مارك مجدي
الحوار المتمدن-العدد: 6586 - 2020 / 6 / 7 - 23:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لغرامشي أسلوبة في الكتابة الذي لا يمكن وصفه تحديداً سوي بأنه أسلوب مميز بشدة, مميز في شموليته و في طبيعة القضايا التي يطرحها, لكن تكمن مشكلة واضحة في الطريقة التي وصلتنا بها هذه المؤلفات, فهي جاءت في صورة "مؤلفات السجن" المنقسمة إلى كتب, و هي بها مفردات لا تكشف عن معناها بنفسها, بل نتعرف عليها كلما تعمقنا في النصوص. فعندما يستعمل غرامشي مفهوم كمفهوم"الأمير الحديث" مثلاً فهو لا يصرح مباشرة بتعريف مباشر و محدد بما يقصده بالأمير الحديث, بل علينا أن نكتشف ذلك من خلال القراءة و المزيد من القراءة.
و قد سبب هذا الأسلوب في طرح المفاهيم لاختلاف الباحثين و الدارسين لأعمال غرامشي, فذهب البعض أن هذه المفاهيم هي مفاهيم تجديدية بالكامل للفكر الماركسي و محاولة لإعادة تأليف الماركسية, و ذهب أخرين أن غرامشي لم يكن مشغولاً بالتأسيس لمفاهيم جديدة بقدر ما كان مشغولاً أن تمر كتاباته تحت أعين سجانيه دون أن يستوعبوها, فأراد أن يكتب لرفاقه دون أن تفهم السلطات حقيقة ما يكتبه بصفته يصيغ برنامجاً لعمل الحزب الشيوعي الإيطالي أثناء فترة سجنه في ظل الفاشية. فإذا أراد غرامشي أن يشير إلى الحزب الشيوعي كان يستخدم مفردة "الأمير الحديث" و إذا أراد أن يشير إلى الطبقة العاملة كان يقول الجماعة المرشحة للهيمنة, و هكذا.
و ما يلي من سطور هو محاولة متواضعة لوضع تصور سريع للقاريء المقبل علي اكتشاف أعمال غرامشي و الذي قد يواجه بعض المشكلات في تتبع السياق المفاهيمي لأعماله, نظراً لعدم مباشرتها و لطبيعتها الغير مدرسية و المجددة.
أتت كتابات غرامشي بعد هزيمة كبري طالت الحركات الشيوعية في أوروبا, و خصوصاً في ألمانيا و إيطاليا, حيث صعدت الحركات الفاشية حاشدة بين صفوفها الطبقة العاملة التي كان من المفترض منها أن تحمل الشعارات الاشتراكية الثورية, و لكنها عوضاً عن ذلك انتظمت في صفوف الرجعية الفاشية و كانت الوقود الأساسي لها.
و مجمل أعمال غرامشي هي محاولة لفهم الظروف التي أدت إلى هذه الهزيمة و تشريحها, و تطلبت هذه العملية أن يعيد التفكير في مجمل التكتيكات التي اتبعتها الأحزاب الشيوعية, و إلى البحث في التاريخ و الفكر و السياسة و نحو أهم محاولة لإعادة صياغة استراتيجية الأحزاب الثورية حول العالم استناداً علي مجموعة مفاهيم تشكل بناءاً منهجياً راسخاً له أدوات تحليل نافذة و متمكنة. و لكي يعالج غرامشي المشكلات العملية كان عليه أن يعالج المشكلات النظرية الرئيسية. فقد وجد نفسه يصطدم بفهم جامد و منقوص عن الماركسية تمثل في النزعة الاقتصادية التي تُغلب الاقتصاد علي كافة العوامل الأخري, فيؤدي ذلك لقصور في الفهم و التعاطي مع قضايا الثقافة و الأيدولوجيا. كان لازماً علي غرامشي أن يهاجم هذه النزعة الاقتصادية في الماركسية ليتمكن من طرح فهمه التاريخي لها. و هذه المهمة هي جزء طويل من رحلة غرامشي الفكرية. و نحن نتحدث هنا بالتحديد عن رؤيته للعلاقة بين البناء التحتي و البناء الفوقي. فلقد ذهب غرامشي أن العوامل المختلفة(الاقتصاد-السياسية-الأيدولوجيا) هي جميعها عوامل مؤثرة مع تأكيده علي أن العنصر الاقتصادي هو العنصر الحاسم, لكنه ليس العنصر المؤثر الوحيد.
يري غرامشي أن مشكلة الأحزاب الثورية هي أنها سعت نحو السياسة دون اهتمام بالثقافة, فلقد كان البرنامج اللينيني ينصب علي الوصول إلى السلطة ثم السيطرة علي المجتمع سياسياً و ثقافياً و اقتصادياً بالطبع, بينما ذهب غرامشي إلى أن الجماعة التي تصل إلى السلطة دون هيمنة علي أفكار المجتمع قبل ذلك هي جماعة محتم عليها الفشل و التهاوي. و لذلك جاءت هذه المفاهيم لطرح هذه الرؤية في شكل منهج و نسق مفاهيمي محدد.
فالجماعة التي تطمح للسيادة دون الهيمنة هي جماعة لم يكتمل مشروعها بعد حسب غرامشي.
في الفرق بين الهيمنة و السيادة
التفرقة بين هذين المفهومين هو موضوعاً رئيسياً و أساساً منهجياً في فكر غرامشي.
السيادة هي السيطرة المادية بينما الهيمنة هي السيطرة الشاملة, السيادة لها شق واحد و هو الإكراه, و تعتمد علي السيطرة السياسية, و كذلك القمع الإداري من خلال الأوامرية المعتمدة علي السلطة السياسية و التنظيمية. بينما الهيمنة لها شقين, شق الإكراه الخاص بالسيادة بالإضافة إلى شق القبول و الاقناع, فهي تعتمد علي السلطة السياسية و كذلك السلطة الأيدولوجية الثقافية التي تجعل من المجتمع خاضعاً دون أن يشعر, حيث يفكر أفراده و جماعاته لصالح المهيمن ظناً منهم أن هذا هو التفكير السليم و الطبيعي. و هذا هو دور الهيمنة, أن تعمل دون أن يشعر المهيمن عليه أنها تحرك أفكاره و ممارساته.
قد تتحقق لجماعة طبقية ما القدرة علي السيادة دون أن تهيمن ثقافياً و أيدولوجياً علي المجتمع فتصبح مهددة بالانقلاب عليها, بينما إذا وصفت جماعة ما أنها جماعة مهيمنة فهذا يعني أنها تملك القرار في السلطة السياسية و العسكرية و كذلك تسيطر علي أفكار المجتمع, و ذلك من خلال "المجتمع المدني". و سوف نوضح كيف تتحقق هذه السيطرة من خلال البحث في ماهية مفهوم المجتمع المدني عند غرامشي. قد يحدث أن تكون جماعة ما مهيمنة دون تحكمها في السلطة السياسية, و في الحقيقة هذا ما يريده غرامشي من الطبقة العاملة, أن تهيمن علي المجتمع ثقافياً قبل أن تظفر بالسلطة السياسية لتضمن استمرارية سلطتها.
الدولة الشاملة
عني غرامشي بتفاصيل نشوء الدولة الايطالية علي ضوء الصراع الطبقي و النظام العالمي للدول. فخلال تحليله للتطور غير المتكافيء بين المجتمعات و بعضها, أشار غرامشي لدور الأوضاع العالمية في تَشكل الدولة. فأكد علي أن نشوء الدولة الإيطالية تميز بشكل ملحوظ عن تاريخ نشوء بقية الدول الأوروبية" حيث سمحت الأسر الملكية أن يدور الصراع بين و داخل الطبقات الاقطاعية في بوتقتها, بينما كان الوضع مختلفاً في إيطاليا, حيث كان رأس المال الميركنتلي غير قادر علي النمو من الأساس و خلق دولته الشاملة".
اتسم تشكل الدولة الرأسمالية في إيطاليا ب"التحولية"- أي تشكل طبقة حاكمة أكثر شمولية من نظيراتها في أوروبا.
و رغم اهتمام غرامشي البالغ بموضوع "الدولة" كمفهوم و كظاهرة حية, فهو لم ينتج مفهوماً مكتملاً عنها بقدر ما قدم مجموعة أفكار و أسألة حولها. فقد بٌنى السياق المفاهيمي عن الدولة في فكر غرامشي من خلال أحد أكثر الموضوعات التي شغلته, و هو موضوع الهيمنة علي المجتمع المدني. فالدولة بالنسبة لغرامشي هي ذلك التوزان بين السياسة و المجتمع المدني."الدولة هي الكل المركب للأنشطة العملية و النطرية التي تحافظ الطبقة المسيطرة من خلالها علي سيادتها, بل و التي تحصل من خلالها علي تأييد من تحكمهم".
الدولة الشاملة عند غرامشي هي تلك التي تجمع بين الديكتاتورية و الهيمنة, و ذلك من خلال المجتمع المدني. و بهذا المعني صاغ ادوارد ديفيد مورتون في كتابة "تفكيك غرامشي" هذه الصيغة:" الدولة= المجتمع السياسي+المجتمع المدني"..."الدولة تحمل درعاً يحميها و هو درع الإكراه".
ترتبط الديكتاتورية إذن بالمجتمع السياسي الذي يستهدف فرض الأفكار من خلال الإكراه, بينما تستهدف الهيمنة تحقيق القبول و التأييد من قبل المحكومين.
تعمل الدولة بصفتها بنية جامعة لتمثل الهيمنة علي مجموعة من العمليات المستقلة عنها في سياق مباشرة السلطة السياسية. و هذه العمليات المستقلة عنها و التي تقع خارج سيطرتها السياسية و الإدارية تقع في مجال المجتمع المدني.
المجتمع المدني
فهو يبدو ضرورياً لاستيعاب مفهوم الدولة الشاملة حيث, كما رأينا, يحدد غرامشي مستوي سيطرة و سيادة الدولة بالسياق الذي يقع خارج نطاقها.
إن المجتمع المدني هو " المحتوي الأخلاقي للدولة". و يتبني غرامشي استعمال ماركس للمفهوم و الذي يتضمن العلاقات الاقتصادية:" الدولة هي أداة مُطابقة المجتمع المدني مع العلاقات الاقتصادية".
و ليس المستهدف هنا هو تعريف المجتمع المدني كمفهوم واضح و مباشر, و لكن ما يهم غرامشي هنا هو العلاقة التوسطية بينه و بين الدولة.
و هذه العلاقة بين الدولة و المجتمع المدني يمكن وصفها في الفارق بين روسيا و الغرب:" في روسيا كانت الدولة كل شيء،كان المجتمع المدني بدائيًا وهلاميًا، وفي الغرب، كانت هناك علاقة مناسبة بين الدولة والمجتمع المدني، وعندما اهتزت الدولة ظهر على الفور هيكل راسخ للمجتمع المدني. كانت الدولة مجرد خندق خارجي ".
المجتمع المدني هو جزء من الدولة, و لكنه ليس داخلها أو يعتمد عليها, و لم تنشأ الدولة عن المجتمع المدني .." المجتمع المدني هو ساحة الوجود الأولية للمجموعات الخاضعة(غير المسيطرة. و لا يعني خضوع و انعدام سيطرة هذه المجموعات أنها ستبقي كذلك , فهي مرشحة لذلك في أي لحظة من خلال "أن تستخدم السياسة لترقية مصالحها". و لكنها في اللحظة الآنية تفتقر الاستقلال السياسي التي تحظي به الدولة. و غياب الاستقلال السياسي يظهر في نقص الرضوخ و التراتبية بين أعضاء المجموعة, مما يعني بدوره غياب الوعي المشترك بينهم, فعلاقات القوي و استقرارها داخل أي مجموعة من خلال التوصل إلى صيغة وعي مشترك و حاكم لتصرفات كل المجموعة هو العامل الرئيسي لأن تكون مرشحة لترقية مصالحها نحو الدولة.
السلطة
اقتبس غرامشي مفهوم السلطة و طوره عن ميكيافيللي. يصف ميكيافيللي طبيعة السلطة بكائن القنطور الأسطوري, جزء أنسان و جزء وحش, أي مزيج بين القوة و الاقناع". و يعيد غرامشي صياغة مفهوم القنطور في أطروحة ميكافيللي الخاصة ب"الأمير" لتكون "الأمير الحديث" . و يصور غرامشي الأمير كأسطورة تمثل عنصر واحد من عناصر المجتمع. هو ذلك" العنصر المركب حيث تتحول الإرادة الجماعية- التي تم الاعتراف بها لتتحول بشكل ما إلى فعل- و تأخذ طابعاً مادياً ملموساً".
يؤكد غرامشي في كتيب الأمير الحديث علي أهمية المثقفين و الأشكال الأخلاقية الفكرية, بالإضافة إلى التساؤلات حول الدين و الرؤي المختلفة للعالم و مفهوم السلطة.
و يتجاوز مشروع غرامشي التعبير المجازي الذي استخدمه ميكيافيللي في وصف السلطة(القنطور) حيث يكتسب مفهوم السلطة طبيعة أكثر تعقيداً و تركبياً. السلطة, علي ضوء الهيمنة, ترتبط بأفاق المقاومة, الخضوع, الوعي الجمعي و لا يمكن فهمها بمعزل عن هذه العناصر. فيذهب بعض الدارسون لغرامشي مثل هوسون و سميث بأن السلطة عند غرامشي هي عملية سياسية/اقتصادية غير متماثلة التأثير بين شقيها تؤدي حتمياً إلى السيطرة و السيادة".
الكتلة التاريخية
الكتلة التاريخية هي تحالف بين قوي طبقية مختلفة. تحالف علي المستوي القومي يتأسس علي هيمنة فئة من فئات التحالف الطبقية علي الأخري, أي ان هذا التحالف لابد أن يكون له قيادة من فئة اجتماعية محددة, مثل التحالف البرجوازي الذي تقوده فئه برجوزاية لتسود علي الأخري. و تَشكل الهيمنة هو أساس قيام و نجاح هذه الكتلة التاريخية. و العلاقة بين الهيمنة و الكتلة التاريخية تبني بشكل مستمر غير ثابت و تحكمه طبيعة العلاقات الداخلية في التحالف نفسه.
يعرف غرامشي مفهوم الكتلة التاريخية ك" علاقة ديالكتيكية بين النبية الاقتصادية التحتية و البنية الفوقية الأيدولوجية".و هي جدلية بمعني أنها تتطور بشكل تسلسلي و انتقالي بين البني التحتية و الفوقية.
إن وجود كتلة تاريخية هو الشرط الأساسي لإمكانية نشوء هيمنة مضادة للهيمنة السائدة, و هي الأساس لاستمرار هذه الهيمنة بعد تحقق السيادة علي الدولة و قبلها(و يتحدث غرامشي هنا عن مرحلة ما بعد السيطرة علي السلطة السياسية, حيث يجب أن يستمر التحالف المشكل للكتلة التاريخية لكي تتحق الهيمنة و تستمر, و في حالة انتهاء التحالف تصبح السلطة الجديدة مهددة). إن تحقق الهيمنة المضادة هو الشرط الوحيد لتحدي النظام القائم بالنسبة لغرامشي.
الثورة السلبية و حرب المواقع
يعني مفهوم غرامشي للثورة السلبية بالعلاقة بين ما هو محلي و ما هو عالمي. و الثورة السلبية عند غرامشي هي رؤية للحظة التي يتشكل فيها هيمنة مضادة تقاوم النظام العالمي القائم .
الثورة السلبية هو مفهوم يصف عملية التغيير التي يحدث بها تحول في البني السياسية و المؤسسية دون ممارسة اجتماعية قوية التأثير و تغير درامي في الأحداث(الثورة التي نعرفها سواء كانت نتاج حدث جماهيري ضخم أو انقلاب داخل الدولة). و يري غرامشي أن الثورة السلبية باتت الشكل الوحيد الممكن من التغيرات الثورية في المجتمعات الرأسمالية, و هو ثوري بقدر كونه نتاج مشروع طويل و صبور و بطيء الحركة لكن راديكالي في حجم المتغيرات التي سيحدثها. و هو مفهوم يصف التحول و التغيير من خلال مؤسسات المجتمع المدني عبر تكتيكات مختلفة و متنوعة.
طور غرامشي هذا المفهوم علي ضوء صعود الفاشية في إيطاليا, و الذي نتج عن أن الطبقة الحاكمة في إيطاليا تمكنت من تطوير القوي الإنتاجية من خلال التحالف مع البرجوازية في المدن علي أساس الأيدولوجيا الفاشية و هي عملية صيغت في إطار استراتيجيات تعمل بالتزامن و تخلق تغيرات عضوية و تؤسس لهيمنة ثقافية جديدة.
"يمكن للمرء أن يستعين بمفهوم الثورة السلبية من خلال المقياس التفسيري للمتغيرات الذرية التي تعدل و تطور شكل القوي القائمة بالفعل, و بالتالي تشكل مصفوفة المتغيرات الجديدة".
"ترتبط الثورة السلبية للمجال السياسي و تأثيرات المجال الاقتصادي عبر "حرب المواقع". و المثال الواضح لممارسة حرب المواقع التي تمثلت بشكل عملي بالنسبة لإيطاليا و بشكل أيدولوجي بالنسبة لأوروبا هي الفاشية .
استخدم غرامشي مفهوم حرب المواقع لوصف أشكال مختلفة من الصراع السياسي. " في الغرب يقاوم المجتمع المدني, و يجب أن يتم غزوه قبل الهجوم المباشر علي الدولة".." إن أي جماعة اجتماعية يجب عليها أن تمارس السلطة القيادة قبل أن تظفر باسلطة الحكومية".
الثورة السلبية إذن هي ثورة من أسفل كما درج التعبير, فهي تلك الشروط الموضوعية التي تتشكل في الممارسة العملية و الثقافية, و لكن بشكل تديريجي سلمي دون أي تطورات دراماتيكية و سريعة. و هي ما أعتقد غرامشي أنها الشكل الثوري الممكن في ظل تطور الدولة البرجوازية الذي شهده عصره. فالتغيير الراديكالي الوحيد الممكن هو تطور تحتي بطيء تقوده جماعة سياسية ما من خلال السيطرة علي المجتمع المدني أولاً قبل أن تتجه للإستيلاء علي كامل السلطة السياسية. و كانت الحركات الفاشية في إيطاليا و أوروبا هي النموذج( و يمكن القول أن الفاشية الدينية في مصر وصلت إلي السلطة بنفس الأسلوب و لكن انتهي مشروعها داخل مستوي السياسية أي الدولة).
لم يعد نموذج الثورة الجماهيرية العارمة التي تستهدف السلطة السياسية قبل المجتمع المدني هو المرجح, بل أصبح الاستيلاء علي المجتمع المدني هو الخطوة السابقة علي الاستيلاء علي السلطة السياسية, و عملية الاستيلاء هذه هي عملية "الثورة السلبية" حسب غرامشي, و هي تقوم من خلال حرب مستمرة هي" حرب المواقع" داخل أجهزة المجتمع حيث تستولي الجماعة الجديدة علي المواقع الوظيفية(اأجهزة تشكيل الوعي) قبل الاستيلاء علي السلطة السياسية لكي تتمكن من تشكيل وعي المجتمع لصالحها, و ذلك في سبيل تحقيق الهيمنة الثقافية الجديدة, أي سيطرتها الأيدولوجية, قبل أن تحقق السيادة أي السيطرة المادية.
وظيفة المثقف و الأمير الحديث
الثورة السلبية كممارسة أرشدت فهم غرامشي لتفكيك عملية تحويل و تغيير المجتمع. فيلعب المثقفون دوراً رئيسياً في عملية الصراع الطبقي. فالمثقفون هم الوسيط بين القوي الطبقية التي تناضل سياسياً وبين تحقيق هيمنتها.
و يقوم المثقفون بدورهم من خلال تنظيم و تنسيق همينة جماعة ما صوب تحقيق السيادة علي الدولة و من خلالها.
و عملية التنظيم و التنسيق هذه لا يمكن أن تتم إلا من خلال تنظيم يحمل المشروع السياسي و الثقافي لهذه الجماعة الساعية نحو الهيمنة و السيادة, و هذا التنظيم هو الحزب أو ما يطلق عليه غرامشي "الأمير الحديث". و لفظ الأمير مقبتس بالتأكيد عن ميكيافيللي الذي أرجع المهام التحويلية و التغيرية إلى الأمير التقليدي صاحب القدرات القيادية و نبالة الغايات التي تبرر للوسائل.
الأمير الحديث هو "المثقف الجماعي" الذي يتحمل مسئولية " توجيه أفكار و تطلعات الطبقة التي ينتمي إليها عضوياً".
مهمة المثقف هي تقديم التبريرات و الممهدات لأيدولجيا ما, و المثقف الأبرز و الذي كان أساساً لتطوير غرامشي لمفهومه عن المثقف هو بندتو كروتشه, و الذي خدم كمنظر للفاشية الإيطالية من وجهة نظر غرامشي.
كما يجهد غرامشي في أعماله أن ينفي إدعاء المثقف التقليدي أنه مستقل عن القوي الطبقية و تمثلاتها السياسية. فيميز غرامشي بين المثقف التقليدي و المثقف العضوي, فالتقليدي يحاول أن يحرف وعي الطبقات الخاضعة أيدولوجياً بينما يسعي المثقف العضوي أن يمثلها فكرياً في الصراع و أن ينظمها نحو هيمنتها الخاصة و ذلك من خلال توعيتها و تثقيفها, وقبل ذلك خلق ايدولوجيتها الخاصة.
و هو ما ناقشته سابقاً بالتفصيل في دراسه مصغره عن المثقف العضوي
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=636971&r=0
مفهوم الهيمنة
كل المفاهيم التي ذكرناها حتي الآن تقود إلى مفهوم الهيمنة و تعمل من خلاله و يبدو بديهياً الآن أنه المفهوم الرئيسي في أعمال غرامشي. ارتبطت فكرة الهيمنة بالأيدولوجيا بهدف تحليل و فهم الطريقة التي تسيطر بها أي طبقة علي المجتمع دون إكراه. و يذهب غرامشي أنننا علينا أن ننظر نظرة أبعد من الدولة و الاقتصاد, من خلال إدخال أطراف أخري في المجتمع و خارج الحكومة في تحليلنا.
يخدم مفهوم الهيمنة كمقولة فعالة في تحليل و تشريح أسباب فشل و سقوط الثورات حسب نورتون, فالهمينة تجمع ما بين السلطة و الشرعية. فالسلطة التي تستند علي القوة فقط غير كافية, لقد فشلت ثورات و تحركات كانت نتاجاً لصراعاً طبقياً و حملت مشروعاً للهيمنة المضادة.
العلاقة بين اسلطة و الشرعية هي أساس نظرية الهيمنة التي تؤكد أن السلطة الشرعية لا يمكن أن تمارس إلا من خلال المزج بين الإكراه و الموافقة.
الإكراه و الموافقة هما نتاج بُعدين من أبعاد الدولة, الأولي و هو بعد الإكراه و هو السياسي, و الثاني هو بعد الموافقة و هو الخاص بالمجتمع المدني. كما قلنا سابقاً , للدولة بعدان سياسي و مدني. و لكي تتحقق الهيمنة يجب أن يتوافر الأساس لهذين البعدين. في المجتمع المدني, القبول بالنسبة للفئات الطبقية الأخري التي تشكل جزءاً من الكتلة التاريخية أمراً جوهرياً في الحفاظ علي الهيمنة, و هذا القبول هو مهمة أيدولوجية ترجع للمثقفين العضويين.
و إذا كانت طبقة خاضعة ما تسعي إلى الهيمنة المضادة فهي تكون مدعوة لتقوية أوضاعها لتحقيق مصالحها من خلال خوض حرب المواقع لتفرض هيمنتها و تصارع الهيمنة السائدة.
و بمجرد أن تكتسب طبقة ما سلطتها الشرعية داخل بُعد المجتمع المدني, يأتي دور الفعل السياسي و الفعل العسكري إذا تطلب الأمر لتعزيز وضع الهيمنة.
مرحلة ما قبل السيادة إذن (السيطرة السياسية من خلال جهاز الدولة) عند غرامشي هي مرحلة تؤسس علي القبول , أي الهيمنة الثقافية التي تُمارس من خلال الأيدولوجيا و ليس القوة الجسدية.و القبول هو اقناع الطبقة صاحبة مشروع الهيمنة للطبقات الأخري بأنها تمثل مصالحها جميعاً, و نحن هنا نتحدث عن أساس الممارسة التي تؤسس للهيمنة الثقافية.
تمارس الطبقة الحاكمة سلطتها من خلال سيطرتها علي عملية الإنتاج و علي وسائل إعادة الإنتاج كالتعليم و الإعلام. و لذلك يجب علي الأمير الحديث(بصفته قائد الطبقة) غزو المجتمع المدني من خلال تشكيل أيدولوجيا جديدة لتصبح الوعي التلقائي للطبقات المتحالفة مع الطبقة القائدة بهدف تحدي الهيمنة القائمة.
و في حالة تشكل الكتلة التاريخية المناهضة للطبقة الحاكمة, تصبح للطبقة الحاكمة ملاذاً أخيراً و هو عنصر الإكراه المتمثل في أجهزة الدولة, أي الفعل السياسي و القوة العسكرية التي ستسخدم في تعزيز قوتها في مواجهة الكتلة التي تهددها.
و هنا يؤكد غرامشي علي أن السيادة وحدها ليست كافية.فالطبقة التي تعتمد علي السيادة دون الهمينة هي مهزومة حتماً. و لكن في حالة خسارة المهيمن للسلطة السياسية فهذا لا يعني نهاية هيمنته, قد تفقد جماعة السيادة علي الدولة و لكن تستمر في الهيمنة الثقافية, و بالتالي تصبح مرشحة للمنافسة علي السيادة مرة أخري و هكذا.
و الهيمنة تعمل في شكل الدولة لتحقيق القبول الاجتماعي و الوحدة الذان إذا تحققا تكون الكتلة التاريخية قد تحققت, و تلك الأخيرة مرشحة للتوسع علي المستوي الدولي و قد تساهم في صياغة النظام العالمي. و لكن يؤكد غرامشي أن طبقة ذات طابع عالمي مثل الطبقة العاملة عليها أن "توطن" نفسها أولاً قبل أن تتمكن من أن تطرح مشروعاً للهيمنة الدولية.
مصادر و قراءات:
-Unravelling Gramsci: Hegemony and Passive Revolution in the Global Economy adam david morton
-hegmony and revolution:antonio gramsci political and cultural theory wadams.
-Routledge critical thinkers: Gramsci steve jones
-Hegemony: Studies in Consensus and Coercion (Routledge Studies in Social and Political Thought)
-غرامشيأنطونيو بازوليني
-فكر غرامشي السياسيجان مارك بيوتي
-قضايا المادية التاريخيةأنطونيو غرامشي
-الأمير الحديثأنطونيو غرامشي
-حول الفاشيةأنطونيو غرامشي
-المسألة الجنوبيةأنطونيو غرامشي
#مارك_مجدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟