أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شذى أحمد الجباعي - المتنبي بين الصاحب بن عبّاد(385) والحاتمي(388)















المزيد.....



المتنبي بين الصاحب بن عبّاد(385) والحاتمي(388)


شذى أحمد الجباعي
باحثة أكاديمية

(Shatha Ahmad Al Jebaie)


الحوار المتمدن-العدد: 6575 - 2020 / 5 / 27 - 21:32
المحور: الادب والفن
    


بسم الله الرحمن الرحيم
ما زالت قصائد الشّعراء تشغل قريحة النقاد والأدباء بالدراسة والمعارضات، فدبروا معانيها وأغراضها وحاولوا الكشف عمّا فيها من خصائص وسمات تميّزها من غيرها.
وقد تأكّد لنا أنَّ الشّعر العربيّ جدير بأن تقام لبعض مقوّماته دراسة. خاصة وأنَّه لقي من استحسان القدماء والمحدثين من النقّاد ما يجعله جديراً بالعناية. ولعلّ أبرز القضايا التي تطالعنا هنا هي قضية سرقات المتنبي وتتبّع ساقط شعره التي لطالما كانت الشغل الشاغل لدى المتذوقين للأدب والنقاد عموماً. وقد كانت قائمة على تضاد يجمع بين البرهنة على ضرورة اتباع اللاحق للسابق، وبين نفي هذه الفكرة بالحكم عليها بأنّها سرقة تنافي أخلاقي الشّاعر. وقد كانت نصوص المتنبي الشّعريّة مجالاً غنياً وأرضاً خصبة للإجراءات النقدية القديمة التي تزعّمها عدد من العلماء، ومن أهمّهم:
1- القاضي الجرجاني ( 366 هــ).
2- الصاحب بن عبّاد: (385 هــ).
3- أبو علي الحاتمي: ( 388هــ ).
4- ابن جنيّ: (392 هــ).
وسنتناول في هذا البحث رسالة الصاحب بن عبّاد التي عُنونت بـ ( الكشف عن مساوئ شعر المتنبي)، ورسالة أبو علي الحاتمي المُعنونة بـ ( الرسالة الموّضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره).
وسنعمد إلى المقارنة بين هاتين الرسالتين لنتبيّن أهم المآخذ التي أخذها كل من الصاحب والحاتمي على المتنبي، ومن ثمَّ نتبيّن مدى صحة ما ذهبا إليه ومدى موضوعيته.
ولعلّ سبب اختياري لهذا الموضوع هو الشّاعر المتنبي نفسه، شاعر الأنا الذي أحدث ضجّة كبيرة في الأوساط الثقافية والنقديّة، فأحببت أن أتبيّن لأي مدى تجنى عليه النقّاد، وإلى أي مدى كانوا محقّين في مقولاتهم ومآخذهم.
وتطلّعت من خلال هذه الدراسة إلى تحقيق الأهداف الآتية:
1- التعرف على المتنبي الشّاعر الكبير مالئ الدنيا وشاغل الناس.
2- التعرف على رسالة الصاحب بن عبّاد ومضمونها.
3- التعرف على مضمون رسالة الحاتمي وسبب تأليفها.
4- بيان مدى تجني كل من الصاحب والحاتمي على المتنبي.
كما أنّني جعلت من رسالة الحاتمي والصاحب مصدران أساسيّان، بالإضافة إلى عدد من المصادر الأخرى التي أثْبَتُ فيها فهرساً خاصاً في نهاية هذا البحث. ووجدت عدداً كبيراً من الدراسات التي عنيت بقضية المتنبي وقضية سرقاته وتلقيه ولكن كل تلك الدراسات لم تكن تعمد إلى مقارنة بين ناقدين تناولا المتنبي؛ ولذلك كانت هذه الدراسة جديدة من هذا المنظور.
بداية لا بد لنا من الوقوف في محطة الشّاعر الذي هو محور دراستنا، فبين أيدينا شخصية عظيمة، تركت معالم بارزة في الفكر العربي والإنساني وقد سمت هذه الشخصية بعطائها إلى مرتبة السمو، ألا وهي شخصية المتنبي، لتكون هذه المحطة بوابة الولوج إلى موضوعنا الرئيسي.


الصاحب بن عبّاد ( الكشف عن مساوئ شعر المتنبي):
أولاً: التعريف بالصاحب بن عبّاد( 385 هــ):
هو "أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن بن عبّاد بن العباس بن عباد بن أحمد ابن إدريس الطالقاني؛ كان ندرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه" ، وزير الدولة البويهيّة وأديب مرموق. هو أوّل من لُقّب بالصاحب من الوزراء، لأنّه صحب الفضل بن العميد، فقيل له صاحب ابن العميد، ثمَّ أطلق عليه هذا اللقب ( الصاحب) لمّا تولّى الوزارة. تتلمذ على يد أبيه عبّاد، ومن ثمَّ على يد أبي الفضل بن العميد، وأيضاً أخذ دراسة الأدب وتذوّقه من أبي الحسن أحمد بن فارس اللّغوي. كان الصاحب علماً من أعلام الأدب وكان متحمّساً للمعتزلة ومناصراً لهم. وقد جلب له ذلك العديد من الخصوم. ومن أبرزهم أبو حيّان التوحيدي. وبالمقابل هنالك العديد من الكتّاب والأدباء والشّعراء الذين كانوا يشيدون بخصال الصاحب وأدبه ومن أبرزهم الثعالبي في كتابه يتيمة الدهر.
له العديد من المؤلّفات، أهمّها:
1- المحيط: ويقع في سبع مجلدات، ورتّبه على حروف المعجم.
2- الكافي الرسائل.
3- الإمامة.
4- الوزراء.
5- رسالة الكشف عن مساوئ شعر المتنبي.
وهذه الأخيرة هي محور بحثنا وهي التي أظهر فيها تحاملاً كبيراً على المتنبي وعلى نصّه الشّعري، وتعتمد رسالة الصاحب "على ذوق مؤلفها واستجابته الأدبيّة أكثر مما تعتمد على منطلقات نظريّة محدّدة في نقد الشّعر. وربّما تصلح لأن تسلك في تاريخ التذوّق الأدبيّ أكثر من النقد الأدبيّ، لأنّها مجموعة انطباعات لا يربط بينها رابط فكري." والقارئ لهذه الرسالة إذا أراد أن يحيط بها علماً عليه أن يحيط بسبب وضعها ومضمون متنها وقيمتها في ميزان النقد.
ثانياً: أسباب وضع الرسالة:
يذكر الصاحب في مقدمة رسالته السبب الذي دفعه إلى كتابة الرسالة، وهو طلب واحد من مجالسيه الذين كانوا متعصبين للمتنبي أن يقيّد مآخذه على شعر المتنبي، إذ يقول: " وكنت ذاكرت بعض من يتوسّم الأدب في الأشعار وقائليها والمجوّدين فيها؛ فسألني عن المتنبي فقلت: إنّه بعيد المرمى في شعره كثير الإصابة في نظمه إلّا أنّه يأتي بالفقرة الغرّاء مشفوعة بالكلمة العوراء فرأيته قد هاج وانزعج،... وادعى أنّ شعره مستمرّ النظام، متناسب الأقسام. ولم يرض حتّى تحدّاني فقال: إن كان الأمر كما زعمت فأثبت في ورقة ما تنكره، وقيّد بالخط ما تذكره. لتتفحصه العيون وتسبكه العقول ففعلت، وإن لم يكن تطلّب العثرات من شيمتي، ولا تتبّع الزلّات من طريقتي" .
هذا السبب الذي أفصح عنه الصاحب في مستهل رسالته، " إلّا أنَّ أبا منصور الثعالبي الذي يعتبر واحداً من الذين تتبّعوا الحراك النقديّ آنذاك ، يرى أنَّ تأليف هذه الرسالة كان ردّ فعل صدر من الصاحب جرّاء عدم احترام المتنبي له، وعدم الإذعان لطلبه المتمثّل في زيارته ومدحه شريطة أن يقاسمه ماله.... فاتخذه الصاحب غرضاً يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبّع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعى عليه سيّئاته وهو أعرف الناس بحسناته وأحفظهم لها..." .
ثالثاً: متن رسالة الصاحب بن عبّاد ومآخذه على المتنبي:
القارئ لمتن الرسالة يرى فيها نقداً لاذعاً للمتنبي في نصّه الشعري، يستهلّها صاحبها بالإشادة بابن العميد(360هــ) ؛لأنّه في نظره يعتبر مثالاً في النّقد. كما يحدثنا الصاحب في معرض انتقاده للمتنبي عن بيئات متنوعة كانت سائدة في عصره، وكل واحدة منها تدعي العلميّة والتفوق على غيرها في معرفة خبايا الشّعر والأدب، فكان نقد الشّعر صفة يدّعيها العالم والجاهل على السواء، وكلّ له شاعر يمدحه ويعلي من شأنه، ويذمّ غيره، أو يحط من قدره، يقول:
" وقد بلينا بزمان يكاد المنسم فيه يعلو الغارب، ومنينا بأعيار أغمار اغترّوا بممادح الجّهال، ولا يضرعون لمن حلب العلم أفاويقه والدّهر أشطره، لا سيّما علم الشّعر، فإنّه فويق الثّريا، وهم دون الثّرى، وقد يوهمون أنّهم يعرفون، فإذا حكموا رأيت بهائم مرسلة ونعائم مجفلة"
وقد كان الصاحب في هذه الرسالة لا يكتفي بنقد الأبيات، بل يلجأ إلى تحليل هذه الأبيات ناقداً الحروف والكلمات، ويجمع بين المعنى وتخيّر القافية والوزن، ثمَّ يشرع في إظهار مساوئ المتنبي في نصّه الشّعريّ ، والتي عابها عليه. كما أنّ هذه الرسالة تضمنت الحديث عن نقد الشّعر عند الكتّاب باعتبارهم القادرين على تمييز جيّد الشّعر من رديئه.
من مآخذ الصاحب على المتنبي:
1-سرقته لمعاني المحدثين:
فقد اتهم المتنبي بأنّه كان يأخذ معاني المحدثين وينسبها إليه وينكر أنّه أخذ هذا المعنى منهم، ومثَّل لذلك بسرقة المتنبي من البحتري و غيره من الشّعراء، يقول:
" يعاب أنّه كان يأخذ من الشّعراء المحدثين كالبحتري وغيره جلُّ المعاني، ثمَّ يقول: لا أعرفهم ولم أسمع بهم، ثمَّ ينشد أشعارهم فيقول هذا شعر عليه أثر التوليد" .
إنّ اتهام الصاحب للمتنبي بسرقته لمعاني المحدثين لا يمكن أن يكون دقيقاُ فالمتنبي أكبر من أن يسرق من غيره من الشّعراء، وهذا تراه واضحاً جليّاً في تتبّعك لقصائده ومعانيه. وإن افترضنا أنّ قول الصاحب صحيح فما يغفر للمتنبي تلك السرقة أو ذاك الأخذ أنّه لم يكن يأخذ المعنى كما هو تماماً بل كان يضيف من روحه عليه ويقدّمه بحلّة جديدة وبأسلوب جديد، وهذا مما ينفي عنه تهمة السّرقة. وكما يقول د. محمد عبد الرحمن شعيب – في أحد اقتباساته من كتاب أسس النقد الأدبي عند العرب- : " تنتفي عن الأديب مذمة السرقة .. إن تناول الفكرة من سابقه فأخرجها في أسلوب جديد وعبارة لم يسبق إليها."
2-استعمال الألفاظ الوحشية والنابية، كاستعماله للفظة المسبطر في قوله:
رِواقُ العِزّ فَوْقَكِ مُسبَطِرٌّ
وَمُلْكُ عَليٍّ ابنِكِ في كمَالِ

فيقول الصاحب عن هذا: " ولعل لفظة الاسبطرار في مراثي النساء من الخذلان الصفيق" .
إنّ لفظة الاسبطرار بمعنى الامتداد وهي لفظة مستعملة كثيراً وخاصة في عصر الدولة العباسيّة، وهذا يتنافى مع ما ذهب إليه الصاحب من أنّ هذه اللفظة قبيحة في البيت وتسيء إلى المعنى. وأنا سأذهب مع ما قاله ابن فورجة: "وليت شعري أيُّ خذلان في أن يكون رواق العز فوقها مسبطراً؟،... ولا خذلان فيما صحّ واستعمل ... فهذا من نخوة الوزارة، وليس من باب العلم" . ويقول الواحدي: "سمعت أبا الفضل العروضي يقول سمعت أبا بكر الشّعراني خادم المتنبي، وردَ علينا، فقرأنا عليه شعره، فأنكر هذه اللّفظة، وقال: قرأنا على أبي الطيب: رواق العز فوقك مستظلّ، قال العروضي: وإنّما غيره عليه الصاحب، ثم عابه به، وعلى هذا فقد سقط ثقل اللّفظ وكراهة المعنى" .
وإن كان ما ذكره الواحدي صحيحاً فهذا يدلّ على عدم صدق الصاحب وبعده عن الموضوعية التي هي من أساس صفات الناقد. كما أنّ هذا يدلّ على صحة ما ذكرناه من أنّ سبب تأليف الرسالة هو عداء شخصي بين الصاحب والمتنبي.
3-استعماله للألفاظ المعقّدة والمبهمة، ومن ذلك وصفه للفرس:
وتُسْعِدُنِي فِي غَمْرَةٍ بَعْدَ غَمْرَةٍ
سَبُوحٌ لَها مِنْهَا عَلَيْهَا شَوَاهِدُ

فتكرار كلمة غمرة لم يستسيغه الصاحب ولذلك وصف هذا البيت بالتعقيد والإبهام، غير أنّه لم يقدّم شرحاً واضحاً، إلّا أنّه أردف هذا البيت بقوله:
" وما أحسن ما قال الأصمعي لمن أنشده :
فما للنوى جد النوى قطع النوى
كذاك النوى قطاعة لوصال

لو سلّط الله على هذا البيت شاة لأكلت هذا النوى كله."
وقد عدت إلى شرح هذا البيت في عدد من الكتب التي تحدثت عن ديوان المتنبي وتبيّن لي أنّ الصاحب لم يكن صائباً في حكمه من أنّ تكرار لفظة غمرة تعدّ من التّعقيد والإبهام، فهي تعني الشدّة ، ومعنى البيت أنّ هذه الفرس في خلقها أشياء تشهد بأنّها من كرائم الخيل، والسّبوح التي كأنها تسبح لشدّة جريها. فأين التّعقيد والإبهام في هذا الوصف؟ برأيي لا يوجد أيّ تعقيد فيه.
4-الإبهام على طريقة الصوفية في كلامه، واتباعه طريقة الفلاسفة في شعره:
ويتجلى ذلك في جمعه لأسماء عدة مستعيناً بقدرته العقلية على الاستنباط وتوظيف هذه الأسماء في نصّه، ويتضح هذا في قوله:
وأنتَ أبو الهَيْجَا بن حَمْدَانَ يَا ابنهُ
تَشَابَهَ مَولُودٌ كَرِيمٍ وَوَالِدُ

وحَمدَانُ حمدونٌ وحَمْدونُ حَارِثٌ
وَحَارِثُ لُقْمَانُ وَلُقْمَانُ رَاشِدُ

ويعلّق الصاحب على هذين البيتين مجرّداً صاحبهما من كلّ فضل ويرى أنّهما " من الحكمة التي ذخرها أرسطاطاليس وأفلاطون لهذا الخلف الصالح وليس على حسن الاستنباط قياس" .
إنّني لا أوافق الصاحب فيما ذهب إليه، فهذان البيتان ليس فيهما ما يسيء للمعنى، ولا يوجد فيهما أيّ إبهام، وسأوافق ابن فورجة في قوله معلّقاً على هذين البيتين:
" ليت شعري ممّ أتعجب؟ من استقباحه ما هو أحسن شعره أم تهزّئه الذي لا يليق بما نحن بصدده؟ ......ما الذي استقبحه؟ وقد جارني بعض أهل العلم، فقال: استقبح قوله: حمدان حمدون، وحمدون حارث، وليس في حمدان ما يستقبح من حيث اللّفظ ولا المعنى. ولنسلّم له أنّ حمدان وحمدون لفظتان مستهجنتان، فكيف نصنع ، والرجل اسمه هذا؟ .... وقد كان الذنب في ذلك للآباء لا للمتنبي" .
5-سرقته للألفاظ:
فقد عاب عليه الصاحب أنّه كان يسرق ألفاظ الشّعراء الآخرين ويزجّها في شعره ويدّعي أنّها ألفاظ محدثة وليست مستعملة:
"شَوَائِلَ تَشْوَالَ العَقَارِبِ بِالْقَنَا
لَهَا مَرَحٌ مِنْ تَحْتِهِ وَصَهِيلُ"

فهذا البيت في نظر الصاحب مسروق من قول بشار:
"والخيلُ شَائِلةٌ تَشُّقُ غبارَها
كعقاربٍ قَد رَفَعَتْ أَذنابَها"

ويعلّق على هذه السرقة قائلاً: " ضيّع التشبيه الصائب في ألفاظ كالمصائب" .
وربّما أوافق الصاحب في أنّ المتنبي لم يكن موفقّاً في اختيار ألفاظه في هذا البيت، ولكنّي لا أوافقه في أنّ هذه الألفاظ أساءت للمعنى وأنّها مسروقة من قول بشار، فالألفاظ متاحة أمام الشّعراء والأدباء جميعاً واستعمالهم للفظة نفسها في التّعبير عن معاني مختلفة لا يمكن أن نعدّها سرقة. وهذا ما يؤكّد عليه د. عبد الرّحمن شعيب في قوله: "والمعاني العامّة هي تلك المعاني الفطريّة التي لا يصحّ نسبتها إلى فرد دون فرد؛ لأنّها من البديهيّات التي لا يصح جعلها خاصة بطبقة من الطبقات أو جيل من الأجيال. وبذلك تنتفي عن اللاحقين هنا مظنة الأخذ والانتفاع من الآخرين."

6-الهجنة في الاستعارة، وذلك في قوله:
في الخدِّ أنْ عَزَمَ الخَليطُ رَحيلاً
مَطَرٌ تَزيْدُ بِهِ الخُدودُ مُحُولا

" فالمحوّل في الخدود من البديع المردود، ثمّ هذا الابتداء في القصيدة من النفور بحيث تضيق عنه الصدور" .
استعارة لفظ المحول إلى الخدود – حسب رأي الصاحب- تعتبر ثورة على عمود الشّعر، وخروج على مرتكزاته وهي سبب في ردّ وصدّ الشّاعرية عن الشّاعر. وهو يرى أنَّ هذه الاستعارة مردودة. ولكنّي أؤيّد ما يراه ابن فورجة من أنّ هذه الاستعارة ليست مستهجنة ولا قبيحة، وذلك حين يقول:
" وقد قال الصاحب ....ومن استرساله إلى الاستعارة التي لا يرضاها عاقل ولا يلتفت إليها فاضل: في الخدّ أن عزم الخليط ... فأيّ علم أفادنا بما قال غير هذا الكلام المسجوع الذي ما له مرجوع ... وما شاهدت أحداً من الفضلاء وذوي العقول يذمّه غير هذا الظالم ، فإن كان لا يرتضيه هو من بينهم وحده، وليس بأفضلهم ولا أعقلهم ، فلعلة ما ذاك" .
7-تعاظمه في شعره وافتخاره بنفسه، ويتجلّى هذا في قوله:
أنَا عَيْنُ المُسَوِّدِ الجَحْجَاحِ
هَيَّجَتْنِي كِلابُكُمْ بِالنُّبَاحِ

والصاحب لم يعلق على هذا البيت بل تساءّل قائلاً:
" أهذا البيت أشرف أم قول الفرزدق:
إنَّ الذي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنى لنَا
بَيْتاً دَعَائِمَهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ

بَيتاً زُرَارَةُ مُحْتَبٍ بِفِنَائِهِ
وَمُجَاشِعٌ وَأبُو الفَوَرِاسِ نَهشَلُ"

وكأنّ الصاحب في تساؤله هذا يفضل النصّ الشّعري الذي تتجلّى فيه روح الفخر بالقبيلة والجماعة لا بمدح الذات والتمركز حولها والتعاظم على الآخر. وأنا هنا أوافق الصاحب في مذهبه هذا، فالفخر بالجماعة أجمل من الفخر بالنفس الذي يحمل الشخص إلى الغرور والتعالي ممّا يؤدي إلى نفور الناس منه.
8-الخطأ في العروض:
يقول: " وفي هذه القصيدة سقطة عظيمة لا يفطن لها إلّا من جمع في ( علم) وزن الشّعر بين العروض والذوق وهو:
تَفَكُّرُهُ علمٌ ومنطقُهُ حُكْمٌ
وَبَاطِنُهُ دِينٌ وَظاهِرُهُ ظَرْفٌ

وذلك أنّ سبيل عروض الطويل أن يقع ( مفاعلن) وليس يجوز أن تأتي (مفاعيلن) في العروض إلّا إذا كان البيت مصرّعاً...." . وأنا أوافق الصاحب فيه من جانب وأخالفه من جانب آخر، فالجانب الذي أوافقه فيه هو أنّ عروض الطويل تقع ( مفاعلن) ولا تأتي ( مفاعيلن) إلّا إذا صُرّع البيت. ولكن أخالفه الرّأي في أنّ هذا خطأ من الشّاعر، فعلينا ألّا ننسى الضرائر الشّعريّة التي تدفع الشّاعر إلى التغير بالأوزان وبالقوافي أحياناً، وبالتالي هذا ليس سبباً لاتهامنا إياه بأنّه يجهل علم العروض والذوق.
9-رداءة التشبيه:
ويتجلى هذا في قوله: " ومن تشبيهاته المتناسبة في الخذلان قوله:
وشَوقٍ كالتّوَقّدِ في فُؤادٍ
كجَمْرٍ في جوانحَ كالمُحاشِ"

حيث شبّه حرارة شوقه بتوقد النار، وقلبه الذي هو محل الشوق بالجمر، وأضلعه المشتعلة عليه بالشيء المحترق. ولا أجد عيباً ولا رداءة في هذا التشبيه على نحو ما يزعم الصاحب. وإنّما هو تشبيه جميل ولطيف لشدة شوقه.

10-ركوب القوافي الصعبة: " ولا يزال يركب القول في الصعبة ثقة بالقريحة السمحة، فيبتدئ زائيّته بقوله:
كَفِرندي فِرْنِدُ سَيْفِي الجُرازِ
لَذَّةُ العَينَ عُدّةٌ للبِرازِ "

وسنذهب مع الصاحب في هذا المأخذ فقافية الزاي من القوافي الصعبة.


الحاتمي ( الرسالة الموضحة في كشف عيوب المتنبي وساقط شعره):
أولاً: الحاتمي (388 هــ):
"هو أبو علي محمّد بن الحسن بن المظفر المعروف بالحاتمي. ولد في بغداد، وتوفي فيها سنة (388هــ). تتلمذ على أبي عمر الزاهد غلام ثعلب، ويروي ياقوت أنّه أدرك ابن دريد وأخذ عنه. كما ينقل إلينا على لسان الحاتمي نفسه قوله:
( وقد خدمت سيف الدولة.... وأنا ابن تسع عشرة سنة .... ووزنت في مجلسه تكرمة وادناء وتسوية في الرتبه.... بأبي علي الفارسي ... وبأبي عبد الله بن خالويه ... وبأبي الطيب اللغوي ...)" .
" ولعلّ الحاتمي بعد أن غادر حلب عمل كاتباً في دواوين الوزراء في بغداد، وشغل نفسه بتصنيف مؤلّفاته النقديّة العديدة التي يدور معظمها حول الشّعر ، من أمثال ( حلية المحاضرة)، ( الهلباجة) ، ( سرّ الصناعة ) ، ( الحالي والعاطل) ، ( المجاز). بالإضافة إلى كتب أخرى في اللّغة والأخبار" .
ثانياً: الرسالة الموضحة وسبب تأليفها:
" الحاتمي يروي أنّه كتب المجلس الأوّل فور انتهائه منه، ورفعه إلى المهلبي ومعز الدولة البويهي. أمّا متى اتخذت ( الموضحة ) شكلها النهائي فلا ريب أن صورة من صورها كانت جاهزة ما بين سني 352 – 370 هــ، ... ومشكلة هذه الرسالة أنّها ليس لها تاريخ تأليف محدّد، .... ولكن الحاتمي يبين في مقدمته لـ ( الموضحة) أنّه يكتب هذه الرسالة بعد انقضاء مدة طويلة من حدوث المناظرات".
تذكر المصادر أنّ الحاتمي قام بتأليف هذه الرسالة بطلب من الوزير المهلبي الذي حرّضه على مهاجمة المتنبي حيث أنّ الحاتمي نفسه يصرّح بهذا في مقدمتها بقوله:
" سامني هتك حريمه، وتمزيق أديمه، ووكلني بتتبع عوراه وتصفح أشعاره وأحواجه إلى مفارقة العراق واضطراره كراهية لمقامه بعد تناهيه -كان- في إدنائه وإكرامه."
قرأ الحاتمي "شعر المتنبي قراءة نقدية جمع فيها مآخذ النقاد وأضاف إليها ما وجده من أغلاط في الألفاظ والمعاني، ... وبذلك تكون ( الموضحة ) رسالة نقدية، فضلاً عن كونها مجالس انتقادية"
" قد يجد المرء مطعناً على الحاتمي في أنه وظف هذه المناظرات في خدمة حاكم بغداد، ولم يجعلها خالصة لوجه النقد الأدبي، لكن هذا السلوك أيضاً ليس جديداً ولا فريداً"
ثالثاً: متن الرسالة ومآخذه على المتنبي:
الرسالة الموضحة أو جبهة الأدب تعد أول رسالة وافية صنعت في نقد شعر أبي الطيب، وهي مبنية على لقاءات حدثت بين المتنبي والحاتمي أثر عودة المتنبي من مصر إلى العراق.
يقرر الحاتمي أربعة مجالس جمعته مع المتنبي، وقد كان المجلس الأول يسمى ( جبهة الأدب) وهو أهم المجالس وأكبرها " يضم معظم التعريفات النظرية التي ذكرها الحاتمي .. ويحدد منهج المحاورة في المجالس التالية" وتلك المجالس الثلاثة التالية" كتبت بناء على طلب الرئيس أبي الفرج محمد بن العباس وأضيفت إلى المجلس الأول الذي دعي ( الرسالة الحاتمية)."
وهذه الرسالة – كما ذكرنا - لم تكن للنقد فقط، وإنما اجتمع فيها غرور الشباب وإرضاء صاحب الدولة. و كانت هذه الرسالة في مجملها قائمة على مجالس متخيلة يتردد فيها صوت الحاتمي الذي أراد إخراج المتنبي من دائرة الشّعر وتتبع سقطاته وسرقاته، وهو بهذا كان يحاول أن يبدي انتقاصه من المتنبي كي يطيح بسمعته ويوهم العامّة أن معظم شعره مسروق. وفي الوقت نفسه بيّنت مدى اطلاع الحاتمي ومدى قدرته على الحفظ للأشعار واللغة. وقد كانت هذه الرسالة الأساس الأوّل الذي وضع أبيات المتنبي المعيبة أمام أنظار النقاد الآخرين فكان كثير مما استخرجوه من الأبيات المستهجنة لدى المتنبي هو ما استخرجه الحاتمي.
ومن أبرز عيوب المتنبي وعيوب شعره عند الحاتمي:
1- الاستعلاء والتكبر والجبن والخوف، يقول واصفاً إياه عندما جاء إلى الوزير المهلبي للتخييم عليه وليقيم عنده:
" التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعَّر خدَّه، ونأى بجانبه، وكان لا يلتقي أحداً إلا نافضاً مذرويه، رافلاً من التيه في برديه... " .
ويقول الحاتمي أنه عندما اجتمع هو والمتنبي في مجلس واحد عند المهلبي كانت أنظار الناس تتوجه إلى الحاتمي وبدا على المتنبي الغيرة فجاء الحاتمي وقال له: " ابن لي مما تيهك وعجبك وكبرياؤك ... هل ها هنا نسب انتسب إلى المجد به، أو شرف علقت بأذياله... إنّك لو قدرت نفسك بقدرها... لما عدوت أن تكون شاعراً متكسباً. فامتقع لونه، وعصب ريقه، وجعل يلين في الاعتذار، ويرغب في الصفح والاغتفار ويكرر الإيمان أنه لم يشبتني، ولا اعتمد التقصير بي..."
إنّ مأخذ الاستعلاء والتكبر الذي اتخذه الحاتمي على المتنبي لا يمكننا أن نعده اتهاماً فهذه الصفة كانت إحدى صفات المتنبي التي اشتهر بها، أمّا بالنسبة للمأخذ الثاني - مأخذ الجبن والخوف- فإننا نلاحظ أنّ الحاتمي يحاول أن يضع المتنبي بصورة أجبن الجبناء حيث يتبين ذلك من قوله أنّه وبخ المتنبي توبيخاً شديداً حتى جعله يعتذر له. وسواء كان المتنبي على هذه الشاكلة – نعني الجبن والخوف والاستعلاء والتكبر- أو لم يكن فهذا أمر لا يعلي من قيمة شعره ولا يحط منها، وكان على الحاتمي أن يجانب أمور شخصية كهذه.
2- استعماله الألفاظ الجافية:
" ومن غزلك الذي باينت فيه مذاهب المطبوعين والمرهفين قولك:
رِبَحْلَةٍ أَسْمَرٍ مُقَبَّلُهَا
سِبَحْلَةٍ أَبيضٍ مُجَرَّدُهَا

فالربحلة العظيمة الجيدة الخلق، والسبحلة الطويلة العظيمة... لذلك تستهجن هاتان اللفظتان في ألفاظ المحدثين لأنهما من ألفاظ العرب الجافية.." .
فالحاتمي يعيب على المتنبي استخدامه للألفاظ الجافية التي تستهجن في ألفاظ المحدثين وخاصة في غرض الغزل. وهذا الأمر لا يمكننا إنكاره للحاتمي فالألفاظ التي نلاحظها في البيت فعلاً هي ألفاظ مستهجنة وغير مستساغة وخاصة في الغزل، فما الفائدة من أن يذكر ألفاظاً لا تفهمها من يتغزل بها؟!

3- قبح التشبيه: " ومن قبيح التشبيه قولك تصف كتيبة:
ومَلْمُوْمَةٌ سَيْفِيَّةٌ رَبِيعِيَّةٌ
تَصيْحُ الحَصَى فِيْهَا صِيَاحُ اللّقالِقِ

وأنا لا أرى قبحاً في هذا التشبيه، ولكني أرى فيه ضعفاً ؛ لأن صوت صياح اللقالق لا يتناسب مع صوت وقع خيول الفرسان التي تستعد لخوض المعارك.
4- استعماله ساقط الكلام ومعجمه:
"صَغّرْتَ كلّ كَبيرَةٍ وَكَبُرْتَ عَنْ
لَكَأنَّهُ وعَدَدْتَ سِنَّ غُلَامِ

فهذا من النسخ الغلق القلق، وهو مع قلقه مأخوذ من أعذب لفظ وأسلمه" .
إنَّ المعنى جميل، ولكني سأوافق الحاتمي بأنّه من المعاني الصعبة والمغلقة التي تحتاج لإعمال العقل لإدراكها.
5- التكلّف والتعسف:
" ومن خروجه المتكلّف المتعسف الذي باين مذاهب المحدثين قوله:
أُحبّكِ أوْ يَقُوْلُوا جَرَّ نَمْلٌ
ثَبِيرَ أوٍ ابنُ إبراهيمَ رِيعَا

ريع من الروع. فما ابعد هذا الكلام من الإحسان، وأشدّ مباينته للبيان وأدّله على ضيق عطن قائله وعلى فساد تخيّله..."
في هذه النظرة لشعر المتنبي نرى معنى من معاني وحدة القصيدة التي يؤكد ويصرّ عليها الحاتمي في انتقاده فيرى الحاتمي أنّ هذا التكلّف والتعسف يظهر حين " لا يستطيع الشّاعر أن يترك الفرصة للصور والمعاني كي يتوالد بعضها من بعض أثناء الانتقال من الغزل أو وصف الرحلة والراحلة إلى المديح".
6- الخطأ في الاستعارة واستعمال الاستعارة القبيحة، ومن ذلك ما يقوله:
" وأخطأت في قولك:
ألَيْسَ عَجِيباً أنّ وَصْفَكَ مُعْجِزٌ
وَأنَّ ظُنُونِي في مَعالِيكَ تَظْلَعُ

فاستعرت الظلم لظنونك، وهي استعارة قبيحة، وتعجبت في غير متعجب منه، لأن من أعجز وصفه لم يستنكر تصور الظنون وتحرها في معاليه."
الحاتمي في هذا المأخذ يوضح ويحدد أنّ الاستعارة المستحسنة هي التي موقعها في البيان فوق موقع الحقيقة.
ولكن " مما يدل على اتساق فكر الحاتمي – في الجانب النظري على الأقل – أنه استخدم التفريق بين الاستعارة والحقيقة مقياساً للتفريق بين المبالغة والغلو".


7- المعاظلة في الكلام عن طريق الاستعارات الغريبة، ومن ذلك قوله:
شَرَفٌ يَنْطِحُ النُجومَ بِرَوقَيْـ
ـه وَعِزٌّ يُقَلْقِلُ الأَجْبَالَا

فيرى الحاتمي أنه أخذه من قول أبي تمام وأفسده:
"
همَّةٌ تَنْطَحُ النجومَ وجدٌّ
آلفٌ للحضيضِ فهو حضيضْ

قال وبأي شيء أفسدته؟ قلت: بأن جعلت للشرف قرناً. قال: وأنّى لك بذلك؟ قلت: ألم تقل: ينطح السماء بروقيه؟ والروقان: القرنان؟ قال: أجل، إنما هي استعارة. قلت: نعم، هي استعارة خبيثة."
8- يعيب الحاتمي على المتنبي أيضاً أنه يجري في شعره مجرى الفلاسفة في كلامهم وذلك عندما قال أنه سرق من أرسطو قوله: " (من كان همه الأكل والشرب والنكاح فهو بطبع البهائم) فقال المتنبي:
أرَى أُنَاساً وَمَحْصُولِي عَلى غَنَمٍ
وَذِكْرَ جُودٍ ومحْصُولي على الكَلِمِ"

طبعاً هذا كلام غريب واستقصاد واضح. فأي حكيم قد يطابق قوله قول حكيم آخر خصوصاً إذا كانت حكمة جلية معروفة كحال السابقة، وهذا ما تجده في الرسالة الحاتمية، فكل معنى لقول من أبيات المتنبي طابق قولاً لشاعر آخر قال الحاتمي عنه سرقة، وهذا ليس صحيحاً.
نقد وتقويم وموازنة بين نتائج الصاحب والحاتمي
أولاً: رسالة الصاحب بن عبّاد:
حاول الصاحب في رسالته هذه أن يسم نقده بالموضوعية، وعدم تغليب الهوى عليه، وقد سلك في ذلك مذهباً نقدياً حاول من خلاله أن يقتفي ويسير على منهج أستاذه ابن العميد في نقد الشعر. فنجده يوظف منهج الموازنة والمقارنة بين أبيات المتنبي وأبيات الشعراء السابقين عليه، أو من معاصريه، دون أن يفصل في تحديد أوجه جمالية هذه الأبيات. فهو يكتفي بالإشارات والعبارات التي تجعل من أبيات المتنبي في مرتبة أدنى. وهو في كل مقارناته تلك لا يستند إلى منهج معين أو إلى معيار محدد بل ينتقده في لفظه أو في معناه دون أن ينظر في مطابقته لمقام وسياق صياغته بقدر ما يسعى إلى تصوير أبيات المتنبي في صورة ساخرة.
" وإذا كان الصاحب قد تجنب الغامض من الشعر، وتجنب ذكر السرقات، وتجنب المعالجة النظرية لمبادئ النقد، وتجنب ذكر محاسن شعر الشاعر، وتجنب مناقشة أقوال النقاد فيه – فماذا بقي للرسالة أن تقول؟ إنها لا تقول شيئاً أكثر من أن تخبرنا عن حقد الصاحب على الشاعر."
إنّ الصاحب سخر من المتنبي وهذا ليس من أخلاق الناقد الموضوعي، فهو لم يذكر للشاعر حسنة من حسناته بل تتبع هفواته وسقطاته وبالتالي لم تكن رسالته نصاً نقدياً بمفهومه الأكاديمي، بل كانت نصاً مملوءاً بالعداء.
لا شك أنَّ الصاحب كان مدركاً تمام الإدراك في نقده لشعر المتنبي أنّه يواجه شخصية علميّة بلغت أوج الإبداع، وهذه المكانة المرموقة التي وصل إليها المتنبي جعلت منه محط الأعين من قبل كل فئات مجتمعه وعصره. فسعت إليه الملوك بالرسائل والهدايا، وسعى إليه النقاد بين مادح له وناقم عليه. وما هذه الرسالة إلا تجسيد لهذه الفترة، بل هي وثيقة تاريخية تصور لنا تلك الحلقات الثقافية والأدبية التي بلغها عصر المتنبي.
الصاحب بن عبّاد رأى المتنبي من زاوية ضيقة – لحاجة في نفسه- لذلك جاءت أحكامه النقدية ذاتية بعيدة عن الموضوعية التي نادى بها علماء النقد قديماً وحديثاً حيث ارتكز على النقد البلاغي ليبين للقارئ زلّات المتنبي وهفواته في نصّه.
ثانياً: الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره:
إنَّ السرقات التي سجلها الحاتمي على المتنبي ليست ذماً في شاعريته. بل هناك من يرى أنَّ السرقة فن لا يقدر عليه إلا المتمرسين به.
وعموماً فإن نقده لكلمات المتنبي وألفاظه غالباً ما كان يرتكز على اللفظة في موضعها وحسن وقعها في السمع، سواء في تلك التي اتهمه فيها بالأخذ والسرقة، أو التي ادعى له بها الابتداع المخل. وهو ما يظهر وعيه في أهمية النظر في الكلمة ومطابقتها للمعنى الذي يريده الشاعر.
وقد عمد الحاتمي في هذه الرسالة إلى الموازنة بين المتنبي وغيره من الشعراء المحدثين وهم أبو نواس والمتنبي والبحتري وحاول التأكيد على أن المتنبي قد سرق من هؤلاء الشعراء معانيهم وألفاظهم. ويرى الحاتمي أنّ "إساءات أبي الطيب أكثر من إساءات أبي تمام" كما أنّه جعل "أبا نواس مثالاً في لطفه في الأخذ.... بإزاء المتنبي الذي يجعله الحاتمي مثالاً للإساءة في الأخذ" . وقد كان المتنبي ينكر هذا الأمر ويقول أنه لا يعرف هؤلاء الشعراء ولم يسمع بأحد منهم قبل ذلك.
لم ينجح الحاتمي بتحقيق هدفه من هذه الرسالة فهذا الهدف لم يكن علمياً ونقده لم يكن نقداً منصفاً . فالهدف منها هو الحط من شأن المتنبي ومنزلته ومكانة شعره، وهذا ما يثؤكد عليه محي الدين صبحي بقوله: " وقد قام الحاتمي بهذه الجولة الواسعة ليضيّق الخناق على المتنبي ويضائل من قامته بأن ينتقص من شاعريته بمقاييس الإجادة جميعها.. كل ذلك ليسوّغ رأيه بأن جيد المتنبي مسبوق مسروق وأن ما يسلم له من إتباعه غث ساقط، وهذه تهمة إذا استطاع الحاتمي أن يثبتها تقتلع المتنبي من أرض الشعر، وتسقطه من عداد الفحول." ولكنه فشل في تحقيق ذلك، ولم يزده هذا الأمر إلا رفعة وشهرة وهذا ليس بأول حاسد له يخيب مسعاه.
في النهاية لا بد لنا من الإشارة إلى أن كل من الصاحب بن عبّاد والحاتمي اشتركا في كثير من المآخذ التي اتخذاها على المتنبي ومن ذلك استعمال المتنبي للألفاظ المعقدة والمبهمة والتي تجري في استعمالها مجرى الفلاسفة، أيضاً استخدامه التشبيهات القبيحة – على حد تعبير كل منهما – بالإضافة إلى جنوحه نحو استخدام الاستعارات الغريبة والمعاظلة في الكلام، كما أنهما ركزا على الخطأ في العروض وركوب القوافي الصعبة والتكلف والتعسف والركاكة.
ولعلّ هذا التشابه الكبير بين الرسالتين يعود إلى أنّ الصاحب بن عباد اتكأ على رسالة الحاتمي التي سبقت رسالته.
موازنة بين رسالة الصاحب بن عبّاد ورسالة الحاتمي:
نوع المقارنة الكشف عن مساوئ شعر المتنبي الرسالة الموضحة
موضوع الرسالة الحديث عن سرقات المتنبي وسقطاته في شعره الحديث عن موضوع سرقات شعر المتنبي
سبب التأليف طمع الصاحب بزيارة المتنبي له وتمنع المتنبي عن ذلك وعدم اهتمامه به. طلب الوزير المهلبي من الحاتمي أن يقيد سرقات المتنبي وهفواته.
منهج المؤلف كتبها بطريقة ساخرة وكانت عبارة عن عدة مآخذ أخذها الصاحب على المتنبي وكان يركز فيها على اللفظة وموضعها وحسن وقعها في الأذن بالإضافة إلى مطابقتها للمعنى الذي يرمي إليه الشاعر. كتبها بطريقة تهكمية وساخرة جداً وكانت عبارة عن مناظرة بين الحاتمي والمتنبي. كان الحاتمي يركز فيها على قضية المعنى والفهم والانتحال.
هدف الكاتب منها الحط من شأن المتنبي وقدره. الحط من شأن المتنبي وقدره.

المآخذ المشتركة بين الحاتمي والصاحب
1- الاستعارات الغريبة والبعيدة.
2- التشبيهات القبيحة.
3- التكبر والاستعلاء والتعاظم في الشعر.
4- التكلّف واحتذاء طريقة الفلاسفة.

المآخذ المختلفة بين كل من الناقدين
رسالة الصاحب بن عبّاد رسالة الحاتمي
سرقة معاني المحدثين الجبن والخوف
سرقة الألفاظ من الشعراء الآخرين قلة الاطلاع والمعرفة الثقافية
استعمال الألفاظ الغريبة والجافية
المعاظلة في الكلام







خاتمة البحث
مما تقدّم فقد توّصل البحث إلى النتائج الآتية:
1- إن التراث الأدبي المتعلق بأبي الطيب المتنبي يعد من أكثر القضايا أهمية وخصوبة. فقد كان المتنبي محور الحركة النقدية منذ القرن الرابع الهجري وحتى يومنا هذا.
2- إنَّ أهمية وعظمة شعر المتنبي هي ما جعلت النقاد ينطلقون لدراسة هذا الشعر نقداً وشرحاً وتأويلاً.
3- إنَّ الحركة النقدية التي دارت حول المتنبي تمركزت على شعره وشخصيته.
4- اتهام المتنبي بالسرقة أمر غير دقيق. وأكبر دليل على هذا هو تراجع الحاتمي نفسه عن رسالته الموضحة ليكتب رسالة جديدة سميت بالرسالة الحاتمية كان هدفها الدفاع عن المتنبي وشاعريته.
5- معظم السرقات التي نسبت إلى المتنبي ترد إلى أحد أمرين:
أ‌- إما أن تكون نوعاً من توارد الخواطر.
ب‌- وإما أن تكون معاني مشتركة بين الشعراء.
6- إنَّ حسنات المتنبي يذهبن سيئاته وبما أنه شاعر كبير كان من الطبيعي أن يكون له أعداءٌ كثر.
7- المتنبي وإن كان أخذ المعاني من غيره فهو قدمها بحلة جديدة وصاغها صياغة مبتكرة وأفاض عليها من الروعة لذلك سارت أبياته وذاعت.
8- لا يختلف أحد على أنَّ شعر المتنبي قول بشر فيه الحسن والجيد والرديء والسيء والقبيح، والحاتمي وابن عبّاد انتقدا رديء شعر المتنبي فأصابوا في بعض ما ذهبا إليه وليس في كلّه.
9- إن نقد الحاتمي وابن عبّاد لم يزد المتنبي إلا شهرة وإعجاباً من الناس بشعره.
10- لم يكن الصاحب ولا الحاتمي موضوعيين في نقدهما. فهما اتكئا على غيرة وردة فعل منهما على تعالي المتنبي وتكبره.
المصادر والمراجع:
1- الإبانة عن سرقات المتنبي. أبو سعد بن أحمد العميدي (433هـ). تحقيق: إبراهيم الدسوقي البساطي. دار المعارف – مصر. 1961م.
2- الاتجاهات النقدية عند شراح ديوان المتنبي القدماء. د.عدنان عبيدات. المكتبة الوطنية – عمان. 2002م.
3- الأمثال السائرة من شعر المتنبي. الصاحب بن عبّاد (385هـ). تحقيق الشيخ: محمد آل ياسين. مطبعة المعارف – بغداد. ط1. 1385 هـ - 1965 م.
4- التبيان في شرح الديوان. أبو البقاء العكبري (616هـ). ضبطه وصححه ووضع فهارسه: مصطفى السقا، و ابراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شبلي. مطبعة مصطفى بابي الحلبي – مصر . 1355 هـ - 1936م. ج4.
5- تلقي شعر المتنبي في الدراسات الحديثة. سعيد هادي سعد القحطاني. رسالة دكتوراه. جامعة اليرموك – الأردن. 2010م.
6- ديوان أبي تمام الطائي. أبو تمام (231هـ). تفسير: محي الدين الخياط. نظارة المعارف العمومية الجليلة – مصر. 1973م.
7- ديوان الفرزدق. الفرزدق (114هـ). شرحه وضبطه وقدّم له: علي فاعور. دار الكتب العلمية – بيروت. ط1. 1407هـ. 1987م.
8- ديوان المتنبي. المتنبي (354هـ). دار بيروت للطباعة والنشر- بيروت. 1403هـ - 1983م.
9- الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره. الحاتمي (388هـ). تحقيق: محمد يوسف نجم. دار صادر – بيروت. 1965م.
10- شاعرية المتنبي في نقد القرن الرابع للهجرة. محي الدين صبحي. مطبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي – دمشق. 1983م.
11- شرح ديوان المتنبي. الواحدي (468هـ). المدرسة الكلية البرلينية – برلين.1841م.
12- شرح ديوان المتنبي. عبد الرحمن البرقوقي. دار الكتاب العربي- بيروت. 1407هـ - 1986م. ج1-2- 3- 4.
13- أبو الطيب المتنبي في الشعر المعاصر. د.ثائر زين الدين. منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق. 1999م.
14- أبو الطيب المتنبي وماله وما عليه. أبو منصور الثعالبي (429هـ). تحقيق: محمد محيي الدين عبد المجيد. مطبعة حجازي – القاهرة. (د.ط).
15- الفتح على أبي الفتح . أبو علي محمد بن حمد بن فورجة البروجردي (455هـ). تحقيق: د. رضا رجب. مطبعة رند – دمشق. ط1. 2011م.
16- الكشف عن مساوئ المتنبي. الصاحب بن عبّاد (385هـ). تحقيق الشيخ: محمد آل ياسين. مكتبة النهضة - بغداد. 1965م.
17- المتنبي بين ناقديه. محمد عبد الرحمن شعيب. دار المعارف – مصر. 1964م.
18- المتنبي في ميزان النقد العربي. خذاري أمحمد. بحث منشور في مجلة مقاليد – الجزائر.العدد السابع. 2014م.
19- معجم الأدباء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب. ياقوت الحموي (622هـ). تحقيق: إحسان عبّاس. دار العرب الإسلامي- بيروت. ط1. 1993م. ج1.
20- الوساطة بين المتنبي وخصومه. القاضي الجرجاني (392هـ). تحقيق وشرح: محمد أبو الفضل ابراهيم، وعلي محمد البجاوي. مطبعة عيسى البابي الحلبي - مصر. 1386هـ - 1966م.
21- وفيات الأعيان وأنباء الزمان. ابن خلكان (681هـ). تحقيق: إحسان عبّاس. دار صادر- بيروت. ط1. 1971م.
22- يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. أبو منصور الثعالبي (429هـ ). تحقيق: محيي الدين عبد المجيد. مطبعة السعادة- القاهرة. ط2. 1956م.



#شذى_أحمد_الجباعي (هاشتاغ)       Shatha_Ahmad_Al_Jebaie#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد ...
- الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين ...
- -لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شذى أحمد الجباعي - المتنبي بين الصاحب بن عبّاد(385) والحاتمي(388)