أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - محمود جلبوط - من ذاكرة معتقل سابق ...الذاكرة الأخيرة















المزيد.....

من ذاكرة معتقل سابق ...الذاكرة الأخيرة


محمود جلبوط

الحوار المتمدن-العدد: 1584 - 2006 / 6 / 17 - 11:41
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


هزمت الدكتاتور في معتقلي فهزمني في أبنائي

عندما تبنت السلطات المستبدة المعتقلات وسيلة للحكم وطريقة للحوار بين الحاكم والمحكوم وصيغة للعقد الاجتماعي المفروض من قبل الحاكم على المحكوم كان القصد: كسر إرادة الإعتراض والمقاومة عند الرافضين لظلمها واستبدادها لدى الفئات من الناس التي ارتأت الاعتراض عليها وعلى طريقة حكمها وعلى تجاوزاتها واستباحتها للوطن والمواطنين , عبر زجهم فيها ليقضوا عمرهم أو بعضا منه , أو بقيته بين جوانب جدرانها محترقا ضياءا ينير الظلام الذي حاول ويحاول المستبد تعميمه على البلاد سترا لنهب أزلامه و جلاديه وإشباعا لمركبات نقص نفسية فيهم كانت أو تكونت عبر استباحة حرمة وحياة وأرزاق وأمن المواطنين والوطن , موغلين حتى الثمالة في الإهانة و الاستهانة لإنسانية البشر الذين استطاعت أن تطالهم يد ظلمهم تعذيبا أو سجنا أو اغتيالا .
وقصدا آخر أراده ويريده المستبد من هذا: هو زرع الخوف داخل نفوس بقية الناس من الأكثرية الصامتة ليصير الخوف مخيالا اجتماعيا , وشرطا ضروريا يتحكم في آلية تفكيرهم القادم عندما يريدون اتخاذ القرارات حول ما يخص مصالحهم الشخصية أو قضايا الصالح العام , و يتحول الخوف عصابا فكريا و خلفية نفسية تترسخ صاعدا في لا وعيهم تكون المرجعية لديهم عندما يهمون في اختيار سلوكهم حول مسائل الحياة لديهم أو لدى الآخرين من الذين يهمهم المساهمة في النشاط الاجتماعي العام للسنوات القادمة , ليتحول هذا بعد جيل إلى ضمير ونهج يقود الناس ويرشدهم في نشاطاتهم المختلفة في مجالات الحياة المختلفة سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية أم حتى شخصية , فيكون الخوف محددا أساسيا لمواقفهم .
ولكن المستبد ينجح بهذا إلى حين , بل كثيرا ما فشل الجلاد بهدفه عند معظم الذين زج بهم في معتقلاته سنين طويلة , بله كان أحيانا كثيرة يهزم أمام صمودهم وإصرارهم , وكثيرا ما كنا نستدل على هذا من عيون جلاديه وسلوكهم الهستيري أمام قوة الصمت لدينا وعدم الاعتراف والإدلاء له بما يريد من المعلومات .
أذكر عندما كان يحاول الجلادون هناك في أقبيته كسر عزيمتنا ومحاولة إذلالنا من خلال الطلب إلى البعض منا أن يبكي عندما يتوجع حتى يوقف الضرب عنا , و إلا فإنه سيواصل الضرب إن لم نبكي , كان يطير صوابه إن نحن كزينا على أسناننا وكتمنا الصراخ نكاية متحملين ماكينة الضرب , كان يفقد أعصابه و ينهال ضربا علينا هستيريا حتى ينهار هو من تعبه , فيغير أسلوبه في التعامل معنا مهزوما .
هناك أيضا عندما كان يوغل في الحد من آفاقنا الفكرية وتجهيلنا ودفعنا لضيق الأفق عبر حرماننا من وسائل الاتصال والكتابة والقراءة , يفقد صوابه لما يكتشف أننا توصلنا إلى اختراع البديل من خلال استعمال ورق علب التدخين الفارغة وشحار البابور للكتابة , والحلقات الثقافية التي أوجدناها للتبادل الثقافي والمعرفي فيما بيننا , ويعبر عن هزيمته من خلال حملات التفتيش الهستيرية التي كان ينفذها في زنازيننا وغرف مبيتنا .
هناك أيضا عندما كان يوغل في إيلامنا من خلال الاعتداء على أرواحنا عبر إرهابه المتنوع وتعليقاتها المذلة على أفكارنا ومعتقداتنا , كان يشعر بالخيبة حين يجدنا قادرين على الفرح والابتسام واللعب والرقص والغناء و كتابة الشعر وكل أنواع الأدب , كان يقهر ويتساءل:كيف يمكننا ورغم كل القهر الذي يمارسه علينا ورغم كل الحصار أن نكون بشرا ونحافظ على إنسانيتنا ونتمكن من ممارسة كل هذا السلوك الإنساني معه أو مع أهلنا خلال الزيارات .
وعندما كان يتم استدعاؤنا للمساومة من أجل إطلاق سراحنا من قبل ضباط الأمن من حين لآخر في كل عام فتصطدم محاولاتهم بجدار لائنا وصمتنا , يعيدنا إلى الزنازين مجددا ويحتار ويصرخ بنا : أيها المجانين , ونستدل هزيمته من خلال جنونه هو وعدم فهمه لرفضنا عرضه.
كان يحتار بنا هذا الجلاد , كنا نقرأ هذا عبر سلوك العناصر الأمنية العادية أو ذات الرتب العالية معنا .
من كل هذا أدركت أنني هناك في الأقبية , في العالم السفلي , قد هزمت الجلاد الدكتاتور في وكره و فشل في أن يهزمني رغم الخلل الكبير في موازين القوى .
ولكن عندما تم الإفراج عني كان بانتظاري شيء آخر .
كانت الصدمة الأولى في ابنتي البكر وردة , عندما ووجهت بالحقيقة القاسية في أن ابنتي معاقة : لا يهم ما ذهب إليه الأطباء من توصيف حول حالتها استنادا لاختلاف المدارس في التحليل النفسي إن كانت إعاقة عاطفية مبكرة أو إعاقة عقلية مبكرة , المهم أنها معاقة وكل المحاولات التي بذلتها للبحث عن حل لدى الأطباء النفسيين يمكن اتباعه لتجاوز المشكلة لديها باءت بالفشل , ولم يعد يفيد استذكار الاحتمالات التي توصلوا إليها إن كانت نقص أوكسجين بسبب تدخين أمها أثناء الحمل أم نقص أوكسجين بسبب الظروف الاستثنائية التي ولدت وردة فيها أم بسبب ما تعرضت الأم من تعب وإرهاق ومن جوع , أو إرهاب من العناصر الأمنية أثناء اعتقالي , المهم أن ابنتي | الحلم الذي طالما قاومت فيه الأقبية الرطبة وكل محاولات الجلاد أن أموت وحيدا بلا أحلام | ليست طبيعية كالأخريات وأنها معاقة , وزاد الطين بله أن حالتها هذه كانت أحد أسباب تفجر الخلاف العائلي بيني وبين والدتها , وبالتالي لم يسمح هذا الخلاف لكلينا التخفيف عنها أو التعويض لها عن آلامها , فعاشت معظم أوقاتها في منزل جدها وجدتها من أهل أمها بعيدة عن احتضاننا . فكانت بهذا أولى الهزائم التي صنعها لي الجلاد من وراء ظهري .
بل زاد الأمر عن هذا , فعندما مات ابن الجلاد باسل (لا تجوز على الميت إلا الرحمة كما يقولون) , وفي ظل حملة الحداد التي أقامتها السلطة للحداد عليه على الطريقة الكربلائية , بكته ابنتي وردة , فاستفزني رؤيتها تبكي على ابن جلادي الذي سرق شبابي فقلت لها: لماذا تبكيه يا ابنتي ؟ قالت لأنني أحبه . ولماذا تحبيه يا ابنتي ؟ قالت لأنه ابن الرئيس , ولأنه طيب ويساعد الناس والمرضى , ولأنه الشهيد الأول . كيف هذا يا ابنتي , فأنا لا أعهده إلا زعيما للشبيحة ومتجاوزا لكل القوانين وابن جلاد حاول أبوه أن ينجز منه جلادا صغيرا يورثه الحكم من بعده , يا ابنتي إنه شخص مجرم و سيء ولا يستحق دموعك . كان جواب ابنتي بمثابة الصاعقة لي وهزيمة كبرى طالما حاول بكل وسائل تعذيبه في أقبيته الحصول عليها ولم يستطع , قالت لي وردتي بعد أن التفتت إلي بعينين واسعتين تدل على أنها استجمعت كل ما تستطيع من قدرتها على التركيز : أنت المجرم وأنت السيء , لأنك هجرتني وأنا ما زلت في بطن أمي ,ثم تركتني وحيدة أكبر وأنمو دون وجودك قربي لرعايتي 12 سنة محرومة من مناغاتك وملاعبتك و حمايتك ......ولم أعد أستطع متابعة ما أكملت بسبب ما انتابني من قهر كان يمكن أن يوقف قلبي عن النبض .
كيف يمكن أن أشرح لابنتي المعاقة ما حدث وعن أسباب غيابي عنها ؟؟ وأن ما حدث كان خارج إرادتي , وأنه قد قد تم الاعتداء علي وعلى حريتي من قبل الجلاد , بينما كنت أحمل في رأسي كل الأحلام الجميلة حول ابنتي عندما داهمت سرية أمنية بيتي واعتقلتني فاغتالت الحلم واغتصبت أجمل فترة من العمر لدي ؟؟ وأن ال12 سنة هي جزء عزيز منه , إنه الشباب الذي لم أعشه ؟؟
طفرت دمعتي من عيني , و أوقفت الحوار مع ابنتي , ورحت أسأل نفسي : هل حقا كان يمكن للجلاد أن يفرج عني لو أني قبلت مبكرا مساوماته لي , وقبلت التوقيع على تعهداته ؟؟
كان الجواب يأتيني عبر حالات كثيرة من الموقعين في مرحلة مبكرة من المعتقلين , فبالرغم من توقيعهم على التنازلات أبقاهم الجلاد رغم هذا يعانون مرارة الخجل والندم . ثم حتى ولو افترضنا أنه قد حدث هذا وتم الإفراج عني بعد توقيعي على شروط الجلاد , هل كان بإمكاني أن أساعد ابنتي في أن لا تكون معاقة , وإن كانت هل يمكنني مساعدتها في تجاوزها ؟؟ تساؤلات عانيت الكثير من طرحها على نفسي خلال سنوات ما بعد السجن ثم نسيتها وركنتها جانبا لكي تستمر الحياة .
وتستمر الحياة , ونتابع إحدى فصولها الأخرى , تارة ملبن وتارة علقم , رزقت خلالها بزهرتين جميلتين ريتا وفينوس , تعبيرا عن التمسك بامرأة صبرت رفيقة لمرحلة قاسية لم تشفع لكلينا لتجاوز الشرخ الذي نشأ ,
وبسبب الخلاف العائلي المتفجر الذي وصل إلى طريق مسدود فيما بيني وبين أم بناتي , و بسبب المضايقات الأمنية التي كانت تتالى من عناصر الأمن من خلال استدعاءاتهم المتكررة لي والمضايقات في العمل اخترت المنفى هروبا من كليهما , ودخلنا تجربة ومعاناة من نوع آخر .
لم تتبدل الأمور لدي كثيرا في المنفى فأنا في كل الجغرافيا خارج فلسطين أسمى لاجئا , مع بعض التغيير البسيط , فلقد أطلقت علي السلطات الألمانية صفة ungeklنrt , وهي تعني غير واضح أو محدد (ثم منحوها أيضا لبناتي بعد أن لممت شملهم إلي ), ولكن ابتعادي عن بناتي أشعلني نارا وقلقا وحزنا طوال فترة منفاي , لأن بناتي , لحمي (كما كان والدي يسمينا أنا وأخواتي رحمه الله) , بعيدات عني , كما ولأنني أكن لسوريا كل الحب وخصوصا دمشق (مسقط رأسي ) التي تمثل الوطن الثاني لي و ذكرياتي وأهلي وأصدقائي , حتى أني أشعر أني دفعت ضريبة مواطنتي لها ما يجعلني لا أطيق فكاكا عنها .
ولأن الفرح رحل عني زمنا طويلا بذلت كل الجهود لألم شملي على لحمي(أولادي) , وبعد أربع سنوات من المفاوضات والمناكفات , تارة مع أم لحمي وتارة مع السلطات الألمانية توجت جهودي بالنجاح مؤخرا , وتم لقائي بهن معطرات برائحة الياسمين الدمشقي و عطر الليل اللاذقاني في 21 نيسان بكل الفرح العارم , فزارنا الفرح أخيرا.
لكن لا أدري في أي غيمة اختفى الفرح ثانية بعد فترة وجيزة من اللقاء الأخير , فلم يعد بعد اللقاء الأخير متسع للقاء آخر .
لمَ لم يدم الفرح طويلا لا أدري؟؟ ألأن النكد القديم عاد وصار كثيرا كثيرا ؟؟؟أم لأن الحقد والقهر قد تلبسنا وعشش فينا وملأ قلوبنا فاحتار الفرح عندما زارنا أين يمكث فينا ؟؟
حاولت تجاوز ما انكسر ما لدى الكبار عبر التلهي بحوار البنات واللعب معهن , ولكن ما دار بيننا آلمني أكثر وتمنيت لو لم يتم اللقاء لأبقى حالما , أجمل حلمي كما أبغي وأشتهي , و تذكرت العبارات الشعبية المتوارثة والتي كثيرا ما كان والدي يكررها لي عندما كنت أناكفه , ويتحلفني أنني لن أدرك أهميتها ومعناها إلا عندما أصبح أبا , كان يقول لي معلقا : ما بيكسر ظهرك إلا ابنك , و : الضربة المميتة تأتي من ابنك لأنه لحمك .
كررت البنات مرات كثيرة في جلسات الهذر التي كنا نعقدها للتسامر على نكران فلسطينيتهما كلما حاولت تفقد القسم من ولائهن الذي يخص الأب , وعندما كنت أعترض تعلق ابنتي : بابا أنا سورية , ولدت وترعرعت فيها , ثم لا يوجد في فلسطين ما يربطني فيها .
وأنا أيضا يا ابنتي ولدت و ترعرعت في سوريا , وأحبها أيضا , ودفعت ضريبة المواطنة لها مجازيا , لكني فلسطيني وأملك الحق في العودة إليها ولا يحق لأي طرف في الدنيا أن يسلبني هذا الحق , ثم إن عدم الولادة في فلسطين يا ابنتي لا يعني أنك لست فلسطينية , أنا مثلا أشعر أنني ضائع من غيرها , لأن الوطن يا ابنتي ليس الحجارة أو المنزل أو الحدود الجغرافية أو مكان الولادة , الوطن يا ابنتي هو الكرامة , هو أن لا تكوني لاجئة أو لا تكوني ungeklنrt كما سجلك الألماني أسوة بوالدك.
لم يزعجني كثيرا شح معلومات البنات عني وعن شخصيتي وعن عائلتي و عن مسقط رأس العائلة , فأنا أدركت مسبقا أن ابتعادي عنهن سبع سنوات وفي ظل الخلاف بيني وبين والدتها كان سيلعب الدور الرئيسي في شح الوجدانية اللاشعورية والشعورية لولائهم الآخر من أبيهن , وهذا منطق الأمور عندما تتخلى الحكمة وإدراك مصلحة الأولاد عنا , و أقر أنه لم يزعجني كثيرا أيضا تنكر البنات لفلسطينيتهن وإصرارهن على أنهن لم يجدن من المحيط الذي يعشن فيه في المخيم من أهلي ومن الجيران والأقران في المدرسة أي فلسطيني جيد يمكن إقامة علاقة جيدة معه على الرغم من أنهن يتابعن دراستهن في مدارس الفلسطينيين , وأزعجني أيضا ولكن ليس كثيرا و على المستوى ذاته أن يميزهن وأمهن المحيط الفلسطيني الذي يقطن فيه على أنهن علويات , ولكني تفهمت الأمور ووضعتها في سياقها العام الذي يسود سوريا من جراء سياسة النظام منذ مرحلة 1970 وإلى الآن .
كنت قد جهزت نفسي أصلا وبشكل مسبق لنقاش طويل مع البنات لصياغة علاقة ما من خلال ما ستوفره ظروفي من وقت استنادا إلى ما نشأ من شعور استياء لديهن بسبب ابتعادي عنهن , وبسبب ما جرى من شحن غير واعي , ولكن ما جرى من حوار والطريق التي جرى بها لم يخطر لي على بال وبالتالي لم أستعد له أبدا .
فجأة , و في إحدى الأمسيات قدمت لي ابنتاي مفكرتهن متفاخرة لأضطلع على بعض من كتاباتهن ومذكراتهن ومعلوماتهن التي جمعتاها بين طياتها في الشعر والوطن والجغرافيا , والنكت والأمثال وخلافه , وما أن هممت أن أفتح صفحات المفكرة حتى باغتتني صورة الرئيس حافظ الأسد وابنه بشار الرئيس الحالي .
استوقفتني الصورتين فجأة , لم يسئني كثيرا كل ما سبق آنفا من بناتي , فلربما كان عذرا موضوعيا وشفاعة لكل ما سبق , ولكن ما ساءني لدرجة الاستياء أن أرى صورة جلادي وسارق سنوات شبابي و صورة ابنه في مفكرة ابنتي .
صرت عصبيا قليلا خارج إرادتي ومرتبكا , صمت أكظم غيظا انتابني خشية أن أقسو على لحمي(بناتي) , وصمت برهة ثم قلت: كيف تحتفظين في مفكرتك يا ابنتي بصورة دكتاتور سوريا الذي سامها أنواع العذاب والألم و سامني .
أجابتني : لأنه كان قائد سوريا وابنه الآن هو رئيسنا !!!ولأني أحبه !!!؟؟؟
قلت: ألم يحدثك أحدهم من المحيطين بك بأن حافظ الأسد قد اعتدى على حريتي وكرامتي ووضعني في السجن 12 عاما مما أدى إلى أن يكون لديك أختا معاقة؟؟؟
قالت بلى , ولكن لو ما كنت عامل شي ما وضعك في السجن . مين قلك تشتغل في السياسة؟؟ ثم أنه قد مات .
قلت: ولكنه ورث الحكم والظلم لابنه الذي تحتفظين بصورته في مفكرتك .
قالت : شو خص ابنو فيه .
قلت:كيف يا ابنتي وهو في أولى خطوة من خطواته لوراثة الحكم واعتلائه سدته قد خرق حتى الدستور الذي وضعه والده , ثم أنه ما زال يحكم بنفس الطريقة التي حكم فيها والده عبر الأجهزة الأمنية, ربما ببطش أقل مما دفع الناس لتجاوز عتبة الخوف التي صنعها والده وصاروا ينتقدون النظام بصوت مسموع .
قالت: ولكنه يعمر سوريا ويسعى لتقدمها فهو يبني شوارع ومراكز صحية ومدارس وكمبيوتر وخلافه , وفوق كل ذلك أحبه.
قلت: أمن جيبه هذا يا ابنتي أم من أموال الناس وضرائبهم؟ ثم كيف يمكن أن يعمر سوريا في ظل قمع الناس وتهديمهم ووضعهم في السجون؟؟
قالت: من قال لهم يشتغلوا بالسياسة , لا يشتغلوا بالسياسة ما بحطهم بالسجن .
قلت: يا ابنتي إن حرية الرأي حق صانته كل الشرائع , والوطن لا يبنى إلا بالجميع , ولا يتقدم إن لم يكن هناك معارضة .
قالت: لكنه يحمي سوريا من الأعداء وإذا سقط ستنهار سوريا , إنه ضمان لبقاء سوريا .
قلت: ضمان لبقاء سوريا أم ضمان لبقاء فئته الحاكمة والفاسدة ؟؟ ثم لا خير في بلد تسقط إن سقط رئيسها , ثم كيف يحمي الوطن يا ابنتي ومازالت الجولان محتلة , إن الذي حرر جنوب لبنان هم اللبنانيون , و لو كانت لديه هذه النخوة الوطنية لكان من الأجدر به أن يساهم في تشكيل مقاومة سورية تحرر الجولان . ثم أنه يا ابنتي ما جرى له في لبنان وما يجري الآن هو نتيجة سياساته الطائشة.
صدقيني يا ابنتي أن لديه من السوء أكثر مما تتصورين.
قاطعتني صغيرتي قائلة: هل ترضى أن أسب على ياسر عرفات؟
صعقني جوابها , وأدركت ما تعنيه الخلفية التي أجابتني فيها ابنتي , وأذهلني وأحزنني هذا الحجم من الشرخ الموجود بيننا لكي يصل إلى الحد الذي تميزني ابنتي عنها كفلسطيني . صمت قليلا وأجبتها: وحياتك يا ابنتي لم أكن مرة من مؤيدي عرفات سياسيا , ولست من مؤيدي اتفاق أوسلو , وحتى أني لم أنخرط في تنظيم فتح إلا مرة واحدة عندما كنت شبلا , فأنا شببت في الجبهة الشعبية فدائيا , ثم قضيت معظم عمري الذي أتى بعد ذلك وإلى الآن في صفوف المكتب السياسي الذي أصبح يسمى حزب الشعب الديموقراطي , وهو حزبا سوريا , وأنا لم أسجن في معتقلات الكيان الصهيوني بل في سوريا , ولقد فعلت هذا من أجلك ومن أجل مستقبل أفضل لك , ولفلسطين ولكل القضايا العربية مجتمعة وعلى رأسها قضية الديموقراطية والتقدم في سوريا سعيا لأن تكون قوية لتفتخري فيها أنت وكل السوريون والعرب جميعا. وانتهى الحوار لأنني لم أستطع الاستمرار في مناكفتها , و بعد ذلك فقدت الرغبة في الكلام فترة طويلة كعادتي حين تنتابني موجة من القهر و الحزن كثيفة , وهذه كانت أكبرها وأكثفها .

أعذريني يا ابنتي مستقبلا إن أنت قرأت ما كتبت في ذاكراتي على ما حوته من هجوم وفضح وانتقادات لنظام العائلة الأسدية التي تحبين , فأنا عندما أهديتك إياها لم أقصد أن أثقل عليك من خلال ما ستجدين فيها ما يتعارض مع ما تشكل من وراء ظهري وفي غفلة مني لديك في وجدانيتك , بل قصدت أن أورثك الحقيقة التي غيبت عنك , وأن أورثك ثأري عن شبابي الذي اغتصبوه هناك في عالمهم السفلي , كما ورث الأسد الأب ابنه كل آلة القمع لاستباحة الوطن , وأتعهد لك كرمى لعينيك يا حبيبتي أن تكون ذاكرتي هذه آخر الذاكرات حتى لا أعود لكتابة ما يؤلمك , لأني فقدت الرغبة بهذا البوح يا ابنتي بعد أن عرفت من حواري معك بأنه يزعجك .
ولكن عليك أن لا تنسي ولا يغيب عن ذهنك يا حبيبتي مادمت تحملين أسمك هذا , أنه عندما أسميتك ريتا كان كرمى لشاعر فلسطين محمود درويش , وكناية عن فلسطين التي تمنعني عن لقائها غابات من البنادق .

قال لي أحد أصدقائي عندما حاول خرق صمتي بعد أن علم بما حصل : إنهن لحمك , وعليك أن تصون وتحفظ لحمك مهما حصل .
نعم إنهن لحمي ولكنه قد أصيب بالغرغرينة , ذكرني صديقي بعبارة كان يكررها والدي لزوجته يوميا عندما كان يغادر المنزل في الصباح الباكر متوجها إلى عمله : ها يا عزيزة , ديري بالك على الأولاد في غيابي , إنهم لحمي , و أنا أتركه أمانة لديك .



#محمود_جلبوط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل الأول من أيار عيد للعمل أم عيد للعمال ؟
- ويرحل الحمام
- قصة قصيرة ...موعد في 8 آذار
- -إن درجة تحرر المرأة هي مقياس التحرر بشكل عام-
- محاولة في الغوص في العلاقة بينها وبينه , الرجل والمرأة
- قصة قصيرة......زمن الذاكرة
- حانت ساعة العمل لمنظري الصهيونية لتحقيق رؤاهم
- إنعتاق
- قصة قصيرة جدا - وتكتمل ألوان قوس قزح
- لماذا يحمل الواحد منا في بنيتنا في داخله ضده
- غدر
- نحن صنعنا من الجلاد إله
- ابن العم رياض الترك..الختيار الشاب
- مشاركة بمناسبة السنة الرابعة لانطلاق موقع الحوار المتمدن
- حالة طواريء.......قصة قصيرة
- دعوة تحذير متواضعة لدعاة التغيير الديموقراطي في الوطن العربي
- انتظار - قصة قصيرة جدا
- وتشرق الشمس من جديد
- صمت الحوارية...وحديث العيون
- الديموقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي


المزيد.....




- الأمم المتحدة: السودان يواجه أكبر أزمة نزوح في العالم
- هآرتس: ربع الأسرى الفلسطينيين في سجون -اسرائيل- اصيبوا بمرض ...
- اللاجئون السودانيون في تشاد ـ إرادة البقاء في ظل البؤس
- الأونروا: أكثر من مليوني نازح في غزة يحاصرهم الجوع والعطش
- الأونروا: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال ...
- الاونروا: الحصول على وجبات طعام أصبح مهمة مستحيلة للعائلات ف ...
- الأمم المتحدة: السودان يواجه أكبر أزمة نزوح في العالم
- منظمة حقوقية يمنية بريطانيا تحمل سلطات التحالف السعودي الإما ...
- غرق خيام النازحين على شاطئ دير البلح وخان يونس (فيديو)
- الأمطار تُغرق خيام آلاف النازحين في قطاع غزة


المزيد.....

- ١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران / جعفر الشمري
- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - محمود جلبوط - من ذاكرة معتقل سابق ...الذاكرة الأخيرة