|
مناظرة فكرية بين الشيخ والفيلسوف .. في معنى الإرهاب الفكري
قاسم المحبشي
كاتب
(Qasem Abed)
الحوار المتمدن-العدد: 6586 - 2020 / 6 / 7 - 20:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مناظرة فكرية بين الشيخ والفيلسوف في معنى الإرهاب الفكري
ذات يوم من عام 1992 كنت في جامعة صنعاء لغرض متابعة تعييني معيدا في كلية الآداب بناءًا على رسالة من رئيس جامعة عدن حينها محمد العمودي إلى رئيس جامعة صنعاء عبدالعزيز المقالح دعكم منها. في صباح ذلك اليوم ذهبت إلى كلية الجامعة وشاهدت جموع محتشدة بجانب قاعة جمال عبدالناصر معظمهم بالزي اليمني التقليدي وبعضهم يحملون أسلحة نارية. سألت أحدهم ماذا يوجد هنا؟ فأجابني مناظرة فكرية بين الشيخ عبدالمجيد الزنداني والدكتور أبو بكر السقاف. شكرته وتوجهت مباشرة إلى القاعة. كانت مزدحمة بذوي الرؤوس المعممة ولم الحظ الطلاب أخذت مكان في الخط الثاني في زاوية قريبة للمنصة التي كانت خالية بعد عشر دقائق من الانتظار الممل في قاعة تعج بالضجيج القبلي دخل الأستاذ الدكتور أبو بكر السقاف منفردًا لا يرافقه أحد فنهضت لاستقباله وعرفته بنفسي فأنا من المعجبين به وبكتاباته الرصينة. رحب بي وجلس في حالة من الذهول والدهشة من نوعية الحضور. بعد ثلاث دقائق اكتظت البوابة العريضة بسيل من المسلحين الرسميين والقبليين برفقة الشيخ الزنداني نهض معظم الذين كان في القاعة مرددين الشعار الأثير (الله أكبر) مع قمقمات غير مفهومة. شق موكب الزنداني طريقة مباشرة إلى المنصة في مشهد احتفالي غوغائي من التصفيق الحماسي. اجلسوا الشيخ على المقعد الأول في المنصة. كان مبتسما كعادته ابتسامة الواثق من نفسه وربه. فحضر شخص اخر هو زنداني كان عضوا في هيئة التدريس في الجامعة لم اعد اتذكر اسمه ربما هو (منصور الزنداني )وعلمت أنه كان رئيسا لنقابة هيئة التدريس في الجامعة حينها. أخذ المكرفون وافتتح الجلسة بمقدمة طويلة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية والترحيب بالشيخ الجليل وقال بلهجة ساخرة أين الفيلسوف أبو بكر السقاف؟! رد السقاف بصوت خفيض أنا هنا. قال: تعال إلى المنصة نبدأ المناظر الفكرية! رد السقاف أي مناظرة فكرية في ثكنة عسكرية؟! لن اصعد المنصة قبل أن تختفي تلك المظاهر المسلحة ليس خوفًا منها ولكن احترامًا للمؤسسة الأكاديمية وللفكر ذاته. اتدرون ماذا كان رد الشيخ الزنداني؟! قال بلكنة ساخرة تفتقد إلى إي خلق فكري. هؤلاء جند الله لا تخاف منهم أصعد يا سقاف! نهض الدكتور أبوبكر بحقيبة المعلقة على كتفه فانصرف بهدوء من القاعة. فضجت بالتصفيق البليد بانتصار الشيخ على الفيلسوف. انتظرت أنا لأرى ما الذي سوف يحدث بعد إنسحاب الدكتور أبوبكر من القاعة، فكانت محاضرة دعوية تحريضية ضد الفكر والفلسفة والمفكرين الأحرار ردد خلالها الشيخ الكثير من الترهلات والخزعبلات الذي لم ينزل الله بها من سلطان. في قاعة تعج بتلاميذ الشيخ فقط. وأنا استمع اليه شعرت بحالة من الخوف والقرف والغثيان وأيقنت أن البلاد ذاهبة في ستين داهية. لم اكمل الاستماع وخرجت بعد أن سمعته يصرخ بضرورة إغلاق أقسام الفلسفة في الجامعات اليمنية وتحويلها إلى أقسام للعلوم الشرعية. وهذا ما تحقق بعد أيام حيث تم إغلاق قسم الفلسفة في كلية التربية صنعاء. خرجت من القاعة وانا تصبب عرقا في عز الشتاء حمدت الله أنني غريب في وسط هذه الجلبة ولا أحد يعرفني أو يعرف تخصصي. إيوجد إرهابا فكريًا أكثر من هذا؟! من يجروء على الكلام☠فكيف يمكن للفكر والعلم والمجتمع أن ينمو ويزدهر في بيئة قمعية متوحشة مثل هذه؟! قد ازهر خطاب الشيخ المسلح وتهمش خطاب الفيلسوف المدني فضاعت البلد في مهب العاصفة. إذا إن الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة. وقد كان الفتح الجديد الذي أوجد حرية البحث العلمي هو من اخطر الثورات الفكرية والاجتماعية في تاريخ البشرية، ولقد أعطى العلم بصفته الشكل النموذجي للبحث الحر، مهمة وضع مجالات الفكر كلها في الوضع الصحيح لذا فإن العلم هو العدو الطبيعي للمصالح القائمة كلها سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية بما فيها مصالح المؤسسة العلمية ذاتها، ذلك أن الحرية ترفض التسليم ببقاء الأشياء على حالها. والشك المنظم الذي تتصف به الطبيعة العلمية أمر دائم الحضور ودائم التشكك بأخر الاقتناعات الفكرية، بما فيها تلك التي طال أمد التسليم بها. وكما يقول توبي أ. هف » بما أن العلم قد أعطى هذه المهمة الفكرية لفحص صور الوجود وأشكاله كلها فانه غدا العدو الطبيعي للنظم التسلطية بشكل خاص وهذه النظم لا تستطيع أن توجد حقاً إلا إذا كبتت أشكال البحث العلمي التي تظهر الطبيعة الحقيقية للنتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخطيرة والمدمرة لتسلطها وحكمها. ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلابد لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، كما يقول كروبر “إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية”، وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدمة وازدهاره.وهذا ما أوضحه امارتيا صن في كتابه (التنمية حرية؛ مؤسسات حرة و إنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) بقوله”أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع . وبدون أن تأمن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار.هكذا نلاحظ أن حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أس الأسس ولب المسألة برمتها. كان أبو بكر السقاف هو الفيلسوف اليمني الوحيد تقريبًا ولم يكن له تلاميذ يصرخون بينما الشيخ الزنداني تناسل آلاف التابعين المسلحين بالفتاوي والعبوات الناسفة وأسس جامعة الأيمان في صنعاء بدعم سخي من السلطة الجمهورية الوحيدوية التي كانت هناك وصارت اليوم آثر بعد عين! وبقي كتاب السقاف دفاعا عن الحرية والإنسان هو الأثر الوحيد الجدير بالقيمة والأهمية والاعتبار.
* ملاحظة أخيرة. فيما بعد تم اختطاف الفيلسوف أبو بكر السقاف وهو في السبعين من عمره في ليلة ظلماء بصنعاء وتم ضربه من قبل ملثمين ضربا مبرحا بهراوات كهربائية ورمي في العراء وحينما سأل شيخ الإخوان القبلي عبدالله الأحمر رئيس مجلس النواب اليمني عن سبب إختطاف وضرب الدكتور السقاف قال قولته الشهيرة (( من كتب لُبج!)) وهكذا سارت الأمور حتى نهايتها الطبيعية والمنطقية.
#قاسم_المحبشي (هاشتاغ)
Qasem_Abed#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بشارة النجاة من فيروس كورونا : من افريقيا بدأنا واليها رجعنا
-
في التواصل الكلامي في الزمن الكوروني
-
حينما تتعرى الحضارة قراءة في لوحة
-
الشاعرة غالية عيسى - حين يغني الحنين أوجاع الوطن -
-
جمال الرموش شاعر الأعماق والآفاق
-
اليوم جان بول سارتر وتهافت الحضور
-
حينما تعلق الاستاذة الدكتورة وجيهة السط
-
العولمة وكورونا من وجهتي نظر أمريكية وصينية
-
الأسس الفلسفية والثقافية لخطاب الصحة الاجتماعية المعاصر
-
من نحن؟ وماذا سنكون؟ وكيف نعيش؟ قراءة عابرة في كتاب الثورة ا
...
-
في تأمل المعنى الفلسفي لفيروس كورونا
-
من ذكريات الجامعة مع الدكتور نمير العاني
-
الليلة الهوية ومداراتها في أمسية تدريبية بالقاهرة
-
لمحة من ملامح النهضة الأوروبية وتعليم المرأة
-
البحث العلمي والتنمية ؛ الصين انموذجا وأشياء وأشياء أخرى
-
ملاحظات عابرة من وحي ندوة الفلسفة والموسيقى بجامعة القاهرة
-
فلسفة التقدم ولادة الفكرة وسياقات المعنى
-
من وحي مؤتمر القوة الناعمة ومركزية اللغة
-
ليلة فكرية خولية في ساقية الصاوي الثقافية
-
في تأمل الحياة والعقل والتاريخ وضرورة النقد والتجديد
المزيد.....
-
بوغدانوف يبحث مع وفد من حماس المستجدات في غزة ويؤكد أهمية ال
...
-
الجدل حول شراء غرينلاند لم ينته بعد.. ورئيسة وزراء الدنمارك
...
-
بيل غيتس وصورة -الملياردير المثالي-
-
ترامب يعلق رسومه الجمركية على المكسيك -شهرا-
-
الرياض.. برنامج أمل التطوعي لدعم سوريا
-
قطاع غزة.. منطقة منكوبة إنسانيا
-
الشرع لـ-تلفزيون سوريا-: النظام كانت لديه معلومات عن التحضير
...
-
مصراتة.. سفينة مساعدات ثانية إلى غزة
-
جنوب إفريقيا تعلن عن إجراءات محتملة ردا على قرار ترامب وقف ت
...
-
مصر تصدر خرائط جديدة لقناة السويس.. ما أهميتها وتفاصيلها؟
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|