|
النّساء وعنف الفضاءات الافتراضيّة
بشير العيساوي
الحوار المتمدن-العدد: 6544 - 2020 / 4 / 23 - 14:23
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
يتوهّم الكثيرون أنّ العوالم الافتراضيّة فضاءات محايدة وحرّة وغير خاضعة للإكراهات المؤسّسيّة، لكنّ الوقائع تثبت أنّ البيئات السيبرانيّة متورّطة في اليوميّ وحاملة لوسوم المجتمع والثّقافة لأنّ الّذين يتفاعلون فيها ذوات منخرطة في العالم الفعليّ لها مواقعها وقيمها وأدوارها. فلا غرابة إذن أن تكون الفضاءات الافتراضيّة مساحات مفتوحة للاستثمار الاقتصاديّ والسياسيّ، وللدّعاية وصناعة الرأي العامّ، ولإعادة خلق التمثّلات الثّقافيّة ومنها الهويّات والأدوار والعلاقات الجندريّة بما فيها من تمييز وحيف وعنف رمزيّ موجّه إلى النّساء. وهو عنف يستأنف الواقع الفعليّ ويستديمه وإن كان بأشكال تقنيّة واتّصاليّة مستجدّة. ولكن كيف ينظر المنخرطون في الفضاء السيبرانيّ إلى العنف؟ هل بوصفه فعلا لا قانونيّا ومدانا أخلاقيّا وإنسانيّا أم يتوقّف الأمر على جنس الضحيّة ونوعيّة العنف؟ عندما شاع خبر حادثة الاغتصاب الّتي تعرّضت لها شابّة تونسيّة كنّا نتوقّع أن يقع إجماع عامّ وإدانة جماعيّة للعمليّة لأنّ فيها انتهاكا لحرمة الجسد وامتهانا للكرامة وتعدّيّا على الذّات الإنسانيّة. ولكنّ ما دار في منصّات التّواصل الاجتماعيّ كان صادما أكثر من الحادثة نفسها ومخيّبا لتوقّعات الكثير من النّاس. فقد فقدت الحادثة مدلولها المواطنيّ وانقلبت إلى استثمار ذكوريّ غريب يسعى إلى طمس الحقائق وتحريف المعنى وشحن الحادثة بدلالات أخرى، فتواترت منشورات وتعليقات واستنتاجات صدرت عن فاعلين مختلفين يحتلّون مواقع متنوّعة في المجتمع يستهدفون فيها الشابّة الضحيّة ومن خلالها النّساء جميعا. لقد تحوّل الاغتصاب في بعض المنشورات إلى جزاء عادل وعقاب طبيعيّ لامرأة مارقة عن المنظور الذّكوريّ السّائد في مؤسّسات المجتمع وقيمه، فالمُغتصبة كما وصفتها بعض المنشورات (ملاّ مومس) هي المذنبة والآثمة ولا تتقن إلاّ الفتنة ما دامت قد حرّكت المارد من قمقمه وأطلقت سراح الشّياطين الثّاوية في أعماق الرّجال بلباسها وزينتها وظهورها في الفضاء العامّ لأنّها لو "احتشمت" و"لزمت" بيتها و"التزمت" بالواجب الشرعيّ ما آلت هذا المآل. وتواترت في التّعليقات عبارات عامّيّة فضحت هذا الذّكوريّ المقيت والسّاكن فينا من قبيل "أشْ مْخَرِّجها من دارها؟" و"علاشْ هي بالذّات؟" و"ماثمّاش راجل يظلم مرا هكّاكا". إنّها قوالب تعبيريّة جاهزة اختلقها الذّكور لإبقاء الإدانة مسلّطة على النّساء ولاستدامة التّأثيم الأبديّ لجنس الأنثى. وبما أنّ الخطابات المتداولة في الفضاء السيبرانيّ وتحديدا في المنصّات الاجتماعيّة منتوجات ذكوريّة اصطنعها الرّجال في عالم الواقع فهذا يظهر أنّ الشابّة لم تُغتصب مرّة واحدة بل آلاف المرّات وإن كان الاغتصاب هنا ضربا من العنف الرمزيّ اللاّمرئيّ الصّامت والخفيّ. فالجمل والعبارات والسجلّات الّتي شحذها المبحرون في هذه العوالم تستبطن ذهنيّة ذكوريّة تصل الجريمة أيّا تكن بمروق النّساء عن الفطرة والتّعاليم، وتجعل خراب المجتمع ومآسيه نتيجة طبيعيّة لأفعال النّساء وأحوالهنّ. وينقلب الاغتصاب إذن إلى جزاء عادل تستحقّه كلّ مُغتصبة. غير أنّ الخطير في عنف هذا الخطاب أنّه سريع الانتشار والامتداد، فالمتفاعلون يملكون خيارات المشاركة والتوزيع وإعادة الإنتاج والتعميم في كلّ المنصّات والمنتديات ممّا يؤدّي إلى تشكيل جمهور واسع وجماعات افتراضيّة متماثلة في الأفكار وتمتلك شبكات اجتماعيّة واسعة. أمّا الجانب الآخر فهو أنّ الخطابات الإلكترونيّة متاحة للجميع وخاصّة لفئة الشّباب بوصفهم الأكثر تردّدا واستخداما لهذه الوسائط ممّا يطيل في حياة هذه الخطابات وبالتّالي تأبيد التمثّلات الذّكوريّة وتثبيت هذا الصنف من العنف المسلّط على النّساء. وهو ما يظهر أنّ محنة النّساء المعنّفات ومحنة المجتمع برمّته قد أخذت منعرجا أسوأ يعمّق البؤس المجتمعيّ ويعسّر سبل الخلاص الّذي يجب أن يتحوّل إلى سياسة اجتماعيّة وتربويّة وقانونيّة ومدنيّة شاملة.وبناء على ذلك لايزال أمامنا الكثير حتىّ نغيّر الواقع و البنى الذّهنية المتكلّسة لنرسي معاملات أكثر إنسانيّة تتلاءم مع ثقافة المواطنة والعمل على تغيّير صورة الرّجل وتربيته على فكّ الارتباط بين الذّكورة والعنف ضدّ النّساء.
#بشير_العيساوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النّساء وعنف الفضاءات الافتراضيّة
المزيد.....
-
المجلس الوطني يدين جرائم الاحتلال ضد المرأة الفلسطينية ويطال
...
-
وزارة المالية : تعديل سن التقاعد للنساء في الجزائر 2024.. تع
...
-
المرأة السعودية في سوق العمل.. تطور كبير ولكن
-
#لا_عذر: كيف يبدو وضع المرأة العربية في اليوم العالمي للقضاء
...
-
المؤتمر الختامي لمكاتب مساندة المرأة الجديدة “فرص وتحديات تف
...
-
جز رؤوس واغتصاب وتعذيب.. خبير أممي يتهم سلطات ميانمار باقترا
...
-
في ظل حادثة مروعة.. مئات الجمعيات بفرنسا تدعو للتظاهر ضد تعن
...
-
الوكالة الوطنية بالجزائر توضح شروط منحة المرأة الماكثة في ال
...
-
فرحة عارمة.. هل سيتم زيادة منحة المرأة الماكثة في البيت الى
...
-
مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|