|
سلسلة قصص الجنون 4- حمادووه
حامد تركي هيكل
الحوار المتمدن-العدد: 6548 - 2020 / 4 / 27 - 04:09
المحور:
الادب والفن
تعاني كل القرى، كل المدن من التغيرات المتسارعة. الا ان القرى التي تقع على أطراف المدينة المتوسعة تعاني أكثر. تزحف المدينة باتجاهها فتلتهمها. يتآكل نسيجها العمراني، تخترق جسمها شوارع جديدة. يتغير مجتمعها بشكل أسرع وأكثر ايلاما. هكذا هي المناوي. التي كانت تغفو على ضفة نهر الخورة. صارت جزءً من المدينة، تشدها الشوارع الواسعة، وتحاصرها الاستعمالات الجديدة، فنادق، مطاعم، قنصليات، مكاتب شركات، واسواق. ويكافح أهلها من أجل الابقاء على علاقاتهم القديمة. في غرفة من غرف بيت شرقي يتوسطه فناء مفتوح، من بيوت المناوي وُلد أحمد لأم وأب من الأقارب. وكبر ببطء، تأخر في المشي، وتأخر في النطق، وتأخر في كلِّ مراحل نموه الطبيعية عن أقرانه. ورغم اهتمام أمه وأبيه به ومحاولاتهم علاجه الا أن كل محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح. لم يلتحق أحمد أو حمادة بالمدرسة، ولم يتعلم القراءة والكتابة، وبقيَّ بعيدا عن مخالطة الأطفال. حمادووه، كما يحلو لأمه وأبيه، وأفراد عائلته الممتدة من الأجداد والأعمام والعمات والأخوال والخالات أن يطلقوا عليه كما هي عادتهم في تلك الأيام، أيقن أهله الذين أحاطوه بحب استثنائي أن بعقله عيب لايمكن اصلاحه. فقبلوا بقسمتهم. كان حمادووه يقضي معظم أوقاته في غرفة أمه. كبر وهو يحملق بصورة كبيرة علقها أبوه على جدار الغرفة. صورة بالأبيض والأسود لشاب يرتدي زيا أبيضا ويقف مبتسما ، وتظهر وراءه في خلفية الصورة سفينة. فقد كان أبوه يعمل بحارا. امتلأ ت جدران الغرفة بالصور عندما لاحظ أبواه تعلق ابنهم بها، وبعضها كانت ملونة. وجد حمادووه في تلك الصور عالمه الجميل الذي لايملّ العيش فيه. تخيل حمادووه أن والده رجل خارق، وآمن أنه مركز العالم كله وأيقن أن للأمر علاقة بهذه المراكب التي تظهر دائما في خلفية الصور. عندما ذهبت العائلة للنزهة على ضفاف شط العرب ذات يوم، وتحديدا في شارع الكورنيش الذي لايبعد عن بيتهم كثيرا، صّدم حمادووه. فها هي المراكب التي كانت تظهر في الصور، تبحر في الشط، كبيرة، وجميلة، وتتحرك، وتطلق صفيرا. طوووووووووط. ارتبك، واضطرب عقله، وتشتت احاسيسه. هذا عالم مذهل، جميل وغريب ولاحدود له ومتحرك. شغله هذا المشهد عن كل شيء. عندما عادوا الى البيت بدت الصور المعلقة على الجدار باهتة وميتة وبلا معنى. حاول أن يبحث عن متعته القديمة في النظر اليها ولكنه فشل. فمزقها جميعا. شيءٌ ما حصل في عقله. ثمة رابط لم يستطع حل شفرته. ثمة شيء ما يجمع أباه والمراكب الكبيرة الجميلة الملونة المتحركة التي تصدر أصواتا. ولكن ما هوذلك الشيء؟ لم يتوصل بعد لمعرفته. لم تفارق خياله صورة الشط منذ ذلك الحين. استحوذ عليه مشهد السفن العملاقة وهي تندفع بثبات وهدوء وسط الشط ذهابا وأيابا. المشكلة العويصة التي واجهته هي أن المراكب كانت تظهر في خلفية الصورة ، بينما يظهر أبوه مبتسما متأنقا في مقدمة الصورة. لكن هذه المشاهد مختلفة، فلا وجود لأبيه فيها. رغم أنه على يقين أن أباه هو الذي أوجد هذه المراكب ، وهو الذي لونها، وهو الذي أطلقها. ولكن أين هو؟ سؤال ألحَّ عليه ولم يستطع أن يجد له جوابا. بعد أيام تطور الموقف بشكل خطير. فعند سماعه صوت أي مركب، وكثيرا ما تطلق المراكب صفاراتها في الشط محذّرة بعضها بعضا أو محيّية بعضها بعضا، عندما يسمع حمادووه أصوات صفارات المراكب لا يستطيع منعَ نفسه من الانطلاق عدوا باتجاه الكورنيش وهو يصرخ ، أبوي! أبوي! أبوي!. تختلط الصور والاحاسيس والاصوات داخل رأسه. وتتسارع دقات قلبه. وتنبعث صور مراكبه القديمة المختزنة في رأسه، وتظهر أمامها صورة أبيه مبتسما، فيهرع الى الكورنيش علّه يجدها وقد أضحت حقيقة كما كان يحلم، وكما كان يجب أن تكون. ولكنه عندما يصل الكورنيش يتفاجأ، ويزداد حزنا، ويتملكه التعبُ ، فالمراكب وحدها تجوب مياه الشط ، ولا وجود لأبيه. وُجد حمادووه غيرَ مرةٍ غائبا عن الوعي على رصيف الكورنيش، وعندما نُقل الى المستشفى قال الأطباء لأمه أنه يعاني من الصرع. تمنت أمه أن تتوقف المراكب عن اطلاق صفاراتها. ودعت الله أن تتوقف كليا عن الحركة. فبالاضافة الى خوفها على ابنها من الوقوع في نوبة صرع مفاجئة وهو بعيد عنها، فانها كانت تخشى عليه من تنمر المراهقين الذين لا يرحمون. فحالما يشاهدونه منطلقا بسرعة لا يلوي على شيء، مجتازا الشوارع غير آبه بالسيارات، متجها صوب شارع الكورنيش وهو يصرخ أبوي! أبوي! ، مركب أبوي! مركب أبوي! حتى يبدأوا بمطاردته، والسخرية منه، وقذفه بالحصى. ما يزيد من توتره وهيجانه. ذات يوم وُجد حمادووه غريقا في مياه شط العرب، فقد هاجمته نوبة الصرع وهو يقف على حافة الكورنيش محملقا بالمراكب الهائلة الحجم وهي تشقّ الأمواج ، كان يحدّق فيها على أمل أن يجد أباه واقفا أمام السفن الكبيرة مبتسما كعادته، مرتديا زي البحّارة الأبيض الجميل. خيل أليه للحظة أنه رآه، قبل أن تهوي خطوته الأخيرة به في الماء.
#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون
-
سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة
-
سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون
-
رفعة الجادرجي
-
مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا
-
كورونا والفضاء الخاص: مقالة في الوباء والعمارة
-
الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات
-
غسل الرأس
-
أم جابر
-
حكاية من محلة الباشا
-
في ساعة فجر
-
غضب
-
للحكاية أكثر من وجه
-
آخر ليلة في حياة كبش
-
آباء وأمهات
-
عيدية العيد
-
عصابة الكف الأسود
-
غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
-
الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري
المزيد.....
-
فيلم ’ملفات بيبي’ يشعل الشارع الاسرائيلي والإعلام
-
صرخات إنسانية ضد الحرب والعنف.. إبداعات الفنان اللبناني رودي
...
-
التراث الأندلسي بين درويش ولوركا.. حوار مع المستعرب والأكادي
...
-
الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|