|
الدعوة الدينية وأساليب الجدل العقلي في سورة يونس
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6557 - 2020 / 5 / 7 - 15:39
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من عجائب السلوك البشري العام مع الأنبياء والرسل تلك المفارقة اللا عقلية التي سجلها التاريخ لنا، عندما يأت رسول لأمه برسالة توضح لهم بعض ما لا يصدق أو لا يعقل لأجل مصلحة الإنسان، فإنهم سرعان ما يستنكرون على الرسول دعوته ويكذبونه بكل أدعاء، مثلا النبي محمد ص عندما جاء لقريش ينهاهم عن عبادة الأصنام كخطوة أولى لبداية رسالته أتهموه بالكذب وأن ما يأت به على أنه من وحي الله ما هو إلا عجب (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ) يونس (2)، لكنهم لا يستعجبون مثلا عندما يخبرهم كاهن الآلهة أنه يريد منكم كذا وكذا بل ولا يناقشون في الأمر بأعتباره حقيقية، العقل المنطقي يقول إن كنت تصدق الكاهن بأن ألهته تتكلم معه، عليك أن تصدق أيضا أن وحي الرسول حقيقية، طالما أنك لم تكن شاهدا عيانيا أو سمعيا على الحدثين. في سورة يونس وهي من السور القرآنية المتمحورة حول المحاججة العقلانية مع منكري الدعوة المحمدية مع التذكير بما هو معروف أو متداول في الذاكرة للمقرنة والتقريب، تبدأ السورة في الآية السابقة وهي صيغة أستفهامية جدلية بالمعنى الفلسفي، فالاستفهام هنا أستنكاري لكنه يأخذ أسلوب اللين والدعوة الحسنة للأخر دون أن يشعره بوجود فاصل أو حاجز نوعي أو قيمي بين المتحاورين، فيبدأ بعد ذلك بتعديد قدرات الله التي لا ينكرها الأخر أو حتى لا يشكك بها مثل (إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ)، وحجة أخرى (إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ومع كل حجة تساق يستخدم النص أسلوب التضاد في حالة الإنكار (وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ)، هذا النموذج العقلي هو النسق العام في السورة عموما، الهدف منه ردع ذاتي للمخالف بعد التسليم بالحجة دون أن يلزمه كنتيجة بلزوم التقيد والإيمان بالتسليم. الحقيقة التي تبنى عليها فلسفة السورة أن ما في الدعوة الدينية ليس غريبا عن واقع الإنسان ككائن يعتقد ويؤمن دوما بشيء أسمه دين أو عقيدة، وأن لا أحد يمكنه أن يكون خارج هذا الإطار بشكل ما، لكن المشكلة في الأمر أن الإنسان وإن كان تدينا بنوع ما من الإيمان فأنه بالعادة يرفض التغيير على أساس ظني أنه ما عنده صالحا بكل الأحوال، أو أنه يرغب بالتغيير في حدود ما يتلائم مع واقعه هو لا واقع الأفضل، ولربما هذا الأمر لا ينطبق فقط على الدين بل حتى مع أشياء كثيرة حتى يجد الدليل الذي يقنعه بالتغيير، فالدين إذن حاجة للإنسان لكنه في الغالب يريده وفق ما يرتئي لا وفق ما يجب (وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ) (15). إذن في منطق الرافض لتجديد حتى يكون متقبلا له لا بد أن يستجيب هذا التجديد للواقع ويماهيه، وبالتالي فإن سعي الرسل والأنبياء لا يكون ذا جدوى طالما أن الواقع لا يتغير إلا بتغير الإنسان، عليه فلا بد أن يبدا الإنسان أولا بذاته ليعيد صورة الواقع هذا إلى طاولة النقد، هذه الإعادة تحتاج لعنصرين أساسيين هنا النموذج البديل أولا والبرهنة على أنه جديد وليس طارئ عليه (قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ) (16)، فتلاوة النص الديني هنا بمعنى تبليغه بالصورة التي يريدها الرب هو ما يعرف بالبديل، أما البرهنة فتأت من إنكار الرسول على أن وجوده الشخصي بينهم طوال الفترة الماضية، دون أن تكون هناك مقدمات للتغيير أو محاولات سابقة تثبت أن الأمر خارج الموضع الذاتي له أو الرغبة في فرض شيء خارجي على الواقع. نظرية الجدل المحاججاتي إذا تبني على جر العقل بالطريقة التي تضع الإنسان أمام تساؤلاته الخاصة، لماذا التجديد؟ والأهم ماذا لو تغيرنا؟ وماذا لو لم نتغير؟ هذه الموازنة مهمة في عقل الإنسان من كونها تهز صورة الواقع عنده بالقدر الذي يدرك منها حاجاته الخاصة بعيدا عن مصلحة الأخر، الأخر الذي يقول أنه ليس بوكيل ولا متحملا النتيجة بأي شكل من الأشكال، فشعار السورة إذا (دعه يفكر دعه يقرر)، كما في النص التالي (قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ) (108)، السؤال هنا هل أتبع المسلمون هذه المقولة في تجسيدهم للإيمان بالله ورسوله، جوابي الفوري لا ولن ولم ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونوا كذلك، لأن العلة دوما هي في تفكير الإنسان لا في وضع الدين والعقيدة (فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ) (23). هذا الوصف ليس تجنيا على واقع الإنسان وليس موجها ضد وجوده المجرد ككائن جدلي بنفسه وبذاته، ولكن من خلال ما سطرته السورة من عبر تاريخية تفيد بأن كل تغيير لا يمضي حسب المخطط كما هو المفترض، فبدلا من أن يكون التغيير الذي تحدثه الرسالات قوة دفع للأمام نلاحظ بعد فترة أن العقل الإنساني يبدأ بالتراجع والنكوص ليعود إلى ذات النقطة التي أنطلق منها التغيير أصلا، هل هذا يعني أن الأديان لا فائدة منها إذن؟ ولا قيمة للتغيير التي تأت به؟ الجواب ليس بهذه النتيجة تستهدف السورة في مبانيها ودلالاتها القصدية، وإنما هي جزء من فلسفة الجدال التي ذكرتها وهي ضرورة التنبيه والتذكير (لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞ وَلَا ذِلَّةٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ (26) وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّئَِّاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۢ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ) (27). قد يخطئ من يظن أن الدين والرسالات ووجود الأنبياء يمكن أن يساهم في زيادة التشويش والأهتزاز الوجودي للإنسان من خلال وضعه دوما موضع اللوم والتقريع، فكيف يمكن لكائن معرض دوما للتخويف والوعيد أن يكون على قدر من الحرية في التعاطي مع عقله وهو يشعر بأن سيف الله فوق رقبته وإن كان مؤجلا، الحقيقة القضية وإن كان ظاهرها هكذا ولكن الدراسة النفسية لفلسفة الدعوة لله لا يمكنها أن تنجح مع كائن أساسا تدفعه عوامل الخوف أكثر لبيان طريقه، فالإنسان الذي خلق وعينيه في أعلى مكان من جسمه لا يرى بالغالب الطريق الذي يسير عليه إن كان ممهدا ومعبدا، ولكنه يكون أكثر حذرا وتدقيقا عندما تكون الأرض وعرة مليئة بما لم يتوقع (وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡيٗا وَعَدۡوًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ) (90). إذن الجواب على السؤالين السابقين هو بحساب مقدار ما يستفيد الإنسان من التجربة العملية في فهم وجوده يكون قد قبل التغيير، ليس لأن الله يملك القدرة القهرية على إلجاء البشر للإيمان به، بل بما كسبت النفس مثلما جاء مع قوم يونس كما في النص التالي (فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ) (98)، فالإيمان ليس فقط تغيير للتصحيح ولكنه أيضا مستلزم لتجديد عوامل البقاء الضرورية، أو ما يعبر عنه النص (بالتمتع)، إذا الفلسفة التجادلية التي يتبعها منهج السورة هو منهج الدرس وأستخلاص العبر عبر سلسلة من الحقائق التاريخية التي عاشها الإنسان، تستعرض أمامه وتستعرض أيضا النتائج منها ويترك الأمر بعدها للعقل ليختار.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا الكاظمي رئيسا...
-
الأستنباط المنطقي منهج الأنبياء وأولي الأمر في الكشف عن موضو
...
-
الراهنية الزمكانية في النص القرآني واثرها في ترتيب الحكم الش
...
-
رواية (حساء الوطواط) ح19
-
الدين وفلسفة الوجه الأخر.
-
حقيقة صلاة الجماعة في الإسلام...لا فرض ولا سنة.
-
دور الكذب كعامل النفسي في هلاك القرى
-
دروس رمضانية قرآنية في سورة الأعراف.
-
رواية (حساء الوطواط) ح18
-
دروس قرآنية من وحي رمضان.
-
رواية (حساء الوطواط) ح17
-
رواية (حساء الوطواط) ح16
-
رواية (حساء الوطواط) ح15
-
رواية (حساء الوطواط) ح14
-
رواية (حساء الوطواط) ح13
-
هل تنجح الفلسفة في تنوير العقل الديني التاريخي ج1
-
الحب والموت بين وجودنا الأول ووجودنا الراهن
-
الترتيل بين الفهم والمفهوم.
-
رسالتي المتمردة إلى حضرة الكل
-
العبد والعبودية في الفهم الديني... القرآن الكريم أنموذجا.
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|