|
القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
حامد تركي هيكل
الحوار المتمدن-العدد: 6587 - 2020 / 6 / 8 - 10:49
المحور:
الادب والفن
يربض القسم رقم 8 مثل ثور مجنح هامد يحرس ساحة السراي القديم. هو بناية شاخت وشاخت معها مجاوراتها أيضا. الأبنية التي تحيط بها خالية تماما من الناس، عدا تلك البيوت التي تقع الى اليمين والتي استحالت الى ورش نجارة وصباغة نهارا، ولكنها تغرق بصمت عميق هي الأخرى ليلا، وعدا بناية القائمقامية القديمة والأبنية التي حولها حيث يعمل بتكاسل موظفو الأمن الذين أصابهم اليأس من جراء تحول السلطة عنهم الى مواقع جديدة. أما باقي الأبنية كجامع السهروردي وجامع الملك غازي والأبنية الحكومية الأخرى فقد تركت للأشباح تعبث بها. وحدها بناية القسم رقم 8 استبدلت سكانها الأرستقراطيين السابقين الذين لم يعد لهم وجود بسكان جدد، سكان لا ينتمون الى هذا المكان ولا علاقة لهم به ، سكان لا يعرفون تاريخ الشارع، ولا يتحسسون جغرافيته، سكان طارئين. هم شباب من محافظات العراق ، جاءوا كطلبة يدرسون في كليات جامعة بغداد المختلفة، دفعهم القدرُ الى أن يكونوا سكان القسم رقم 8، كما دفع القدر ذاته طلبةً آخرين ليكونوا سكان دار الطلبة. وهي القسم الداخلي الكبير ذو التصميم الحديث، حيث بأمكانك تجربة العيش في أبنية الحداثة، الضوء والسطوح الصقيلة والأشكال النقية والفضاءات المفتوحة المتداخلة مع بعضها بانسيابية ورقّة، الجدران الزجاجية الواسعة تفصل بين البهو والحديقتين الأمامية والداخلية، وفضاء المطعم الواسع يتداخل مع فضاء الحديقة الداخلية الذي يندمج مع فضاء قاعة التلفزيون حيث بإمكانك أن ترى السماء وأنت جالس هناك. السلم الواسع الذي يربط فضاء البهو بالطابق الأول منساب لا يمكنك أن تجد مثيلا له في أي مكان آخر. نعم هو القدر الذي دفع طلبة آخرين ليكونوا سكان القسم رقم 3 على شارع الرشيد والمحشور بألم وبقسوة مثل صخرة أُقحمت داخل سلة بيض، ذلك القسم الذي حُشر بين بيوت تقليدية تسكنها العائلات الفقيرة حيث بإمكانك وأنت جالسٌ في غرفتك في الطابق الأول أن تسمع عراك الكنّات والعمّات في الدور القريبة. وإذا كنت صاحٍ ساعة الفجر فستسمع همهمات الأزواج المكبوتة عبر الشناشيل العتيقة أو عبر شقوق الجدران المتهالكة الآيلة للسقوط، وهم يؤدون واجباتهم الزوجية بشغف يوميا قبل أن ينطلقوا الى أعمالهم الشاقة.
ولأكون دقيقا، قد يكون القسم رقم 8 غريبا وقاسياً عليَّ، لكنني وقد خضت تجربة السنة الأولى المريرة، أجدُ أن القسم رقم 8 جنّةٌ ونعمةٌ أنعمها الله الكريم عليَّ. نعمة غيرت مسار حياتي. فبعد أن تم قبولي في القسم المعماري في كلية الهندسة، سكنت لأيام محدودة في فندق الديوانية الذي يقع في سيد سلطان علي المرتبط بشارع الرشيد بزقاق مقابل مبنى الأورزدي باك تقريبا. كان فندقا يؤمه البصريون. ولكون المبيت في فندق الديوانية مكلفا، فقد بحثت عن فندق رخيص. بحثت عن غرفة في فندق لا تكلفني أكثر من خمسة دنانير شهريا. غرفة استطيع أن أعيش فيها لشهر أو شهرين الى أن يتم توزيعنا على الأقسام الداخلية. وبعد بحث مضنٍ استغرق وقتا طويلا وجدت غرفة منفردة على سطح فندق العهد الجديد في منطقة الشواكة في جانب الكرخ. كانت تلك عبارة عن غرفة صغيرة لخزن الأثاث أو ماشابه. جدرانها عبارة عن أعمدة خشبية تحتل أركانها الأربعة، تم حشو المسافات بينها بقاطع من الطابوق الفرشي الموضوع على جانبه القصير بسمك 5 سم. يفتح بابها الخشبي على السطح، وثمة باب خشبي آخر يفتح على بالكون من جهة الشارع وضع هناك لأغراض تكامل واجهة المبنى الذي صمم على طراز عصر النهضة. وثمة شباكان خشبيان يتوسطان الجدارين الجانبيين للغرفة. سكنت فيها أنا وطالب آخر من البصرة هو الآخر قد قُبل في كلية الهندسة في قسم النفط. كان أثاث الغرفة المحشور حشرا يتكون من سريرين حديديين ومنضدة وسطية فقط. أما اذا أردت استخدام المرحاض فكان عليَّ أن أنزل للطابق الذي يلي السطح لاستخدام المرحاض . أما أذا أردت الإستحمام فكان عليَّ أن أعبر جسر الشهداء مشياً الى شارع المتنبي حيث أدخل حمام الرافدين العمومي. وحيث أن العام الدراسي يبدأ مطلع تشرين الأول، فقد صادف أن سكنّا أنا وزميلي تلك الغرفة بداية تشرين الثاني الشديد البرودة. نتعشى بخمسين فلسا فقط في محل صغير يقع في الجهة المقابلة لفندق العهد الجديد، محل كان يُعدُّ أطباق الچلفراي، والبتيتة چاب والمخلمة بالبيض، وكلُّها كانت أكلات لذيذة وجديدة على طالبين قدما من ريف البصرة الشمالي. ثم نصعد لننام مباشرة ،إذ كان يتعذر علينا البقاء خارج الفراش لأتمام الواجبات البيتية الكثيرة. فبعد الساعة التاسعة، تتحول الغرفة الى مجمدة. والجميل بالأمر أن سطح اللحاف الخارجي كان باردا الى درجة يصعب ملامسته، إلا أن السطح الداخلي للحاف كان دافئا جدا. كانت أقسى معاناتنا تتمثل بالتعامل مع صاحب الفندق الكريه ذي الصوت الأجش والموجود دائما هناك، كان ذا رأس كبير وشعر أشعث و كان يضع نظارة سوداء. كنا ننتظر بفارغ الصبر الحصول على قسم داخلي، وحين نحصل على القسم الداخلي ستنتهي معاناتنا، فسنحصل على سكن مجاني، وفوق ذلك سنحصل على سلفة قدرها عشرة دنانير شهريا ستكون أكثر من كافية بالتأكيد. ولكن دائرة الأقسام الداخلية أبلغتني بضرورة مراجعة الإتحاد الوطني للطلبة في الكلية للحصول على سرير في القسم الداخلي. عندما راجعت الإتحاد زودوني بكتاب موجه الى الإتحاد الوطني في الثانوية. سافرت الى البصرة،وذهبت الى المدرسة للحصول على كتاب التأييد، وحصلت على الكتاب المغلق. حين فتحت المغلف باستخدام بخار الماء صُعقت، فمزقت الكتاب فوراً كمن يريد أن يبطل تعويذة شريرة.
الى الاتحاد الوطني لطلبة العراق – كلية الهندسة – جامعة بغداد تحية نضالية كتابكم المرقم ........... نعلمكم أن الطالب ............ الملصقة صورته أعلاه هو أحد ألاعضاء الناشطين في الحزب ال....... المعارض .نوصي بتشديد المراقبة عليه.
للتفضل بالاطلاع ودمتم للنضال.
إذن بدون هذا الكتاب لا يمكن أن أحصل على غرفة في قسم داخلي، ولن يكون بمقدوري دفع إيجار غرفة بمفردي، فزميلي سيحصل على قسم داخلي . كدت أقرر ترك الدراسة والعودة الى البيت، وفكرت بطلب النقل الى جامعة البصرة ودراسة اختصاص آخر غير العمارة، إلا ان أسمي وبشكل مفاجيء قد ظهر ضمن لوائح الطلبة المقبولين في الاقسام الداخلية. وهكذا كان حصولي على القسم رقم 8 وشمولي بسلفة الاقسام الداخلية نعمة ما بعدها نعمة. فقد حصلت على الدفء، والطعام، والصحبة، والأثاث، والانتماء لمكان. حصلت على المأوى بعد العراء، وحصلت على السكن بعد التشرد، حصلت على الأمان بعد القلق. وما أجملها من نعمة. الأقسام الداخلية في ذلك الوقت تخضع لسلطة الاتحاد الوطني بالكامل رغم أنها تُدار ماليا وإداريا من قبل دائرة مستقلة تابعة للجامعة. والإتحاد تابع للحزب طبعا. والهاجس الأمني التجسسي هو الأهم. إذ كان الطلبة يوزعزن على الغرف بشكل تعسفي لضمان عدم التجانس، ولضمان حصول عدم انسجام ، وبالتالي فستصل التقارير والشكاوى، أو على الأقل سيخاف الجميع من الجميع ويستتب الأمن.
كل غرفة لابد أن تضم خليطا من الطلاب من محافظات مختلفة. كان الخوف من المراقبة والتجسس وكتابة التقاريريشكِّل هاجسا ضاغطاً. لذلك يلجأ الطلبة الى الهمس. الفتيان في القسم رقم 8 هم طلبة جاءوا من جنوب العراق وشماله ووسطه. من شرقه وغربه، من مدنه المختلفة، من سهوله وجباله وصحاريه. جاءوا من مدنه الزراعية، ومن مدنه الدينية، ومن مدنه التجارية. هم متشابهون ومختلفون. مختلفون بلهجاتهم، وبتوجهاتهم، وبلغاتهم، وبميولهم. وهم مختلفون بأعمارهم، فمنهم من هو في المرحلة الأولى، ومنهم من هو بالمرحلة الرابعة، ومنهم في مرحلة الدراسات العليا. وسكان القسم رقم 8 على درجات مختلفة من الحماس ، فمنهم من يدرس الهندسة، ومنهم من يدرس الطب، ومنهم من يدرس في كليات مختلفة أخرى. يضاف الى ذلك التنوع العجيب طلبة آخرون من الأقطار العربية، فقد كان هناك غرفة تضمُّ طلبة يمنيين. بعد أن تجتاز الفناء المسقف تصل الى باب يقودك عبر درجات هابطة الى ممر مكشوف تقع عليه مباشرة في الطابق الأرضي مجموعة من الحمامات والمرافق الصحية فضلا عن غرفة وضعت فيها مكائن غسل الملابس لاحقا. وعندما تستدير يسارا ستكون بمواجهة سلم يقودك الى الطابق الأول حيث تقع مجموعة من غرف الطلبة تقع فوق المجموعة الصحية يقود اليها ممر مكشوف يطل على الممر السفلي الذي تفتح عليه المجموعة الصحية، بينما تفتح نوافذ تلك الغرف على فناء جامع الملك غازي ذو الحديقة الهادئة حيث تغرد العصافير. وثمة مجموعة أخرى من الغرف تتعامد مع صف الغرف الأولى يربطها ممر مكشوف أيضا ينفتح هو الآخرعلى حديقة الجامع أيضا.
هناك غرفة واحدة ذات موقع غريب،و فهي منفردة، لا تجاورها غرفة، يؤدي إليها ممر ضيق يرتبط بصحن السلم. حيث تسير بممر ضيق تفقد عبره الاتجاهات ، وتجد نفسك أخيرا أمام غرفة مربعة لها شباك مرتفع ينفذ منه ضوء الزقاق، وتنفذ منه أصوات النجّارين والصباغين وضحكاتهم الماجنة. يسكن هذه الغرفة الغريبة بموقعها طلبة من اليمن الجنوبي. خمسة من الطلبة العجيبين، فهم لا ينامون الليل مطلقا، يبيتون وهم يتحدثون بشؤون السياسة بشكل مستمر. دون انقطاع ، ودون ملل أو كلل، يجلسون على أسرة نومهم، يتربعون عليها ، يحتضنون مناضدهم، لا يرتدون سوى فانيلات نصف كم، ووزرات يمانية ذات لون قهوائي، كأنهم يرتدون زيّا موحّدا، ويتحدثون بلكنة موحدة، وبوتيرة موحدة، وبأسلوب موحد، عن موضوع واحد لا يتغير. كانوا يعتقدون أنهم ينتمون الى دولة مميزة! كانوا معجبين بتجربة دولتهم الديمقراطية، وبتوجهاتهاالاشتراكية التحررية !!! صارت أصواتهم جزءً من المكان. وكان وجودهم يدعو الى الارتياح بالنسبة لي. ذلك لأنهم كانوا يدخنون باستمرار. وحين تنفذ سجائري في منتصف الليل، أذهب إليهم، أتجشم عناء التيه في ذلك الممر العجيب لأصل الى تلك المجموعة الغريبة، لأستعير بضع سجائر تكفيني حتى الصباح. ولكنني حين كنت أصغي الى همسهم كنت أسمع بين سيل الكلمات المتبجحة والواثقة والمتفائلة بالمستقبل، كنت أستشف لكنة القلق، والخوف من المستقبل، وكنت أستشعر لوعةً وحزناً يتوارى بين واجهات الفرح المصطنع. أدركت ذلك رغم أنني ما كنت أميّز الكلمات. لأن للجدران والتواء الممرات وخلوّ الفضاءات من الأثاث ما يحمِّل الأصوات أصداءً، فيطمس معالم الكلمات، ويشوِّه وجوه المفردات، فتصل الى أذنك وقد استطالت، وتكسرت، ومُطت، وتآكلت. غير أن عمليات التحول القسري للكلمات، وعمليات الليّ والسحق والشد والكبس والمزج التي عانتها وهي تتيه في طريقها عبر ممرات القسم رقم 8 لا يمكنها أن تشوِّه الحزن الكامن فيها، ولا أن تمحو طعم القلق المتغلغل بين جنباتها، والممتزج بحروفها وأصواتها.
من همس الفتيان صار بإمكاني أن أتعرف على الجهة التي قدم منها الطالب العراقي، ومن الإستماع الى جملة واحدة منه. صرت خبيرا بلهجات العراقيين، فهذا نجفيٌّ، وذاك من طويريج، وذاك من الرمادي. وهاذان من الحلّة، وهذا من الحمزة. كلُّ لهجات العراق نزولا الى مستوى القضاء والناحية صارت واضحة لديّ. وبطبيعة الحال صرت أميز بين اللغة الكردية حين يتحدث بها الطلبة الكُرد، واللغة التركمانية حين يتحدث بها الطلبة التركمان. ولكنني سمعت همسا من نوع آخر كان طلبة القسم رقم 8 يهمسون به. فبعيدا عن همس الحبِّ والعشقِ والهوى وهو كثيراً ما كان يصدر عن طلبة بعمر الشباب، وبعيداعن همس لوعات فراق الأهل تلك التي عادةً ما تصدر من فتيان وجدوا أنفسهم على حين غفلة مبعدين عن أهليهم وذويهم ثمة همسات خفيّة أخرى، همسات سريّة لا يعلمها أحد.
أغلبُ الشباب كانوا متفائلين بالمستقبل، مقبلين عليه. وكيف لا وهم قد باشروا للتو دراستهم الجامعية. وما هي إلا سنوات معدودات وسيجدون أنفسهم مهندسين أو أطباء أو صيادلة أومدرّسين . وكل واحد منهم ستضعه الدولة شاء أم أبى في وظيفة سيكسب منها دخلا ويتمكن من بناء مستقبله. أغلب الشباب كانوا سعداء، وكيف لا؟ وهم الآن مغتربون عن أهلهم ومبتعدون عن بيئاتهم ومجتمعاتهم التقليدية الصغيرة، يسبحون في بحر بغداد المتلاطم الأمواج. فبغداد في العام 1978 عالم من الحرية والانطلاق. ففي شارع السعدون مثلا من النادر أن تجد مطعما فقط، فهناك مئات لوحات الدلالة التي تشير الى مطعم ومشرب، حتى الدكان الصغير الذي يقدم ساندويچات الگص، فإنه يقدم مع الساندويچ قنينة بيرة باردة ومنعشة. وكل ذلك لا يكلفك أكثر من مائة فلس فقط. أما البارات فهي أكثر من المطاعم والمقاهي. وفي كل بار يمكنك أن تأكل أنواعا من المقبّلات، وتشرب عدداً من قناني البيرة ،وإذا كنت قوياً بما فيه الكفاية فبإمكانك أن تشرب ربع قنينة عرق عراقي، ثم تتعشى كباباً عراقياً أو نصف دجاجة مشوية. وأغلب الشباب كانوا سعداء وهم يخوضون لأول مرة تجربة الاختلاط مع الفتيات اللواتي كنَّ يلبسنَّ أجمل الملابس وأكثرها إثارة. حتى الفتيات اللواتي كن يأتين من بيئات متشددة ومدن منغلقة، كان يتعين عليهن أن يطوين عباءاتهنَّ ، ويلبسن كما تلبس بنات المدن الأخرى، بل كن يستمتعن بهذه التجربة التحررية، رغم أن بعضهن كن يشكين من ذلك ويتذرعن بأنهن يجبرن على ذلك السلوك لتلافي الإحراج.
سمعت همس أغلب الطلبة ، كانوا طيبين بريئين صادقين شفافين . وكانوا يحبون العراق حبّا جماٍ. تغرورق عيونهم بالدموع من أبسط المشاهد، ومن سماع الشعر والأغاني. تشع عيونهم محبة، يتوقون الى العطاء، ويسارعون بالخيرات. عراقيون بمعنى الكلمة، عاطفيون حد النخاع. وسمعت همس بعض الطلبة المؤمنين إيمانا حقيقيا صادقا خالٍ من الرياء والنفاق. سمعت همسهم ونجواهم ساعات الفجر، وسمعت صلاتهم وهم يتلون الآيات بصوت خفيض كي لا يزعجون زملائهم النائمين. سمعتهم من حيث لا يشعرون وهم يناجون ربهم بصدق قلَّ نظيره، ورأيتهم يذرفون الدموع حيث لا يراهم أحد. وأدركت كم هي جميلة لحظاتهم تلك، وكم هم سعداء إذ يعيشون تلك التجربة، وتمنيت أن أكون مثلهم. وسمعت همسا من طلبة آخرين يجدون أنفسهم وقد ضاعوا تماما في هذا الفضاء الغريب عليهم. سمعت من كان يبكي في بعض الليالي . وسمعت همس من كان يشعر بالحنين. وسمعت همس الشباب المعذبين والذين فاجأتهم بغداد الخارجة عن المألوف بما تضمنته من جمال شاباتها الأخاذ، وغنجهن ودلالهن، فلم يجدوا غير الحمامات يصرّفون فيها طاقاتهم المكبوتة، ويسيحون بين جدرانها الضيقة بخيالاتهم التي لا تحدّها حدود. وسمعت همس التعالي والتكبرو الازدراء والاحتقارمن قلة من الطلاب. سمعت همس أولئك الذين يشعرون أنهم قدموا من بيئات يظنون أنها أفضل من بيئات أخرى قدم منها طلبة آخرون. سمعت همس أولئك الذين يشعرون بالتفوق الأجوف، وشعرت بالغثيان ، وسمعت الهمس الذي يصدر من طلاب يشعرون بالإضطهاد والتمييز، فاشمأزت نفسي. وسمعت همس الذين يودون للعراق أن يُمحق. وسمعت همس من يكره العراق ويتمنى له الذل والهوان! وسمعت همساً من طلبة آخرين يظنون أن البلاد تسير في طريق الضلال، وأن الثورة لابد أن تكون . سمعت همس تلك الأقلية الصفراء المتوارية خلف جدران من النفاق . وجوههم طعمها مرّ، و دواخلهم سوداء، يكاد ينزُّ منهم الحقد والكراهية. كانوا يتصنّعون التديّن، ويهمسون فيما بينهم بكلمات مخيفة، ويتبادلون رؤى كنت أراها قبيحة، أحلامهم كوابيس، وأمنياتهم مصائب. وكانت أعظم مخاوفي هي أن يتمكنوا من البلاد ذات يوم. سمعت همس كلِّ هؤلاء ، ولم أهمس ببنت شفة لأحد بما سمعت.
كان هناك طالب في كلية الطب البيطري. كان يسكن غرفة صغيرة من غرف القسم رقم 8، وهو الوحيد الذي يسكن غرفة وحده لا يشاركه أحد. كنت نادرا ما أصادفه. لا يعرفه أحد من الطلاب. كان ينام طيلة النهار في غرفته غالقا بابها عليه. لا يختلط بأحد. كان طويلا، شاحب الوجه، نحيلا الى درجة مخيفة. كنت أظن أنه حين يمشي يكاد يتكسر من نحافته ودقة عظامه. وجنتاه بارزتان، وعيناه غائرتان. كان يجرُّ رجليه الطويلتين أثناء مشيه جراً. وبما أن واجباتي البيتية كطالب في القسم المعماري كثيرة وتتطلب سهراً متواصلاً، فقد كنت غالبا ما أسهر حتى الفجر. رأيته يعود الى القسم رقم 8 في ساعة متأخرةمن الليل، بل قبيل الفجر. وقد كان ذلك ممنوعا حسب التعليمات، الا أن هناك استثناءات طبعا للبعض. يترك مشرف القسم باب القسم موارباً له، يأتي مشياً عبر الزقاق الذي يتفرع من شارع الرشيد عند مقهى الزهاوي، يجتاز الزقاق وحيدا، حين كان الشارع يغطُّ بنوم عميق، يدفع باب القسم الحديدي الباروكي الزخرفة الثقيل، يعتلي السلالم، يدفع الباب ويدلف متجهاً الى غرفته بصمت. كلَّ ليلة، دونما إنقطاع. ولكن الأمر الذي حيَّرني أن ذلك الطالب غريب الأطوار كان يأتي كلَّ ليلة يتبعه عدد من الكلاب البيضاء ، كلاب ذات أجسام كبيرة وقوية، تتبعه بصمت،لا تسرع بمشيها، تنتظره وهو الذي يسير على مهل. يتوقف بعضها، ينظر يمنة ويسرة، وحين يصل الطالب غريب الأطوار الى الباب،يهمس لها بصوت غير مفهوم ، فتقف الكلاب، كأنها تطمئن على سلامة وصوله، وحين يغلق وراءه الباب، تنطلق متفرقة الى كل الجهات. حين سألت عن وضع هذا الطالب، حذرني البعض من الانتباه اليه، همس أحدهم لي " مسكين هو يعاني من الشيزوفرينيا" ، وهمس آخر " إحذر فهذا الطالب يعيش مع الجن" ، وهمس ثالث "كم أنت بطران! ما دخلك أنت به؟ "
#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أم سالم
-
الانتصار على الألم
-
السيرة الذاتية لعراقي- قصيدة
-
ليلة قدر
-
القسم رقم 8- الحلقة الثانية - همس الجيران
-
القسم رقم 8 - الحلقة الأولى - همس الجدران
-
لوحة ( الشمس الساطعة)
-
ذكرى قديمة جدا
-
حكاية لا يعلم بها أحد
-
سلسلة قصص الجنون - تنويه ختامي
-
سلسلة قصص الجنون 8- -عقل- المجنونة
-
سلسلة قصص الجنون 7- سيد عودة
-
سلسلة قصص الجنون 6- سامي المجنون
-
سلسلة قصص الجنون 5- شهاب
-
سلسلة قصص الجنون 4- حمادووه
-
سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون
-
سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة
-
سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون
-
رفعة الجادرجي
-
مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|