداعبة: إلى البيت رأساً. لم تكن تنظر في كفها إن أعطوها مالاً، بل تكتفي بتمتمات خجولة. لم تطل الجلوس في بيتها إلا للنوم أو مداعبة الحمل، زوجها، طفلها. في غفلة منها، بسرعة كالحقد، أمسك أحدهم تنكة المازوت من خلف باب بيتها وسكبها على كل شيء. أُخذت لميا، طار عقلها، سحبت وسادة زواجها بدل سحورة ابنتها التي لم تستيقظ، رغم كل الصخب، من غفوتها المطمئنة عند قدمي أمها، لن تسمح لأي سبب سحب السكينة منها. دخلت الملجأ في الضفة الأولى بجانب باب النهر الكبير. كانت النساء مكومات والأطفال صرعى. رأت بطن امرأة حامل، مقتولة، تتحرك، كانت على وشك الولادة. أقعت لميا على الأرض، التصقت برحم المرأة حامل الطفل العنيد، وضعت خدها على البطن ثم أذنها، كانت حرارتها، رغم البرد الشديد والموت، تجعل كل شيء يغلي، غنت للبطن المتحرك. سحبت غطاء صوفياً عن أحد الموتى، وغطت البطن المتحرك، لكن الحمى شديدة، لا بد أن الطفل قد اختنق في بيته، رحم أمه. ظلت لميا تغطي البطن في بردها وتكشفه في حرّها ثلاثة أيام. كان البطن قد كف تماماً عن الحركة. فوجئت لميا بحملها الوسادة على صدرها بدل الطفلة، الطفل الصامت "أنس" في يد والوسادة في اليد الأخرى. وقفت على الجسر، قررت أن ترمي الوسادة التي خدعتها، لكنها رمت الطفل في النهر تحت القناطر. هكذا وجدت لميا نفسها دون أعباء، دون طفليها، دون زوجها، ثم دون عقل. تعود إلى المصطبة التي اختارتها من بيوت الضفة الأولى، تتوسد صرتها وتنام متجاورة مع القطط، كي تسترد أنفاسها.
فصل من رواية بعنوان "كما ينبغي لنهر" الرواية التي منعت من النشر في سوريا أواسط عام 2000، اعتبروها تتحدث عن حرب حماه 1982. نشرت عن دائرة الثقافة في الشارقة بعد فوزها بالمركز الثالث لجائزة الرواية عام 2002
#منهل_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حقيبة فاتح جاموس
-
وصفة لشهرة. وصفة للسترة
-
جمعيات سقط عتب
-
ترى... من هو عريس الليلة!
-
أما أنا فأفهمك يانجيب
-
بترحلك مشوار؟
-
بأي حق يغتالون الصداقة
المزيد.....
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|