|
العالم وشروطه في سورة غافر
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6570 - 2020 / 5 / 21 - 13:18
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في قول الله تعالى من سورة فاطر (بسم الله الرحمن الرحيم* إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ) 28، أشار النص إلى مفهوم العلماء دون أن يضيف صفة كما فعل من نص أخر (علماء بني إسرائيل) كما ورد في سورة الشعراء (أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)الشعراء197، الفكر الإسلامي التحقيقي والتقليدي حصر بدون وجه حق بفئة من الناس من الذين يتعاطون بالدين وشؤونه بصفة خبراء أو فقهاء أو شراح أو مفسرين الخ من فنون ومعارف الفكر الإسلامي، دون أن يلاحظوا أن الله تعالى وبالنص عرفهم في الآية اللاحقة تعريفا تاما يزيل أي شبهة أو تأويل في غير محله (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ)29. ولكي نفهم معنى العالم الذي يخشى الله ونحدده على وجه اليقين غير مسألة تفقهه وعلمه بما في كتاب الله من أحكام وقيم وأفكار وعبادات ومعاملات، يشترط له أولا أن تتوفر به الصفات المذكورة في نص الآية دون أدنى شك أو تردد، وهي تلاوة كتاب الله وليس قراءته فقط فالتلاوة تعني التتبع وإتباع النسق الواجب في معرفة الأحكام وتطوراتها وكيفية صياغتها على وجه أكيد، لا تقديم لمتأخر ولا تأخير لمتقدم وألتزام، والترتل أو الترتيل بمعنى أن يكون كل ذلك يجري كالرتل في طبيعته يسير في خط واحد ومنسق. ثانيا إقامة الصلاة الواجبة قبل غيرها من المستحب والمندوب والنوافل، فهي مقدمة لكل شيء (إن صلحت صلح غيرها وإن فسدت أفسدت الإيمان كله، لأنها وبكامل دورها في إيمان المؤمن هو وجوب تحقق شرطها الأساس (أن تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) وما عدا ذلك لا صلاة قائمة لمصلي، فليس كل من صلى قبلت صلاته وليس كل من أتاها بشكلها المكتوب أو قاربها أو حاول ذلك مع إيمانه أن تنهي عن كل أشكال الباطل، لا تقبل ولربما كلمة صادقة تجسد جوهر الإيمان أفضل من ألف صلاة يراد لها الرياء والتظاهر وإشعار الأخرين بأن هناك من يصلي. وثالثا الإنفاق في سبيل الله سرا وعلانية ودون من ولا أذى، بمعنى أن لا يكون المتدين الذي يطلق عليه لقب عالم ممن يكنزون الذهب والفضة أو يسعون لها، أو ممن يسخر دينه وإيمانه لأجل ذلك وما أكثرهم في واقعنا اليومي وعلى أمتداد التجربة التاريخية لما يسمون اليوم علماء، ممن عاش تحت ظل السلطان وناصر الظلم والظالمين حتى يؤمن لنفسه عيشة مرفهة وحياة رغدة، وأن يكون ممن يطبق قول الله تعالى في البر (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). إذا بلغ الإنسان المؤمن كل ذلك فقد تاجر مع الله التجارة التي لن ولم تبور يوما وسيجزى خيرا منها في الدنيا والأخرة، ويمكن لنا هنا أن نقول عنه عالم بغض النظر عن كونه أرتدى لباس محدد أو أعتمر العمامة أو نزعها، كان بلحية أو بدون لحية حف الشارب أو أكرمه قال عن نفسه او لم يقل، وأيضا ليس شرطا ان يكون على دين محمد ص صادقا فالمطلق يسري على أطلاقه بما يعني أنه حتى يكون عالما يخشى الله على دين واحد من أديان أنبياء الله مؤمنا به وعاملا لأحكامه، فالعالم الحقيقي هو كل من أمن بيقين ثم جعل من إيمانه طريقا لله دون رياء ولا تزلف ولا سلطة ولا توجه لغير وجه الله، أيا كان وعلى أي طريق سلك. ربط الله تعالى في هذه السورة بين العلماء والكتاب ربطا لا ينفصم مؤداه (أن الكتاب هو مصدر العلم الديني ومنبعه)، وما التمسك بالكتاب من قبل العلماء على الخصوص إلا هو عملية توارث بين الأولين والأخرين (ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ)32، عندما يكون العالم حق وهو على طريق الإيمان الصحيح أن يؤمن بكل الكتاب الذي أستورثه ممن قبله ولا يفرق بين أحدا من رسل الله (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة 285. عندما نجد من يزعم أنه عالم وأنه على خط الإيمان الصحيح ومنهج الكتاب ويفرق بين الرسل أو بين كتبهم وينحاز لكتابة دون أي تحفظ أو من باب العصبية الدينية، فقد أسقط شرطا مهما من شروط الأعلمية لأنه فقد شرطا من شروط الإيمان الصحيح، فالكراهية والإقصاء والتحزب في دين الله تتناقض مع وحدة التشريع ووحدة الإيمان وتكشف الميول نحو العنصرية التي تؤسس للكراهية وتقصي المحبة والعمل الصالح من دائرة العلم وأخلاقيات العلماء، لذلك فكثيرا ممن لا يؤمنون بالله يقينيا وإن أظهروا خلاف ذلك ينحازون للأنا الذاتية (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) المائدة 82. الأستكبار العدواني وتعظيم الأنا وفقدان دافع التعارف والتشارك في الوجود الذي برر فيه الله تعالى حجة خلق الإنسان يخرج الإنسان من دائرة الحق والطبيعية، فكيف إذا كان رجل دين يؤمن بما يقوله دينه ويتمسك به فضلا عن كونه عالم كما يزعم بهذا الدين، فكما يقال أن الدين محبة وأن الدين معاملة فعلى رأس من يؤمن بذلك هم النخبة التي وصفها الله تعالى في الآية 29 من سورة الأعراف أنفة الذكر، فالكل من البشرية هم في الدرجة الأولى خلق خالق واحد على قاعدة واحد وأعتبار واحد (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) المؤمنون 52، التقوى ركن أساسي ومحوري في وصف المؤمن وضرورة حتمية لسلامة الإيمان اليقيني، إذا الدعوة للتقوى أيضا مرتبطة بكونية أن الله جعل من البشر أمة واحدة بالمفهوم الأبعد الكلي في النص. هذه المواصفات والأشتراطات التي وردت في منظومة الفكر الديني السليم فيما لو تفرت وتم الإيمان بها كحزم أخلاقية واحدة لا تنفصل هي المؤهل الطبيعي ليكون الشخص عالما، ومن ثم يخشى الله حق خشيته لأنه يجسد بها روحية وجوهرية العلم الذي يحمله ويدعوا به، أما مجرد أمتلاك العلم وحمله دون التقيد بأخلاقيات العالم مهما كانت عظيمة وغزيرة ومكثفة فإنها لا تنفع الإنسان ولا تسمح له أن يخشى الله ويتقيه، كما أنها تسقط عنه صفة العالم وتجرده من ميزة التفاضل على غيره لا بالعلم ولا بالتقوى.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرية البدء والعودة في سورة الروم
-
روايتي الجديدة ( عرف الديك) ح1
-
شذرات فكرية في سورة النمل
-
مظاهر السلطة والتسلط في المجتمعات الدينية
-
الزمن والزمن الأخر في سورة المؤمنين
-
ثلاث دروس من سورة الحج
-
نسخ أم فسخ
-
المغضوب عليهم والضالين
-
صورة الحياة الأخروية في النص القرآني
-
سورة الكهف بين الصورة والتصور
-
منهجية الدعوة لله في سورة الإسراء بين الترغيب والتخويف
-
الأمر الرباني بين الإلزام والألتزام
-
رواية (حساء الوطواط) ح 20 والأخيرة
-
جدل التوحيد في قصة يوسف ع
-
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في القرأن حقائق مغيبة وأفتراءات تاري
...
-
مصاديق مصطلح الكتاب.. قراءة في سورة هود
-
الدعوة الدينية وأساليب الجدل العقلي في سورة يونس
-
لماذا الكاظمي رئيسا...
-
الأستنباط المنطقي منهج الأنبياء وأولي الأمر في الكشف عن موضو
...
-
الراهنية الزمكانية في النص القرآني واثرها في ترتيب الحكم الش
...
المزيد.....
-
أشرف عبدالباقي وابنته زينة من العرض الخاص لفيلمها -مين يصدق-
...
-
لبنان.. ما هو القرار 1701 ودوره بوقف إطلاق النار بين الجيش ا
...
-
ملابسات انتحار أسطول والملجأ الأخير إلى أكبر قاعدة بحرية عرب
...
-
شي: سنواصل العمل مع المجتمع الدولي لوقف القتال في غزة
-
لبنان.. بدء إزالة آثار القصف الإسرائيلي وعودة الأهالي إلى أم
...
-
السعودية تحذر مواطنيها من -أمطار وسيول- وتدعو للبقاء في -أما
...
-
الحكومة الألمانية توافق على مبيعات أسلحة لإسرائيل بـ131 مليو
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. مقتدى الصدر يصدر 4 أوامر لـ-سراي
...
-
ماسك يعلق على طلب بايدن تخصيص أموال إضافية لكييف
-
لافروف: التصعيد المستمر في الشرق الأوسط ناجم عن نهج إسرائيل
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|