|
ألو بابا، أنا ابنك!
ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 6561 - 2020 / 5 / 12 - 02:08
المحور:
كتابات ساخرة
أثناء خدمتي العسكرية في عام 1980 كنت أزور أخي في مسكنه في مخيم اليرموك بحيّ التضامن في دمشق. وأبيت عنده بمعدّل ثلاثة أيام متفرّقة في الأسبوع. لم تكن الهواتف الأرضية في ذلك الزمن منتشرة إلّا على نطاقٍ ضيّقٍ في البلاد. ولا يحوزها سوى الأثرياء وذوي الحظوة وأصحاب المحلات.. كان أخي يخدم في القصر الجمهوري. وبسبب موقعه الوظيفي، فقد تم منحه خطّاً هاتفياً. والحقيقة أنه لم يكن بحاجةٍ له إطلاقاً. فكلّ أقربائه ومعارفه سواء في الضيعة أو في المدينة لم يكن لديهم هواتف. باستثناء أحد زملائه في القصر الذي مُنِح بدوره هاتف. فكان أخي وفور وصوله إلى البيت يبادر ملهوفاً بالاتصال بزميله، الذي لم يكن قد مضى ساعة أو أكثر بقليل على وداعه له في القصر. وحجته الضمنية في الاتصال، أنه من غير المعقول أن يملك هاتفاً ولا يستخدمه. وكم كنت أغبطه لامتلاكه ذلك الجهاز الساحر من جهة، وأضحك في خبيئتي على مكالماته مع زميله من جهة أخرى. وغالباً ما كانت الدردشة بينهما تتمُّ على الوجه الآتي: - ولك ألووو.. مرحبا يا غالي، كيف أحوالك، طمّنّي عنك، انشالله صحتك منيحة؟ - أهلا بالحبيب.. الحمد الله، من ألله بألف نعمة، بس من العبد.. خلّيها لربّك. - أي هات خبّرنا شو عم تساوي؟ - والله يا أبو الشباب تغدّيت وبدّي اتسطّح ونام شي غفوة. - انشالله نومة الهنا يا ربّ.. أي خيّي بتوصّيني شي؟ - والله ما بدّي إلا سلامتك. - بحياة الله قلّي.. عاوز شي.. ليك نحنا أخوة بعهد الله. - الله يبارك فيك، والله ما بدّي إلا سلامتك. - يالله منلتقي بكرا انشالله.. سلّملي على جميع أفراد الأسرة.. لا تنسى ولا واحد منهم هه! - الله يسلمك.. بيوصل.. بأمان الله. وهكذا تتكرر الاتصالات اليومية بينهما دون أي تعديل يُذكر.. وأحياناً يعاتبه أخي قائلاً: - طيب معقولة دائماً أنا المبادر بالاتصال؟! - والله حقك على راسي.. سكِّرْ تقلّك سكِّرْ، أنا رح اتصل فيك.. فيغلق أخي الهاتف منتظراً، وعندما يبدأ الرنين يهرع إلى رفع السمّاعة: - ألووو.. مين؟ ولك يا هلا.. والله مشتقلك.. والله قاعد أنا وأخوي.. أي وهوّي كمان بِسلّم عليك (يلتفت صوبي غامزاً بعينه هامساً: بسلّم عليك) وكانت تصدف أحياناً أن أكون وحيداً في البيت، وأخي مناوب في القصر. ولم يكن لديّ أصدقاء - كحال أخي - يملكون هاتفاً أرضياً لأتسلّى معهم. وفي أحد الأيام، تذكّرتُ أنه يمكنني الاتصال بأبي الذي يعمل ممرّضاً في مستوصف معمل أخشاب المعاكس في اللاذقية. اهتبلتُ الفرصة وعقدتُ العزم بعد تردّدٍ، وطلبتُ من «الاستعلامات» رقم هاتف مقسم المعمل. وأدرتُ قرص الهاتف وأنا في غاية الاضطراب. فترة انتظار ردّ عامل المقسم جعلت جبيني يندى من الخجل والرهبة: - ألو مرحبا، هون معمل المعاكس؟ - أي نعم، مين بدّك؟ - بدّي تعطيني المستوصف من فضلك؟ - والله يا أخي الدكتور راح. - بدّي احكي مع الممرض ابراهيم اسكندر. - تكرم عينك. لحظات من الارتباك وأنا متحفّزٌ لسماع صوت أبي لأول مرة عبر الأسلاك: - ألو.. ألو مين عم يحكي؟ - ألو، مرحبا، كيفك بابا، أنا ابنك.. - (بنبرة المتفاجئ) مين ابني؟! - أنا ابنك ضيا عم احكي معك من الشام. أجاب بعد سكينةٍ وبصوتٍ مرتعشٍ متكسّرٍ وكأنه على وشك البكاء من شدّة حنانه: - أهلين يا ابني! - كيفك بابا انشالله منيح.. كيفا أمّي واخواتي؟ لم أسمع سوى النشيج.. فقد شرع أبي بالبكاء الصامت. فهذه أول مرة في حياتي أتورّط وأتحدّث معه هاتفياً. وأنا الذي لا يتحدّث معه في الحالات الطبيعية إلا بكلمات مقتضبة يقتضيها العيش المشترك. أحسستُ وكأنّي ارتكبتُ ذنباً باتصالي معه؛ فقد أيقظتُ عواطفه الكامنة التي نادراً ما يُفصح عنها لأولاده بسبب صرامته في التعامل معنا. ليقينه أن الهَيْبَة وفرض النفوذ والأسلوب المتشدّد في التربية.. تُعدُّ أنجع الوسائل لتنشئة الأبناء على ما يرومه من أخلاق يسعى لغرسها في نفوسنا. وحيث أن النقاش والحوار والتشاور ملغيّة من حياتنا كلّيّاً، فإن اتصالي معه كان بمثابة الشجاعة الاقتحامية غير المعهودة من طرفي. أدركتُ أنه ينبغي توضيح سبب اتصالي وتبرير فعلتي التي سبّبت له كل هذا الشجن. مع ضرورة الإسراع بإنهاء مكالمتي معه بأقصر زمن ممكن. فقلتُ له بلهجة أقرب إلى الاعتذار: - بابا، والله هيك حبّيت سلّم عليك واطمأنّ عنكم جميعاً.. سلّملي على أمّي واخواتي. - الله يوفقك يا ابني.. أغلقت السمّاعة ونفختُ متنهّداً. وشعرت بموجة حزن اجتاحت كياني.. فكِلانا بعيدان عن التكنولوجيا ونشعر بالغربة إزاءها. وحديثنا الارتجالي لم يكن له داعٍ على الإطلاق. وكانت تلك المكالمة، المرة الأولى والأخيرة في اتصالي مع أحد في تلك الحقبة من التاريخ.
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
«النباتية»
-
«أعدائي»
-
التحقيق رقم (1)
-
«الإسلاموفوبيا»، ثُمَّ الكورونا، ثُمَّ..؟
-
اللِّصُّ الغبيّ
-
«المترجم الخائن»
-
صاحب الأنف الضخم!
-
«وردَّدتِ الجبالُ الصدى»
-
ما بعد كورونا..
-
حظر التجوّل
-
بيروتُ الحُلُم، والحقيقة..
-
لكِ، «ألف شمس مشرقة»
-
أيُّ نظامٍ نريد؟
-
الغِرُّ
-
«عدّاء الطائرة الورقية» ولأجلكِ، ألف مرّة أخرى..
-
«الكندرجي»
-
«سجينة طهران»
-
الوكْفُ والمِزْراب
-
سكْسوكة
-
المَهْزوز
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|