|
الأشرار الأربعة: وثالثهم محمد عابد الجابري
سامي الذيب
(Sami Aldeeb)
الحوار المتمدن-العدد: 6576 - 2020 / 5 / 28 - 02:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ذكرت في مقال سابق http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=677132 أن الأستاذ الدكتور محمد المزوغي اصدر كتابا عنونه: في ضلال الأديان يمكنكم الحصول عليه من الدار الليبرالية بإرسال رسالة لرقم الواتس أب الخاص الرقم : 0950598503 وللقراء خارج سوريا لاسيما في الدول الأوروبية أصبح بالإمكان طلب كتب الليبرالية عن طريق موقع صفحات ناشرون السويد https://www.safahat-publishers.com/product-tag/dar-lebralye/
وقد كرس المزوغي الجزء الأكبر من هذا الكتاب لسحق فكر اربعة من أشرار مجتمعنا: يوسف زيدان يوسف الصدّيق محمد عابد الجابري ومحمد الطالبي . بعد ان نشرت في مقالي المذكور اعلاه مقدمة كتاب المزوغي قي ضلال الأديان وعرضت ما ذكره مؤلف عن الشرير الأول يوسف زيدان وعن الشرير الثاني يوسف الصدّيق اعود اليكم اليوم لكي اعرض ما ذكره مؤلفه عن الشرير الثالث محمد عابد الجابري، دون ذكر الهوامش
الأشرار الأربعة: وثالثهم محمد عابد الجابري (تحت عنوان: الجابري فيلسوف العقلانية الرشدية - القرآن يعلو على التوراة والإنجيل، والمسيحيون مشركون) ------------------------------------------------------------ 1. القرآن استثناء ----------- "القرآن استثناء"، هذا التصريح لم يخرج من فم داعية وهابي في احدى الفضائيات الخليجية، وإنما من الفيلسوف العقلاني الرّشدي محمد عابد الجابري. فيلسوف ناضل كامل حياته لترسيخ الفكر النقدي في الثقافة العربية المعاصرة، ومشروعه الأساسي، كما يكتب نور الدين أفاية، ليس ككل المشاريع «التي بشّر بها كثير من الباحثين والمفكرين العرب، بهدف قراءة التراث العربي الإسلامي قراءة جديدة، أو البحث النقدي عن الأسس الفكرية التي وقفت عليها ثقافة النهضة العربية ». السيد أفاية يُلحق المشروع النقدي لعابد الجابري، بما قام به الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: «لا يمكن [لِمَشروع الجابري] أن لا يُذكّر المرء بالنقدية الكانطية، في نقد العقل الخالص والعملي »، دون أن يغيب المطلب النهضوي الذي يصبو إليه الجابري شخصيا، وخصوصا «إشاعة الأنوار »، كما يقول أفاية. لكن هذا الفيلسوف الذي وصلت شُهرته إلى الآفاق، وتُرجمت أعماله إلى عدّة لغات، لم تَمنعه شُهرته وعقلانيّته أو تنويره، من الغرق في تجْريح كُتب الأديان الأخرى، وتشويه تعاليمها في سبيل الاعلاء من دينه وكتابه المقدس. فعلا، بالنسبة للجابري، كل المنتوجات الأدبية والثقافية السابقة على القرآن لا قيمة لها ولا ترقى إلى مصافّه، سواء أكانت شعرية أو نثرية أو فلسفية أو علمية، أو دينيّة . القرآن له وضعية خاصة ومتميّزة جدا، لأنه بالأساس كتاب مقدس، ومُنزّل من الله، أضف إلى ذلك «أنه نَزل منجّما، أي خرج إلى مجال الوجود البشري بصورة متدرّجة »، ثم مرّ بمراحل عديدة، محافظا دائما على قدسيته ووحدته، «حتى أصبح كما هو الآن في المصحف »، نما داخليا، سار نحو الاكتمال ثم تشكّل «كنصّ مصون عن الزيادة والنقصان ». وفي مجال الدراسات القرآنية فإن التراث العربي القديم استوفى جميع المسائل، من حيث البحث والتدقيق والتحقيق، ولم يبق للأجيال اللاحقة شيئا ذا بال يمكنهم إضافته إلى أعمال القدماء. وكان سيتواصل الأمر على هذه الشاكلة وستبقى الأحوال مستقرّة، والوعي العربي مُستَكينا وسعيدا، لولا تدخّل مجموعة من المستشرقين الأشرار. ماذا فعل هؤلاء المستشرقون؟ طرحوا أسئلة على القرآن، غايتها التشكيك في قدسيته، والبرهنة على أنه كتاب إنساني جمّع أساطير التوراة والتلمود والأناجيل المنحولة. جرم كبير، لأن هذه الأسئلة، في رأي الجابري، نابعة من ثقافتهم ومُشرَّطة بعقليّتهم الغربية، «أسئلة تجد مرجعيّتها الصريحة أو المضمرة في ثقافتهم الخاصة بهم ». وبما أنها تابعة لثقافتهم المخصوصة، فهي فاقدة لأية قيمة علمية، لأنها تندرج في إطار ممارسة السلطة، من حيث أنها تُترجم عن وضعية السائل للمسؤول: «فالسائل فاعل، قد لا تخلو أسئلته من ازعاج واحراج حتى عندما يكون وراءها براءة وحسن نية، كما هو الشأن في أسئلة الأطفال ». لكن ثمّة سببا آخر، في نظر الجابري، يُفسّر عدم مشروعية طرح الأسئلة من طرف المستشرقين على القرآن. وهذا السبب هو التّحريف. تابعوا الفكرة أرجوكم. يقول إن المستشرقين يرون أنه من الطبيعي طرح، على القرآن، نفس الأسئلة الخاصة بمسألة الصحة والصّدقيّة التي سبق وأن طُرحت على نصوص الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية. أن يستعمل المستشرقون هذا المنهج الاستقصائي على الكتب السابقة فهذا أمر أكثر من مشروع، بل يجب تثمينه والانتفاع به، لكن أن يتجاوز الباحثون حدودهم وأن يُطبّقوا مناهجهم على القرآن فهذا أمر غير مقبول وغير جائز بتاتا. فأسئلتهم تفقد من مشروعيتها لأن كل الكتب السابقة محرّفة. فالتوراة يقول الجابري « لم يكتبها شخص واحد بل ساهم في تأليفها كتّاب كثيرون ـ كما يقول الباحثون الأوروبيون من رجال الدين وغيرهم ـ أوّلهم موسى الذي أوحى الله إليه بأن يكتب أوّل سفر للكتاب المقدس يُدعَى التّكوين، ثم واصل كتابتَه "بالوحي" أربعون كاتبًا من جميع طبقات البشر، واستغرقت كتابته ألفا وستمائة سنة ». وهذا يعني أن التوراة ليست عملا موحّدا ولا مكتوبا بإصبع الله، كما يدّعي اليهود، وهنا فإن الجابري (وغيره) يُصدّق، دون أي نقاش أو تشكيك أو استفسار، كل ما يقوله المستشرقون عن العهد القديم. لكن لا ندري من أين أتى بمعلومة أن موسى أوحى إليه الله بكتابة سفر التكوين؟ في أي كتاب من كتب المستشرقين قرأ هذه المعلومة؟ وإذا كانت التوراة مختلة ومشكوك في وحدتها فإن الإنجيل لا يقل عنها اختلالا وتشوّها، لا بل الإنجيل هو التحريف بِعَينه، يكفي أنه «ليس كتابا واحدا بل أربعة كتب، على الأقل، تروي ما حصّله أصحابها من كلام السيد المسيح وسيرته ». وهكذا عدنا، مع الفيلسوف الجابري، إلى أطروحة الإسلاميين الدائمة، من أن القرآن يتميّز بوَضْعٍ «مختلف تماما » عن التوراة والإنجيل، نظرا إلى أنه لا يتضمّن أي تدخّل بشري؛ إنه وحي إلهي خالص، كتابٌ منزّل من السماء، حرفا ومضمونا، لا يأتيه الباطل من أيّ جهة. وهذه، في نظره، حقائق أوّليك غير قابلة، بأي وجه من الوجوه، للنقاش أو التشكيك، وإلاّ فإن الإسلام سينهار وحياة المسلمين تصبح عدما في عدم. إن قدسية القرآن هي مسألة محسومة من الجذور، ومن العبث بمكان إثارتها أو الخوض فيها، ولم يبق للمفكرين العرب المحدثين إلاّ مناقشة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمُحكَم والمُتشابه. والحال أن الجابري ليس لديه دليل مادي واحد على أن القرآن لم يكتبه محمد؛ لا يملك أية حجة مقنعة على أن أيَادِ أخرى لم تُغيّر شيئا من القرآن، ولم تحذف بعض المقاطع أو تضيف أخرى. لكن الرجل فيلسوف، وبصفته كذلك من المفروض أن يتحلّى بشيء من الرصانة والموضوعية العلمية، ويتفادى ترديد أطروحات الإسلاميين حرفيا، وأن لا يترك المستشرقين يخوضون معركتهم مع التوراة والإنجيل، مستثنيا القرآن من البحث العلمي. الجابري، عكس ما يُنتظر منه، مُقتنع اقتناعا راسخا بأن القرآن « لم يكتبه الذي أُوحِيَ إليه به، محمد، بل كان يتلقّاه "قراءة" ويُبلّغه قراءة. ومع أنه اتّخذ كُتّابا يكتبون ما يُقرأ عليهم منه فإن المرجع في مسألة حفظه من الضياع كان في الدرجة الأولى هم قُرَّاؤه، أي الذين يحفظونه عن ظهر قلب ». ما الجديد الذي جاءنا به الجابري؟ ألا نقرأ هذه الأطروحة في كل التراث الإسلامي، من الطبري إلى سيد قطب، وصولا إلى القرضاوي؟ لقد زَجّ بنفسه في مأزق معرفي كبير حينما نَسّبَ أبحاث المستشرقين وحصرَها في مجالهم الثقافي، ثم تناقضَ في إطلاق قيمة أعمالهم بخصوص العهدين القديم والجديد، ورفْض تطبيقها على القرآن وعلى تراثه المقدس ككل. لكن المستشرقين يمكنهم أن يُرجعوا عليه نفس الاعتراض، وأن يُنسّبوا أطروحاته باعتبارها محصورة في مجاله الثقافي الخاص، وليس لديه الحق بالتالي في أن يَفتكّ منهم نتائج بحوثهم في قطاع ما (التوراة والإنجيل) واستبعادها إن مسّت القرآن. والمستشرقون على أية حال يتميّزون على الجابري في نقطة محورية، وهي أنهم يستخدمون مناهج بحث صارمة أثبتت نجاعتها وفاعليتها في دراسة النصوص القديمة وهي متعالية على الخصوصيات القومية ومقبولة من طرف الجميع. وإنْ أراد الجابري، وغيره من المفكرين العرب، أن يُزاحموا المستشرقين في ميدانهم، فمن واجبهم أن يأتوا بمنهج جديد وبفيلولوجيا مغايرة للفيلولوجيا الغربية، ويَستحدثوا تاريخا نقديا يلائم أغراضهم. لكن، لا الجابري ولا النّقاد العرب، أتَوا بمناهج تأويلية جديدة، وإنما اكتفوا بنقل كل ما قاله المسلمون القدامى عن القرآن دون تحوير أو تشكيك. وبتغْييبه لبحوث المستشرقين فقد سهل عليه المُضيّ في طريقه والتشبّث بموقفه التقليدي المشدّد على استثنائية القرآن: «فَرقٌ شاسع إذًا بين وضع "الكتاب المقدس" (التوراة والإنجيل) وتاريخ تكوينه، وبين وضع القرآن ومساره التكويني ». وهكذا فإن منهجية التعامل مع القرآن مقرّرة قبليّا ولا جدال فيها، ومحظور علينا التساؤل عن أصله وفصله، أو البحث عن مصادره الأولى. لماذا؟ «لأن الأصل هنا وحي، والوحي ينتمي إلى منطقة التسليم والإيمان، وليس إلى ميدان البحث والبرهان ». لكن اليهودي يمكنه أن يردّ بأن هذا التوصيف ينطبق بالكامل على دينه، نظرا لأنه دين قائم أساسا على الوحي، والوحي، كما اعترف الجابري، ينتمي إلى مجال التسليم، ولا علاقة له بالبحث العلمي والبرهان العقلاني. المسيحي أيضا يمكنه أن يقول إن هذا الوصف ينطبق على دينه، لأنه يعتبر الوحي منطقة تسليم وإيمان، ولا دخل له بالعقل أو المنطق. إذن، لا واحد منهم يحتكم إلى العقل لتَقييم خطابه الديني وسَبر كتابه المقدس، بمن فيهم الفيلسوف الجابري، الذي تَحصّن بالإيمان وترك العقل خارج اللعبة. لقد حصَر المقاربة العلمية للقرآن، في ميدان التفاسير الكلاسيكية، وضيّق فعاليّة الباحث إلى الحدّ الأدنى بحيث إن أقصى ما يمكنه القيام به هو طرح، باحتشام، بعض الأسئلة، ليس على القرآن مباشرة، ولا لكي يتمّ تمحيصه بالعقل أو التشكّك في قدسيته، وإنما على "الظاهرة القرآنية"، دون الادّعاء بإعطاء أجوبة قطعية أو كشْف حقائق نهائية. ورغم ذلك فإن الجابري لم يُفعّل أيّ من هذه الشروط، ولم يطرح أي سؤال جدّي على النص الـقرآني، أو على الظاهرة القرآنية، وإنما اكتفى بالقول إن القرآن يشرح بعضه بعضا ، مع تدقيق هام وهو أنه سيعمد إلى إقصاء «الاسرائيليات وأنواع الموروث القديم السابق على الإسلام ». لكن هذا خطأ منهجي جسيم، لأن اقصاء ما يُسمّى بالإسرائيليات أو الموروث القديم هو تَعسّفٌ على الوعي التاريخي، وسلخٌ للإسلام من محيطه الثقافي. فالإسرائيليات هي العمود الفقري للقرآن، ومن دون الأساطير المتضمّنة في التوراة والتلمود والأناجيل المنحولة لن نفهم القرآن بتاتا.
2. جولة تاريخية: عيسى مَكْتُوب عند اليهود، ومحمد مكتوب عند اليهود والمسيحيين --------------------------------------------------- ولقد تَسنَّى للجابري أن يقول كل ما يجول بخاطره ضد الكتب الأخرى لأنه تعسّف على التاريخ، وغيّب الأديان السابقة التي هي المَعين الأول للقرآن. بدأ بشبْه عنوان: «... النبي الأمّي ... مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ». ثم استشهد بالآيتين: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل)؛ (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلمّا جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحر مبين). على هذين الآيتين احتج اليهود والمسيحيون، منذ أن اطّلعوا على القرآن، وقد فسّروا وبيّنوا أن ما يقوله القرآن هو طعن في دينهم واعتداء على مقدساتهم، وتحقير لرسالتهم الخالدة التي لا رسالة ناسخة بعدها. ومن خلال صريح هذين الآيتين، يبدو جليّا أن القرآن قد أغلق أي باب للتقارب أو للحوار بيْنه وبين أهل الأديان، ووَضَعَهم أمام خيار قاسٍ: إما أن يَقبلوه أو يَسقطوا في النكران والتجديف والكفر . ولنا أن نتصوّر ذهول اليهود أمام هذا الادعاء، وهم الذين دشّنوا هستيريا النبوة والتقديس وفكرة الدين الحق. فالوضعية اللاهوتية التي وجدوا أنفسهم عليها، بين الدينين اللاحقين، شاقّة جدا، لأنهم لم يُضمّدوا بعد جراحهم من المسيحيين الذين افتكّوا منهم ارثهم الكتابي، وادعوا أن كل نبوءات التوراة تُبشّر بمجيء يسوع المخلّص، وألزموهم بأن كتابهم هو الشاهد الأصدق على صحة هذه البشارة، وإذا بفِرْقَة جديدة تخرج لهم، من عمق الصحراء، لكي تُعْلِمَهم بأن المسيح المنتظر المنصوص عليه في كتبهم قد ظهر، وأن كل النبوءات تحققت في شخصه، ولم يبق لليهود (وللمسيحيّين) إلا اعتراف بالأمر الواقع والاذعان للحقيقة. وهكذا فُتح باب السجال من جديد، وأعْلنت الحرب بين الأديان الثلاث، بعد أن كانت تدور رحاها بين دينين فقط، وكل واحد يدّعي لنفسه أحقّية إرث البشارة الإلهية الطّاهرة المقدسة، وينفيها على الآخر. فأهْل الأديان لا يستطيعون أن يبرّروا وجودهم دون اقرار السابقين بهم، ولكن السابقين غير مستعدّين للاعتراف باللاحقين، وإلا فإنهم سيَقْضون على أنفسهم بأيديهم، ولذلك فإن كل دين يجد نفسه في حالة دفاع وهجوم: اليهود نفوا نفيا قاطعا أن يكون يسوع المسيح مكتوبا في توراتهم؛ المسيحيون كذّبوهم، وكذّبوا ادّعاء المسلمين بأن محمدا هو الفارقليط الذي بَشّر به يسوع؛ والمسلمون كذّبوا اليهود والمسيحيين وقالوا إنهم أخفوا وزوّروا وحرّفوا. ولا واحد منهم التجأ إلى العقل لكي يبرر وجوده، لأن العقل يفنّدهم جميعا ويقضي على استيهاماتهم قضاء مُبرما، ولذلك يتحاشونه، ويميحون إلى تأويلات مُتشعّبة وخيالية لكتاب أسطوري، هو المعين الأول للأديان الثلاثة. المسيحيون والمسلمون يستدرجون اليهود بالقول إنهم يؤمنون بكتبهم ومُصدّقون لنُبوءاتهم، ولكنهم في الحقيقة، يَسخرون منهم ويستهينون بكتبهم، متّخذين من إرثهم مطيّة يمرون عليها بأمان للضفة المقابلة ثم يهدمونها. وقد عبّر ابن حزم أحسن تعبير عن هذه العقلية بقوله: «إنّا إنما آمنّا بنبوّة موسى الذي أنذرَ بنبوّة محمد، وبالتوراة التي فيها الإنذار برسالة محمّد، باسمه ونسَبه وصِفة أصحابه »، هذا في ما يخصّ اليهود، أما المسيحيين فلا يختلف الموقف: «وهكذا نقول في عيسى والإنجيل حرفًا حرفًا». وبالجملة المبدأ هو هذا: «لا نؤمن بموسى وعيسى اللذين لم يُنذرا برسالة محمد، ولا نؤمن بتوراة ولا إنجيل ليس فيهما الإنذار برسالة محمد وبصفة أصحابه»، وبالتالي لا يبقى إلاّ التكفير والحرب: «بل نَكْفر بكلّ ذلك، ونبرأ منهم، ولا نُوافقهم قطّ على ما يدّعونه ». وليس الكفر بهم فقط بل لَعْنهم ولعن كتابهم، يواصل ابن حزم، لِمَا فيه من كفريات، مثل ادعائهم أن الله هو أبوهم الذي ولدهم، وهذا الادعاء أثار غيظ ابن حزم فانهمر منه سيل من الشتائم والتجريح: «كل من عرفهم [اليهود] يعرف أنّهم أوْضَر [أوسخ] الأمم بزّة، وأبردهم طَلعة، وأغثّهم مفاظع، وأتَمّهم خبثا، وأكثرهم غشّا، وأجنبهم نفوسا، وأشدّهم مهانة، وأكذبهم لهجة، وأضعفهم همّة، وأرعنهم شمائل، بل حاشا لله من هذا الاختيار الفاسد ». إن تطاول اليهود على الله، يواصل بن حزم، لم يبق محصورا عندهم بل سرّبوه إلى المسيحيين وأتاحوا لهم بذلك وصف الله بما لا يليق به والامعان في التطاول عليه. فعلا، ما الذي أوحى «للنصارى وسهّل عليهم أن يجعلوا للهِ ولدًا إلاّ ما وجدوا في هذه الكتب المَلعونة المَكذوبة المُبَدَّلة بأيدي اليهود؟ ». وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد جاء في مزمور داود: "قال لي ربي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتُك (مزمور 2: 7)": «فأيّ شيء تُنكرون على النصارى في هذا الباب؟ ما أشبه الليلة بالبارحة!». وقد جاء في مزمور 82: 3 "أنتم بنو الله، وبنو العليّ كلّكم"، تعليق ابن حزم: «هذه أطمّ مِن التي قَبْلها، ومِثل ما عند النصارى أو أنْتَن ». كل كتب بني اسرائيل وكل براهينهم هي «محرّفة مُبدّلة مكذوبة»، وإذا كانت كذلك «فلا يجوز البتّة، في عقل أحد، أن يَشهد، في تصحيح شريعة ولا في نقل معجزة ولا في إثبات نبوّة، بنقلٍ مكذوب، مُفترى، موضوع ». هذه هي السمات المميزة لتعامل المُتديّنين فيما بينهم: تكذيب، وشتم وتكفير، ثم المرور من الكلام إلى الفعل، ومن التحريض على القتل إلى القتل، وهي صفة ملازمة ودائبة لكل دين من الأديان التوحيدية. ولقد اتّبع هذا النهج التكفيري العدائي، المجادلون المسيحيون الأوائل، من جوستين إلى كليمانس الاسكندراني وأوريجينس، مرورا بترتليانس، ووصولا إلى اللاهوتيين المحدثين، حتى أصبح باب "نقض اليهود"، فصلا مسقرا في كتب المجادلين المسحيين. القديس جوستين، في حواره مع طريفون، حبر يهودي، يحاول استدراجه للوقوف على نقطة مشتركة، ثم ينقلب عليه ويسحب منه مشروعيته. وهي التقنية التي استعملها القرآن في ما بعد مع من أسماهم بأهل الكتاب، وذلك باستدعائهم لنبذ الاختلافات والاتفاق على مبدأ مشترك (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)، ثم كَفّرهم وأمرَ بقتلهم إن لم يستجيبوا للدين الحق. جُوستين يتوجّه للحبر اليهودي ويقول له: إن المسيحية تؤمن بالإله الذي تؤمنون به أنتم، لكنها لا تعتقد في أن الخلاص يأتي من اتّباع شريعتكم. وهذا الأمر، بالنسبة إليه، ليس ادعاء مجانيا وإنما مذكور في كُتبكم: «لقد قرأتُ أنه سيكون هناك ناموس أخير، وعهد أهمّ منه: إنه العهد الذي يجب أن يلتزم به الآن كل البشر الذين يدّعون امتلاك ميراث الله ». إن شريعتكم، يواصل جوستين، هي ناموس قديم (παλαιὸς νόμος)، وهي مخصوصة بكم وحدكم؛ لكن الشريعة الجديدة «هي للكلّ (πάντων) على الاطلاق (ἁπλῶς) ». إن هذه الحجة التي تُقدّم المسيحية والمسيح نفسه، كعهد جديد وناموس جديد، متجاوزٍ للنواميس القديمة وماحٍ لها، تُلخّص نصف الأدلة المعارضة لليهود التي قدمها جوستين . لكن في الحقيقة لم يستفرد بها جوستين ولم يُدشّنها هو الأول، فقد تقبّلها من التراث الجدالي ضد اليهود وربما من التراث اليهو ـ مسيحي الذي يعترف فقط بشريعة موسى. وتاريخ هذا التصوّر، يعود إلى الإنجيل ذاته حيث نجد في مرقس كلمة العهد الجديد (τῆς διαθήκης)، التي تفوّه بها يسوع في العشاء الأخير مع حواريّيه: "هذا هو دمي الذي للعهد الجديد (sanguis meus novi testamenti)، الذي يسفك من أجل كثيرين"؛ وفي انجيل متّى قال يسوع: "لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد (τῆς διαθήκης) الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا". بولس نفسه يتحدث عن عهد جديد "الله الذي جعلنا قادرين على أن نكون خدام عهد جديد (καινης διαθηκης)"، وكذلك في رسائل أخرى لبولس (رومية 3: 27؛ عبرانيين، الخ). بالنسبة لجوستين ثمة مبدأ عام وهو أن أيّ ناموس لاحق يُضادّ ناموسا سابقا، يجب بالضرورة أن يَنسخه، وأيّ عهد يُبرَم بعد آخر، يُلغيه بالكامل، وبالتالي لا تفاهم ولا حوار، فالمسألة محسومة مبدئيا: «بالنسبة لنا نحن، المسيح أُعْطِيَ لنا، كناموس دائم ونهائي، عهد ثابت بعده ليس هناك أيّ ناموس، أيّ تعاليم وأية وصايا (οὐ νόμος, οὐ πρόσταγμα, οὐκ ἐντολή) ». ثم تتنزّل المحاججة الكلاسيكية التي تعتمد على التوراة، والمتمثلة في افتكاك ارث اليهود من أيديهم والاستحواذ عليه للبرهنة على أنه، رغم فقدانه لفاعليّته في الحاضر، كان قد تنبّأ بيسوع وبعهده الجديد. فعلا، من خلال التوراة نفسها (اشعيا 55: 3ـ 5)، يواصل جوستين، تم التبشير بالعهد الجديد وبالشعب الذي سيأخذ المشعل بعدكم، ويحقق وعد الله؛ وكذلك أيضا من فم ارميا (31: 31ـ32) فإن كتابكم ينص على تأسيس عهد جديد مختلف عن العهد المبرم مع الآباء الأوائل الذين أخرجهم الله من مصر. «إذا كان الله هو الذي أعلن أن عهدا جديدا سيؤسس لتنوير الشعوب، فنحن مدركون جيدا ومقتنعون أنه باسم المصلوب نفسه، يسوع المسيح، سيتخلّى الناس عن الأوثان وعن كل المظالم، وينصرفون إلى الله مثابرين حتى الموت في تقواهم ». وللامعان في تعرية اليهود من إرثهم، كما سيفعل المسلمون لاحقا، فهو يقول لهم إنّ بني اسرائيل الحقّانيين والروحانيين، مثل، يهوذا، ويعقوب واسحاق وابراهيم، الذين تقبلوا من الله رسالة الإيمان الحق، بُوركوا وجُعلوا أسلاف لشعوب عديدة، هم «نحن، نحن الذين قادهم يسوع المصلوب إلى الله ». وقد استعمل يوسابيوس القيصري نفس التقنية لسلب اليهود أحقيتهم في اعلان أنفسهم خدام الإله الحق. قال إن نبوءات اليهود وصلواتهم وقرابينهم قوبلت من طرف الله بمباركة ومودة، وبظهور الملائكة والأنبياء، الذين حصلوا على حدس صادق وتنبؤوا بالمستقبل. وهي نبوءات أفضل وأرقى من نبوءات الوثنيّين الإغريق التي تعج بالخرافات والقصص المخجلة عن الله . لكن الأنبياء الذين يتحدّث عنهم يوسابيوس هم أقدم من اليهودية، وقد سبقوا ولادة موسى بكثير، بل أسبق من اليهود كأمة. وهنا قسّم يوسابيوس اليهودية إلى صنفين: يهودية مسيحية ويهودية عبرانية، كما يفعل المسلمون تماما: يهودية سابقة عن اليهود، وهي دين ابراهيم الحنيف؛ ويهودية محرّفة وهي التي استقرّ عليها اليهود الحاليون . تابعوا تمييزات يوسابيوس: في بداية الأزمان اليهودية لم تكن موجودة بعد، والأوّلون كانوا يُسمّون عبرانيّين بالاسم والفعل، نظرا إلى أنه لا يوجد يهود، وهذا الاسم لم يكن متداولا قط . هنا يمكننا أن نرى الفارق، يواصل يوسابيوس، بين العبرانيين واليهود: هؤلاء الأخيرين يستمدّون اسمهم من شيخ قبيلة، كان قد تملّك عليهم لمدة طويلة، والآخرون يستمدون اسمهم من "عِبر"، الذي هو جدّ ابراهيم. إن الكتب المقدسة نفسها تُعلمنا بأن العبرانيين سبقوا اليهود، وأن الطريقة التي كانوا يعبدون بها الله، لا تتجاوز عهد موسى وشريعته. لكن العبرانيين السابقين لموسى، حسب ترتيب الأزمان، كانوا غرباء عن شريعته، فهم يملكون نظام عبادة حرّ ومتخلص من الفرائض، مُكتفين بالعيش على السّليقة، ومتبعين الطبيعة، دون الحاجة إلى قوانين تأمرهم بشيء، وذلك بفضل تآلفهم وعلمهم المستقيم بالفرائض الحقيقية للألوهية. فهم لا يمارسون الختان ولا يتّبعون أوامر شريعة اليهود التي شرّعها لهم موسى: «هؤلاء لا يمكن أن نُسمّيهم، على وجه الدقة، يهودا ولا حتى وثنيين، نظرا إلى أنهم لم يَتبنّوا الشرك مثل اليونانيين والأمم الوثنية الأخرى. فهم عبرانيون بحسب صيغة الاسم، سواء اشتققنا هذه الكلمة من "عِبر"، أو من القيمة التي نُضفيها عليها من خلال الترجمة اليونانية: عابرين (περατικοὶ)؛ لأن هكذا يمكننا أن نسمّي أولئك الذين ليس لديهم من مهمّة، في الدنيا، إلاّ التوق إلى إله الكون ودراسة كمالاته في خلقه ». والآن، يستطيع القارئ أن يدرك بسهولة الغاية التي يريد الوصول إليها المجادل المسيحي من خلال هذا التقسيم، وأن يعرف السبب الذي من أجله تعلّق بهذه الفرقة: سلب اليهود ارثهم وتَعريتهم من دينهم، ثم إلباس المسيحية ثوب القِدم بإلحاقها بالدين الأول، دين الفطرة؛ وبطل هذا الدين هو ابراهيم . فعلا، هؤلاء الناس الذين عاشوا في كنف الحكمة والتقوى، مترفّعين على الملذات الجسدية، فعلوا ذلك فقط عن طريق قوة التعقل النظري (λογικη θεωρια) والقوانين العُرفية اللامكتوبة . ولقد برز فيهم الأب الذي يتفاخر به شعب كامل، ابراهيم، والذي شهدت له النبوءات المقدسة بعدالة لا يمكن أن تكون تلك المتوافقة مع شريعة موسى، نظرا إلى أن هذه الشريعة لم تكن موجودة بعد. وقد تنبّأت له العناية الالهية أنه سيُصبح أبا للعديد من الأمَم، وصرّحت له بأن من خلاله ستبارك كل الشعوب وكل قبائل الأرض: «نبوءة نراها اليوم وهي تتحقق بالكامل ». أما نَسله يعقوب فهو أيضا غريب عن اليهود، حيث وصفته الكتب المقدسة بأنه كان انسانا كاملا، صادقا، عادلا، تقيّا، بعيدا عن أي عمل خبيث، وبالتالي فإن هذا النبي «لا ينتمي، في شيء، إلى الجنس اليهودي ». وكذلك من بعده يوسف الذي أبدى هو نفسه تقوى وحبا لله جديرين بإنسان فاضل، ولذلك، يؤكد يوسابيوس، «فهو لم يكن إلاّ عبرانيا ابن عبراني، وليس يهوديا، نظرا إلى أنه لم يوجد يهود بعد ». إن عصر اليهود تَواصَلَ من موسى حتى ظهور مُخلّصنا يسوع المسيح، كما تنبّأت به كلمات أنبيائهم، وقد أخذت مكانهم اليوم تعاليم المسيح والعهد الجديد لمخلّصنا، والتي تتوافق بالكامل مع الوعود التي أطلقت في تلك الأزمان . لكن اليهود لم يقبلوا بهذه البشارة، ولم يعترفوا بهذا العهد لأنه مكتوب عندهم أن شريعتهم لا يمكن أن تُنسخ أبدا، ولذلك فإن ردّ المسيحيين الأوائل اتّخذ منحى تهجميا قاسيا. جوستين، يشير إلى اليهود بإصبع الاتهام: أنتم عادَيتم هذا الناموس، واحتقرتم العهد الجديد المقدس، وإلى الآن أيضا لا تقبلونه، ولم تُكَفّروا عن خطاياكم: آذانكم صماء، وأعينكم عمياء، لا ينفعكم التطهّر بالماء لكي تغتسلوا من اجرامكم وتمسحوا خطاياكم، «ولا حتى ماء البحر بأكمله (θαλάσσης πᾶν ὕδωρ) يكفي لتَطْهيركم (καθαρίσαι) ». كل شريعتكم لم تُفرض عليكم إلاّ لأن قلوبكم قاسية، كما يقول كتابكم المقدس نفسه، والختان الجسدي الذي تتباهون به، والذي دشّنه ابراهيم «أُعطِيَ لكم كعلامة تميّزكم عن الأمم الأخرى وعنّا نحن، لكي تعانوا أنتم فقط ما تعانونه الآن بالحق (بلادكم خربة. مدنكم محرّقة بالنار. أرضكم تأكلها غرباء قدامكم، وهي خربة كانقلاب الغرباء "أشعيا 1: 7") ولا أحد منكم يصعد إلى أورشليم ». أنتم قَتَلة الأنبياء، يواصل جوستين، كما قال بولس (1 تيسالونيكي 2: 15؛ عبرانيين 11: 32 ـ 40؛ أعمال الرسل 7: 52؛ )، ثم قتلتم يسوع، ولم تكتفوا بذلك بل إنكم «تَدْحَرون بخُبث أولئك الذين يضعون الرجاء فيه وفي مَن أرسله: الإله القدير خالق الكون؛ أنتم تُهينونهم بكل ما أوتيتم من حقد، وترفعون، في معابدكم، اللعنات ضد أولئك الذين يؤمنون بالمسيح. لأنكم لا تملكون القدرة على وضع أيديكم علينا وإيذائنا، بفضل أولئك الذين يحكموننا الآن، لكن كلما سنحت لكم الفرصة فعلتموه ». جوستين يُحمّل اليهود مسؤولية استعداء الأمم الأخرى للمسيحيين، ويحمّلهم مسؤولية قتل كل من هو عادل في هذه الدنيا، وأوّلهم يسوع المسيح: «في البداية صلبتموه، الوحيد الكامل العادل، ذلك الذي جراحه تُوفّر العلاج لأولئك الذين من خلاله سيُرفَعون إلى الآب. ثم، حينما عَلِمتُم أنه قام من بين الأموات وصعد إلى السماء، كما كشفت عنه النبوءات، ليس فقط لم تَتُوبوا عن أعمالكم الشريرة، بل إنكم عَيّنْتُم مَبْعُوثين مُختَارين وأرسلتموهم من أورشليم إلى أقطاب الأرض كلها، لإعلام الجميع بأن بدعة كافرة، بدعة المسحيين، قد ظهرتْ، ولاتّهامنا بكل الموبقات بحيث إن أولئك الذي لا يعرفوننا يردّدونها ضدّنا. وهكذا فإنكم لستم مسؤولين فقط عن ظُلمكم لنا، بل عن ظلم الناس الآخرين كلهم (τοῖς ἄλλοις ἃπασιν ἀνθρώποις) وبإطلاق (ἁπλῶς) ». بخصوص موقف المسيحيين الأوائل من اليهود أكتفي بهذا القدر، لأن موضوعنا الرئيسي منحصر في صراع المسلمين والمسيحيين، لكن تصوّروا استتباعات هذا الكلام على مجموعة من الناس تعيش بين أغلبية مسيحية مقتنعة بأن اليهود قتلوا إلههم في الماضي، ويتآمروا عليهم في الحاضر، ويشوّهون سمعتهم بين الأمم، أقول: كيف لا تؤدي هذه المعتقدات إلى أبشع الجرائم؟ 3. المسيحية مسيحيّتان -------------- نحن نتفهّم موقف هؤلاء المجادلين القدامى، دون أن نبرّر أطروحاتهم طبعا، لأن التعصب للدين كان يُعتبر فضيلة في العصور القديمة، نظرا إلى أن الدين يحدّد نوعا ما هوية الشخص في صلب المجموعة؛ لم تكن قد وُلدت بعد فكرة المواطنة، ولم ير النور مبدأ حرية العقيدة. لكن في وقتنا الحاضر، وفي أغلب بلدان العالم، التعصب للدين يُعَدّ رذيلة خطيرة لأنه مَجلبة للتّمييز والاضطهاد والطائفية، ويقود حتما إلى حروب أهلية طاحنة. المثقف العربي عليه أن يتصدّى، بكل ما أوتي من جهد فكري، إلى مثل هذه المنعرجات الأيديولوجية الخطيرة، وألاّ يقدّم أيّ دعم مفهومي لإذكائها أو تغليب طرف على آخر. كان من المنتظر من الجابري، كفيلسوف صدّع رؤوسنا بالعقلانية والتنوير، أن يتقيّد بموضوع بحثه، وأن يسرد الوقائع والأطروحات بكل تجرّد دون الدخول في مماحكات جدالية حول الدين الحق، لكن الرجل دخل المعمعة حاملا ثقل مَوروثه الديني، مُبْديًا موقفه التقديسي وإيمانه الجنوني بالوحي، الشيء الذي قاده إلى مجاراة القرآن في إقصائه للديانات الأخرى. وهنا تتمظهر جليّا محدودية عمل الجابري واخلالاته المنهجية، فهو لم يقدّم أي دليل علمي على أن نبيّ الإسلام مذكور حرفيا في الكتب السابقة، وإنما ردد ما جاء في القرآن وفي كتب الإسلاميين الدعائية، قائلا الآيَتيْن «صريحتان في كون التوراة والإنجيل قد بشّرا بقدوم النبي الأمي، أي من غير اليهود، اسمه أحمد. وبما أن أهل التوراة والإنجيل قد أنكروا أن يكون في كتبهم ما يؤكد ما ورد في القرآن فقد كان من الطبيعي أن يتصدى علماء المسلمين للرد والبحث في نصوص التوراة والإنجيل عما يؤكد ما ذكره القرآن ». لقد تَفادى الجابري، مرة أخرى، التدقيق في هذه المسألة وانساق وراء إيمانه دون أن يتفكّر في التناقض القاتل الذي يخترق رأيه هذا. فالمفسرون المسلمون مجمعون، على أن كتب أهل الدينيْن السابقيْن محرّفة، والجابري يتبنّى هذا الرأي دون نقاش لأنه عثر عليه في القرآن قبل أن يعثر عليه عند المفسرين المسلمين، ولكنه لم يسأل نفسه: كيف يلجأ المسلمون إلى استخدام كتاب محرّف لإثبات كتاب غير مُحرّف؟ بعد أن استعرض آراء المسلمين ورُدود المسيحيين، مُستغلاّ بعض المقالات الجدالية التي عثر عليها في انترنت، اقتلع مقطعا من القرآن زعم أنه يُثبت معرفة محمد بتاريخ الكنيسة. ثم قدّم معلومة بسيطة، يعرفها الجميع، وهي أن المسيحية نبعت من اليهودية، ومثّلت تطوّرا طبيعيا لتلك الديانة، وقد جاء في القرآن تلميح لهذا الأمر، من دون أيّ تعمّق أو تفسير (فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فأيّدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين). لقد تركت هذه الكلمات الغامضة المسلمين في تخبط: من هم النصارى؟ ومن هم المسيحيون؟ هل هما ملّة واحدة أم ملّتين مفترقتين؟ إنها مشاكل عتيقة طواها النسيان، وغير مطروحة حاليّا على المسيحيين، بعد أن تكفّل لاهُوتيّوهم الأوائل بالردّ عليها وتبكيتها، لكن المسلمين أعادوا إثارتها من جديد، وركّزوا عليها لغاية القدح في المسيحية، وتبرير اتّهامهم بتحريف نص الإنجيل وإفساد الدين الصحيح. الجابري اتّبع هذا النهج في الطعن وارتأى من جهته تشويه المسيحية وإنهاكها وذلك بتقسيمها إلى مسيحيّتين: طائفة المسيحيين وطائفة النصارى، وهذا يذكرنا بما فعله يوسابيوس وآخرون، بتقسيم اليهودية إلى طائفة العبرانيين وطائفة اليهود. إن هؤلاء "النصارى"، يكتب الجابري، «كانوا مثل "نصارى نجران" فرقة مبتدعة. وهذه النتيجة هي في الحقيقة كل ما يهمّنا من المجادلة ». النتيجة التي تهمّه مبدئيا هي فصل المسيحية الصحيحة، يعني المسلمة، عن المسيحية المحرّفة، يعني مسيحية المسيحيين. سؤال الجابري: «من هم يا ترى هؤلاء النصارى الذين آمنوا بالأمي قبل بعثته وبعدها، والذين يعتبرهم المسيحيون الرسميون فرقة مبتدعة؟ ». من السهل الاجابة، لأن الجابري هيّأ الأرضية للقارئ طوال صفحاته السابقة، حيث يرى أن القرآن تحدث عن النصارى، وليس عن المسيحيين، والنصارى «في عرف علماء المسيحية الرسمية ... فرقة ضالة غير مُعتَبرة ». لكن هذه الفرقة الضالة غير المُعتبرة هي، عند المسلمين، مُعتبرة، ومُهتَدِية إلى سواء السبيل، وأتْباعُها «هم المنحدرون من الحواريين (صحابة عيسى) الذين أيّدوه ونصروه، وهم الذين تحدّث عنهم القرآن في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فأيّدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين)». ومَن الشاهد على ذلك؟ المفسّر ابن كثير في كتاب البداية والنهاية، إضافة إلى مجموعة من العلماء الغربيّين الذين يؤكدون هذه الحقيقة. وهنا يَقتبس الجابري من كاتبٍ مجهول آراء قادحة في المسيحية يروّج لها الإسلاميون في كتاباتهم الدعائية، والغرض منها، كما قلت، هو تثبيت أقوال القرآن وتسويغها بكل الوسائل. ورغم أن الاسلاميين يقدحون في الغربيّين وفي علومهم الإنسانية ومناهجهم الفيلولوجية المُطبّقة على الكتب المقدسة، إلا أنهم يَغْتَبِطون بها ويَقبلون كل نتائجها حينما يتعلّق الأمر بالتوراة والإنجيل، أو بالعقيدة المسيحية عموما، أما القرآن والإسلام فممنوع الاقتراب منهما. وها هو الجابري يُثني على ابن كثير ويَبتهج لأن أقواله تتوافق مع أقوال العلماء الغربيّين، حيث يرى أن قول ابن كثير «يكاد يتطابق مع ما يؤكده مؤرخو الدين المسيحي في الغرب». لم يستشهد بمؤرخ واحد منهم، لم يذكر عنوان كتاب واحد، ولكنه سارع بالقول: «مِن المؤكد عندهم أن عيسى لم يترك كتابا منزلا يضم كلام الله على غرار القرآن، وإنما بَقيَتْ تعاليمه الشفوية وأخبار نشاطاته الدعوية متداولة بين صحابته المؤمنين به، فقام بعضهم بروايتها في نصوص تسمى الأناجيل (كلمة بمعنى: البشرى) وهي أربعة تُنسب إلى الذين جمعوها وسجلوها وهم متى (Matthieu)، ومرقص (Marc)، ولوقا (Luc)، ويوحنا (Jean). وتُجمِع الأبحاث النقدية المعاصرة على أن هذه الأناجيل قد كُتبت بعد المسيح بنحو قرن من الزمان، وأنها قد تعرّضت للبتر والإضافة والتعديل، وأنها كُتبت باللغة اليونانية، وهي اللغة السائدة يومئذ، ليس في بلاد اليونان والرومان فحسب، بل في سورية وفلسطين ومصر ». هل ثمة أدلّة أقوى من هذه للبرهنة على أن الأناجيل محرّفة؟ هل بقيَ للمسيحيين من ملاذ لنكران حقيقة فاقعة أجمعت عليها الأبحاث النقدية الغربية؟ هذه، في نهاية المطاف، هي الفكرة المركزية التي يريد أن يصل إليها الجابري، وهو في هذا لم يتخطّ اطلاقا مستوى الإسلاميين الوهابيّين، ولا تجاوز طعونهم المسترسلة والدائمة في الديانة المسيحية. لكن قد يعترض عليه المسيحي: هب أنّ كل ما قلتَه صحيح، ومُوثّق وثابت تاريخيا وفلسفيا، ما ضير المسيحية؟ ما دخلك أنت في عقائد الناس؟ هل ترضى بأن يعمد مفكّر مسيحي للقدح في كتابك وفي نبيّك؟ السؤال مشروع لأننا نَتحاور (بَعديّا) مع فيلسوف مرموق، صاحب مشروع فكري كبير، وليس مع اسلامي وهابي معروفة جيدا توجهاته العدوانية تجاه الأديان الأخرى . ولكن، كما قلت، في ميدان قدح الأديان والطعن فيها، خصوصا المسيحية، فإنه لا فرق بين اسلامي متشدد، يعبّر عن نفسه بطريقة عنيفة فجّة، وبين علماني مُتأسْلم، يُعيد نفس الأطروحات بطريقة ملتوية ثم ينمّقها بأمشاج من المصطلحات الفلسفية. وكلاهما، في نهاية المطاف، مَحكومان بخطاب القرآن كمعيار للفصل بين الصواب والخطأ. وقد ركّز الجابري على الثقافة اليونانية للوصول إلى نتيجة كان قد أعلن عنها يوسف زيدان في كتاب اللاهوت العربي، وهي أن الأساطير الهيلينية أثّرت في المسيحية وقوْلبت معتقداتها. لكن محاولة التوفيق بين العقلانية الفلسفية والإيمان المسيحي، أي بين «ما تُعطيه الفلسفة اليونانية التي تعتمد العقل، وبين ما يُعطيه الدين المسيحي، القائم على الإيمان » باءت بالفشل. ولا يمكن أن يغيب، في نطاق الحرب على المسيحية، معتقد التثليث، لقد أقضّ هذا المعتقد مَضاجع المسلمين، وحملوه على كاهلهم وكأنه قضيّة تخص عقيدتهم الشخصية؛ كأنهم لا يقدرون أن يحيوا دون الخوض فيه. وفعلا، ليس هناك من اسلامي أو قرآني أو علماني متأسلم لم يتطرّق إلى التثليث، والجابري لا يشذ عن القاعدة: «كانت الأساس التي شغلت الفكر المسيحي هي تحديد طبيعة المسيح. فالعقيدة المسيحية تُقرر أن أمّه مريم ولدته من دون أن يمسسها بشر، ولكنه هو نفسه له طبيعة البشر! ». انظروا إلى هذا التساهل وهذه الطّلاقَة في عرض معتقدات المسيحيين، وكيف أنه لم يَتَسنّ له قول كلمتين حتى عبَّر عن تَعجّبه. وهو في الحقيقة لم يقدّم شيئا يُعتدّ به علميا، لأن المسيحيين يمكنهم أن يردوا عليه بأن أقواله هذه ليست إلاّ تسطيحا مغرضا لمسألة لاهوتية بالغة التعقيد. والدليل على ذلك أنه لا يعرض الأمر كما يعتقده المسيحيون، ولم يأت بأي شهادة أو نصّ من أدبيّاتهم اللاهوتية، بل إنه بسّط لغرض القدح: «إذًا هو بشر له أمّ، ولكن من هو أبوه؟ الجواب: الله نفخ في مريم من روحه. ومِن هنا قالوا: إذًا الله هو الأب، وعيسى هو الابن، وبين الأب والابن هناك روح الله أو الروح القدس ». وهكذا، بكلّ أريحيّة واستخفاف، الله نفخ في فرج امرأة فأنجبت ولدا، وأصبحوا عائلة مقدسة متكوّنة من رجل اسمه الله، وزوجته، واسمها مريم، وابنهما، يسوع. هل ثمّة في كتابات المسيحيين شيئا من هذا القبيل؟ هل قرأنا في الأناجيل أن الله نفخ في فرج مريم، أي في عضوها الأنثوي كما يصرّح القرآن؟ إن المسيحي لا يرى في هذه الأقوال إلاّ تجديفا على دينه وتهجّما على عقيدته، وتشويها لأسرارها الروحية، بل استخفافا بها وإهانة فظيعة لقدس أقداسه. لكن الجابري لا يهتم بالمسيحيين بقدر ما يهتمّ بنشر فكره الوهابي واستعراض الانتقادات الكلاسيكية على عقيدة التثليث: «إذ هاهنا ثلاثة أقانيم أو عناصر، فكيف يمكن تحديد العلاقة بينها؟ تلك هي اشكالية عقيدة التثليث (Trinité) ». وهنا يدخل التاريخ على الخطّ، وتُفرَد مكانة خاصة للعلماء الغربيين، دون أن يَستشهد باسم واحد منهم أو بكتاب يمكن للقارئ الاستئناس به: «وحسب ما يؤكده مؤرخو العقيدة المسيحية فإن الاعتقاد في الطبيعة اللاهوتية للسيد المسيح، أعني في كونه إلها، لم تترسم إلاّ بعد نحو قرن من الزمن بعد صلبه ». ويبدو أن الجابري، في هذه الجزئية، أكثر رأفة من الآخرين، فقد تفضّل على المسيحيين بتَقْدِيم الاعتقاد في التثليث للقرن الأول، بينما الأغلبية منهم يؤخّرونه إلى القرن الثالث أو الرابع، للتدليل على أنه معتقد مُصطَنع وفاسد. إن الغرض من هذا التأخير، سواء كان قليلا أو كثيرا، هو القول بأن المسيحية الرسمية، مُحرّفة، أما المسيحية (الإسلامية)، فهي صحيحة. وهذا هو رأي الجابري: «أما قبل ذلك، أي خلال القرن الأول الميلادي، فقد كان المؤمنون به أقلية من اليهود .. الذين رأوا في المسيح المخلّص الذي بَشّرت به التوراة. وهؤلاء الذين نصروه. ويرى جل الباحثين أنهم لم يكونوا يعتقدون لا في التّجسد (تجسّد الاله في شخص المسيح) ولا في التثليث، وإنما كانوا يرون فيه نبيّا بشرا مبشرا بالخلاص ». إذن المسيحية الصحيحة ليست هي المسيحية الحالية، وإنما هي مسيحية أخرى، بشهادة الغربيين أنفسهم، والنتيجة هي أن كل المسيحيين الحاليّين هم خارج الدين القويم، وهم يُضيّعون وقتهم وحياتهم في اتّباع دين لا ماضي له ولا مستقبل. هذه ليست فذلكة، وإنما قناعة الجابري الصامدة التي يشترك فيها مع الوهابيين والسلفين، وهي أن ديانتهم ليست الديانة الصحيحة، لا من حيث المعتقدات اللاهوتية الرسمية (الثالوث مثالا)، ولا من حيث التاريخ، والمَنشأ أيضا. وقد بَنَى هذه القناعة على أساس بحوث العلماء الغربيّين، واعتمادا على مؤرخين كبار لتاريخ الكنيسة. اللافت أن الجابري، رغم توفّر عدد مهول من كتب تاريخ الكنيسة على الشبكة، مِن أقدمها إلى أحدثها، لم يذكر ولو عنوانا واحدا، لم يستشهد ولو بصَفحة واحدة، وإنما لخّص ما قرأه بهذه العبارات: «نَقرأ في تاريخ المسيحية أن أحد علماء اليهود ـ المتفلسفين واسمه الأصلي شاول ـ كان من ألدّ خصوم السيد المسيح ومن أقساهم على أتباعه، لكنه ما لبث أن اعتنق المسيحية وصار من أكبر الدعاة فيها، خاصة في العالم الوثني اليوناني الروماني، خارج المجتمع اليهودي بفلسطين، وقد سُمّي ولُقّب بسبب نشاطه التبشيري ذاك بـ"بولس الرسول" ». ماذا فعلَ بولس؟ أسّس المسيحية، طبعا المسيحية المُحرفة، ودائما بالاستناد إلى مَن أسماهم الجابري «مؤرخو الفكر المسيحي»، ولم يُكحّل عيْن القارئ ولو باسم واحد منهم، أو بعنوان كتاب من كتب تاريخ الكنيسة التي قرأها. فالدقة العلمية لا تَعْنيه بقدر ما يَعنيه الوصول إلى النتيجة، وهي أن بولس هو «أوّل من قام بالتوفيق بين العقيدة التي بشّر بها السيد المسيح التي تقول بإله واحد، وبين الأفلاطونية المحدثة التي تقول بضرورة الوسيط بين الله والعالم، معتمدا في ذلك على فكرة التثليث، وقد حدث ذلك حوالي عام أربعين للميلاد». إن أقوال الجابري تُذكّرني بكتابات الاسلاميين السطحية جدا، والفاقدة للمراجع، أو المحرّفة حتى للاستشهادات، والتي تنقل أحيانا من كتب أخرى دون ذِكرها. لو فتح الجابري أي كتاب لاهوت مسيحي لَعَلِم أن فكرة التثليث لم يَستحدثها بولس، ولم يَنشرها في رحلاته التبشيرية، كما يقول، ولم يُبشّر بها «من سوريا لآسيا الصغرى». يكفي الرجوع إلى رسائل بولس الرسول، حتى ندرك أنه بَشّر بالمسيح كآدم جديد، وكمخلّص للبشرية، وأنه جاء لإخراجها من ضيق الناموس التوراتي إلى نعمة الغفران بدم المسيح. وقد لخّصها في هذه الكلمات من غلاطية: (لأني مِتّ بالناموس (δια νομου) لناموس [آخر] كي أحيا لله. لقد صُلبتُ مع المسيح، ولستُ أنا الذي يحيا، بل المسيح هو الذي يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبّني وأسلم نفسه لأجلي. لست أبطل نعمة الله. لأنه إن كان البرّ بالناموس، فالمسيح إذن مات بلا سبب!). لكن الجابري لا يعبأ بما يقوله بولس والأناجيل، لأنه مهموم بكل شيء إلاّ بالدقة والموضوعية العلمية؛ غَرضُه الأوحد هو التجريح في المسيحية، واعتبارها هجين امتزج فيه اللاهوت بالوثنية اليونانية، في عملية مدّ وجزر، قُبول ونُفور: «استمرّ احتكاك المسيحية بالفلسفة في الاسكندرية بصفة خاصة حيث ازدهرت هي والعلوم اليونانية منذ عهد البطالمة، وكانت قد انتقلت إليها المسيحية في وقت مبكر إذ تأسست كنيستها القبطية عام 42 للميلاد. وعندما أُلّفت الأناجيل الأربعة واتخذت المسيحية صورة عقيدة مرسمة حصل اصطدام بينها وبين الفلسفة فقامت هناك في الاسكندرية، محاولات للتوفيق بين العقيدة التي تقررها تلك الأناجيل بين ما تقرره الأفلاطونية، من مبادئ ورؤى ».
4. أوريجينس الوهابي -------------- وبعد هذه الجَرّة التاريخية المختلّة، التَفتَ إلى اللاهوتي أوريجينس لكي يُحيطنا علما بأنه كان أسقفا في الاسكندرية، وأن بعض المصادر «تذكُرُ أن أوريجينس ساح في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي في الجزيرة العربية واعظا ومبشرا، ومن جملة من وعظهم أحد أمراء العرب ». ليس هذا فقط، بل ادّعى أيضا أنه كانت هناك نزعة توحيدية لدى نصارى جزيرة العرب، وأن أوريجينس هو المتسبّب فيها. في نقطة ما يصل التزوير إلى مداه الأقصى ـ والقارئ يجب أن يعلم أننا بحضرة فيلسوف، عقلاني رشدي، تُدَرَّسُ كُتبه في الجامعات العربية ـ حينما قال، بخصوص تصور ذات الله، إن أوريجينس تَبنّى «التصوّر الأفلاطوني للإله المتعالي فقال بالتنزيه المطلق: الله روح مطلق لا علاقة له بالمادة اطلاقا، وإذا كان الكتاب المقدس يصف الله بصفات أو يسميه بأسماء لا تتفق مع كونه روحا مطلقا، مثل وصفه بأنه نور ونفس وروح، فيجب في نظره أن يُحمل ذلك على المعنى المجازي. أما الله في حقيقته فمستقل كل الاستقلال على كل ما هو مادي، فهو لا يتحدد لا بالزمان ولا بالمكان، وبالتالي يمتنع علينا ادراك حقيقته أو التعبير عنها ». لكن هذا ليس أوريجينس الذي نعرفه من خلال كُتبه ومواعظه وتفاسيره، وإنما أوريجينس المسلم، قبل الكلمة، والذي أُلبِس لبوس الوهابية وأصبح موحّدا خالصا، ناكرا للثالوث الشّركي، ناطقا بشهادة أن "لا إله إلاّ الله" ولا ينقصه إلاّ نصفها الثاني "..أنّ محمدا رسول الله". إن العبرة من كلام الجابري هي أن المسيحية الصحيحة هي الإسلام، أما مسيحية المسيحيين فهي محرّفة، بل وثنية وشرك، وبالتالي فإن المسيحيين هم وثنيون ومشركون. أقول لو كان الجابري باحثا عن المعلومة الدقيقة، وحارصا على الموضوعية العلمية، لفتح أي كتاب من كتب تاريخ الكنيسة، ولو فعل ذلك لتفطن إلى أن اللاهوتي الاسكندراني أوريجينس لم يُسَمّ أسقف اطلاقا وإنما قسّ. إن هذه المعلومة البسيطة كان بإمكانه أن يستقيها من كاتب مسيحي قريب العهد من أوريجينس، أعني يوسايبوس القيصري الذي كتب في تاريخ الكنيسة: «إن اسقُفيْ قيصرية وأورشليم ـ الذين كانا أشهر وأبرز أساقفة فلسطين ـ اعتبرا أوريجانوس خليقا بأعظم درجات الاكرام، فرسماه قسّا »، ثم في موضع آخر، يُعيّن المكان والظرف الزماني، حيث قال إن أوريجينس أُرسل إلى اليونان لضرورة مُلحّة تتعلّق بأمور كَنسيّة «فذهب عن طريق فلسطين، ورَسَمَه هناك أساقفة تلك المملكة قسّا في قيصريّة ». لم يَسِح أوريجينس في الجزيرة العربية، كما ادّعى الجابري، ولم يطأها اطلاقا، ولم يلتق بأيّ أمير عربي، ولا أدري حقا من أين استقى هذه المعلومات وأي المُصنفات رجع إليها. إنها أخطاء تاريخية مربكة جدا، هذا إن لم تكن فظيعة، أخطاء جاءت مسطّرة في كتاب بعنوان مدخل إلى القرآن الكريم، يعني لو أن الجابري كان يُكرّم قرآنه لاحتَرَمَ قرّاءه ولأعطاهم معلومات دقيقة ومُوثّقة. لكن، للأسف، ليس هناك من مثقف اسلامي أو علماني مُتأسلم مستعدّ أن يتنازل عن حقه في التحريف والتزوير والهيام في الخيالات وتسويد صفحات ثم رَصّها بكلمات دون معنى. لقد ذكر أوزابيوس القيصري، في كتابه التاريخ الكنسي، أن برعل "بوريلوس" (Βήρυλλος) أسقف بُصرى العرب (Βόστρων τῆς Ἀραβίας)، الذي ابتعد عن قوانين العقيدة وأدخل بدعة «غريبة عن الإيمان ... الخ »، وقد عاش هذا الأسقف العربي في القرن الثاني وبداية القرن الثالث، في مدينة بصرى الشام العربية. وفي نفس هذه المدينة العريقة المتمسّحة منذ القرن الأول، حصلت بعض المجادلات اللاهوتية أدت إلى الهرطقة، فاضطر الأساقفة إلى استدعاء مجمع لمناقشة أصحاب هذه الآراء الهرطقية، وقد حضر أوريجينس لتصحيح معتقدات الهراطقة وهدايتهم إلى الدين القويم . هذه الواقعة يمكن التأريخ لها بدقة، لقد حدثت بين عامي 238 و 244 ميلادي. وهذا نص أوزيبيوس وجوهر المسألة المتنازع عنها: «كان هناك أناس آخرون، في بلاد العرب (τῆς Ἀραβίας)، برزت في تلك الفترة عقيدة غريبة عن الحقيقة: يقولون إن النفس البشرية، في هذا الوقت الذي نحن فيه، تفنى مع الجسد في ساعة الموت؛ لكن في يوم ما، في يوم البعث، ستحيى مرة أخرى معهم. وفي هذه الحالة أقيم مجمع هام، ومجدّدا تمّ استدعاء أوريجين [استُدعي المرة الأولى بشأن الأسقف برعيل]؛ وأخذ يقوم بمواعظ في المجمع حول الموضوع المثار، وقد كان متحمسا لدرجة أنه غيّر أفكار الذين كانوا قد وقعوا فيها ». وبخصوص التصورات اللاهوتية لأوريجينس، يمكن القول بأنه لم يحد عن الإيمان الأرثودكسي، وهذا بيّنٌ من خلال كتابه "في المبادئ (Περι Αρχων)"، حيث صدّره ببُنود الإيمان المسيحي التي يؤمن بها الإنسان المتعلّم والانسان العامي على حد سواء: «ثمة إله واحد، في بادئ الأمر، قد خلق كل شيء ... وفي الأزمنة الأخيرة أرسل الله ربّنا يسوع المسيح كما سبق فوعد بذلك عبر أنبيائه .. وقد أعطى هذا الإله البار، أبو ربّنا يسوع المسيح، الناموس والأنبياء والأناجيل: فهو إله الرسل، إله العهدين القديم والجديد». أما يسوع المسيح فإن أوريجينس يقول فيه، ما يعتقده المسيحيين أجمعين، وهو أنه ابن الله بالجسد: «جاء يسوع ووُلد من الآب قبل كل خليقة. وكما آزر الآب في خَلْقِه كلَّ شيء، إذ به كوّن كل شيء، كذلك في الأزمنة الأخيرة، فقد تأنّسَ مُلاشِيًا ذاته، وتجسّد فيما كان هو الله، ولبث بعد أن أصبح إنسانا ما كان عليه من ذي قبل، أي الله. وقد اتّخذ جسدا شبيها بجسدنا، مع فارق وحيد أنه وُلِد من عذراء ومن الروح القدس. ومن حيث إن يسوع المسيح قد وُلد وتألّم بالحقيقة». إذن، "يسوع هو ابن الله"، هكذا يقول في تصدير كتاب المبادئ: «آمنّا بأن المسيح هو ابن الله »، وهذه الحقيقة، يقول أوريجينس، تلقّنها المسيحيون من الله . وككل المسيحيين فهو يفرق بين يسوع الجسدي ويسوع الإلهي، حيث يرى أن «الطبيعة الإلهية في المسيح، ابن الله الوحيد، أمرٌ وأنّ الطبيعة البشريّة التي اتّخذها في الأزمنة الأخيرة من أجل التدبير أمرٌ آخر ». إن ابن الله الوحيد، يقول أوريجينس، قد تلقّى أسماء عديدة ومتنوّعة من بينها: الحكمة، ويُدعى أيضا "البِكْر"، كما قال بولس "هو بِكْر كل خليقة"، وليس هناك من بكر غير الحكمة، فهي طبيعته الأسمى وهي ماهيته تصديقا لبولس الذي قال "المسيح، قوّة الله وحكمة الله". لكن أوريجينس، لرفع كل التباس، أو أي اعتراض يوحي بأن يسوع هو كيان عقلاني لا جوهري، يوضّح «لا يَظُنَّنَّ أحد فينا أنّنا نقول بأن المسيح خُلوّ من الجوهر حين ندعوه حكمة الله، وكأن بنا لا نجعل منه كائنا حيا وحكيما، وإنما شبه شيء يُكسِب الحكمة ». إن الابن في تصوّر أوريجينس هو جوهر قائم الذات، ومساوق لله في القدم: «نَعلم أن الله هو أبدا أب لابنه الوحيد، المولود منه، والآخذ عنه ما هو عليه، دون أيّ بدء، زمنيّا كان أم تَعليليّا ». إذن، يسوع، ابن الله، حكمته القديمة، بمعنى أنها «وُلِدتْ بلا بدء يمكن تأكيده أو التفكير فيه، وفي كينونة هذه الحكمة، القائمة بذاتها، وُجدت الخلائق المستقبلية برمّتها، حاضرة بالقوة ومتخذة شكلا، سواء الكائنات التي وجدت بشكل أصلي، أم تلك التي ابتدرت لاحقا بها ». وهذا دليل أن المسيح يتماهى مع الحكمة التي خلق بها الله الكون، يعني أن المسيح هو خالقٌ مِن خالقٍ، إله حقيقي من إله حقيقي. أما تسمية المسيح بكلمة الله، يؤكد أيضا، أنه كينونة جوهرية ثابتة قديمة «ما دامت تكشف للكائنات كلّها علّة الأسرار والخفايا المحتواة جميعا في حكمة الله: من هنا تَسميتها بكلمة، لأنها أشبه بمفسّرِ أسرار العقل ». وتدعيما لرأيه هذا فإن أوريجينس يستشهد بإنجيل يوحنا: «وقد أعلن يوحنا، في بدء إنجيله، بطريقة أسمى وأبهى، محددا تحديدا كون الكلمة الله، إذ قال: "وكان الكلمة الله، كان ذاك في البدء لدى الله" ». هذا الابن هو أيضا «الحق والحياة ». ثمة وحدة، إذن، جوهرية تجمع الآب والابن في الفعل، وهذا مشهود به من طرف يوحنا الذي قال: "إن كل ما يفعله الآب يفعله الابن أيضا"، ويعلّق أوريجينس على تماهي أفعال الآب والابن: «إذ يفعل الابن كل شيء يفعله الآب، فإن صورة الآب مُماثلة بشكلها في الابن الذي يشاء مشيئاته لكونه مولودا منه، بازغا منه بالذات ». لكن هذا لا يعني أن الطبيعة الالهية منقسمة انقساما جسميا، بل إن الأمر، يوضّح أوريجينس «أشبه بالإرادة التي تنبثق من العقل دون أن تقتلع منه جزءا، ودون أن تنفصل أو تنعزل عنه ». وقد تجسّد ابن الله هذا في المسيح، واتّخذ هيئة جسم بشري لكي «يُبْرِز في نفسه عظمة الله الآب المقيم فيه اللامتناهية وغير المرئية، بسبب تماثل أعماله وقدرته. لذلك كان يقول لتلاميذه: "من رآني فقد رأى الآب"، وأيضا "أنا والآب واحد". وفي هذا المعنى يجب أن نفهم العبارة: "إن الآب فيّ، وأنا في الآب" ». أما بخصوص الثالوث فإن أوريجينس يقول إن الكل يعترف بوجود إله خالق، ويقرّون بأن له ابنا بالرغم من غرابة هذا الأمر وعدم تصديقه من طرف الفلاسفة ، والثالوث، متكون من الآب والابن والروح القدس. والكتب القديمة نفسها، كتب اليهود، تشهد على روح القدس، حيث نقرأ في مزامير داود (المزمور 50 ) : "لا تنزع منّي روحك القدّوس"؛ ودانيال: "الروح القدس الذي فيك". أما العهد الجديد فالشواهد فيه وفيرة، عندما يروي لنا عن حلول الروح القدس على المسيح ، وعن نفخ المخلّص في تلاميذه، بعد القيامة، قائلا لهم: "خذوا الروح القدس"، وقد أعلن الملاك لمريم أن الروح القدس يحلّ عليك. وبولس الرسول يعلّم: "لا أحد يقدر أن يقول: إن يسوع ربّ، إلاّ بالروح القدس". كذلك في أعمال الرسل (8: 18) «فهذا كله يبيّن لنا ما للروح القدس، ككينونة ذات جوهر، من عظيم سلطان ومرتبة، حتّى إن العماد الخلاصي لا يتمّ إلاّ بأسْمَى سلطان الثالوث، أعني به استدعاء اسم الآب والابن والروح القدس ». إن هذا الثالوث يقول أوريجينس «منزّه عن كل زمن، وكل دهر، وكل أزلية؛ لأن الثالوث وحده يفوق كل معنى يمكن فهمه، لا زمنيّ .. فإن سائر الكائنات، ما خلا الثالوث، تُقاس بالدهور والأزمان ». لقد اخترتُ من بين أعمال أوريجينس العديدة، كتابه العمدة، في المبادئ، وتتبّعتُ أفكاره حول بنود ايمان المسيحية، وهي كلها تفنّد أقوال الجابري، الذي ادعى فيها أن هذا اللاهوتي المسيحي كان له تصوّر توحيدي، قريبا من تصوّر المسلمين، نافيا للثالوث والتجسّد بينما نصوصه تقول العكس.
5. النصارى هم المسلمون الحقانيون ----------------------- بعد أن قَضَى أمره مع أوريجينس وأثبت بحجج ضعيفة وبنوع من اجهاد للأفكار والنصوص أنه كان موحدا إسلاميا، التفتَ إلى فرقة الأبيونيّة، واعتبرها فرقة معادية للتثليث المسيحي، و ألْحَقَ أصحابها بالمسلمين، لأنهم موحّدون. قال إن الأبيونيين هم النصارى الذين تحدث عنهم القرآن، يعني أنصار المسيح الذين وعدهم الله بأن يكونوا الأعلون إلى يوم الدين (وجاعل الذين اتّبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة). وهذه الآية أحرجت المسلمين وأسْعدَت المسيحيين: المسلمون اشتدّت عليهم المحنة لأن شهادة القرآن تثبت أن المسيحيين على حق وهم الأعلون إلى يوم القيامة، والمسيحيون استدلّوا بها لإثبات أن قرآن المسلمين نفسه يشهد لصحّة دينهم ودوامه إلى الأبد. والمسلمون في حيرة يتساءلون: كيف يمكن أن يكون المسيحيون على حق؟ كيف يشيد القرآن بأتباع المسيح؟ وما المكانة التي بقيت للإسلام بعد هذه الشهادة الإلهية؟ أليست هذه دعوة صريحة لاعتناق المسيحية؟ وفعلا المسيحيون يعتبرونها شهادة على صحة دينهم وبالتالي المسلمون لا خيار لهم إلا بالدّخول في المسيحة والتّقيّد بتعاليم الإنجيل. لكن هذا الأمر، بالنسبة للمسلمين، يعني الانتحار والفناء التام. يجب اختراع شيء ما؛ تلفيق ذريعة، وعلى عَجل، للخروج من المأزق؛ يجب إما مُخالفة نص القرآن أو تشويه الأسماء وتزوير التاريخ. وهكذا فعلَ الإسلاميون المحدثون، جمّدوا وعد الله ليسوع وأتباعه بأن يكونوا الأعلون إلى يوم القيامة، تناسوا المعنى الحقيقي لهذه الآية، وفسخوا أتباع المسيح من أذهانهم، لكن حينما لم يستقم لهم الأمر بَدّلوهم، من أنصار المسيح، إلى مسلمين خالصين، وهكذا أصبح المسيحيون الحقيقيون يسمّون مسلمين، أما الأصليون فقد ذابوا في غياهب التاريخ. إن هذه اللخبطة التاريخية اللاهوتية، وهي التي قام بها أيضا المسيحيون بالنسبة للعهد القديم، قام بها المسلمون جميعهم، متعلّمين وجاهلين. والدليل أن فيلسوفا عربيا شهيرا، كالجابري، يُكرّر نفس أطروحة الإسلاميين المجانين، مع تَحْلِيَتها ببعض الأفكار الفلسفية. الأبيونيون، يعني في عرف الجابري، المسلمون قبل الإسلام: «يستندون في تصوّرهم للدين الجديد على ما ورد في التوراة. كانوا يقولون بأن المسيح هو المخلّص الذي بشّرت به التوراة وأنه رسول وإنسان كسائر البشر، ولدتْه مريم، كما يولد سائر الناس، ولكن من دون أب بل وُلِد بنفخة من روح الله، وأنه جاء لتطبيق تعاليم التوراة سواء على مستوى العقيدة أو السلوك الديني، ومن هنا حرصهم على الختان وإقامة السبت وتحريم أكل الخنزير .. هؤلاء يهود تنصّروا (قالوا إنا نصارى)، ولكن من دون قطيعة مع اليهودية، معتبرين عيسى هو المسيح الذي بشرت به التوراة ». لا ينقص هؤلاء اليهود إلاّ القِسْم الثاني من الشهادة: محمد رسول الله، وهكذا يتمّ دمجهم عن جدارة في الدين الذي سيأتي بعدهم بستّة قرون. بهذه اللعبة اللاتاريخية يريد الجابري، مثل كل الاسلاميين، استدراج القارئ إلى نبذ المسيحية الرّسمية والتعلّق بمسيحية هي ارهاص للإسلام. لولا أن جاء الشرّير بولس الذي قلبَ الطاولة على رؤوس الجميع وبَدّل دين الله القويم وحوّله إلى وثنيّة، حيث عمَد هو والقديس بطرس وغيرهما «مِن المُنَظّرين للدين المسيحي من تكريس فكرة التثليث وتدشين قطيعة مع الشعائر الدينية اليهودية وإقامة مسلكية خاصة بالمسيحية تنسجم مع نظرية التثليث ». أين براهينه على أن بولس هو الذي ابتدع عقيدة التثليث؟ أين اطّلع عليها؟ أين قرأها؟ لا ذكر للمراجع ولا للشهادات، كلام غائم فضفاض الغاية منه هو كسر المسيحية وتبرير دينه. لكنه لو رجع إلى كتب المسيحيين واطّلع بجدّ على بعض أعمال لاهوتيّيهم لعَلم أن بولس لم يبتدع أي عقيدة جديدة، وإنما علّم ما هو علّمه حواريّو المسيح من قبل، وأن التثليث موجود في الأناجيل ومستمد من قول المسيح نفسه. وهم يستدلون على ذلك بهذا المقطع من الانجيل متّى 28: 19: (فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس). إن هذا التصريح بالنسبة إليهم يمثّل الصيغة الحاسمة للثالوث من فم يسوع نفسه. كان في فترة سابقة يتحدث عن أبيه الذي في السماء؛ عن أنه هو الابن الوحيد للآب السماوي؛ يذكّر بعلوّ الروح القدس، وفي الأخير أصدع لتلاميذه بهذه الحقيقة النهائية وهي أن «الاله الواحد في الجوهر يحقق في حياته الداخلية ثلاثة أشخاص ». هذا هو اعتقاد المسيحيين وتصوّرهم لإلههم، والذي لا يهم الفيلسوف في شيء لأنه خارج عن مجال تفكيره، لكن المطلوب منه، إذا أراد أن يناقشهم أو ينقدهم، أن يعرض على الأقل أفكارهم بأمانة وألاّ يتجنّى عليها أو يهشمّها لكي يعلي من شأن دينه. والجابري فعل هذا وذاك، لأن الرجل مُصرّ على رأيه أعلاه، وهدفه الوحيد هو إيجاد ثغرة لتمزيق عقيدة المسيحية وفصلها عن روحها، بجعل التثليث من غير جوهر المسيحة وغريب عن تعاليمها الأصلية. ولأجل تأصيل هذه الفكرة الخاطئة، فكرة التثليث، أقدم بولس وبطرس وغيرهما من أوائل أتباع المسيح على عملٍ قبيح ولاأخلاقي، ألا وهو كبْت الدين الإسلامي، قبل الكلمة، دين اليهود الموحّدين، أو الأبيونيين. الجابري يتحدث بكل تساهل عن هذه الأشياء وكأن لديه مُستندات سرية ونصوصا دامغة تثبتها اثباتا قاطعا. وهو مُصِرّ أشدّ ما يكون عليه الإصرار أن بولس وأتباعه تَعمّدوا، طيلة القرن الثاني والثالث للميلاد، التّضييق «على أولئك الذين قالوا "إنا نصارى"، فشددوا الخناق عليهم ورموهم بِلَقَب "الأبيونيون" (Ebionistes) ... وقد أطلق عليهم علماء الإسلام اسم "الموحّدون" ». ولكي يُثبت رأيه هذا فقد رجع إلى علماء غربيّين مجهولين، لم يذكر منهم ولو اسما واحدا، أو مرجعا أو نصا أو استشهادا. قال: «كل ذلك يُرجّح لدينا ما ذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين من أن الفرقة الأبيونية ليست شيئا آخر غير فرقة النصارى، ولكن لا بمعنى المنتسبين إلى مدينة الناصرة (حيث نشأ السيد المسيح) كما هو شائع، بل بمعنى الذين نصروا المسيح ». لكنه في لحظة ما تكرّم على القارئ باستشهاد من مفكّر مسيحي مصري، وهو استشهاد نزل عليه مصدقا لما بين يديه؛ لم يقرأه في أي كتاب وإنما قصّر الطريق فاستنسخه من انترنت، ومفاده أن الأبيونيين جماعة تحفظ السبت اليهودي والناموس الموسوي حفظا حرفيا، وتنادي بضرورة الختان. وماذا ينتظر أكثر من مسيحي يعترف تقريبا أن الأبيونيين هم المسلمون؟ لقد سعد الجابري بهذه المعلومة واستنسخها من صاحبها الذي استنسخها، هو بدوره، من يوسابيوس: «كما ينقل صاحب المقالة عن يوسابيوس أنهم "اعتبروا السيد المسيح إنسانا عاديا قد تبرّر (صار من الأبرار) ... واعتبروه إنسانا عاديا كسائر البشر، ولد من أب هو يوسف النجار ومن أم هي مريم" ». وعلى القارئ أن يتذكّر أننا إزاء كتاب مُخَصَّص للقرآن، وعنوانه "مدخل إلى القرآن الكريم"، وليس كتابا يؤرخ للكنيسة أو للثالوث أو لطبيعة المسيح. السؤال: لماذا لم يتقيّد الكاتب بموضوع بحثه؟ ما دخله بهذه الفرقة اليهودية الموغلة في القدم؟ ما علاقتها بالمدخل إلى القرآن، وبدين الإسلام ككل؟ الغاية من هذا السرد السطحي هي تثبيت فكرة أن الإسلام هو الدين الحق، وأنه لم يوجد عبر التاريخ إلاّ التوحيد، وأن كل الأديان حرّفته، حتى جاء الإسلام وأعاد احياء عقيدة التوحيد من جديد. إنّ هذه الأطروحة الإسلاموية لا تتفق مع الواقع التاريخي، بل هي تسْطيح وتزوير لتاريخ الأديان، لأن عقيدة التوحيد جاءت متأخرة على التعددية، ولم تظهر ارهاصاتها الأولى إلاّ مع اخناتون وقبائل بني اسرائيل. لكن الجابري ثابت على نهجه ويزجّ بنفسه في عقيدة المسيحيين، مثيرا اشكالات لاهوتية وتاريخية كأنها تخص، عن قرب، دينه هو بالذات. وبعد أن أشاد بالأبيونيين، لاعتقادهم في بشرية المسيح، انقلب عليهم لأنهم أنكروا الولادة العذرية، وأرجعوا نسب المسيح إلى يوسف النجار. وهنا يخرج الجابري من بوتقة الأبيونيين الموحدين ويَنظمّ إلى المسيحيين المُحرِّفين، ذلك أن يوسف النجار «تقول المصادر المسيحية والإسلامية إنه لم يدخل عليها ». وما عدا هذه النقطة المشتركة يبقى الأبيونيون أفضل من المسيحيين، أهل الثالوث الكفرة، فهم، كما ينقل الجابري على الناقل: «اتّهموا بولس الرسول ـ صاحب نظرية التثليث ـ باتهامات مُرّة وقاسية، ووصفوه بأنه متمرّد ومارق عن الناموس، وأنكروا سلطانه ورفضوا رسائله، واكتفوا باستعمال النص العبراني لإنجيل متّى (محرّفا) ولا يعيرون الأناجيل الأخرى أهمية تذكر ». لكن هذه خصومة بين المسيحيين أنفسهم، ولا دخل لطرف ثالث فيها، ولا أحد مُخوَّل للبتّ في الصحيح منها والهرطقي، خصوصا إذا كان الحاكم يستند إلى معتقداته الدينية الخاصة به، كحال الجابري. فكما أن المسلمين يرفضون أن ينحاز المسيحي إلى المعتزلة، في مسألة الصفات، ضد الأشعرية المشبّهة، أو يعلي من شأن الشيعة على حساب السنة، كذلك المسيحيون لهم الحق في رفض تحيزات المسلمين لفرقة دون أخرى. أُصِرّ على أن هذه مسألة تخص المسيحيين، ولكني أودّ أن أدلي بملاحظة، وهي أن الجابري، أبدى تساهلا وعدم دراية يؤسف لها في طرح المسألة، لأن المسيحيين يبرّرون تصنيف الأبيونيّين ضمن الهراطقة المارقين عن الدين الحقّ، نظرا إلى أنهم يتناقضون مع أسس الدين الذي يعتنقونه. فهم يتمسّكون بشريعة العهد القديم، وفي نفس الوقت يُصرّون على البقاء في المسيحية بعد افراغها مما يميزها عن الدين السابق. إذ أن تعلّقهم بالموسوية يوحي بأن «يسوع لم يكن أعلى من موسى، وبالتالي يخلصون إلى نفي ألوهيّته وتحطيم المسيحية التي يتباهون باعتناقها ». ولذلك فإن القديس أبيفانيوس يسمّي مؤسّس هذه الفرقة وحشا أو ثعبانا متعدّد الرؤوس مثل الهيدرا الأسطورية . ويرى أن تعاليمه مشوّهة، لأنه أكْسَى نفسه بِقِطَعٍ من لباس الآخرين وأخذ من شتّى المذاهب كل أنواع التعاليم المروّعة، القاتلة، المثيرة للاشمئزاز، والقبيحة وغير المقنعة . فهو سامري ولكنه يهودي في الاسم؛ على رأي الأوسائيين، والناصريين؛ على شكل القيرنثيين؛ وعلى عناد الكربوقراطيين. ومع ذلك فهو يريد أن يحافظ على لقب مسيحي «بكلّ تأكيد، لا على أفعالهم وآرائهم ومعارفهم، واجماعهم على الايمان بالإنجيل والرّسل». فهو قابع بين كل المذاهب، دون أن يُحصّل أيّ شيء.
6. آريوس: عبد الله المسلم ----------------- إن أكثر المؤشرات الدالة على أن الجابري لم يكن دقيقا ولا جدّيا في عمله، هو العنوان الذي وضعه للفقرة الرابعة من مقدّمته: ("عبد الله" آريوس والآريوسية)، ولا ينفعه وضع كلمة عبد الله بين ظفرين، لأن هذه العملية لا يمكن أن تَقلب الخطأ صوابا والصواب خطأ. ونحن نتساءل: كيف يمكن أن يسقط الرجل في مثل هذه الخزعبلات؟ كيف يستطيع فيلسوف قدير أن يَنسج على منوال الإسلاميين المزوّرين للتاريخ، مثل الداعية العريفي، وعدنان ابراهيم؟ الجواب الوحيد هو أن الجابري منهم: فهو سلفي في التفكير، رافض لعلمانية الدولة، ماكث على وضعيّة التقديس من زمان، ولا يعرف للموضوعية العلمية سبيلا إنْ تضاربتْ مع قناعاته الدينية. ويكفي عنوان كتابه: "القرآن الكريم" حتى يتبدّى لنا وضعه التقديسي في عرائه، لأن وصف كتاب ما بأنه "كريم" فهو من باب حكم القيمة المسبق، وهو وصْف غير فلسفي وإنما اسلاموي مناف للروح العلمية . نعود إلى "عبد الله" الليبي، المسلم قبل الإسلام بثلاثة قرون: بعد التزوير الأول والذي مفاده أن الأبيونيين هم (الذين قالوا إنا نصارى) يعني المسيحيين الحقيقيين (ما عدا الاختلاف في وضعية يوسف النجار)، يأتي التزوير الثاني، وهو ذو أهمية محورية بالنسبة للإسلاميين جميعا. وقد نشر هذا الافتراء التاريخي الوهابيون بجميع فصائلهم وخصوصا الإخوان المسلمون في مصر. بماذا يتعلّق الأمر؟ يتساءل الجابري، وجوابه: «يتعلق بالفرقة الآريوسية نسبة إلى صاحبه آريوس الذي أحدث أزمة خطيرة في المجتمع المسيحي زمن قسطنطين العظيم ». المعلومة الجديدة التي يفيدنا بها الجابري هي أن هذا التزوير للمسيحية والترويج لأسطورة آريوس، له تاريخ طويل في الإسلام، حيث أن آريوس «تردّد اسمه في مراجعنا العربية الاسلامية مع نوع من التعاطف معه بوصفه حامل عقيدة التوحيد والمناضل من أجلها. وذلك إلى درجة استحق معها في بعض نصوص كبار المفسرين والمؤرخين اسم عبد الله فأطلقوا عليه عبد الله بن آريوس ». ولكي يُعرّف هذا الرجل أعاد الخطأ السابق حيث قَرَن بينه وبين أوريجينس وسمّى هذا الأخير أسقفا في الوقت الذي لم يُعَيَّن أبدا اسقف، فهو مجرد لاهوتي، سُمّي قسّا، ولكن سُحبَت منه بسرعة. ثم قدّم كلامه بأطروحة اصطدام الفلسفة والمسيحية في الاسكندرية، وبروز محاولات التوفيق بين عقيدة الأناجيل وبين الفلسفة اليونانية . آريوس، حسب الجابري، أعلن ثورة على القول بألوهية المسيح، «مؤكدا بشريّته، مقررا أن الآب وحده هو الإله، ومن هنا وُصف هو وأتباعه بالموحدين ». وتوحيد آريوس هو توحيد إسلامي قبل الكلمة. وقد عثر الجابري على أقوال لآريوس تُثبت ذلك، وكعادته، من غير أن يتكرّم على القراء بذكر المرجع الذي استقاها منه: « كان يقول: "إذا كان الله الأب مطلق الكمال ومطلق السمو ومطلق الثبات، وإذا كان منشئ كل الأشياء من دون أن يكون ذاته صادرا عن أي شيء آخر فإنه من الواضح أن كل شيء وكل شخص آخر في العالم منفصل عن الله (...) وإذا كان كل شيء منفصلا عن الله، فلا يمكن أن يكون هناك إلاّ إله واحد. ولهذا فلا بد أن يكون المسيح قد خُلق في زمن ما. لا بد أن يكون معرضا للتغير والخطيئة، وأنه لا يملك معرفة حقيقة فكر الله" ». والنتيجة مفروغ منها، وهو أن آريوس انتقل بعقيدة (الذين قالوا إنا نصارى) والأبيونيين «من مستوى التقليد اليهودي إلى مستوى التفكير النظري، فاعتُبر من طرف المصادر الأوروبية والإسلامية زعيم الموحدين ». وإمْعانا في التزوير والنكال يفترض أن هذا الفكر التوحيدي لآريوس الذي تغلغل في اسبانيا «حسب بعض الباحثين كان له تأثير كبير في تحوّلها إلى الإسلام بسهولة عندما فتَحها طارق بن زياد ». يعني أن الفاتحين المسلمين لم يخوضوا أيّة معركة ولم يقتلوا أحدا من الإسبان، وإنما وجدوا الطريق معبّدا من طرف الآريوسية. وما حكم القرآن على عقيدة التثليث؟ التكفير طبعا. وها هو الجابري يسرد علينا هذا الحكم بكل أريحية ودون أن يتفكّر في استتباعاته الوخيمة على جزء كبير من البشر يعتقدون في الثالوث. قال: «أما الكنيسة الرسمية التي جعلت التثليث عقيدة لها فقد اتّخذ القرآن منها موقفا واضحا في قوله (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلاّ إله واحد)؛ (وما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام) ». والحال إن هذه بشارة فظيعة للمسيحيين في كامل الوطن العربي، الذين لم يترك لهم الاسلاميين شجرا أو حجرا إلاّ وحطّموه بما في ذلك مقابرهم. ومن المؤسف حقا أن لا يتفكّر الجابري في النتائج السلبية المترتبة عن هذا التّكفير الصريح، ولا أظنّه قادرا على ذلك، هو الذي يسمّي القرآن "كريما" ويقدّسه بكل جوارحه. لا يستطيع أن يعارض هذا الحكم أو يستنكره أو يتفكّر حتى في انعكاساته الوخيمة، لأن القرآن بالنسبة إليه كتاب إلهي وبالتالي فإن أحكامه نافذة إلى الأبد. هكذا بكل أريحية يأتينا فيلسوف عربي قدير، كنا ننتظر منه فكرا منفتحا ومتسامحا، وإذا به يُعِيد على مسامعنا، في القرن الواحد والعشرين، حكما تكفيريا بقي مُسلّطا كالسيف على رقاب المسيحيين منذ ألف وأربعمائة عام. لقد استعاد الجابري تجريحات يوسف زيدان على الكنيسة القبطية، وأضاف من عنديّاته تزويقات فلسفية، ثم ماح إلى نسطور الذي رأينا كيف هام به زيدان، وجعل منه مسلما موحدا. نسطور حسب الجابري كان «ناكرا ومستنكرا اعتبار مريم أم الإله ... لكن رجال الدين في الكنيسة القبطية بالإسكندرية، وكانت أكثر تعصبا لعقيدة التثليث، شنّوا عليه حملة قوية، فكانت النتيجة أن رفض المجمع الكهنوتي ». ورغم أن نسطور قد اقترب من عقيدة الإسلام فإنه، مع الأسف، لم يكن مسلما خالصا، وقد ألحَقَه الجابري باليهود الذين يؤلّهون عزيرا، والقرآن حسَم الأمر معهم نهائيا: كَفّرَهم جميعا. فعلا، القرآن جعل النسطورية «في مستوى واحد مع الفرقة اليهودية التي قالت: (عزير ابن الله)، ولذلك جمع بينهما في قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله .. الآية) ». ونفس المصير خضع له يعقوب البرادعي، مؤسس الكنيسة اليعقوبية، هذا على الرغم من أنه اقترب نوعا ما من الإسلام لكن عقيدة الطبيعة الواحدة للمسيح تُلحِقه بالكفار، أي بأولئك الذين قال فيهم القرآن (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم).
7. خلاصات وآفاق: الاسلام هو الدين الحق --------------------------- بعد أن قال إنه تَمكّن مِن جمْع «شتات حقائق تاريخية على درجة كبيرة من الأهمية » ـ وهو، في الواقع، لم يجمع أية حقائق ولم يأت بأيّ مرجع يُعتدّ به ـ ادّعى أنّ الغموض الذي كان يلفّ عقائد الأديان السابقة «قد زال، وأن كثيرا من الشكوك التي كانت تحوم حولها لم يعد هناك ما يبررها ». وهكذا فإن اليهود والمسيحيين الذين عاشوا حيارى لمدة ألفي سنة جاءتهم البيّنات والحلول لكل مشاكلهم اللاهوتية والأخلاقية من طرف الفيلسوف محمد عابد الجابري. أهمّ هذه الإشكالات التي قدّم لها حلاّ جذريا هي مسألة التبشير بمحمد نبي الإسلام في كتب الأديان السابقة. فعلا، بعد التجاذبات والأخذ والرد، الآن، يؤكد الجابري، هذه الحقيقة «لم تَعد تحتمل التكذيب بالطريقة التي كانت سائدة من قبل والتي كانت تعتمد على إقامة الحجة على أن الإنجيل ليس فيه مثل هذا التبشير ». ورغم أن الأناجيل التي بين يديه محرّفة، فإن الجابري متيقّن، من أنها بشّرت بمحمد، وأكثر من ذلك، المسألة تتعدّى التبشير بمحمد لكي تخترق قلب العقيدة المسيحية وتضربها في الصميم أي عقيدة التثليث، وهنا فقد تكاتف اليهود والهراطقة المسيحيون الأوائل، وعلى رأسهم آريوس، للتصدّي لهذا المعتقد . فالآريوسية التي لُوحِقت واضطُهِدت لمدى قرون، ثم انحصرت في جيوب ضيّقة من العالم العربي، بقيتْ على تلك الحال حتى أتتها الفرصة لكي تعود من جديد وتطرح فكرة النبي المنتظر الذي تشخّص في محمد. هذا أمر طبيعي، يُسمّيه الجابري، مرسوم في دينامية التاريخ: «فقد كان من الطبيعي أن يقفز أصحاب المذهب المرفوض قفزة إلى الأمام يتجاوزون بها النقاش حول طبيعة المسيح عيسى. وهكذا طرحوا فكرة النبي المنتظر الذي بشّرت به نصوص بعض الأناجيل تصريحا أو تلميحا، أو على سبيل التأويل ـ لا فرق، لأن الإيمان بعقيدة دينية يكفي نفسه بنفسه، فلا يحتاج إلى برهان عقلي أو تاريخي! ». أينما توجّه المسيحيون وحيثما وُجِدوا فإنهم، حسب منطق الجابري، مُلزَمون بأن يَقبلوا بمحمد: إنجيلهم محرف، لكن بعض الشذرات الطفيفة جدا حافظت على ذكر محمد، وإذا غاب ذكره صراحة، فيمكن الأخذ بالتّلميح، إذا لم يكن هناك تلميح، فثمّة التأويل، وبالتالي لا مَهرب لهم إلاّ بالاعتراف، وإذا غابت كل هذه العناصر فلا حرج، لأن المسلم غير محتاج للبرهان العقلي أو التاريخي. ماهي المهمّة العاجلة الآن؟ وماذا تبقّى في جعبة الجابري من اقتراحات وحلول؟ بعد أن سَحل اليهود والمسيحيين ومرّغ معتقداتهم في التراب، وكفّرهم بنص القرآن، وأعلن انتصاره النهائي على أعداء غائبين، طفِق يتحدّث عن التسامح والانفتاح، انطلاقا من موقع الدوس على مقدسات الآخرين: «أما علاقة الإسلام بكل من اليهودية والمسيحية فهي ـ كما تتحدّد بنص القرآن وليس كما يفهمها المفسرون .. ـ علاقة تحكمها شجرة نسب واحد: جذعها المشترك ابراهيم الخليل، شيخ الأنبياء، وفروعها الأنبياء المنحدرون من صلبه. قال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى ابراهيم واسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) ». وهكذا فإن القرآن هو الحَكَم الفصل، وهو المُخَوَّل لإعطاء دروس لأهل الأديان الأخرى، ومن حقّه بالتالي أن يدعوهم للانضمام إليه وتَبنِّي ما يقوله هو عن دينهم، ويَتخلّوا عن كُتبهم المحرّفة. والمسيحيون، على وجه الخصوص، أن يَنبذوا عقيدة التثليث، ويَكفروا بألوهية المسيح، يعني أن ينتحروا انتحارا لاهوتيا بطيئا. ماذا تَبقّى إذن من الانفتاح والتقارب إذا أصرّ الجابري على موقفه هذا من الأديان؟ لا شيء إلاّ كلاما عموميا فضفاضا، وذرّا للغبار على العيون من قبيل: نحن اخوة في الدين، ولا داعي للصراع في هذه المسائل اللاهوتية، وتَعالوا نتصالح ونُعيد المياه إلى مجاريها، ودَفَعَ الله ما كان أعظم: «هل ندعو إلى نوع من رجوع المياه إلى مجراها؟ إلى قيام مصالحة بين حفدة إبراهيم الخليل! ». العبرة النهائية هي هذه: «على كل حال هناك مثل مغربي، ولعله عربي وعالمي، يقول: "لا يختصم إلاّ الإخوة"، والغريب لا يختصم مع الغريب لأنه لا شيء يربط بينهما ». ومع ذلك فإن هذه الدعوة لنبذ الاقصاء والعنف هي في اتجاه واحد، لأنه في الصفحات الأخيرة من كتابه عاد إلى نفس الموقف وزاده شحنة من التعصب والعنف والعدوانية لا مثيل لها. العدل بالنسبة إليه هو قتل الناس جميعا شرّ قتلة، خصوصا اليهود: «فإن العدل يقتضي أن يكون عقاب الذين يحاربون الله ورسوله من اليهود ... أشدّ من قتل النفس الواحدة »؛ الرحمة هي أن تُطبّق عليهم هذه الآية (وإنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ... الآية)؛ والمسيحيون أن يُسحَل دينهم وتُنزَل العذراء والمسيح إلى الحضيض، دائما انطلاقا من القرآن الذي يؤكد باستمرار «على بشريّة عيسى في عدة آيات ». وأن عيسى ما قتلوه وما صلبوه بل قتلوا شبيهه، وأن عيسى أعلن نهاية مُهمّته قبل أن يُرفع إلى السماء فحطّم حياته وحيوات أتباعه إلى الأبد، لأنه بَشَّرَ بِنَبِيّ بعده اسمه أحمد؛ وأن اليهود كفار لأنهم قالوا إن عزيرا ابن الله، والنصارى كفّار لأنهم قالوا إن عيسى ابن الله ، وسلّملي على الانفتاح والتسامح والتآخي.
-------- مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية والإيطالية للقرآن بالتسلسل التاريخي وكتابي الأخطاء اللغوية في القرآن وكتبي الأخرى: https://sami-aldeeb.com/livres-books
#سامي_الذيب (هاشتاغ)
Sami_Aldeeb#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أخطاء القرآن اللغوية: 2) الأخطاء الإملائية، أو اصابة الله با
...
-
الأشرار الأربعة: وثانيهم يوسف الصدّيق
-
حوار مع الأستاذ الدكتور محمد المزوغي
-
أخطاء القرآن االغوية: 1) الإبهام، أو عندما يتكلم الله صيني
-
الأشرار الأربعة: وأولهم يوسف زيدان
-
عزيزي المسلم 7: الخاتمة
-
عزيزي المسلم 6: هوس التقديس
-
هل القرآنيون يلجؤون للتقية أم مهووسون؟
-
عزيزي المسلم 5: مجتمع المسلمين
-
الأشرار الأربعة: يوسف زيدان، يوسف الصدّيق، محمد عابد الجابري
...
-
عزيزي المسلم 4: ثقافة القطيع
-
نزلاء العصفورية
-
هل هناك أخطاء لغوية في القرآن؟
-
عزيزي المسلم 2: تجربة فكرية
-
تحريف القرآن
-
عزيزي المسلم 2: تبادل الخرافة
-
عزيزي المسلم 1: جغرافيا المسلم
-
ردي على مسلم غيور: اتمنى لك خروجًا سريعًا من سجن الإسلام
-
من هو مؤلف القرآن؟
-
لماذا لا ينشر المسلمون القرآن بالتسلسل التاريخي؟
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|