بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6544 - 2020 / 4 / 23 - 10:22
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات ( 220)
الاستخباريون المتقاعدون
بشير الوندي
------------
مدخل
------------
الجهاز الاستخباري المحترف هو جهاز يدير موارده البشرية بشكل محكم يجعلهم يبذلون قصارى جهدهم وعصارة افكارهم وطاقاتهم ,ويبحرون وسط الملفات السرية , ويفترض بالجهاز المحترف ان يضم افضل الكفاءآت التي يلتقطها ويطورها بعناية شديدة لتجمع بين الذكاء والاحتراف والثقة الكاملة , ومن هنا لايضحي بخبرات والمعية من يتقاعدون من هؤلاء النخبة , ويسعى للافادة القصوى منهم مع مراعاة طبيعة سنهم وصحتهم , فالمتقاعد في مثل تلك الاجهزة لايقطع مشيمته الاستخبارية بسهولة .
-----------------
ادارة مختلفة
-----------------
يختلف ملف المتقاعدين للموظف عموماً وللمتقاعد من جهاز استخباري خصوصا في الدول المتقدمة والاستخبارات المحترفة , ويأتي هذا الاختلاف من خلال الاختلاف الاداري الاكبر للجهاز الاستخباري مع باقي اجهزة الدولة .
فالنظام الاداري المحترف في الاجهزة الاستخبارية يتيح للجهاز الكثير من اعمال الخروج والدخول من الجهاز , والتمويه على العناصر , وهو نظام يختلف عن الجيش وباقي مؤسسات الدولة , فهو يوظف الاجنبي والأمي وكبير السن , ويتعاقد مع سارق مثلاً , وكل ذلك ضمن ضوابط ادارية تحيطها الخصوصية وسرية العمل , ذلك ان متطلبات ادارة الموارد البشرية في الاستخبارات لها طبيعتها الخاصة وتحتكم الى المعلومات , دون اية حواجز ادارية بيروقراطية .
ففي الاستخبارات , يكون للهدف والمهمة والمعلومة الاهمية القصوى بعيداً عن اشتراط العمر والارتباط الاداري , فالاستخبارات لا تهتم لجنسية صاحب المعلومة المهم تحصيلها , فهي توظف وتجند اي شخص ومن اية جنسية , حتى لو كان من بلد العدو.
في الدول المتقدمة هناك تفاوت في نظام التقاعد العمري , وانما بحسب الرتبة العسكرية , مثلا رتبة ملازم الى نقيب يتم احالته على التقاعد في ٤٨ الى ٥٠ عام , رتبة رائد ومقدم بين ٥١ الى ٥٣, رتبة عقيد ٥٥ , رتبة عميد ٦٠ , رتبة لواء ٦٣ , رتبة فريق ٧٠ , وهكذا يرتفع عمر التقاعد مع عمر الرتبة , وذلك لأهمية الخبره واحتراما للرتب العالية , فكلما تقدمت الرتبة زاد العمر في الخدمة , وهذا الاحترام للرتب العليا ينطبق في اجهزتهم الاستخبارية ايضا , فهناك ما يعادل الرتبة في الوصف الوظيفي في الاجهزة الاستخبارية المدنية غير العسكرية , وغالبا ما يتمدد عمر الخدمة مع تقدم التسلسل الاداري والدرجة الوظيفية .
----------------------
قصة ذات مغزى
----------------------
يقول الجنرال حسين فردوست في مذكراته : كان هنالك ضابط فرنسي يعمل ملحقاً عسكرياً في طهران , وهو شاب برتبة مقدم , وكانت سياقات الجيش الفرنسي لاتسمح ببقاء الملحق اكثر من اربعة سنوات في كل بلد , ولا يمدد له , وكان هذا الملحق مقرباً من شاه ايران محمد رضا بهلوي بشكل ملفت , فجرى التجديد له اربعة سنوات اخرى استثناءاً , ويحدثنا كاتب المذكرات انه التقاه بعد مدة في باريس وكان بوضع مالي ورجل اعمال مرموق , واخبرني ان تمديد عمله كان بطلب تقدمت به المخابرات الامريكية لزميلتها الفرنسية بحكم علاقته بالشاه , وان الاخيرة وافقت ان يقدم خدمات للامريكان , ومددت له الخدمة كملحق في طهران , وان الامريكان كافئوه بمبلغ محترم كهدية نهايه خدمة من الامريكان , ومما لاشك فيه انه كان يخبر استخبارات بلاده بكل خدمة قدمها للامريكان , واخذ تقاعد سريع لانه عمل مع جهه اخرى , فمن الاكيد ان هذا الضابط تحول من الجيش ليكون قريبا من الاستخبارات الفرنسية.
-------------------------------
خارطة طريق للمتقاعد
-------------------------------
من ضمن مؤشرات دقة التخطيط الاداري للجهاز الاستخباري المحترف هو التخطيط للتقاعد لعناصره قبل التقاعد وبعده , ففي السنوات الاخيره من عمل رجل الاستخبارات وقبيل تقاعده ينحصر عمله غالباً في مقر الجهاز , اي ضمن القوة العاقلة وليس الفاعلة , ويتم التأكد التام من وجود بديل بمستواه , اي ان هنالك خطة مسبقة لتقاعد العنصر الاستخباري ولتعويض مكانه.
وتمتد الرقابة الامنية على عنصر الاستخبارات حتى ما بعد تقاعده , كما تجري حماية بعض المهددين منهم بتغيير الاسم والوثائق ويعيش باقي عمره متخفٍ تحت اسم جديد لغرض الحماية , وهنالك عناصر يمنع سفرهم حتى بعد التقاعد لأهمية المعلومات التي بحوزتهم , فيخضعون , بعد التقاعد , لضوابط خاصة من قبل امن الجهاز , كما ان بعض العناصر يتركون الاستخبارات حسب رغبتهم ويذهبون للتقاعد والتفرغ لحياتهم الشخصية مع مراعاة الضوابط الامنية .
وفي الدول المتقدمة هناك صندوق التقاعد لعناصر المجتمع الاستخباري الذي يقوم باستثمارات ومضاربات مربحة لصالح المتقاعد , ويمتلك فنادق ومناطق سياحية ونوادي للترفيه , وتمنح خصومات للمتقاعدين وعوائلهم , وكذلك مستشفيات لنفس الغرض مع ضمان صحي كامل , وضمان اجتماعي , وراتب تقاعدي مجزٍ او هدية نهاية خدمه كبيرة تضمن له حياة مستقرة , كما ان هناك مميزات تختلف عن الدول المتخلفة , فالمتقاعد لا يخشى تراجع الراتب حين يتقاعد , بل يحافظ على مستوى راتبه بشكل جيد , وتزداد فيه مخصصات الرعاية الصحية وتقلص فيه القروض , عدا عن تمتعه بالكثير من الخصومات في الخدمات العامة كالنقل وغيره , فالمهم لديهم ان يشعر بالامان والاستقرار .
كما تقيم الاجهزة الاستخبارية نوادي ومراكز تجمع المتقاعدين وتتابع شوونهم وخدماتهم واحتياجاتهم , وعند الحاجة تستدعي بعضهم للمشورة بحسب اختصاصه , كما يسعى الجهاز التواصل معهم باشكال مختلفة منها مثلاً , اعتماد توثيقهم للمتقدمين للعمل في الاستخبارات , او تنظيم زيارات لهم ومنهم , او دفع البعض منهم لكتابة مذكراته , كما يمنح المتقاعد اولوية في تقديم احد ابناءه للالتحاق بالاستخبارات .
------------------------
استقالات صورية
------------------------
كما ان هنالك في الجهاز مفهوم خاص للاستقالة , ولكن ضمن ضوابط محددة ضمن مقررات الجهاز , والبعض تكون استقالته صورية لإيهام الآخرين , فهو يخرج بإستقالة شكلية , ليذهب للعمل في اماكن اخرى بتوجيه الجهاز الاستخباري , فمثلاً , في زمن صدام , وبعد ان تقلصت مهام الجهاز الاستخباري الخارجي , تم تقليص الاعداد بنقل بعضهم الى الخارجية ووزارة الشباب ووزارة الاعلام , وفي التسعينات اطلق النظام حمله تحسين صورته واخرج بعض العناصر من اجهزته الاستخبارية لتستقر في اوروبا , ولتقوم لاحقاً بعمليات تهريب بضائع , ولتقترب من المعارضة , والغريب ان اكثرهم عمل في الاعلام لاحقاً .
كما ان بعض عناصر الاستخبارات يخرج مستقيلاً كمعترض او مخالف , ثم يذهب للسكن خارج البلاد بتوجيه الجهاز , ليلتحق بالمعارضين او المغتربين , ويصبح عيناً عليهم , ويتم تمويله لإنشاء منصة اعلامية اوفضائية معارضة .
----------------------------------
الاستثمار في المتقاعدين
----------------------------------
التقاعد بالنسبة لموظفي دوائر الاستخبارات المحترفة هو بداية الانخراط في باقي المؤسسات , فالاستخبارات تضم الكثير من الاذكياء من ذوي الولاء والكفاءة , لذا يتم اعتمادهم في مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاعلامية وحتى الجامعات , فالتقاعد بالنسبة لرجل الاستخبارات هو انقطاع اداري تتم موازنته بالتواصل بشكل اخر, فهو يُعتَمد في ادارة شركات ومصالح او خبير في مجالات مختلفة , ولعل الجميع شاهد , عند دخول الامريكان الى العراق , مجموعة كبيره من كبار السن جائوا على شكل متعاقدين مع الادارة الامريكية في العراق , ومسكوا الكثير من الملفات , فتراكم الخبرة لا تذهب لتكون حبيسة البيت في الدول المتقدمة.
ان فكرة التواصل مع المتقاعدين عمل مهم للغاية , فهنالك تراكم الخبرة والعلاقات والفطنة مما لايمكن اغفالها او التفريط فيها في مسيرة العمل الاستخباري , فالاستخبارات المحترفة هي استخبارات طويلة العمر فيها تراكمات تتجاوز عدة عقود , ولذا فهي كبيرة وممتدة , ولديها استثمارات وعقارات ومتاجر ومولات وشركات , كتمويل داخلي , كما يتم استثمار صندوق اموال المتقاعدين في الجهاز ضمن شركات مساهمة , وتدر ارباح يشرك فيها المتقاعد.
وتمتلك تلك الاجهزة الاستخبارية كيانات تجارية واقتصادية ومعاهد ومراكز دراسات وواجهات متنوعة في الكثير من المجالات , وكل تلك الكيانات تحتاج الى ادارة نزيهة وذكية تتقن العمل وتبدع في ادارته وفي تمويهه , وفي نفس الوقت هي لاتسعى الى ان تشغل عناصرها الميدانيين او المكتبيين الذين يديرون ملفات حساسة بأعمال سوى اعمالهم الاستخبارية .
ومن هنا فهي لا تستغني عن عناصرها المحالين على التقاعد , وتستثمر وجودهم في ادارة أملاكها ومؤسساتها واعمالها بضمان نزاهتهم وامانتهم وكفائتهم , كما ان كثير من الواجهات التي تستخدم من استخبارات العدو تحتاج الى عمل مضاد , فيكون نشر العناصر المتقاعدة خير ضمان وامان , لذا تعمل الاجهزة الاستخبارية على الافادة التامة من متقاعديها في الواجهات الاستخبارية كالفنادق المهمة وشركات السفر والسياحة , وشركات الانترنيت والاتصالات , ومكاتب البريد , ومراكز الدراسات والابحاث , والمطارات والموانيء , وفي الاعلام والصحافة ودور النشر , والشركات العالمية , والهيئات الدبلوماسية , ومنظمات المجتمع المدني , والاندية العامة , والمصارف , والنقابات , وجمعيات الصداقة , والمنتديات , ومراكز الاثار والبيوت الثقافية , والجامعات , وغير ذلك .
كما تستفيد منهم داخلياً في حال تشكيل لجان سرية لكشف الخروقات داخل الجهاز الاستخباري او لبعض العمليات عالية السرية , او في العمليات التي لاتريد الاستخبارات الاشتراك فيها بشكل رسمي , وكثيراً ماتستفيد الاستخبارات من متقاعديها في التدريس بمعاهدها ودورات التدريب الاستخباري , ويرسل بعض المتقاعدين كمدربين في بعثات للدول ذات الاتفاقيات الامنية المشتركة لكونهم خبراء وبعيدين عن الجهاز الاستخباري .
كما تقوم الاستخبارات بزج المتقاعدين في جميع مفاصل الحياة بعنوان خبراء , ويظهر البعض منهم على الشاشات متحدثاً عن الأمن , وآخر عن الإستراتيجيات , وعن المصالح السياسية , وثالث في الشأن الاقتصادي وهكذا , فرتبة الخبير في الغرب لها مقام محترم , وهو اعلى من وزير , ودكتور , ومستشار , فتراه خبير في شوون الجماعات المسلحة , خبير في شوون الجماعات المتطرفة , خبير في شوون الحرب , خبير في شوون الامن , خبير استراتيجي , خبير سياسي , خبير اعلامي , خبير في شؤون الشرق الاوسط , ومعظمهم من رجال الاستخبارات السابقين , وترعى الاجهزة الاستخبارية بروزهم من خلال تزويدهم بالمستجدات في دائرة صناعة الراي العام الوطني .
البعض يذهب الى العمل الاعلامي ثم يتحول الى محلل سياسي , وبالحقيقة , هو يعمل لصالح الاستخبارات , ومعلوماته يتزود بها من خلال الاستخبارات , فتلاحظ ان برنامجه مليء بالاسرار وغزير بالمعلومات لغرض جلب المشاهد , فالكثير من برامج التوك شو البارزة في الوطن العربي مثلاً تديرها الاجهزة الامنية والاستخبارية لاسيما تلك التي تمتاز دوماً بالوثائق والتسجيلات وغزارة المعلومات.
------------------------------
قصة اخرى ذات مغزى
------------------------------
يقول حسين فردوست في كتابه "ظهور وسقوط امبراطورية بهلوي" انه ارسل في اول دورة استخبارية الى لندن , واستقبله شخص حسن المظهر كبير السن من المطار , واخذه الى مجمع سكني انيق وجميل في لندن , وانزله في شقه تعود لإمرأة كبيره في السن ليسكن معها , وكانت تهتم بشؤونه طيلة اشهر دورته , وتحضر له الطعام والشراب , وتتكلم قليلاً من الفارسية , وكذلك الامر مع السائق أيضاً , حيث كان يأتي له صباحاً لينقله الى محل التدريب , ويرجعه مساءاً , ويصطحبه في ايام العطل الى اماكن لندن الجميلة , وتبين له لاحقاً ان المجمع السكني هو تابع للاستخبارات وسكانه من المتقاعدين من عناصر الاستخبارات , ومنهم السائق والمرأة التي استضيف عندها , وعرف انه تتم استضافة كل المتدربين هناك.
---------------------
كفاءآت مطلوبة
---------------------
لاتكتفي الاستخبارات بحصر اعمال المتقاعدين بالدوائر والشركات والواجهات التابعة له , بل يدخل القطاع الخاص الى منافستها في استقطابهم , وهي منافسة ناعمة , فالاجهزة الاستخبارية ترحب وتساعد في فتح الطريق امامهم لتزجهم في العمل بالقطاع الاعلامي والسياسي والاقتصادي والتكنولوجي العلمي والاجتماعي وغير ذلك , فهم ثقاة , وخدموا بلدهم , وقدموا سنوات عمرهم وحملو اسرارها , فتلاحظ ان ابرز الشركات الكبرى فيها مستشار امني , او انها بحاجة الى مطلع على احوال الشرق الاوسط مثلا , فيذهب احد عناصر الاستخبارات المتقاعدين والذي كان يعمل في الشرق الاوسط ليكون مديراً اقليمياً فيها , ولاينقطع عن مشيمة الجهاز الاستخباري.
ان استثمار الخبرة والمعرفة والعلاقات والصلات مهم جداً للجهاز الاستخباري المحترف , والشركات تتلقف المتقاعدين من الجهاز , لتفيد من خبرتهم وصلاتهم , والجهاز يرحب بذلك لأسباب عدة منها , ان العمل المدني للمتقاعد سيعتبر بمثابة استراحة محارب بعيداً عن الشد النفسي والعصبي , كما ان الوضع المالي له سيجعله يعيش بسعادة ويبعد عنه اي شعور بالنقمة , وفي ذات الوقت تستفيد من موقعه لاعمالها الاستخبارية , لاسيما اصحاب الفكر والدراية والتحليل حيث تفتح الطريق لهم الى مراكز الدراسات او الى الجامعات .
------------
خلاصة
------------
العمل الاستخباري المحترف هو عمل مبدع فيه الكثير من التركيز والفكر اللامع والفطنة والكتمان والايثار كما يمتلك رجل الاستخبارات الكثير من المهارات الفنية والعلمية والعملية والادارية , ومن هنا تسعى الاجهزة الاستخبارية الى ان تستفيد اقصى استفادة من عناصرها في الخدمة وخارجها حين التقاعد , لذا نلاحظ ان رجل الاستخبارات المحترف يميل بعد التقاعد الى العمل الفكري او الاداري او الاستشاري او الادبي , وتسعى الاجهزة الاستخبارية المحترفة لتمهيد كافة السبل امامه ليعمل من خلال واجهاتها او من خلال القطاع الخاص , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟