نبذة عن فلسفة فريديريك نيتشه (الجزء الأول)

ردوان كريم
(Redouane Krim)

الحوار المتمدن-العدد: 6572 - 2020 / 5 / 24 - 16:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

"لا تبق في القاع
لا تعل عاليا
العالم دائما جميل من منظر متوسط"
ف. نيتشه

إن فهم فلسفة نيتشه يستوجب قراءة كتبه بتسلسل، لأن فلسفته هو نموذج من تفكير يتطور مثل تحول الطفل إلى رجل. و من يضيع كتابه الأول يضيع الوجهة التي يقصدها الفيلسوف الألماني. كما أن كتابه Human, all too human يعتبر نقطة تحول بسيط في مسار الفيلسوف من تمجيد الثقافة الألمانية إلى ما هو أسمى، أي تغير منعرج تفكير العصر الحديث. بدأ بكتابه"هكذا تكلم زردشت" مرورا برائعته "فتى العلم" وصولا إلى كتابه الأخير، المنشور بعد وفاته "إرادة القوة".


ولادة التراجيديا:

يعتقد نيتشه أن خلق الفن يعتمد على قوتان متعارضتان و هما: الأبولونية والديونيزية.

القوة الأبولونية من أبولو الذي هو إله النور و العقل في الميتولوجيا الإغريقية القديمة. فقد نسب إليه التفكير العقلي المنطقي، الإنتظام، و مباديء التحكم في الذات للطبيعة البشرية. نسب إلى إلى الفنون البصرية. الديونيزيا نسبة إلى الإله الإغريقي ديونيزوس الذي هو إله الخمر و الموسيقى. نسب إلى ما هو حسي، جسدي، عفوي، و خصائص الجانب العاطفي و الحسي للطبيعة البشرية. و قد ربطة به الفنون اللابصرية كالموسيقى. و عليه يعتقد نيتشه أن بدون الخصائص الأبولونية الفن الديونيزي ينقصه الشكل، الهيكل و البنية لخلق مقطوعة فنية متناغمة. و بدون الخصائص الديونيزية الفن الأبولوني ينقصه الروح، الشغف، الحيوية و النشاط. وعليه مهما إختلاف الديونيزي عن الأبولوني إلا أنهما مترابطان و متداخلان. يعتقد نيتشه أن سكان الإغريق القديمة لتجنب المعاناة قاموا بتهذيب الجانب الأبولوني لإعطاء الشكل و الصورة و تجسيد الأحلام بما يميز الجانب الديونيزي و الذي هو "أساس الوحدة و الانسجام". هكذا كان الإغريق القديمة جميلة بفنونها المتناغمة التي تنسيهم الألم و المعاناة. يعتقد نيتشه أن العصر الذهبي الإغريقي ممل و مضجر و متصنع بسبب تفوق العناصر الأبولونية على الجانب الديونيزي، فحسب نيتشه التوازن بين القوتين هو ما يصنع الفن الجميل. معتقدا أن أشيل "Aechylus" و سوفوكليس "Sophocles" هي من أعظم إنجازات الجنس البشري في ذلك الزمان لأنها جمعت بوئام الخصائص الديونيزية و الأبولونية.



لقد تطورت التراجيديا الإغريقية بعيدا عن التقاليد الدينية التي فتميزت بجوقة من المنشدين "the chorus" الذين يغنون و يرقصون مع بعض، حسب نيتشه تكتمل فقط حين يبتعد ممثل أو أكثر عن الجوقة فيكونون بذلك ممثلين تراجيديين. كورس تراجيديا اليونان القديمة ليس متفرجين مثالين كما يعتقد باحثي زمانه و لكن هو تجسيد "أساس الوحدة و الانسجام" عبر الديونيزي. فعندما نشهد سقوط البطل التراجيدي نشهد وفاة و إختفاء الفرد و إنحلاله في أساس الوحدة و الانسجام الديونيزي الذي يصنع الفارق باستحواذه على الخشبة. في اعتقاد نيتشه الدوافع الأبولونية هي من تمنح الشكل للتقاليد الديونيزية كالموسيقى و الرقص، و عليه وفاة البطل ليس سلبي ولا فعل تهديمي بل إيجابي، لأنه خلق و تأكيد الحياة عبر الفن.


يعتقد نيتشه أن العصر الذهبي للتراجيديا الإغريقية دام أقل من قرن ثم سقط بسبب تأثير أوريبيدس "Euripides" وسقراط "Socrates". كان أوريبيدس يتجنب أساس الوحدة و الانسجام الديونيزي و الطابع الخيالي الأبولوني، فقام بتحويل المسرح الإغريقي إلى قاعدة أخلاق و عقلانية. فقد كان أوريبيدس يجسد شخصيات بالضعف البشري المألوف بدلا من تقديم أبطال تراجيديين. في إعتقاد نيتشه كان أوريبيدس تحت تأثير سقراط الذي يعرفه نيتشه على أنه هو من خلق المنطق الغربي العقلاني. سقراط يدعي أنه لإثبات أي شيء نحتاج إلى العقل لإدراكه. الغرائز الحيوانية لدى الإنسان هي قلة فطنة و بصيرة، و هي أفعال خاطئة و قلة علم و حكمة. في رأي سقراط العالم يمكن معرفته و كل الحقائق يمكن إثباتها، و عليه يعتقد نيتشه أن سقراط هو مؤسس الطابع العلمي للعالم ، و تحت تأثيره تحولت التراجيديا الإغريقية إلى محادثات عقلية، وصلت إلى ذروتها التعبيرية مع محاورات أفلاطون.

العالم الحديث ورث التفكير المنطقي و التوجه العقلي من عند سقراط و فقد الحوافز الفنية الأبولونية و الديونيزية. و عليه أصبح العالم يسعى وراء المعرفة من أجل المعرفة معتقدا أن كل الحقائق يمكن إدراكها و شرحها بالفطنة و البصيرة. يظن نيتشه أن الفكر الحديث، العقلي، السقراطي، العلمي يعامل العالم على أنه شيء تحت تسير و تدبير العقل و المنطق بدلا من شيء أكبر من أن تستوعبه و تفهمه قدراتنا العقلية. في اعتقاد نيتشه كلمات كالمنطق و العقل هيمنت و سيطرت على العالم و هي تقدر فقط على استيعاب المظهر الخارجي و السطحي الأشياء متجنبة ماهية و قلب الأشياء كالعالم التراجيدي للموسيقى و الدراما، و قد قسم نيتشه الثقافة إلى ثلاثة أقسام هي:
الأليكسندرية "The Alexandrian" و هي الثقافة السقراطية. الثانية هي الثقافة الإغريقية The" Hellenic" و هي ثقافة فنية. الثالثة و هي الثقافة البوذية "The Budhist" و هي الثقافة التراجيدية.
يعتقد نيتشه أننا ننتمي إلى الثقافة الأليكسندرية التي هي مدانة و محتم عليها تدمير نفسها "Self-destruction". و لإنقاذ الثقافة العصرية من هدم الذات يجب إحياء روح التراجيديا.
عكس الأوبرا المعاصرة التي تظهر صغر عقل و ذكاء الإنسان المعاصر، يرى في شخصية ريتشارد فاغنر "Richard Wagner" أول مؤلف موسيقي معاصر يعبر عن دوافع الرغبة الإنسانية. و يتفق نيتشه مع أرثر شوبينهاور الذي يرى أن الموسيقى هي لغة عالمية تضع حس التجربة في أعلى مرتبة بدلا من المفاهيم و أن شوبنهاور قد سبق فاغنر إلى هذا التفكير. نيتشه يعتقد أن إيمانويل كانط قد أوصل التفكير المنطقي السقراطي إلى محدوديته، ولهذا ينظر إلى الثقافة الألمانية عى أنها قادرة على خلق عصر ذهبي جديد لأن كل من الثلاثة : فاغنر، شوبنهاور، و كانط كلهم ألمانيين.

إلى يومنا هذا ليس لدينا فهم مباشر للأسطورة "Myth" لأننا نستعمل مختلف المفاهيم العقلية كالأخلاق، العدل و التاريخ كوسيط لشرح و فهم الأسطورة. في تفكير نيتشه ثقافة عالمنا تعارض الفن حتى تحت تأثير الثقافة الإغريقية لأننا نميل إلى تفسير كل ما هو إغريقي حسب معايير و مقاييس منطقنا. و نقرأ التراجيديا على أنها تعبير عن الأخلاق، و قوى عقلية بدلا من تعابير أسطورية للخصائص الأبولونية و الديونيزية. كما يعتقد نيتشه أن الثقافة الحالية تفتقد إلى حس الروعة و الدهشة و إكتمال الحياة التي نجدها في الأساطير. و يدعو ناصحا إلى العودة إلى أعماق أنفسنا التي تتوافق مع الأسطورة، الموسيقى و التراجيديا.

ماذا نستخلص من "ولادة المأساة" أو "ولادة التراجيديا"؟

يحاول نيتشه أن ينبه العالم أن الخصائص الفنية الديونيزية تعتبر كافة ميزان ترجح الكفة ضد العقلانية المفرطة التي استحوذت على الفلسفة المعاصرة. و أن أهمية الحقيقة و المعرفة أخذت كمعطيات في البحوث الأكاديمية، و أن الأسئلة التي تأرق أغلب المفكرين هي كيفية تحقيق المعرفة و الوصول إلى الحقيقة. يتسائل نيتشه من أين أتى أصل هذا الاستفسار عن الحقيقة والمعرفة، و يجيب أنه من صنع التفكير السقراطي و نظرته إلى العالم.
يقدم الدافع الديونيزي حرية كاملة للعواطف و الرغبات ما يدخل المرء في بهجة بلا قيود، و يعتقد نيتشه أنه لا يمكن نقد الجانب الديونيزي حسب تقاليد التوجه العقلي، لأن الديونيزية تتموقع خارج العقلانية.

يتجه العالم المتحضر إلى رفض و إنكار الديونيزية، و لكنها مصدر أساطيرنا، عواطفنا، و غرائزنا، التي ولا واحدة منها مرتبطة بالعقل. يعتقد نيتشه أن الخصائص الأبولونية تحدث توازنا مع الديونيزية لأنها تشكل الجزء المتحضر في الإنسان، عكس الإفراط في العقل و الحضارة. و يحذر نيتشه أنه إن قام الإنسان برفض جانبه الديونيزي، بإسم العقلانية المفرطة، سيفقد أغلى و أعمق الخصائص للطبيعة الإنسانية. و يعتبر الفن كأرقى تعبير للروح الإنسانية و ليس فقط عملا إنسانيا. يركز نيتشه على ما هي الوجهة التي يجب الإلتزام بها نحو الوجود و العالم.
يتهم نيتشه عصره بعقلانية زائدة عن اللزوم، و أنها تتعامل مع الوجود أساسا على أنه موضوع و أغراض المعرفة ما جعل الحياة بلا معنى، لأن المعرفة و العقل نفسهما لا يفعلان شيئا لتبرير الوجود حياة و عالم. و يعتبر نيتشه أن الحياة تجد معناها فقط عبر الفن. و يعتقد أن الفن بكل أشكاله توسع و تنوع خبرة الإنسان و تجارب أكثر من الفلسفة و العقلانية. و يؤكد أن الوجود و العالم يصبح أكثر مفهومة و معنى فقط كتجارب فنية و ليس كمواضيع ووسائل للمعرفة. و يجزم أن الحياة تصبح ذات معنى و هدف فقط إذا عبر عنها من خلال الفن. حسب نيتشه الفن لا يجد لنفسه دورا في سياق الحياة الواسع ولكن العكس صحيح.
يهاجم نيتشه تقاليد الفلسفة الغربية بدأ من جذورها و ذلك بمهاجمة سقراط. فبالرغم من أن هنالك الكثير من الفلاسفة قد سبقوا سقراط، إلا أنه يعتبر بداية للعقلانية و المنطق كفرع فلسفي و علمي منضبط بطريقته المبنية على: الشك، الحوار، و التسائل العقلي المنطقي.

و بهذا يعترف نيتشه أن سقراط كان سببا في ولادة التقليد الفلسفي الواحد ولكنه معني بالتقاليد التى عمل سقراط على تعويضها بالمذهب المنطقي العقلي. و جاء هذا كتفسير لماذا لم تقدر التراجيديا الإغريقية القديمة على التعايش مع العالم السقراطي العقلي. لأن سقراط يفكر أننا نصبح أكثر إنسانية كلما أصبحنا أكثر عقلانية، أما الأسطورة، الخرافة، و التراجيديا تخرج عن نطاق العقل و المنطق. يعتقد نيتشه أنه منذ سقراط إلى غاية اليوم، الفلسفة تتبع مباديء الحكمة و العقل. و هكذا ينتهي نيتشه إلى القول أن الفلسفة لا يمكنها الوصول إلى أعماق الإنسان و يصف الفلسفة بالمطاردة التي لا غاية لها. مؤكدا أنا الحكمة الحقيقية لا يمكن الوصول إليها بالتفكير العقلي و إنما بإنحلال الروح و تغمسها في الفن بكل أشكاله.

#ردوان_كريم (هاشتاغ)       Redouane_Krim#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات