حسام تيمور
الحوار المتمدن-العدد: 6550 - 2020 / 4 / 30 - 21:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن اﻷوهام التي تنتجها مختلف الفئات اﻻجتماعية حول نفسها و غيرها, إما للتعويض عن وضع دوني أو لتبرير وضع امتيازي تقول, عكس ما يظن منتجوها و مستهلكوها, بتساوي الجميع في ورطة الزّمان و المكان. و أن عمليّات اﻻستيهام الفردي و الجماعي, تماثل ما تخضع له التماثيل و اﻵثار القديمة من عمليات ترميم, إنه وضع المجتمعات المحكوم عليها بالرّكود الشّقي, أي المكبّلة ب "الرّغبة" في التشبث بالقديم الذي يستوجب جهدا و عناء مستمرين للحفاظ عليه من التآكل فالتﻼشي, و من جهة أخرى بالفضول الذي يُثيره كلّ ما هو جديد, و الذي يتطلب بدوره التخلص من عبئ القديم أوﻻ, و من سطوته ثانيا. هذا ما يُحيلنا على اشكالية "السّلطة" بمعناها الواسع. يرى بارت أن السلطة بهذا المعنى, حاضرة في كلّ العمليات اﻻجتماعية اﻷكثر دقة في التبادل اﻻجتماعي, و ﻻ تقتصر على الدولة و المجموعات و الطبقات. و هذا ما يجعل منها سُلطا تخترق المكان اﻻجتماعي و تسري في الزمن التاريخي. إذ تخترق جسد المجتمع لتتغلغل في شرايينه و أوردته ليُصبح هذا اﻷخير مُبرمجا على فرض خطابها, بتحديد التقسيمات المقبولة التي يسهر المجتمع على مراقبة مدى احترامها : الخير-الشر, الحﻼل-الحرام, المباح-المحظور, اليمين-اليسار...هذا ما يُحوّل السلطة, مع بارت دائما, إلى شبح يُﻼزم كل أجسام المجتمع, بل تصير مُرتبطة بالوجود اﻻجتماعي ذاته و مﻼزمة له.
أما في المجتمع المتخلّف, المحكوم بنظام اقطاعية الحقّ اﻹﻻهي, فالسّلطة تأخذ أبعادا أخرى أشدّ تعقيدا و تركيبا.., و تصبح كما يصفها ع.اﻷنتروبولوجيا السياسية "جورج باﻻندييه" طاقة منتشرة في كلّ مكان, حيث أن "قوّة" البنيات و العﻼقات اﻻجتماعية تُعظّم من دور اﻷعيان و الشيوخ و التقليد و الموروث, في تسويق خطاب السلطة بكافة حموﻻته. بل تساهم أحيانا في إنتاجه أو إعادة ذلك بأشكال مختلفة. هذه القوة التي تتخذها البنيات و العﻼقات في المجتمعات المتخلفة, حيث يسود التقليد و المحافظة, توفر بديﻼ فعليا ﻷدوات التسلّط التقليدية, بل تؤمّن انتظاما ﻻشعوريا أحيانا, ضمن عقيدتها الفلسفية الجامعة.
إذا أخذنا مثﻼ وضع النّخب في هكذا بنية, فسنجد أن الكﻼم المنتج و المستهلك حول استقﻼليتها التامة عن السائد, بعيد كل البعد عن الواقع, و إن أخذ في ظروف و أوقات معينة منحى اﻷساطير و الخرافات. إذ أن ارتباطات تلك النخب باﻻستعمار قديمه و جديده و تبعيتها له,و بكل ما تتيحه من امكانات التحديث و العصرنة و التهافت على اﻻستيراد و اﻻستهﻼك, ﻻ تنآى بها عن تناقضات الفئات اﻻجتماعية. فالمسألة هُنا تتعلّق ب "المنطق السّياسي", الذي ﻻ تُحرّكه "حصرا" المنفعة اﻻقتصادية المحضة. إن وضع التبعية الثانوي أو الهامشي من جهة, و الواقع السياسي المحلّي من جهة أخرى, ﻻ يسمحان لتلك النخب بمحاورة الخارج رسميا, كما ﻻ يمنحانها أي شرعية داخلية "رسميا" أيضا. فماذا يتبقى من هذا اﻻستقﻼل إﻻ الشكل, الذي يتعرّض بدوره لتنكيل ممنهج في مناسبات معلومة؟؟ و إذا تمّ تبني المنطق الحديث من قبل تلك النخب, فإن ذلك ﻻ يتم إﻻ داخل جدران الشركات و النوادي و الصالونات الخاصة. أما خارجها, فالجميع مُلزم بالخضوع لحقيقة السّلطة, بل مجبر على رعاية و تشجيع بضائعها, و المشاركة في إنتاج تلك الحقيقة. جدير بالذكر أيضا, أنّ النّظم المُحافظة كانت تمثل البيئة المثلى ﻻنتعاش النخب و تبرير وضعها اﻻمتيازي ابان فترة ما بعد اﻻستعمار, أمّا اليوم, فإن همّها الوحيد هو استمرار و استقرار الحكم القائم بأية طريقة و تحت أي غطاء.
لقد رأى كثيرون في تعيين وزير أول محسوب على التقنوقراط بعد انتخابات 2002, انقﻼبا على الديمقراطية, أو خروجا عن منهجيتها كما تكلّم "اليازغي" نيابة عن حزبه الذي حُرم من حقّه الدستوري في رئاسة الحكومة. و قد ذهب البعض الى وصف القرار المفاجئ بالعقاب الملكي الموجّه لشعب رفض المشاركة في اﻻنتخابات...قيل الكثير من الكﻼم, لكنّه لم يُﻼمس جوهر اﻹشكال. و أظن أنه كان علينا جميعا أن ننتظر انجﻼء غبار "البلوكاج" الذي تلى انتخابات السابع من أكتوبر, لكي نفهم جيدا ما جرى و ما يجري. لقد أعادت السّلطة نفسها لكن بطريقة كاريكاتورية, حيث استعانت بالحزب الذي كان يعتبر نفسه "ضحية" اﻷمس, لقصم ظهر اﻹسﻼميين اليوم...نعم لقد كان اﻻتحاد, و بالضبط, بمثابة القشّة التي قصمت ظهر "البعير"!! و لنا أن نتعجّب, و نسخر, من كون كﻼ الحزبين المُتآمر عليهما حسب زعمهما, يُخرجان و يَلوكان, بمناسبة أو بدون, أسطوانة المنّ على النّظام!! اﻻشتراكي يقول بفضله في تجنيب البﻼد السكتة القلبية و تأمين اﻻنتقال؟! و اﻹسﻼمي بحكم الفرق في الجهاز المفاهيمي, يقول بفضله في تجنيب البﻼد و العباد "فتنة" الربيع. هنا, و بقدرة قادر, يتحول "فرعون السّلطة" إلى "نبيّ الرّب", ليخاطب الحزبين على التوالي "و تلك نعمة تمنّها عليّ.." قبل الشّروع في تخريبهما...
علّق أحد الفيسبوكيين ساخرا على مآل تشكيل الحكومة المتعثّر قائﻼ : "سعد الدّين العثماني, الوزير المنتدب لدى وزير الفﻼحة و الصّيد البحري, و المكلّف بتشكيل الحكومة" أسيل كثير من المداد مرة أخرى حول الشخص المقصود, و كالعادة أطلق "مفسّرو اﻷحﻼم" العنان لخرافاتهم بسهولة..عن كون القادم الجديد, زعيم لوبي الشركات الكبرى, و مالك العصا السحرية التي ستحل جميع مشاكل البلد اﻻقتصادية الداخلية و الخارجية, و عن الدّور الذي لعب و سيلعب في ابتﻼع المحسوبين(و السّلطة حسيبهم) على المعسكر الليبرالي و الحداثي و حتى اليساري, و صهرهم جميعا في بوثقة "المخزن الجديد"...لقد فطنت السلطة لكون مطلب فصل السّلطة عن الثروة, و هو من أبرز مطالب الحراك الرّبيعي التي لم تنجح المعالجة المخزنية في القفز عليها, لم يخفت بعد و ﻷسباب عديدة, و أيضا ﻻحتمال التحامه بقضايا أخرى أكثر راديكالية و حساسية "الرّيف, الصحراء" و هذا ما يحدث اﻵن..مما يجعل من المقاربة التقليدية القائمة على تحريك منظومة الرّيع لشراء سلم مؤقت غير مجدية. من هنا جائت الخطوة اﻷولى بانسحاب الهولدينغ اللملكي من قطاعات حيوية حساسة, و هو انسحاب تاكتيكي ﻻ غير, و الخطوة الثانية التي نحن بصددها اﻵن, و هي خلق تكتل اقتصادي بديل و مُتحكم فيه بغرض التمويه و صرف اﻷنظار..طبعا تحت شعار : لﻼّه ما أعطى و لﻼّه ما أخذ..
إن فحص الواقع يقول بأن المنطق الحديث لم يُستعمل إﻻ في باب اﻻقتصاد السياسي, و على هذا اﻷساس تزدهر التقنوقراطية, حيث يظل المنهج العلميّ حكرا على اﻻقتصاد السياسي دون غيره من باقي العلوم اﻹنسانية. يقول اﻷستاذ العروي "إن معظم البﻼد العربية اليوم تتقدم قليﻼ أو كثيرا عن طريق التنمية و التصنيع,و هو تقدم ﻻ يواكبه تغيير ملموس في اللغة و الثقافة و اﻷنظمة العائلية و العشائرية و أحيانا حتى في النظام السياسي. تجري اﻷمور و كأنه من البديهي فصل اﻻقتصادي عن الظروف اﻻجتماعية و السياسية, فينادي الكثيرون بضرورة تحقيق العدل و المساواة, دون اعتبار لﻸوضاع الثقافية" (1). إن هذه بالضبط, وصفة البقاء التي يراهن عليها الحكم القائم بعد أن استنفذ تقريبا جميع الخيارات , و دخل في مرحلة استشراء اﻷزمة البنيوية بشكل خانق..
إن نمط اﻹنتاج في التشكيلة اﻻجتماعية المغربية يتكون باﻷساس من بقايا العبودية التقليدية, اقطاع تقليدي و آخر عصري, و بذور نظام رأسمالي يتجه نحو اكتساح باقي اﻷنماط دون المساس بجوهرها.., هذا التعدد و التنافر و التداخل ضمن نفس النسق يفرز خطابا ثنائيا, مزدوجا..حيث يُغلف الخطاب العصري بخطاب تقليدي و العكس, و تظن بعض الفئات أنها تنتج خطابا عصريا في حين أنها تجتر نفس الخطاب التقليدي.. و لنا أن نتعجّب هُنا أيضا, من تحول الخطاب التقدّمي في أحيان كثيرة لخطب وعظ و إرشاد!! فعندما يُحلّل "المثقّف التقدّمي" مثﻼ مسألة اﻻستعمار و أزمة الرأسمالية الراهنة, فإنّه يذهب مباشرة لتبني نظرية المؤامرة بالمنطق السّلفي, و ﻻ يحصرها على الشعوب و ثرواتها و هذا واقع ﻻ يناقشه أحد..بل يضع أنظمة اﻻستبداد و العمالة و اﻻستعمار الجديد ضمن نفس دائرة اﻻستهداف, و ﻻ يكتفي بهذا, بل يلجئ لتبرير أو دعم تحليله لﻸزمة الراهنة, الى نفس الخطاب التقليدي للسلطة, و أحيانا بقاياه التي استغنت عنها و رمت بها الى المساجد حيث يُعاد تدويرها في المساجد ..
و هو شيئ من منطق "داعية" المقاطعة، ذهنيا و سلوكيا
،نظرية و ممارسة، حيث أن المردود السلطوي هنا، يبدأ من حسابات السياسة و الاقتصاد، و لا يتوقف عند رعاية و تعهد نفس نمط الوعي القطيعي !! القائم على "التلقي"، و الانسياق .. !!!
#حسام_تيمور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟