أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مريم الحسن - الشاهد اللغوي الحيّ على جمال كلام العرب - الجزء الثاني















المزيد.....


الشاهد اللغوي الحيّ على جمال كلام العرب - الجزء الثاني


مريم الحسن

الحوار المتمدن-العدد: 6555 - 2020 / 5 / 5 - 17:36
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


المبحث الثاني :

قال ابن فارس (ت 395 هـ) في كتابه "الصاحبي في فقه اللغة", في باب القول على لغة العرب, هل لها قياس؟ و هل يُشتق بعض الكلام من بعض : «  أجمع أهل اللغة إلا من شذ منهم ـ أن للغة العرب قياساً, و أن العرب تشتق بعض الكلام من بعض , و اسم الجن مُشتق من الاجتنان, و أن الجيم و النون تدلان أبداً على الستر : تقول العرب للدرع : جنّة, و أجنّه الليل, و هذا جنين, أي : هو في بطن أمّه. و أن الإنس من الظهور, يقولون : آنست الشيء : أبصرته. و على هذا سائر كلام العرب, عَلِمَ ذلك مَن علِم و جهله من جهل. » و قال : « و هذا مبنيٌّ أيضاً على ما تقدم من أن اللغة توقيف, فإن الذي وقفنا على أن الاجتنان : الستر, هو الذي وقفنا على أن الجنّ مُشتق منه, و ليس لنا اليوم أن نخترع, و لا أن نقول غير ما قالوه, و لا أن نقيس قياساً لم يقيسوه, لأن في ذلك فساد اللغة و بُطلان حقائقها».1

و جاء في تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري (ت 370 هـ) : « و كلام العرب إذا اتفق لفظه, فأكثره مشتق بعضه من بعض. »2 و قال ابن دحية الكلبي الأندلسي (ت 633 هـ) في كتاب التنوير : « الاشتقاق من أغرب كلام العرب, و هو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن الرسول لأنه أوتى جوامع الكلم, وهي جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ».3  كما أن أول ذكر لظاهرة الاشتقاق كان على لسان الحديث إذ جاء فيه : « قال الله : أنا الله, و أنا الرحمن, خلقت الرحم و شققت لها من أسمي فمن وصلها وصلته, و من قطعها بتتّه. »4

و عن طبيعة هذه العلاقة الخاصة التي تربط ظاهرة الاشتقاق بلغة العرب حصراً دون سواها باعتبار أنها هوية لها و خاصية خاصة من خصائصها المميزة لها و التي تتوافق بشكل تام مع ثقافة و سلوكيات المتكلمين بها. يقول محمد المبارك في كتابه فقه اللغة و خصائص العربية : « تتجمع ألفاظ اللغة العربية في مجموعات, كلُّ مجموعة منها تشترك مفرداتها في حروف ثلاثة و في معنى عام يوحّدها, ومن ثم تنفرد كل كلمة فيها و تتميّز عن قريباتها في النسب بصيغة أو بمبنى مختلف يُلحق بها معنى خاص ناشىء إما عن صيغتها الخاصة أو عن عوامل اجتماعية و ظروف تاريخية أبعدتها عن المعنى الأصلي لجذرها الثلاثي الذي تفرعت عنه فكلمة حدق و ما تفرّع عنها من كلمات مثل أحدق, حديقة, حدقة العين, كلها كلمات تتضمن معنى الإحاطة الذي هو المعنى الأول لمادتها الأولى (ح د ق) ». و بهذا يمكننا القول أن الألفاظ العربية تشبه في قوانين تجمعها و نسبها و أصلها قوانين المتكلمين بها إذ أنها مثلهم تتجمع في قبائل أو عائلات معروفة يربط كل منها نسب واحد.5

معنى الاشتقاق

الاشتقاق في اللغة هو "أخذ شق الشيء وهو نصفه".أما الاشتقاق في الكلام والخصومة هو الأخذ منه يمينًا وشمالاً مع ترك القصد.و اشتقاق الحرف من الحرف هو الأخذ منه.6
قال ابن منظور في معجم لسان العرب : « شقّ يشقُّ شقوقاً, منه شقُّ النبت أي في أول ما تنفطر عنه الأرض. - الشقُّ بمعنى الانفتاح أيضاً, - شقُّ الصيح إذا طلع الصبح و انفطرت السواد الليل أو إذا طلع الصبح كأنه شقَّ موضع طلوعه منه. و منه : شق أمره : انفرق و تبدّد اختلافاً, و شقّ فلان العصا أي فارق الجماعة. اشتقاق الشيء أي الكلام إذا أخرج أحسن مخرج منه اشتق الخصمان و تشاقا أي أخذا في الخصومة يميناً و شمالاً مع ترك القصد و هو الاشتقاق.»7. و قال الزبيدي في معجم تاج العروس: « إنّ مادة الاشتقاق هي : شقٌ يشقُ شقاً, بمعنى الافتراق, و منه "شق الخارجي عصا المسلمين" أي فرّق الخارجي جماعة المسلمين. و الشق بمعنى الفصل في الشيء, و الشقيق : كل ما انشقّ نصفين, فكل واحدٍ منهما شقيق الآخر. و الاشتقاق : أخذ الشيء و هو نصفه و هكذا بنيان الشيء من المرتجل»8

اأما في الاصطلاح, فكلمة الاشتقاق عند علماء اللغة جاءت على تعريفات عديدة فقيل9 :
• هو أن تجد بين اللفظين تناسباً في المعنى و التركيب فترد أحدهما إلى الآخر.
• هو أن تأخذ من اللفظ ما يناسبه في التركيب فتجعله دالاً على معنى يناسبه في المعنى.
• هو ردّ لفظ إلى آخر لموافقته إياه في حروفه الأصيلة و مناسبته له في المعنى.
• هو ما وافق أصلاً بحروفه الأصول و معنى بتغيير ما.

و في المعجم المفصل في علم الصرف جاء أن الاشتقاق هو :
1- اقتطاع فرع من اصل يدور في تصاريف حروف ذاك الأصل.
2- أخذ كلمة من أخرى بتغيير ما مع تناسب في المعنى.
3- رد كلمة إلى أخرى لتناسبهما في اللفظ و المعنى.
4- نزعُ لفظ من آخر بشرط مناسبتهما معنًى و تركيباً في الصيغة.10

أما السيوطي فقد عرّف الاشتقاق في كتابه المزهر على أنه : « أخذ صيغة من أخرى مع اتفاقهما معنًى و مادة أصلية و هيئة تركيب ليُدَلُّ بالثانية على معنى الأصل بزيادة مفيدة لأجلها اختلفا حروفاً أو هيئة كضارب من ضرب و حَذِر من حَذَر. »11
و في كتابه الاشتقاق, عرّف عبد الله أمين الاشتقاق على أنه : « أخذ كلمة من كلمة أو أكثر مع تناسب بين المأخوذ و المأخوذ منه في اللفظ و المعنى » 12

فالاشتقاق إذاً. « ظاهرة أصيلة في اللغة العربية تحدث ضمن منهج عملي تطبيقي يقوم على أساس العلاقة الوضعية بين الدال و المدلول التي افترضها علماء العربية الأوائل. و هو نوع من القياس اللغوي للمفردات ينتفع منه متكلمو اللغة في سدّ حاجاتهم إلى الألفاظ التي تخدم المعاني المعبر عنها. و هو عبارة عن توليد لبعض الألفاظ من بعض, والرجوع بها إلى أصل واحد يُحدّد مادتها, و يوحي بمعناها المشترك الأصيل, مثلما يوحي بمعناها الخاص الجديد. و يعود سبب الاشتقاق إلى طبيعة اللغة العربية بكونها لغة اشتقاقية تستطيع إثراء نفسها بزيادة مفرداتها, لتتمكن من قوة التعبير و مواكبة الحداثة في جدّة الموضوعات. »13

أغرض الاشتقاق و أهميته

قال أبو بكر السرّاج ( ت 316 هـ) في رسالته في الاشتقاق : «  الغرض في الاشتقاق أنّ به اتسع الكلام,و تسلّط على القوافي و السجع و الخطب, وتصرّف في دقيق المعاني, و لو جمدت المصادر و ارتفع الاشتقاق في الكلام لم يوجد في الكلام صفة لموصوف, و لا فعل لفاعل, و فضل لغة العرب على سائر اللغات بهذه التصاريف وكثرتها. » 14 و أضاف : «  من تعاطى علمه سهل عليه حفظ كثير من اللغة لأن أكثر الكلام بعضه من بعض, فإدا مرت ألفاظ منتشرة بأبنية مختلفة تجمعها جعل ذلك رباطاً لها فلم تعجزه, وحفظ الكثير بالقليل ــ و من المنفعة أيضاً أنه ربما يسمع العالم الكلمة لا يعرف من أجل بنائها و طبيعتها, و يعرف ما يساوي حروفها فيطلب لها مخرجاً منه فكثيراً ما يظفر … و على هذا سار العلماء في تفسير الأشعار و كلام العرب, و من ذلك أنه متى روى بعض الرواة حرفاً لا يعرفه بذلك البناء فردّه إلى ما يشتقه منه وثق بصحة الرواية و أمن التصحيح. » 15. و قد أكد ابن جني (ت 392 هـ) هذه المنفعة بأن نقلها عن السرّاج في كتابه الخصائص فقال : « و ذكر أبو بكر أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشك فيها, فإذا رأى الاشتقاق قابلاً لها أنَسَ بها و زال استيحاشه منها. »16

أما في العصر الحديث و بعد تطوّر علم اللغة و توسع أفاقه إلى علوم عديدة اهتمت بدراسة اللغة بوجهيها العام و الخاص , عمد بعض اللغويين العرب إلى الإفادة من هذا التطور لا سيما من طريق علم اللغة المقارن لتظهير أغراض الاشتقاق العربي و تبيين فوائده و ذلك عبر مقارنته بظاهرة الاشتقاق الموجودة في بعض اللغات الأخرى, فظهر بشكل جلي و واضح تمايز الاشتقاق العربي عما سواه من حيث طبيعة اللغة التي ينتمي إليها و خصوصية قوانينها التي تسمح لها بالإفادة منه بشكل مستمر و متجدّد, و هذا عكس حال الاشتقاق في اللغات الأخرى التي تعتمده فقط لتتبع أصول الكلمة و لدراسة تاريخها و مراحل تطورها عبر الزمن من دون القدرة على الاستفادة منه لتوليد كلمات جديدة أو لتدقيق معانيها العامة بمعانٍ خاصة كما هو الحال عليه مع علم الاشتقاق العربي.

و عن هذا الأمر يقول صالح سليم الفاخري في كتابه تعريف الأفعال و المصادر و المشتقات : «  إما الاشتقاق فهو عند الغربيين أحد فروع علم اللغة, يدرس المفردات و ينحصر مجاله في أخذ ألفاظ القاموس كلمة كلمة و تزيد كل واحدة منها بما يشبه أن يكون بطاقة شخصية يُذكر فيها من أين جاءت و متى و التقليبات التي مرّت بها. فهو بهذا المفهوم علم نظري عملي, يعنى بتاريخ الكلمة و يتتبع حياتها على مر الأزمان و العصور. أما الاشتقاق عند علماء العربية فهو علم تطبيقي عملي يقوم على توليد لبعض الألفاظ من بعض و الرجوع بها إلى أصلٍ واحد يُحدّد مادتها و يوحي بمعناها المشترك الأصيل مثلما يوحي بمعناها الخاص الجديد.»17

و هذا الرأي يتفق مع ما قاله محمد المبارك في كتابه فقه اللغة و خصائص العربية إذ جاء فيه : « لا شك أن هذه الطريقة في توليد الألفاظ بعضها من بعض تجعل من اللغة جسماً حياً تتوالد أجزاؤه و يتصل بعضها ببعض بأواصر قوية واضحة و تغني عن عدد ضخم من المفردات المفككة المنعزلة التي كان لا بد منها لو عدم الاشتقاق, و إن هذا الارتباط بين ألفاظ العربية (…) خصيصة عظيمة من خصائص هذه اللغة تُشعر متعلمها بما بين ألفاظها من صلات حية تسمح لنا بالقول : إن ارتباطها حيوي و إن طريقتها حيوية توليدية و ليست آلية جامدة. أما طريقة اللغات الأخرى و لا سيما الهندية الأوربية فهي آلية أكثر منها توليدية و إن كان للاشتقاق فيها نصيب و لكنه محدود فإن الطريقة الغالبة في هذه اللغات هي طريقة النحت و إلصاق الكلمات بعضها ببعض. »

أراء القدماء في الاشتقاق

لم يتفق كلمة اللغويين القدماء على تأكيد ظاهرة الاشتقاق, فمنهم من أكدها و هم الأكثرية و منهم من نفاها و كانوا الأقلية, كحال إبراهيم بن محمد المعروف بنفطويه النحوي الذي عاصر السرّاج و خالفه رأيه في الاشتقاق. و مما ينقله لنا التراث عن أمر هذا الخلاف ما ذكره القفطي (ت 646 هـ) في كتابه انباه الرواء على انباه النحاة, إذ قال: « و كان ينكر الاشتقاق في كلام العرب (يقصد نفطويه), و يحيله, و له في ذلك مصنف, و كل حجّة فيه مدخولة, و كان أبو بكر بن السرّاج في طرف آخر في هذا النوع, يتهافت في الاشتقاق و إثباته و استعماله تهافتاً يخرجه عن حد الحقيقة الماشية على أصول من تقدم. »18 , على أن المعتمد و الذي راج و شاع منذ تلك الفترة إلى يومنا هذا هو ترجيح رأي الغالبية المؤيدة لرأي الاشتقاق , و في هذا الشأن يقول ابن السرّاج في مقدمة رسالته الاشتقاق : « هذا كتاب نوضّح فيه الاشتقاق الواقع في كلام العرب, لما يعرض من الحيرة و الاضطراب لكثير من الناس فيه, فهم مختلفون, فمنهم من يقول : لا اشتقاق في اللغة البتة و هم الأقل. ومنهم من قال : بل كل لفظتين متفقتَين فإحداهما مشتقة من الأخرى, و منهم من يقول بعض ذلك مشتق, و بعضه غير مشتق, و هؤلاء هم جمهور أهل اللغة. على أنهم خلطوا بعض التخليط, فجعلوا الأصل فرعاً, و الفرع أصلاً. »19

و قال عنه ابن جني في الخصائص : « الاشتقاق عندي على ضربين كبير و صغير. الصغير أن تأخذ أصلاً من الأصول فتتقراه فتجمع بين معانية و إن اختلفت صيغه و معانيه مثلاً سلم فمنها معنى السلامة كسلم و يسلم و سالم و سلمان و سلمى و السلامة . أما الأكبر أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية فتعقد عليه و على تقاليبه الستة معنى واحد, تجتمع التركيب الستة و ما يتصرف من كل واحد منها عليه و إن تباعد شيئ من ذلك عنه ردّ بلطف الصنعة و التأويل إليه. »20.

و لاحقاً في كتابه شرح التسهيل و في معرض شرحه للاشتقاق عارض ابن دحية الأندلسي رأي ابن جني في الاشتقاق الأكبر فقال : « الاشتقاق : أخذ صيغة من أخرى مع اتفاقهما معنى و مادة أصلية و هيئة تركيب لها, ليُدل بالثانية على المعنى الأصل, بزيادة مفيدة, لأجلها اختلفا حروفاً أو هيئة, كضارب من ضرب و حَذِرٌ من حَذِر. و طريق معرفته تقليب تصاريف الكلمة, حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل الصيغ دلالة اطراد أو حروفاً غالباً, كضَرْب فإنه دال على مطلق الضرب فقط, أما ضارب و مضروب و يضرب و اضْرِبْ فكلها أكثر دلالة و أكثر حروفاً و ضرب الماضي مساوٍ حروفاً و أكثر دلالة, و كلها مشتركة في مادة "ض ر ب" و في هيئة تركيبها, و هذا هو الاشتقاق الأصغر المحتج به. أما الأكبر فيحفظ فيه المادة دون الهيئة , فيجعل " ق و ل" و " و ق ل" و "ل ق و", و تقاليبها الستة, بمعنى الخفة و السرعة. و هذا مما ابتدعه الإمام أبو الفتح ابن جني, و كان شيخه أبو علي الفارسي يأنس به يسيراً,و ليس معتمداً في اللغة, و لا يصح أن يُستنبط به اشتقاق في لغة العرب, وإنما جعله أبو الفتح بياناً لقوة ساعده و ردّه المختلفات إلى قدر مشترك, مع اعترافه و علمه بأنه ليس هو موضوع تلك الصيغة »21

و كما كان من شأن اختلافهم حول أمر الاشتقاق نفسه, فقد اختلف القدماء أيضاً حول أصل المشتقات, و ذهبوا في خلافهم هذا مذاهب مختلفة, كحال مذاهبهم في مسألة النحو , فانقسموا بين مؤكِدٍ على أن المصدر هو الأصل في الاشتقاق, و هذا كان مذهب البصريين, و بين مخالف لهذا الرأي, و مؤكِد على أن الفعل هو الأصل في الاشتقاق, و هذا كان مذهب الكوفيين.

مذهب مدرسة البصرة

من أبرز حجج البصريين على أن المصدر هو الأصل الاشتقاق , قولهم 22:
• إنما المصدر سُمّي كذلك لصدور الفعل منه.
• إن المصدر اسم, و الاسم يقوم بنفسه و يستغني عن الفعل على عكس الفعل الذي لا يقوم بنفسه و يفتقر إلى الاسم. و بهذا, فإن من يستغني بنفسه و لا يفتقر إلى غيره أوْلى بأن يكون أصلاً مما لا يقوم بنفسه و يفتقر إلى غيره.
• إن المصدر يدل على زمان مطلق و أما الفعل فيدل على زمان معين, و بما أن المطلق أصل للمقيّد فكذا المصدر أصلٌ للفعل.
• إن المصدر يدلّ على شيء واحد و هو الحدث, أما الفعل فيدل بصيغته على شيئين الحدث و الزمن, و بما أن الواحد هو أصل الاثنين كذلك المصدر أصل الفعل.
• المصدر له وجه واحد, بينما الفعل له عدة أوجه تختلف باختلاف تصريفه, و كما أن الذهب هو نوعٌ واحد و ما يوجد منه أنواع و صيغ مختلفة, كذلك هو حال المصدر بأصله و الفعل هو صيغة منه.

مذهب مدرسة الكوفة

احتج الكوفيين على البصريين لقولهم بالمصدر أصلاً للاشتقاق, ببراهين ذهبوا بها إلى أن الفعل هو الأصل لا المصدر. و كان من بين أبرز براهينهم ما قالوه 23 :
◦ بإن المصدر يصح لصحة الفعل و يعتل لاعتلاله : نحو قائم قواماً و قام قياماً.
◦ و إن الفعل يعمل يعمل في المصدر نحو : قلتُ قولاً و ضربتُ ضرباً و أكلتُ أكلاً. و بما أن رتبة العامل قبل رتبة المعمول كذا وجب أن يكون المصدر فرعاً للفعل.
◦ و بإن ثمة أفعال لا مصدر لها مثل : نعم, بئس, عسى, ليس, فلو كان المصدر أصلاً لما خلا من هذه الأفعال لاستحالة وجود الفرع من غير الأصل.
◦ و بأن المصدر لا يُتصوّر معناه ما لم يكن فعل فاعل, و الفاعل وُضع له فَعَلَ و يَفْعَلُ, فينبغي بالفعل الذي يُحقّق تصوّر معنى المصدر و يُعرّفه أن يكون أصلاً له.

هذه كانت مذاهب القدماء في الاشتقاق, أما في العصر الحديث فقد بيّن عبد الله أمين في كاتبه الاشتقاق, بأن الخلاف الذي دار حول أصل الاشتقاق بين مدرستَي البصرة و الكوفة كأن في حقيقته جدلي تناكفي, و بأن مردّه طبيعة العلاقة التنافسية التي كانت قائمة بين علماء المدرستين آن ذآك و سياق خلافهم القديم حول قضايا النحو بشكل عام , و بأن الأصل في الاشتقاق لا هو الفعل كما قال الكوفيين و لا هو المصدر كما قال البصريين, بل هو أصل آخر أبعد منهما و سابق عليهما بكثير, فقال :

« أصل المشتقات جميعاً شيء آخر لا هو المصدر, ولا هو الفعل, كما أن الفعل مقدّم على المصدر, و على جميع المشتقات في النشأة, وهذه المشتقات جميعها, و معها المصدر, مشتقة من الفعل, بعد اشتقاق الفعل من أصل المشتقات, التي هي أسماء المعاني من غير المصادر وأسماء الأعيان والأصوات. فقد اشتق العرب الأفعال من أسماء المعاني من غير المصادر اشتقاقاً صريحاً لا مجال للشك فيه. و من هذه الأفعال اشتقوا المصادر و جميع الأسماء فقد اشتقوا من أسماء العدد و أسماء الزمن , و هي أسماء معانٍ جامدة (…) على أن هذا الأصل الحقيقي للاشتقاق لم يفُت علماء العربية كلهم, فذكر ابن جني, في النصف الأخير من القرن الرابع, الاشتقاق من اسم الصوت, ومن اسم العين ذكراً صريحاً, غير أن هذا الذكر, جاء متأخراً, بعد أن وُضعت علوم اللغة العربية كلها, ولم يبقَ مجال لمتابعة ابن جني ووضع قواعد جديدة. و ذكر ابن سيده الأندلسي في النصف الأول من القرن الخامس الاشتقاق من اسم العين ذكراً صريحاً في المخصص ولكن ذلك جاء متأخراً كذلك»24

أصل المشتقات

كما تبيّن أعلاه, فإن أصول المشتقات بحسب تبيين عبد الله أمين هي أسماء المعاني الجامدة و أسماء الأعيان و الحروف و الأصوات. و هذه الأسماء برأي أمين تتوزع على ست مجموعات هي :

1. أسماء المعاني الجامدة من غير المصادر: كأسماء الأعداد و أسماء الزمان, مثل فعل وحّد و توحّد من الواحد و فعل أصبح من الصباح و فعل أعشى من العشاء.
2. أسماء الأعيان الحسية و المعنوية : كأسماء الأمكنة و القبائل و الأقارب, مثل فعل تبنّى أيه اتخذه ابن. و فعل تيمّم إي صار من تميم و فعل تمجوس أي صار مجوسي, و فعل تأرض أي التصق بالأرض من الأرض.
3. أسماء الأعيان الحسية كأسماء أعضاء الجسم مثل : رأس يرأسُ ترأّس من الرأس, و وجّه يوجّه يتوجّه من الوجه.
4. أسماء أعيان حسية من ضروب شتى , مثل : الإبرة و منها اشتق اسم صانعها الأبّار و المأبور الذي لسعته إبرة العقرب و الشاة المأبورة التي ما عادت تأكل بسبب إبرة بلعتها مع العلف. و أيضاً في مثل : الإبل أي الجمال و منها تأبّل الرجل إبلاً أي اتخذها و ملكها, و أبّلَ الرجل أي كثرت إبله. و أيضاً اسم الذبابة التي منها اشتق فعل ذبّ يذبُّ.
5. حروف المباني مثل فعل تأتأ و التأتأة إذا ما تعثر في كلامه مشتق من حرف التاء , و فأفأ و الفأفأة إذا ما أكثر من الفاء في تلفّظه مشتق من حرف الفاء. و حروف المعاني مثل فعل سوّف إذا ما أجّل أثر من مرة المشتق من حرف المضارعة سوف, و فعل لوليت "أي إذا قلتَ لولا" المشتق من حرف التمني لولا.
6. أسماء الأصوات مثل فعفع الراعي بالغنم أي زجرها و قال لها فع فع. وأَبَسَّها إذا دعاها إلى الحلب فقال لها بِس بِس. و أصوات الطبيعة مثل خرخر من الخرير و هو صوت الماء. و عن هذا الأصل في الاشتقاق يقول ابن جني في الخصائص : «  و ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو الأصوات المسموعات, كدويّ الريح و حنين الرعد و خرير الماء و شحيج الحمار و نعيق الغراب و صهيل الفرس و نزيب الظبي و نحو ذلك. ثم وُلدت اللغات عن ذلك فيما بعد. و هذا عندي وجهٌ صالح و مذهبٌ متقبَل. »25
7. و يُضاف إلى هذه الأصول الستة, مجموع سابعة تشمل كل الأسماء الأعجمية التي عرّبها العرب و اشتقوا منها فيما بعد ألفاظاً جديدة مثل لفظتَي جورب و البريد. فالجورب هو لفافة الرجل, و بالفارسية كورب. و البريد أصله فارسي " بريده دم" و تعني محذوف الذنب لأن بغال البريد كانت محذوفة الذنب لتمييزها.26

هوامش:

1- ابن فارس, الصاحبي في فقه اللغة , 2-أبو منصور الأزهري, تهذيب اللغة , 3-الأصفهاني, الكاشف عن المحصول في علم الأصول, الجزء الثاني. , 4-القفطي, انباه الرواء على انباه النحاة. , 5-محمد المبارك, فقه اللغة و خصائص العربية. ,6-إميل بديع يعقوب, المعجم المفصل في علم الصرف. ,7-ابن منظور, لسان العرب. ,8-الزبيدي, تاج العروس. , 9-محمد صديق حسن خان, العلم الخفّاق من علم الاشتقاق., 10-المعجم المفصل في علم الصرف لإميل بديع يعقوب. , 11-أبو بكر السيوطي, المزهر, الجزء الأول. , 12-عبدالله أمين, الاشتقاق. , 13- الدلالة المركزية و الدلالة الهامشية بين اللغويين و البلاغيين. , 14-رسالة الاشتقاق لأبي بكر محمد بن سري بن السرّاج. , 15-المرجع السابق. , 16-الخصائص لابن جني. , 17-صالح سليم الفاخرى, تعريف الأفعال و المصادر و المشتقات. , 18- انباه الرواة على انباه النحاة. , 19-رسالة الاشتقاق لأبي بكر السرّاج. , 20-الخصائص لابن جني. , 21-المزهر للسيوطي, الجزء الأول و الأصفهاني, الكاشف عن المحصول في علم الأصول, الجزء الثاني. , 22-انظر الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين و الكوفيين للأنباري, باب مسألة الفعل و المصدر أيهما مشتق من صاحبه,صفحة 192. , 23-المرجع السابق. , 24-الاشتقاق لعبدالله أمين. , 25-الخصائص لابن جني. , 26- انظر الاشتقاق لعبدالله أمين باب الاشتقاق الصغبر.



#مريم_الحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاهد اللغوي الحيّ على جمال كلام العرب - الجزء الأول
- الأنظمة التعليمية و تأخر النهوض في البلدان العربية: متى عُرف ...
- وباء
- أحاديث على جدار الوقت
- فيروس ناراياما
- فايروس
- من هي المرأة العربية؟
- الساميون الأوائل : موطنهم الأول و لغتهم الأم
- سراب وطني
- مؤامرة
- البدوي
- الباب
- صدام الحضارات و حرّاس الثقافات
- اللحظات الأخيرة...
- ولادةُ رؤية ...
- الجمال
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
- أي نعم أجل أيواً ... دليلُ إثبات
- البحث المنهجي كأسلوب حياة... وسيلة للتطور و للإرتقاء
- جواب


المزيد.....




- العثور على مركبة تحمل بقايا بشرية في بحيرة قد يحل لغز قضية ب ...
- وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان يدخل حيّز التنفيذ وعشرات ...
- احتفال غريب.. عيد الشكر في شيكاغو.. حديقة حيوانات تحيي الذكر ...
- طهران تعلن موقفها من اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنا ...
- الجيش اللبناني يدعو المواطنين للتريّث في العودة إلى الجنوب
- بندقية جديدة للقوات الروسية الخاصة (فيديو)
- Neuralink المملوكة لماسك تبدأ تجربة جديدة لجهاز دماغي لمرضى ...
- بيان وزير الدفاع الأمريكي حول وقف إطلاق النار بين إسرائيل ول ...
- إسرائيل.. إعادة افتتاح مدارس في الجليل الأعلى حتى جنوب صفد
- روسيا.. نجاح اختبار منظومة للحماية من ضربات الطائرات المسيرة ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مريم الحسن - الشاهد اللغوي الحيّ على جمال كلام العرب - الجزء الثاني