|
المرأة المضطربة في رواية -الغربان والمسوح البيض- منى جبور
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 6573 - 2020 / 5 / 25 - 17:56
المحور:
الادب والفن
المرأة المضطربة في رواية "الغربان والمسوح البيض" منى جبور
ما يحسب للرواية أن كاتبتها امرأة، وغادرت الحياة وهي في بداية شبابها وعطائها، 1943 – 1964، بمعنى أننا امام موهبة شابة، كان يمكن أن تكون طفرة في عالم الرواية العربية والعالمية لو قدر لها أن تبقى، تم نشرت الرواية بعد رحيها بعامين، في عام 1966، وبالتأكيد فإن كتابتها كانت قبل هذا التاريخ، وهذا يشير إلى الطاقة الابداعية التي تمتلكها "منى جبور" وقدرتها على الدخول إلى أعماق المرأة. أجزم أن هذه الرواية تعد من أهم الروايات التي تتناول الحالة النفسية للمرأة العربية، فشخصية "كوثر" تعاني من عقدة اللون الأبيض عند النساء الأخريات، وتجد نفسها (بشعة) وليست جميلة، وهذا ما جعلها تقوم بعلاقة (سحاق) مع سلوى، من هنا نجد العنوان: "الغربان والمسوح البيض" متناسب مع مضمون وفكرة الرواية، يدخل "هشام" الأحداث، ويستطيع أن (يثير) مفهوم الحياة عند "كوثر" ويجعلها (تفرغ) ما فيها من ضغط، من خلال تفهمه لرسوماتها ولوحاتها، يقيم معها علاقة (حب) ويقنعها بأن تكون زوجته. ضمن هذه الفكرة تجري أحداث الرواية، لكن التفاصيل التي تحدثنا عنها "كوثر" الراوية الأساسية للأحدث، تظهر مقدرتها على إبداء ما فيها من مشاعر، وتكشف العديد من سلوكها واضطرابها، وهذا ما يجعل الرواية استثنائية، سأحاول تقديم صورة مبسطة عن (الحالة) التي تعانيها "كوثر" معتمدا على شواهد مما جاء في "الغربان والمسوح البيض". عقدة كوثر عقدتها تكمن في (عادية) شكلها وسمارها، فتتحدث عن (بشاعتها) في أكثر من موضع: "أنصت لضجيج وهم: ما أبشعك ما أبشعك، ...أنا بحاجة للصقيع، والموت" ص9، هذه العبارة ترددها "كوثر" في أكثر من موضع، وهذا يكشف (العقدة) التي تعانيها، والتي تكمن في عدم جمالها و (عادية) شكلها. وعندما يُريها "زميلاها "فؤاد" رسم خطيبته، تتأكد أنها ليست كباقي النساء الجميلات: "... وأنا أي رجل يرضى بحمل رأسي، أي رجل؟، أي رجل" ص13، وهنا تتنامى عقدة كوثر، فالنساء الأخريات يقمن علاقات حب مع الرجال، وهي لا تجد من يلتفت إليها.
وتحدثنا أكثر عن (بشاعتها): "...وأركض... واتحسس بثور وجهي، كأنها تتفتح وتتفجر وأركض.. ورائي خيالات مرعبة وتكربني وأفر منها، ورائي حطام المرآة وصوت فؤاد وقهقهة الخطيبة" ص20، هنا تتفاقم ازمتها، بحيث تعيش حالة من (الوهم)، تنعكس على سلوكها في الاماكن العامة، وعلى تعاملها مع الآخرين، وعلى نظرتها/رؤيتها لنفسها/لجسدها. في بداية تعرفها على "هشام" تقارن نفسها بالشقراوات: " وفجأة تفتحت عيناي على أشياء كثيرة، على صورة الشقراء التي كانت عند هشام أمس" ص66، فالمرأة تبقى امرأة وتحاج إلى من يهتم بها كأنثى، تحتاج إلى رجل يعطينا الحب والاهتمام، تحتاج إليه عاطفيا وجسديا، لكن (امكانيات) "كوثر" الجمالية، لا تلبي طموحها في تحقيق هذا المطلب/الحاجة. وعقدة اللون تبقى مؤثرة سلبا عليها، حتى بعد أن تتطور علاقتها بهشام: "ـ والأخريات.. كم امرأة لك.. كم شقراء" ص81، وهذا يشير إلى أنها تفتقد إلى بشرة جذابة، مما يجعلها (تشك) بأنها امرأة تمتلك ميزات/أشياء تفتقدها النساء الأخريات، فقدرتها على الابداع والرسم، لم يعطيها الثقة الكافية لتتحرر من عقدتها. لكن "كوثر" لا تثق بجسدها/بجمالها، فعندما يصارحها "هشام" بإعجابه ورغبته بها، تريد عليه: " ـ أنا غريبة. ـ أنت جبانة تهربين وتتسترين بوهم كبير. ـ أنا غريبة. ـ أنت جبانة وجبانة فقط. ـ ولأنني غريبة وجبانة أريدك يا هشام أن تمضي" ص77ـ رغم أنها وجدت من يهتم بها ويعطيها ما تحتاجه كأنثى، إلا أن (عقدتها) حالت دون أن تكون امرأة عادية/طبيعية. وبعد أن تتطور العلاقة بينهما، تكشف حقيقة عقدتها، بقولها: "... ـ هل كانت رفيقاتك جميلات ـ كن انيقات ويجدن الإيهام بأنهن جميلات ـ وأنت ـ كن يقلن لي أنني بشعة وعبوس ـ كنت تتألمين ـ كنت اتمزق وابكي" ص92، فائدة هذا الحوار "لكوثر" أنه جعلها تفرغ ما تحمله في صدرها من غضب/حزن/ألم، وهذه اللقاءات والحوارات بالتأكيد سيكون لها أثر إيجابي عليها وعلى سلوكها ونظرتها للحياة. وسنجد تطور ـ رغم أنه بسيط ـ إلا أنه يعد خطوة مهمة وضرورية بالنسبة لحالة كوثر. "ـ سأرقص حتى أنفجر وانهار وتحملني حملا "إلى البيت" ... ـ هل اقبلك يا كوثر ـ قبلني إذا شئت فأنا لا أحس برغبة في المبادلة" ص116، هذا (التطور) يعد خطوة في الاتجاه الصحيح، فقد استطاع "هشام" أن يجعلها تشعر بأنها امرأة، لهذا أخذت تمارس الحياة (الطبيعية) كباقي النساء. عندما يختليان معا، يتم هذا الحوار بينهما: "ـ لأتك تعريني أخافك ـ ولأنك تخافين من العراء سأعريك كل يوم ـ هشام ـ أحبك يا كوثر ـ أرجوك يا هشام .. أرجوك .. خبئ لي وجي.. ودست وجهي في صدره .. بكلت يدي حول ظهره وبدأت أجهش كطفلة" ص138، هذا المشهد يشير إلى أن "كوثر" تقدم في (فك) عقدتها، فها هي تجد "هشام" رجلها، وتسمع منه ما ترغب من كلام ناعم، وتجده يلبي رغباتها الجسدية، واعتقد أن بكائها فيه شيء من بكاء الفرح، وأيضا فيه شيء من الندم، على السلوك غير السوي الذي اقدمت عليه مع "سلوى"، وأيضا يحمل (الشك، عدم اليقين) بأنها وجدت من يهتم بها، خاصة أن وجهها غير جميل، لهذا قالت: "خبئ لي وجهي". الاضطراب ما دام هناك (عقدة) فلا بد ان تنعكس سلبا على سلوك الفرد، وعلى التعامل مع الآخرين، وهذا ما سنجده في تصرفات "كوثر": " كدت أسحق لفافة التبغ بين شفتي وأنا أمصها، كدت امزق السجل الضخم تحت يدي وأنا أوقع عليه... كدت أكسر الآلة الحاسبة وأنا أخبط عليها" ص14، بهذه العصبة والاضطراب كانت تتصرف "كوثر" (فضف جمالها) يجعلها (مستنفرة، متوترة). ما قالته عن نفسها، نجد فيه العصبية والتوتر معا، حتى وهي مع نفسها تعاني من الاضطراب: "دخلت وصرخت برسم والدي: "أنا هرمة وتعبة.. ركضت وتأملت وجهي على المرآة وبصقت عليه" ص29، وهذا ما يكشف أنها تعاني من عدة مسائل، غياب الأسرة، الأب والأم، عدم وجود رجل في حياتها، شكلها ولون بشرتها. تبين لنا حقيقة اضطرابها وانعكاسه على سلوكها: "وضحكت (لو تدري أيها الطفل أنها اساطيري ووليدة خيالي الكسيح، لو تدرك أني وحيدة أهرب من المأساة وأن خطيبي المهاجر كذبة اغطي بها انسحاقي ويبقى التحدي والغرور)" ص49، هذا (الاعتراف) مع الذات يكشف حقيقة "كوثر" وما تريده/تحتاجه من متطلبات عاطفية، فهي "تدعي" أنها تريد أن تقيم علاقة مع الرجال لأنها مخطوبة، لكنها في الحقيقة تكذب، فهي ـ بالبثور التي في وجهها، (وبشاعتها) لا تجد من يهتم بها، وإن وجد بالتأكيد لن ينظر إليها كباقي النساء، لهذا وجدت/اخترعت كذبة الخطيب المهاجر، لتبرر/لتقنع نفسها أنها هي من ترفض اقامة علاقة مع الآخرين، وليس الأخرين هم من يرفضون اقامة علاقة معها. وتأكيد على أنها تعاني، تقول في هذا المشهد: "ـ هل أنت خائف مني. "لا اعرف ـ ما أفعل؟ ـ اضربني ـ اضربك ـ ساعدني لأبكي" ص239، من خلال طلبها من هشام أن يضربها، تؤكد على أن هناك (أشياء/افعال) في حياتها غير سوية، تأثر عليها سلبا، وتريد أن تتحرر/تعاقب نفسها من خلال طلبيها (الغريب) "أضربني". وتعترف مباشرة بمرضها/بعقدتها من خلال قولها: "أنا ضجرة، ولا أقوى على الانتحار، الانتحار موقف معين له حدود، وضقت بنفسي، لماذا لا يأتي إنسان ما من الشارع ويقول لي أنت بحاجة للضرب مثلا ويضربني.. ويضربني ويوجعني وأبكي وأحس أن باستطاعتي أن أمشي وأن أغني وأن أرى بوضوح الشارع والبحر والشرفات المغلقة هناك" ص250. وهذا الاضطراب نجده حتى بعد أن تتوطد العلاقة مع "هشام" فنجد شيء من الغرابة في سلوكها: "اقتربت وتمددت على الأرض ورميت اريكة وراء رأسي وجرعت ملء فمي من قنينة الجن ـ اشربي بالكأس ـ لا أضيق التحديد" ص350، من هنا يمكننا القول أننا أمام امرأة تعاني نفسيا، ولهذا وضعها الخاص، إن كان في طريقة تفكيرها أو في سلوكها. حالة الحرمان والعقدة التي تعرضت لها "كوثر" لا يمكن أن تنتهي بسهولة أو بسرعة، فقد عاشتها منذ طفولتها، عندما كان الأطفال يقولون عنها "بشعة"، من هنا ستكون علاقتها الجسدية والعاطفية بهشام تحمل ذلك الاضطراب، وتعكس المعاناة التي مرت بها، وفيها اندفاع وشدة، وأحيانا رقة وهدوء، الحوار الذي دار بينها وبين "يولا" يكشف كيف تنظر إلى علاقتها بهشام: " ـ أنا ضجرة ـ بوجود هشام ـ أنا ضجرة.. عندما أكون ضجرة ينعدم الوجود كله ـ ليس من عادة ضجرك أن يستمر يوما كاملا ... ـ لقد أخبرنا هشام كل شيء ـ ماذا؟ ـ أخبرنا أنكما تعيشان معا في بيت واحد .. أخبرنا تفاصيل التجربة والمحاولة في الوصول إلى اللقاء .. أنا أكاد لا أصدق .. لا أصدق ...ـ هل بوعيك تقومين بهذا؟ ... ـ عندما تفقدين حاجتك إليه هل تحسين بميل لرجل آخر؟ ـ لرجل آخر ... لا.. ربما لإنسان آخر.. ـ لماذا تعاندين الارتباط الدائم به؟ ـ لا استطيع بيوم واحد، بساعة واحدة ، أو ربما بثانية واحدة وكلمة واحدة أن أقرر مصير عمر كامل...إذا أخذني بالرغم مني قد أخضع. المهم أن أشعر أنني اخضع وأن لا مسؤولية على كاهلي. ...هل تعاشرين هشام لتقرري موقفك منه أو موقفك من الارتباط بحد نفسه؟ ـ من الارتباط ...ـ لماذا إذن لا تقومان بالمحاولة بكاملها ...ـ لماذا لا تتعاشران جسديا؟ ...ـ قد لا استطيع يا يولا .. الجسد عندي وسيلة الربط" ص263 -267. من هنا ستكون علاقتها بالرجل/بهشام علاقة مضطربة، لكنها في الوقت ذاته تتجه نحو الحل والتخلص مما علق بها أوجاع ومعاناة. الجنس أيضا كان مشكلة عند "كوثر" فطفولتها تحمل ذكريات مضطربة عن أول تعرفها على الجنس: "كنت في العاشرة من عمري عندما أعطتني رفيقة لي كتابا جنسيا سرقته من مكتبة اخيها، قرأته بليلتين... أذكر بعد .. في الحمام كنت أضيء شمعة وأقرأ، كنت ارتجف وأقرأ، وعندما انهيته حلمت أن رجلا عاريا يركض ورائي في الملعب، كل ليلة صرت أحلم أن رجلا عاريا يركض ورائي" ص282، تحميل شيء أكبر من أن يُحمل، بالتأكيد سيكون له أثر سلبي على المحمول، وهذا ما حدث مع "كوثر" لقد تعرفت على شيء أكبر منها، من عمرها، مع عقلها، من جسدها، فانعكس سلبا عليها، وعلى نظرتها وتعاملها مع الجسد/الجنس، لهذا ستجد في الرجال (غول) يبتلعها، وقد عبرت عن هذا الأمر بوضوح عندما أخبرت "يولا" كيف تنظر إلى الزواج/الأزواج: "... في كل مرة أقرأ خبر زواج ما تعاودني التجربة.. أجدني فجأة أركض وأصرخ وأخبئ رأسي بيدي ومن ورائي أفخاذ عارية مليئة بالشعر والعرق تركض وتهددني بالشلل والقيء، حتى والدي عندما تزوج رأيته عاريا.. رأيته على صورة لإنسان الحجري الذي كنا ندرس عنه في التاريخ" ص283، لهذا اتجهت "كوثر" إلى السحاق مع "سلوى"، فهي تخاف الجنس مع الرجل، وتجدهم/تراهم بشعين/مرعبين، كما ترى نفسها بشعة، فنفورها منهم ومن ممارسة الجنس معهم، يتماثل مع نفورها من نفسها ومن وجهها.
"سلوى وكوثر" لهذا سنجد (انحراف) في فكرها وسلوكها تجاه الجنس، فتميل إلى جنسها، إلى الأنثى، فتحدثنا عن هذه العلاقة الشاذة في أكثر من موضع: "...لم أرد على انبساط شفتيها. تركتها تنسحب إلى غرفة نومي ولم اتحرك. تركتها تملأ صدرها بالعطر ولم أتحرك. عندما عادت وعبطت لي كتفي ورأسي تململت ونضجت بي شهوة دفينة. قالت لي: ـ سأمضي. أنت لا تودين رؤيتي اليوم" "لم أسحبها لتجلس" ـ أنا تعبة اليوم.." ص38و39، في هذا المشهد نجد إيحاء عن علاقة غير سوية بينهما، وكأن "كوثر" (تخجل) من الدخول إلى تفاصيل تلك العلاقة، أو أنها تحمل صورة بشعة/مخيفة عن الجنس فلا تريد أن تدخلنا إلى تفاصيله، حتى لو كان مع (جنس لطيف). وبعد أن تعرفت على هشام، تجد في نفسها الأنثى التي تريد أن تكون، فتلبي حاجتها بنفسها: "ودخلت بدونه بيتي ولأول مرة بقيت طويلا اتحسس جسدي في الفراش" ص167. وتحدثنا عن عدم قدرتها على ممارسة الجنس مع هشام/ فترسل له صديقته "كارمن" لتنام معه، بينما هي تذهب إلى "سلوى" لتأخذ حاجتها عندها: "ـ هل تستطيعي البقاء عنده الليلة. ـ إذا كان يرد. ـ لا تدعيه يشعر أنني طلبت منك هذا، أحضري بعد نصف ساعة، قولي أنك تأتين لزيارته ...ـ سأقضي الليلة عند سلوى ...غطيت وجهي واسرعت اجهز حقيبتي بثياب النوم، اسرعت أحمل كدسة مناديل ورقية واكدسها في المحفظة: المناديل تعوزني الليلة" ص294 و295، اللافت أننا نجد (خجل) كوثر أكثر، كلما تتحدث عن علاقتها بسلوى، وكأنها (تعتذر/تعترف بخطأ) ما تقدم عليه، لهذا (تكتم) الحديث عن الفعل، وتكتفي بالإشارات القليلة والعابرة. ونجد تعلقها بسلوى حتى بعد أن (نضوج) علاقتها "بهشام": "(لو أراك يا سلوى واتمدد معك على سرير واحد وأبكي أنا بينما ترفعين قدمك أنت في الفضاء وتقولين لي أنك اقتلعت شعرها البارحة)" ص362و363، وهذا ما يؤكد على أن "كوثر" شخصية ترى في الجنس (الطبيعي) شيء مخيف ومرعب. "كوثر ويولا" أيضا نجد علاقة غير سوية بين "كوثر" و"يولا؟ زوجة "ميشال"، فهناك حوار يشير إلى وجود شيء غير سوي بينهما: "ـ سندخل الليلة جنتنا يا كوثر. ـ بيتكم كله جنة... ... ـ الغرفة التي التقي فيها مع ميشال في دورة حاجتنا. ـ ولكن ليس فيها سرير.. ـ نمهد هنا للسرير وضحكنا... ـ كوني لطيفة مع زوجي وحذرة بغيابي" ص201،
حاجتها للرجل بعد ما تقدم من الحديث عن شخصية "كوثر" الأنثى، نجدها بحاجة إلى الرجل، وبما أن (شكلها/جمالها) لا يؤهلانها لتأخذ/لتحقق رغباتها، فإنها ستعبر عن هذه الرغبة/الحاجة من خلال العقل الباطن، بما تتلفظ به من عبارات وكلمات: "عندما وقفت كانت تتنازعني رغبتان، جاري والهروب منه، لم أجده، انعصر صدري وعبقت عيناي بالرطوبة والغشيان، رأيت رجلا مكانه، تأملته ولم يملأ لي عيني، ومن جديد تضاجعت رغبتي في الهروب مع رغبتي في رؤية عين اللوحة، لماذا أبحث التكشف والتعري؟ والتفت اميز العين التي تتأمل انصرافي كأنها ترغبه" ص31، إذا ما فككنا هذه الكلمات سنجد فيها المثنى والذي يشير/يحمل بين ثناياه فكرة الزوج، الذكر والأنثى/المرأة والرجل: "رغبتان، بالرطوبة والغشيان، التكشف والتعري"، ونجد ألفاظ لها علاقة بالجسد/بالجنس: "تتنازعني رغبتان، انعصر صدري، بالرطوبة والغشيان، رجلا، تأملته، يملأ لي عيني، تضاجعت، التكشف والتعري" وأيضا نجدها تستخدم لفظ "رغبة في أكثر من صيغة: "رغبتان، رغبتي (مكررة)، ترغبه" وهذا يشير إلى أن هناك رغبة/حاجة عند "كوثر" في أن يكون لها رجلها كحال بقية النساء. هذه الرغبة تخرج/تظهر عندما ترى/تشاهد الرجل، فما أن ترى "فؤاد" رغم أنه زميلها وتعرف طبيعة شخصيته، إلا أن (الأنثى) في "كوثر" تخرج من (قمقمها) وتبدي حاجتها ورغبتها: "...ولم يتكلم جمدت عيناه في وجهي، قاومت وملأني بالرجفة والدفء، هربت واحسستها تتسلل بعمق إلى مفاصلي، لماذا اتخبط وارتجف، حركت يدي، لم تتحرك، يبست وحط فوقها دفء تثقيل، اصابع فؤاد تكبلهاـ اصابعه المليئة للمرة الأولى بالخشونة والعزم" ص50، أيضا نجد ألفاظ وعبارات لها علاقة بالجسد/بالجنس: "قاومت وملأني، بالرجفة والدفء، تتسلل إلى مفاصلي، أتخبط وارتجف، وحط فوقها دفء ثقيل، أصابع، تكبلها، المليئة، بالخشونة" واللافت في هذه العبارات والألفاظ أنها تتحدث عن الجسد وليس عن الرغبة، كما هي الحال في المقطع السابق، "فكوثر" فهي تعبر عن حاجتها لجسد أكثر من حاجتها للحب/للعاطفة. ونجدها في موضع آخر تتحدث عن الرغبتين معا، الرغبة بالحب/بالعاطفة، والرغبة بالجسد/بالجنس، في بدابة تعرفها على "هشام" يصبها هذا الشعور: "أغمض عيني وبدأت أردد الصوت الحار: سأحبك يا كوثر كما لم أحب مرة في حياتي، ...اتخيل طراوة شفاه تتمسح بعنقي" ص84، وهذا تأكيد على أن "كوثر" المرأة بحاجة إلى الرجل/الذكر، بحاجة إلى الحب والجنس، العاطفة والجسد، وهذا الانسجام في الرغبات والحاجات هو عين الحقيقة، وقد أظهرته لنا بطلة الرواية في أكثر من شكل ولفظ وعبارة. وعندما تختلي بهشام تحدثنا عما جرى بينهما: "هبط إلى وجهي صدر دافئ اسمر، رميت رأسي عليه وانغرز أنفي في الحرش المشعر .. مررت بشفتي عليه.. لكت اطرافه بأسناني، لحوسته بلساني الجامد.. تنهدت فيه وارتد اللهاث إلى وجهي يدفئه ويرطبه وبسرعة غمرتني لذة البكاء والنوم والدفء بين منابت الشعر" ص99، في هذا المشهد تركز "كوثر" على الجسد/الجنس، حتى أننا لا نجد أي اشارة للحب/للعاطفة، فالمشهد جنسي أكثر منه عاطفة/حب، وهذا يشير إلى أنها من خلال تركيزها على الجسد، تحاول أن (تفرغ عقدتها العاطفة والجسدية) في الجسد، فحجم الحرمان/العقدة فيها يجعلها تنحى هذا بهذا الاتجاه. أما بخوص حديثها عن "لذة البكاء والنوم والدفء" فهو يأخذنا إلى سلوكها غير السوي مع "سلوى" فتعبر بالبكاء عن (ندمها/اعترافها بالخطيئة) على ما أقدمت عليه، وأيضا تعبر عن فرحتها بعدما حصلت على حاجتها من الرجل، وتعبر بالنوم على أنها تريد النوم الطبيعي/العادي، وليس النوم المتعب والمضطرب، والدفء جاء كتتويج للحياة الهادئة والكاملة. إذا تتبعنا كل ما سبق نجد "كوثر" تحدث عن الجنس وممارسته بطريقة إيحاء، فهي لا تدخلنا إلى التفاصيل، وتُبقي الحديث عنه وكأنه حديث عن شيء (ممنوع/محرم) وهذا المشهد يؤكد على هذا الأمر: "أحسني راغبة بالتمدد والاغفاء. وقفت. مططت ذراعي وسمعت صوت. كتفي يطقان. طردت من وجهي صورة كتفين يقعان عن جسدي. وقفت في عتبة غرفة النوم. قفزت وطالت سقف العتبة. تقدمت ولم أطق رؤية خيالي في المرآة. جلست على حافة السري تثاءبت. تثاءبت، تثاءبت. رميت ظهري إلى الوراء ورفعت قدمي إلى فوق، وأغمضت عيني" ص329، وهذا له علاقة بطفولتها وبكتاب الجنس الذي أثر عليها سلبا، فأخذت ترى الرجل عار يلاحقها. وبعد ان تتوطد العلاقة "بهشام"، تبدأ صورة الرجل تظهر بهية وجميلة، فتقدمه لنا بهذه صورة: "...تأملت ظهر قامته المنتصبة كعمود ضخم. بدأت ثيابه تزول ورأيته عاريا. لم ارتجف. حدقت احسسته مغرما وعابقا بالسطوة. زحزحت قدمي وبدأت أقترب بسرعة رأيته يستدير ويأخذني بين يديه بعنف. ـ أتريدنني بصدق؟ بدأت أبكي " ص344، هذا الاستسلام وبكاء الفرح، يعد تتويجا لخاتمة سعيدة، ونهاية لصراع نفسي، عاشته "كوثر منذ طفولتها، فوجدت في هشام/الرجل غير ما تركه فيها ذلك الكتاب، فكان منتصبا وعابقا. "هشام وكوثر" "هشام" مثل "كوثر" فنان، ويختلف عنها في أنه يقيم وعلاقات سوية مع النساء، فلا يعاني جنسيا مثلها، لكنه يحمل شيء من عدم اليقين/الفراغ، لعدم وجود امرأة استثنائية تختلف عن بقية النساء: "ـ كوثر. أنا ضائع ووحيد وأعيش كل يوم فوق جسد امرأة جديدة وأحلم بواحدة فقط، تكون لي عالما كاملا، أحلم بإنسان له جسد امرأة وقلب إله" ص82، وعندما يشاهد لوحات كوثر" يكتشف أنه أمام جوهرة (مدفونة)، فيحاول استخراجها وتبيان جمالها وأهميتها، يقول لها: "ـ أنا أحب بشاعتك الجميلة" ص100، هذا التلاقي بينهما يجذب أحدهما للآخر، وفي ذات الوقت يحاول كلا منها أن يتخلص من ماضيه، من ضياعه، من عقدته، فأثر "هشام" عليها كان مذهلا رغم بطئه: "ـ لأجلك يا هشام بت أحب هذا الانفتاح، لأجلك بت أحب هذه الحياة. وتشابكت أيدنا من تلقائها في عناق طويل" ص147، في المقابل كان أثرها على هشام سريعا وحاسما، لهذا تمسك بها رغم (نفورها/هروبها) فدائما كانت كلماته لها كلام جذب ورغبة وحنان: "ـ ...أريد أن أقول لك أنني أرفض وجودك معي كالأخريات أريد أن أقول لك أنني أريدك رفيقة لعمري" ص162، وإذا ما تتبعنا علاقتهما سنجد أن هشام كان هو عامل الجذب، بينما كانت "كوثر" تسير نحوه ببطء وأحيانا تتوقف أو تتراجع، وهذا خدم فكرة (قوة) الرجل، و(حيادية/سلبية) المرأة. عندما تحدثه عن "فؤاد" ـ رغم أنه رجل، ويمكن أن يكون منافسا له في النيل/الحصول عليها ـ: "وعندما انهيت أمسكني من أصبعي وعض طرفه بانطلاق وراحة. ـ أتدرين أنني لم أسمع حرفا وكنت أبحر في عينيك" ص164، بهذا يكون هشام قد أيقن أنه وجد (ضالته) بينما كانت "كوثر" (تراوح في مكانها، أو مترددة في خيارها وحسم أمرها، وأحيانا مندفعة. فؤاد والأنثى "فؤاد" ينظر إلى النساء كمتعة، كسلعة، في ظرفا ما يحاول أن يقيم (علاقة) مع "كوثر" ويأخذ منها حاجته كما أخذها من باقي النساء: "سأرقص حتى الفجر وانهار وتحملني حملا إلى البيت ـ أنت رائعة. ـ أحسنت فمن الأفضل أن يكذب كلانا ولففت يده على عنقي في السيارة، ورميت رأسي على عنقه ـ هل أقبلك يا كوثر ـ قبلني إذا شئت فأنا لا أحس برغبة في المبادلة ـ قد تحسين بعد قليل ـ أنتظر إذا... ـ ما هذا المكان قهقه بلوع ولؤم شديدين ـ مجرد مرقص ليلي يا كوثر .. مرقص .. ترقصين فيه وتنفجرين وتنهارين واحملك حملا إلى البيت. ـ اتسخر ـ لا .. أبدا .. أريد فقط أن تعرفي نفسك"116و117" وهذا التصرف/الموقف من "فؤاد" جعل رؤيتها م "لهشام" تأخذ شكل التردد والجمود، وليس الاندفاع والانجذاب. "كوثر" الرواية الأساسية للأحداث، تنحاز لجنسها كأنثى، فأحد أسباب نفورها من زميلها "فؤاد"، نظريته للمرأة المثلى التي يجدها ويريدها أن تكون: "خطيبتي فارغة وغير عذراء... ازداد عنفا: المرأة لوح زجاج لا يلحم إذا انكسر" ص161، بهذه الفكرة حطم "فؤاد" قلب "كوثر، وجعلها تتردد/تحجم عن الرجل. عنوان الرواية السياق الذي جاء به ذكر العنوان، منسجم تماما مع مضمون وأحداث الرواية وشخصية البطلة "كوثر": "شمس في منتصف الليل. لو تشرق الشمس مرة في منتصف الليل ونستغرق ونرى أن المطر يهطل والشمس تسطع وسط غيوم بقوة، وجوقة من الغربان ترتدي مسوحا بيضا لها زنانير مجدولة ومسرحة الاطراف، لعلني لا اشتهي هذا بقوة، قيمة الغربان أن تلبس الثوب الأسود، الأبيض لأسراب الحمام ولراهبات المحبة" ص361، عبارات وكلمات: "المنتصف، شمس في الليل، المطر يهطل والشمس تسطع، الغربان ومسوحا، الأسود والأبيض، الغربان والحمام" كلها تخدم في كرة الصراع، وهو ما كان في شخصية "كوثر". الرواية من منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1966.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عظمة التاريخ في كتاب -فخر الدين إن حكى- عزيز الأحدب
-
ماياكوفسكي الليلة الأخيرة
-
المرأة في رواية -هناك في شيكاغو- هناء عبيد
-
وتبقى أشجار الكرز تزهر في قلبي دوما -سمير عيسى الناعوري-
-
الشعر في ديوان قم واعتذر للبرتقال رضوان قاسم
-
كميل أبو حنيش رتل هذا النشيد
-
حجر يعبد لطفي مسلم
-
كميل أبو حنيش -لعلي أعود نهارا
-
عائلة من الروهينغا مصطفى القرنه
-
ذاكرة ضيقة على الفرح سليم النفار
-
رواية -صناء مدينة مفتوحة- محمد أحمد عبد الولي
-
عالم الشاعر سميح محسن في مجموعة -غبار على مرايا البحر-
-
إسماعيل حاج محمد وحروف المد
-
تفشي الثقافة الهابطة والرجعية
-
الفرح في رواية -من أنا- شذى محمد الشعيبي
-
الفلسطيني والاحتلال في رواية -جدار في بيت القاطرات- مصطفى عب
...
-
الثقافة الدينية في ديوان سدرة المشتهى إياد شماسنة
-
-نحن الوباء وأنت يا ملك الملوك لنا الدواء-
-
على سجادة من الغيم سامي الكيلاني
-
الذات في ديوان أنا والشمس وبكين مصطفى القرنة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|