سفيان عادل الضمور
الحوار المتمدن-العدد: 6555 - 2020 / 5 / 5 - 10:20
المحور:
الادب والفن
مع انتشار فيروس كورونا المستجد أصبح لزاما البحث عن أفضل الطرق للوقاية من هذا الشر الذي يفترس العالم من كافة الجهات. لذلك تعيش المجتمعات و الدول التي اجتاحها كورونا حالة من الذعر بأن يقضي الفيروس على شعوبها، وربما على الوجود الإنساني نفسه. وأعلن حظر السفر والتجول وأوقفت الفعاليات الثقافية والرياضية والفنية في العديد من البلدان. فرض هذا الواقع العمل من المنزل و الالتزام بما يوصى به للوقاية من خطر هذا الفيروس الفتاك. و في ظل هذه الظروف القاسية التي نعيشها فإنه من الصعب لقصة أو رواية التنبؤ بما يخفيه المستقبل لهذا الكوكب, إلا أنه كان من السهل على الكاتب الأمريكي دافيد هنري ثورو أن يطلعنا في كتابه "والدن، أو الحياة في الغابات" على بعض الوصايا مثل "العزلة" و" التباعد" و" الحياة البسيطة "التي نحن أحوج ما نكون إليها في هذا الوقت العصيب.
يعتبر ثورو من اعلام الادب الامريكي في القرن التاسع عشر و قد اكتسب شهرة واسعة بعد كتابة روايته التي هي أقرب ما تكون سيرة ذاتية فلسفية نتيجة إيمانه بفلسفة التسامي التي تبنى أفكارها بعد صداقة طويلة برالف والدو ايميرسون منظر هذه الحركة. حاول ثورو في كتابه أن يبرز هذه الفلسفة التي تنادي بسمو النفس البشرية وتأثير المجتمع ومؤسساته على نقاء الفرد,و أن أفضل حالات البشر تتحقق عندما يكونون معتمدين على ذواتهم ومستقلين. نشر الكتاب في عام 1854 بأكثر من 1000 طبعة و ترجم إلى عشرات اللغات ويحكي تجربة ثورو خلال السنتين التي قضاهما في بيت صغير بناه قرب "والدن پوند" وسط غابة يمتلكها صديقه ايميرسون في ولاية ماساتشوستس.
مع انطلاق الحملات و الدعوات بضرورة البقاء في المنزل و العزل و عدم الخروج لإفساح المجال لمكافحة الوباء العالمي و الحد من انتشاره ,استهل ثورو كتابه ببعض الكلمات التي نحن بأمس الحاجة للسير عليها و انتهاجها :" عندما كتبت هذه الصفحات، أو الجزء الأكبر منها، كنت أعيش وحيدا في الغابات. أقرب جار لي يبعد عني ميلا. وكنت أعيش في بيت بنيته بنفسي في ماساتشوستس, وكنت أحصل على لقمة عيشي بعمل يداي. عشت هناك عامين وشهرين". كتب ثورو تجربنه في والدن بوند و نصح القراء على التخلي عن الحياة النمطية و التقليدية التي نعيشها يوم بعد يوم فبالنسبة لثورو تعد الطبيعة هيكل الالوهية و الملاذ الهادئ الذي قد يخلصنا من حياة الابتذال و الإسراف.
بدأ ثورو رحلته في مارس حين اشترى فأسًا وذهب إلى الغابة بالقرب من والدن بوند لقطع أشجار الصنوبر للأخشاب في "أيام الربيع اللطيفة فمع ذوبان جليد البركة وغناء الطيور ، واصل تقطيع الخشب للمنزل الذي أصبح صديقًا لأشجار الصنوبر ، وتناول غداءه بالخبز والزبدة في أيدي مغطاة بالقار ، أثناء قراءة الصحيفة عند الظهر. في أوائل شهر مايو ، ساعده بعض الأصدقاء في رفع منزله ، وبعد ذلك ، صعد إليه وسقفه. انتقل في الرابع من يوليو ، وبنى المدخنة في الخريف ، وخبز خبزه على نار مفتوحة في الخارج. فمع تصاعد وتيرة الفايروس عالميا أصبح لزاما على الافراد التخلي عن النمط المعيشي التقليدي وعقد صك صلح مع الطبيعة بوصفها ملجأ الإنسان الوحيد نحو الحرية فمن خلالها يتحرر الإنسان من كافة أشكال المراقبة الاجتماعية التي عززت بالتطور الهائل للتكنولوجيا. من خلال تجربته لمدة عامين في والدن ، أدرك ثورو مدى سهولة وسهولة تناول الطعام في بعض الأحيان فقط عن طريق غلي عشب بري يسمى الرجلة لتناول العشاء أو بعض آذان الذرة. حتى الخميرة لخبزه ، الذي صنعه من حبوبه الخاصة ، والملح للتوابل ،هناك حيث يمكنه تجنب "كل التجارة والمبادلة" باستثناء الحصول على الملابس والوقود و ما أحوجنا الان للاعتماد على ما توفره الطبيعة لسد احتياجاتنا الذاتية لتجنب نفاذ المخزون المحتمل.
تكاد العزلة أن تكون خير الوصفات التي يقدمها الأطباء للناس لتجنب خطر الإصابة بكوفيد 19 ,وقد تكون سلاح ذو حدين ,فمن الممكن أن تفضي إلى الشعور بالتوتر والاكتئاب وعدم الراحة و تزايد الشعور بالعجز وعدم القدرة على التكيف مع الظروف الجديدة. وقد تكون هناك صعوبات في تنظيم الأنشطة الخاصة والعملية في الحياة اليومية. وفي الجانب الأخر, ومع عدم توفر اللقاحات و العلاج للفايروس حاليا الذي ربما سيحتاج لوقت طويل, باتت العزلة الحل الامثل لإبطاء سرعة انتشاره في الدول التي تعاني من ضعف الامكانات الصحية و الطبية. لذا يراهن ثورو على فكرة العزلة برفقة الطبيعة, فبمجرد لجوء الإنسان إليها سيكون قادرا على تحليل وضعه و السلبيات التي رافقته في المجتمع حيث يرى" أن الأوان لم يفت للتخلي عن تحيزنا "و عيش تجربة فريدة قد تنسينا لا بل تجنبنا الخطر المحدق بنا بفعل تجاهلنا لأبسط الامور مثل غسل اليدين و احترام المسافة بين الأفراد. أعتقد أنه إذا قمنا بصفتنا أشخاصًا بإجراء المزيد من "التجارب" في حياتنا الخاصة من خلال تغيير السلوكيات والروتين اليومي ووزن مزايا وعيوب هذا التغيير ، فإننا سنكون في وضع أفضل.
يعتقد ثورو أنه عندما نسمح لأنفسنا بالانفصال عن المجتمع، سوف نكون قادرين على رؤية أين نحن ، ومن نحن وأين نسير. العزلة هي الطريقة التي ينعكس بها البشر على ماضيهم والقرارات التي اتخذوها, قد تخيف البعض ، لكن الشعور بالصمت التام والانفصال التام عن أي شكل من أشكال "الحياة الطبيعية" يوفر السلام والاسترخاء. من جهة اخرى ,البعض ينظر للعزلة على أنها تجربة سلبية و يرجع ذلك إلى تصور المجتمع المنحرف لها على أنها شيء مزعج يجب تجنبه أي عالم عقاب و البعض لا يحب أن يعيش بمفرده.
ومن ناحية أخرى ,يرى العديد من علماء النفس أن الحجر الصحي و العزلة التي تسبب بها مرض الكوفيد19 قد تتسبب بعديد الامراض النفسية مثل القلق الشديد والهوس بغسل اليدين وخوف الاقتراب من الناس و الاكتئاب مما يدفعنا للتفكير بعمق بما يقدمه ثورو في كتابه حيث يؤكد" ان الإنسان يمكن ان يعيش بنجاح في خضم الطبيعة ,فقد تمنحه الحيوانات الرفقة و تقبله كجزء مألوف من بيئتها, فهنالك علاقة مع أي شيء طبيعي كما أن لا شيء تفعله الطبيعة يمكن أن يجعل الحياة عبءً لأنه جزء منها".
لذا, يؤكد الكاتب على أننا لا نعطي مساحة كافية لأنفسنا كي نتنفس لوحدنا كي نكون قادرين على تجديد وإعادة تواصلنا مع انفسنا . فنلتقي بكثرة وبشكل يومي في المنزل على طاولة واحدة لتناول ثلاث وجبات يوميًا، بالحفلات والمناسبات الخاصة أو العامّة، في المتاجر، المصانع وحتّى في مكتب البريد، وأماكن العمل, و لا عجب حين فصل ثورو ثلاث مقاعد في منزله مقسمه ,الأول للعزلة و الثاني للصداقة و الثالث للمجتمع . ففي عالم الكوفيد19 أصبح التباعد الاجتماعي الذي أشار إليه ثورو في كتابه ضرورة لتجنب الإصابة بالفيروس و ان نجنب أنفسنا الوقوع في شرك هذا المرض.
من المؤكد ان كوفيد19 سيتسبب بالعديد من الخسائر و أهمها الجانب الاقتصادي الذي يشغل بال قادة العالم, لكن إذا اردنا تجنب الاضرار النفسية المحتملة للفايروس فيمكن لهذا الكتاب أن يفي بالغرض كعلاج متاح بالمجان و بخطوات بسيطة لا تحتاج الكثير من المال للتصنيع فالمكونات جاهزة بمجرد انغماسك في الطبيعة .بالإضافة ان الكتاب يعتبر دستور للعيش بحكمة الطبيعة و هو دعوة للإنسان للتفكير بالعزلة في الطبيعة و تقدير أهميتها في التخلص من مشاكل العولمة التي حولت البشر إلى جراد سيدمر الكوكب قريبا ما لم نتدارك الموقف.
#سفيان_عادل_الضمور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟