|
آخر الأنبياء
يونس أثري
الحوار المتمدن-العدد: 6553 - 2020 / 5 / 3 - 03:49
المحور:
الادب والفن
تستيقظ كل صباح لتجد نفسك موبوء في القلب و العقل. تبدو منهكاً غير قادر على رتق جراحك، و على تجفيف منابع اليأس المُنحفرة داخلك كثغرات ضخمة تلفظ القنوط و الإحتضار. ذلك الذي في المرآة ليس أنت. و أنت لست أنت. مغترب عنك، تروح و تجيئ داخل زنزانتك دون دراية. فقط فيك الآلة العضلية المتحركة. نفسك مُهدرة و ضامرة، اليوم تجد نفسك غير قادر على وصالك، و على استرجاعك تماماً كما كنت قبل شهر. الآن عقلك صار حطاماً. هشاً. و نتناً برائحة الجيفة. أترى كيف اغتيل عقلك حتى صرت غير مبالٍ بما تنطق، و ما تفعل، و ما يصدرك عنك من سفسطات كلام و شطحات أفعال لا وزن لها ولا منطق. زرتك هذا الصباح، أحاول تحاشي مواجهتك بالحقيقة، حقيقة أنك ما عدت نافعاً، على الأقل لو حافظت على منوالك الحالي. يااللأسف، كيف أمكن لعقل متقد كعقلك أن يخبو هكذا ؟ لكم هي ثقيلة وطأة ذلك اليوم عليك. كأن عمرك كله صُهر في صباح باكر ربيعي من مارس. تجلس الآن مواجهاً البياض، حسناً فلتكن شجاعاً، إياك أن تُكفن نفسك، إياك أن ترفع بساعديك منديلاً أبيض، الورقة التي أمامك، التي تخالها شيئاً آخر هي محض ورقة. أو لنقل إيجازاً أنها حضنك الذي هجرته صوب امرأة صدتك و نعتتك بما يقدح ذاتك و يُهون من شأنها. أتأمل يدك المرتجفة .. حسناً حسناً، لن أشوش صفاء خيالك بإمعاني في ملاحظتك. أكتب :
" أنا أحمد المعتزلي. أكتب الآن سيرة ذاتية مختزلة في صفحة. يدي ترتجف أمام هول المُستحضر، و نفسي تراوغني، لا تطاوعني، أنا عصي عن الكتابة، اعتزلت الناس شهراً حتى غير اسمي. يقولون أنني داعية ثقافة، قارئ نهم، هبلته الكلمات و الإيغال في تأمل الوجود و استنطاقه. التهمة باطلة. عكفت لسنين عدة على فهمي نفسي، و فهم الآخر، و فهم هذا العالم الآيل للزوال. أخبرت الناس أن آلهة قديمة تَعود اليوم لتطوي صفحة العالم و تضع عند ختامه نقطة، من صدقني ؟ لا أحد. رماني دعاة العلم بتهمة الميثولوجيا. رماني العقلاء بتهمة التخريف، و احتضنني المتصوفة الذين سرعان ما ركبوا على قضيتي و جعلوني مني ذات مُصطفاة يأتيها الكشف و الإلهام من لدن السماء. أخبرت الناس أن العالم زائل عما قريب. حروب و أماكن موبوءة و زمان راكض نحو الختام. لم يصدقني أحد. ظلت همهمات الناس من حولي، نظراتهم الساخرة أو المتعجبة، تلاحقني حتى احتلَّتني. يقول الأطباء هنا أن حالتي بسيطة. وسواس قهري، و انحراف عقلي بسيط يجعلني أبصر وهماً ما. زارني يونس هذا الصباح، يتهمني أنني مُستلب، مغترب عن ذاتي القديمة منذ شهر كامل. يعتقد جازماً أنني لو عدت إلى نفسي كما كانت، سيتماثل ذهني للشفاء. أجد كلامه غير مقبول و غير مُستساغ. أنا مُرسل أخبر الناس بما اقترفته أيديهم حتى أيقظوا غضب الآلهة الخامد منذ اقتطعت الأرض لأبناء آدم. قبل شهر كامل كنت أجوب شوارع إمزورن في الصباح الباكر، أعاين حال الخليقة الغافلة. أستنشق هواءً نقياً من لهاث الراكضين نحو النقد و الجاه. كان صباحاً عاديا كغيره. لما عدت للمنزل فصلت في مقال طويل آفة العالم و السبيل لمداواته. حذرتهم من سواد قادم و زمن يغتال فيه الأب أولاده، الأم جراءها، ثم يصير العالم بركة حمراء عائمة في السديم الكوني. أنا دون اسم. لكني آخر الأنبياء. اصطَفت نفسي دون توجيه من أعلى. هدتني الكتب لسبيل حق ارتأيت أن أحث للناس على اتباعه. فحشروني في غرفة مطلية بالأبيض، نفيت كتبي كأنها أرواح حية. انكف الأصدقاء و الأقرباء عن الإهتمام لمصيري. رغم كل ذلك، رغم النفور الواضح مني، أصر على أن أكون سيزيفياً أحمل صخرة العالم نحو قمة الإخاء التي هي مستقرها. هذا ما اصطفيت نفسي لأجله، و هذا الورقة التي كانت بيضاء ثم اسودت بسيرتي، رسالة أورثها لمن سيأتي بعدي من أمثالي " وضعت القلم بروية جانباً ثم أسندت رأسك على الجدار. مصر على معانقة عنادك الصارم. أنا آخر من سيتمسك بك ولو صرت قشة لا قوة فيها. ما تقوله عن فساد الموجودات حقيقة، و لكن تخريفاتك عن آلهة قادمة، و عالم سينطوي، جعلت الناس ينفرون منك مستهزئين. ألومك على استهتارك بنفسك. كان يمكن أن تكون نبياً يصدقه قومه. نبياً غير منبوذ. و لكنك أفسدت على نفسك ما ارتجيت تغييره من ظواهر. الآن تتحاشى النظر في وجهي، أجد جالساً قربي بنحافتك المعهودة. أشفق عليك تماماً كما أحبك كرفيق عمر قاسمته فتات ما عندي في الحياة. أجدني مجبراً على تشديد همتك و استنهاضك. أخشى أن يطول مكوثك في مشفى غير العقلاء حتى تضطر يوماً لدفن عقلك دون مراسيم. لم أعرف، حين وصلني اتصال يخبرني بتخلصك من فضيحة الحياة هل أبكيك أم أسعد لهنائك وخلاصك من نفسك ؟ و حين أخبروني أن قلبك كف عن النبض، فكرت فقط في أن أكتب، مادمت نذرت قد نفسك لها ..
#يونس_أثري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زمن الرماد
-
بصدد الوعي الديني، و الإسلام، و الإسلام السياسي في عصر الإمب
...
المزيد.....
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|