|
نظرية البدء والعودة في سورة الروم
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6569 - 2020 / 5 / 20 - 10:03
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في نظرية البدء والعودة التي سطرها القرآن قبل أن يأت العلم اليقيني ببراهينه ونظرياته التجريبية، هناك قضية محورية تتعلق في جانب منها بالشق الإيماني الغيبي، وهناك جانب منها ما يتعلق بالفهم الوجودي المادي العلمي للقضية، قضية البدء والعودة أو ما تسمى علميا بقانون حفظ الطاقة والمادة ترتكز على مبدأ أساسي ومهم وهو أن المادة في صورتها المطلقة الصغرى لا يمكن أن تفنى ولا تستحدث بل تتحول من شكل لأخر تبعا لتغيرات نمطية في بناء الوحدة المطلقة لها أي في بناء الذرة، وهذا ما لا تنكره نظرية البدء في القرآن بل هي أول من قال بها وإن صيغت بمفهوم نصي ديني (ٱللَّهُ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ) الروم 11، هنا ورد مفهوم الإعادة بمعنى أنه إرجاع الوجود في كل مرة إلى ذات التركيبة التي كان عليها قبل الخلق دون أن تتأثر أو تتغير بالتحولات الخلقية وتفاعلاتها، كما ينفي النص إمكانية الفناء أو الذهاب للعدم، طالما أن المادة تتحول فهي باقية على أصلها الأول وإن كان هذا الأصل قد يكون ولد من تحول سابق. النظرية العلمية بمنطوقها اللا نهائي لم تجد دليلا على العدم ولم تؤمن حتى أن يكون هذا المفهوم جزء من الحقيقة العلمية، لكنها تؤكد وتجزم بالتناقل ما بين شكليات الوجود، فما دامت المادة في وجودها الأصغر المطلق تتحرك وفق قوانين الحركة الجوهرية فهي حية قابلة لإنتاج الحركة خارجا وداخلا، أما لو أختل التركيب الكينوني الأولي لها ستتحول إلى شكل أخر مع بعض التغيرات النوعية، أي أنها تمون كمادة لتولد من جديد كطاقة، فهذا يخرج من هذا وذاك يخرج من هذا ودورة الوجود مستمرة على هذا المنوال، الإشارة للحياة والموت في القرآن لا تتعلق فقط بالإنسان والكائنات الحية فقط، فالأرض تموت وتحيا وغيرها من موجودات الوجود خاضعة لنفس القانون السالف، قانون التحول والتبدل (يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَيُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ وَكَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ) الروم 19. هذا الكلام ليس من باب إثبات معجزات القرآن ولا صحوة متأخرة مما بين أيدينا من نصوص ولكنها قراءة للغائب الذهني الذي عم بسطحيته وجزئيته العقل الديني حينما يحصر المسائل الكلية بجزئيات صغيرة ويظن أنه أخترق الوجود بنتاجه، ومن هذه القضايا مسألة الخلق بكماليتها وكينونتها فهو يظن كما في غالب ما أنتجه من فكر أن الوجود الحي والميت هو وجوده الذاتي كبشر، وأن ما يتكلم به الله عن البدء والعودة متعلق فقط بقضيته العقدية، فالخلق وما بدأ هو إشارة إلى خلق أدم والموت والحياة موته هو والعود عنده يتلخص بمفهوم يوم القيامة والخ من مفاهيم جزئية. في النص الأول نقرا ما يلي لنثبت أن العقل الديني لم يستوعب النص جيدا (ٱللَّهُ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ)، من النص أن الوجود يمر بثلاث مراحل متتالية بدء وعودة ورجوع على التوالي، أي أن النص لا يذكر بدء ورجوع كما هو السائد في الفهم العام، لا بد أن يعود الوجود المتحول إلى نقطة البدء الأولى، أي مرحلة ما قبل الخلق بكل قوانينها وشكلياتها وعلاقاته حتى يمكن للرجوع أن يتم وفق مرحلة مستجدة، وضرب النص مثالا ذهنيا وحسيا لهذه العملية ولكن أيضا تم أختزالها بنفس الطريقة السابقة (وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ) الروم 27. النص السابق تكلم عن حقائق علمية بالإشارة لها على أمل أن العقل البشري سيتدبر ويفهم من خلال الإشارة لهذه الحقائق، فالنص الديني ليس نصا علميا يشرح النظرية ويقدم البرهان بقدر ما يشير لقضايا تتعلق بالإيمان به من خلال هذه الإشارات التي من الممكن لعقل أن يبرهن عليها أو قد يثبت العكس فتعود بالضر على النص وتشكك من قاعدته الموضوعية، فالعملية التحولية التي تبدأ بالبدء والعودة ليست قضية أعجازية ولا من المحال الطبيعي لا عند الله ولا عند البشر، وقد أشار لذلك بكونها (هينة) والهين هي درجة تفاضلية أقل من (السهل والممكن)، ولكونها تعتمد على قوانين حتمية فهي تتحول بتلك القوانين ولا تحتاج حتى لتدخل فوقي أعجازي عظيم. النقطة الأخرى التي وردت في النص هي قضية (المثل) وسماه الأعلى للتفريق بدرجة الأهمية والإمكان على قضية إحياء وموت وبعث الكائن الحي، فكل ما موجود في السموات والأرض من أمتداد لا محدود ولا مدرك وبكل قوانينه التي لا نعلم منها إلا اليسير تتحول بتلك (الأهون)، إذا قضية موت البشر والكائنات الحية الأخرى التي لا تشكل جزء مهم في هذا النظام الكوني العظيم لا تشكل قضية ولا إشكالية عند الله (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) غافر57، وفي نص أخر مؤكدا هذا المبدأ والقدرة يقول (أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير )الأحقاف 33. تركيبة السماء والأرض وهنا لا بد أن نشير أيضا إلى مفهوم لم يلتفت إليه جيدا في تعريف معنى السماء ومعنى الأرض وإن كان لا بد لنا أن نعرج عليها لتكملة السورة، هي أشد تعقيدا وأوسع في مطاليبها وتفاصيلها أولا لأن العقل البشري بكل قواه لا يمكن أن يخترق مفهوم الأرض والسماء مع ما أوتي من علم وما تحصل من تجربة، فالأرض هنا كمفهوم قرآني ليست الكرة الأرضية كما هو منطبع عن غالب غالبية العقول البشرية، ولا السماء هو الغلاف الجوي المحيط بها، بل أن مفهوم الأرض هنا يعني المادة الصلبة أينما وجدت في الوجود والكرة الأرضية مصداق قريب وملموس ومحسوس فقط. أما السماء وهي الأكثر وردا في تعديدها في النصوص القرآنية وتعدد أوصافها فهي الجزء من الوجود الكوني الفارغ الذي تتخلله الطاقة فقط، الطاقة بكل أنواعها وأشكالها وتحولاتها الكونية، فهناك السموات العلى وهناك السماء الدنيا وهناك السماء التي خاطبها الله مع الأرض وقالتا (جئنا طائعين) وهناك ما هو يرى ولا يرى، والإشارة إلى الأقتران الدائم بين الأرض والسماء هو أشارة تامة وكاملة وحقيقية لكامل الوجود الكوني بكل عناصره وماهياته. لو رجعنا إلى النصوص القرآنية وقرأنا آيتين مهمتين في هذا الإطار سنشهد على أن نظرية القرآن في المادة هي الأسبق والأوثق حتى من النظرية العلمية الراهنة، فالنص الأول يثبت تناقص المادة الصلبة على الدوام (بَلْ مَتَّعْنَا هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۗ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) الأنبياء44، فالأرض وهنا المادة نتيجة الحركة الكونية لها من أنفجارات جرمية نتيجة تفاعلات الطاقة والحركة، وأيضا من أحتكاكها الدائم بما يحيطها من طاقة تنقص حجما لتتحول إلى طاقة، هذه الطاقة تنتشر في الفراغ الكوني المليء بها لتمدد السماء بمعن تتسع مساحة الطاقة على حجم المادة (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) الذاريات 47، فالله الذي بنى النظام الكوني ومنه السماء يخبرنا أن يوسع السموات بما نقص من الآرض بعموم المعنى نتيجة التحول المستمر ليصل بالنهاية إلى النتيجة العظمى (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) الأنبياء104. إذا المسألة محسومة بالعودة إلى ذات النقطة التي أنطلق منها الوجود في أول مرة والتي ذكرها الله كقضية كاملة في سورة الدخان (فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ (10) يَغۡشَى ٱلنَّاسَۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٞ (11) رَّبَّنَا ٱكۡشِفۡ عَنَّا ٱلۡعَذَابَ إِنَّا مُؤۡمِنُونَ (12)، الصورة الذهنية التي رسمها النص في نهاية الوجود الحي المدرك من الإنسان أن المادة بتحولاتها المستمرة ستصل لمرحلة أن الطاقة والحرارة ستكون هي الجانب الغالب والأعظم من الوجود، بالإشارة إلى الدخان وكما معلوم أن الدخان خليط من طاقة وحرارة وذرات مادية في طور التحول وهي ذرات الكاربون والهيدروجين في خليط متداخل، هذا الواقع الذي سيحدث سيحول الحياة البشرية بشكل خاص إلى ما يشبه الجحيم الذي لا يطاق ولا يمكن العيش الطبيعي فيه، فيقول البشر أن هذا عذاب. هذا الوضع هو عودة عكسية لمسارات الوجود للنقطة التي فرق الله بها بين السماء والأرض مسبقا، فقد كان الوجود قبل هذا مجرد طاقة متنوعة تتكاثف بشكل دخاني للتهيؤ للمرحلة التالية (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا)١١ فصلت، فالوجود الكوني المعبر عنه بالسماء تفريقا عن دلالة السموات في النصوص الأخرى تدل أن الدخان بماهيته التي بينا كانت الأساس في خلق السموات والأرض، وبالتالي تعاظم الدخان في الوجود مرة أخرة هو بداية التحول نحو العودة كما جاء في آيات سورة الدخان السالفة. هذا التحول والتحول المعاكس كما في نظرية القرأن مبني على قاعدة (الرتق والفتق) وهي قاعدة حقيقية يؤمن بها العلم وتسمى (الانفلاق والاندماج النووي)، فلكي تتحول المادة إلى طاقة وبالعكس لا بد من حصول الفتق والرتق (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء 30، ويعلب عنصري الهايدروجين والأوكسجين الدور المساعد في الفتق وغيابهما في الرتق بأعتبار أن الأوكسجين جزء من تركيبة الدخان ومه وجود الهيدروجين والكاربون يمكن تشكيل أو خلية حية بسلسلة من التحولات الكيميائية والفزيائية التي تمهد للحياة أو تؤشر لأنتهائها، لذا فالتحول إذا يمر بثلاث مراحل كما في الآية خلق وعودة بقانون الرتق والفتق ثم حياة الرجوع بعد أن تتهيأ الظروف التكوينية مرة أخرى في مرحلة العود.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
روايتي الجديدة ( عرف الديك) ح1
-
شذرات فكرية في سورة النمل
-
مظاهر السلطة والتسلط في المجتمعات الدينية
-
الزمن والزمن الأخر في سورة المؤمنين
-
ثلاث دروس من سورة الحج
-
نسخ أم فسخ
-
المغضوب عليهم والضالين
-
صورة الحياة الأخروية في النص القرآني
-
سورة الكهف بين الصورة والتصور
-
منهجية الدعوة لله في سورة الإسراء بين الترغيب والتخويف
-
الأمر الرباني بين الإلزام والألتزام
-
رواية (حساء الوطواط) ح 20 والأخيرة
-
جدل التوحيد في قصة يوسف ع
-
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في القرأن حقائق مغيبة وأفتراءات تاري
...
-
مصاديق مصطلح الكتاب.. قراءة في سورة هود
-
الدعوة الدينية وأساليب الجدل العقلي في سورة يونس
-
لماذا الكاظمي رئيسا...
-
الأستنباط المنطقي منهج الأنبياء وأولي الأمر في الكشف عن موضو
...
-
الراهنية الزمكانية في النص القرآني واثرها في ترتيب الحكم الش
...
-
رواية (حساء الوطواط) ح19
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|