|
في زمن كرونا نلزم بيوتنا على بارق الأمل
محمد الداهي
الحوار المتمدن-العدد: 6543 - 2020 / 4 / 22 - 19:31
المحور:
الادب والفن
اضطررت- في فترات من حياتي- إلى لزوم بيتي لبواعث خاصة، وفي مقدمتها إنجاز الأطاريح الجامعية على نار هادئة. كنت أقضي شهرا أو أكثر قابعا في المنزل، متفرغا لعملي، ولا أخرج إلا لماما للتبضع أو لقاء الأصدقاء. كنت أجد متعة في الحجر الذاتي مما كان يحفزني أكثر على مواصلة العمل في صيف حار ومضن حرصا على التقدم في العمل قبل أن يباغتني الموسم الدراسي الجديد. لم أشعر- في خضم الحجر الصحي الحالي- بتلك المتعة الهاربة التي كانت تحضني على أن أختار بين أن أكون أو لا أكون، وأحسم في مصيري بين أن أحقق جزءا من مطامحي أو استسلم وألقي السلاح جانبا في انتظار غودو.. وإن استرجع الفضاء الآن سكينته وهيبته بعودة الطيور إلى أوكارها الأصلية ما فتئت المتعة تخونني وتعاندني بسبب دخول العالم في تحدي اللايقين الذي أربك حسابات الدول المتقدمة، وخلخل التوازنات الاجتماعية والاقتصادية، و لا نعرف متى سينتهي.ويوما بعد يوم تزداد مخاوفنا بسبب تضاعف عدد الموتى والمرضى، وعدم التوصل إلى لقاح أو دواء فعال لمقاومة الوباء الفتاك. لا شيء يلوح في الأفق القريب لعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي، وهو ما يربك و يقلق راحتنا، ويؤزم وضعنا النفسي، ويحول حياتنا إلى ضرب من العبث. في هذا الجو القاتم أستيقظ - عادة- باكرا، وأقوم ببعض التمارين الرياضية الخفيفة لتنشيط الدورة الدموية، واستنشاق النسيم العليل الذي استرجع مؤخرا صفاءه وعافيته ، ثم أتابع نشرات الأخبار لتعرُّف حالة الوباء في المغرب أساسا، وفي الدول الأكثر تضررا وخاصة التي يتواجد فيها أقربائي وأفراد عائلتي ومن ضمنهم ابني، ثم أتفرغ لإعداد الدروس الافتراضية، وتصحيح الأطاريح المتراكمة والاتصال بالطلبة لموافاتهم بالملاحظات والتكليفات المناسبة. وبعد الظهيرة أعاود النظر في كثير من المشاريع المعلقة أو المؤجلة بسبب إكراهات العمل والحياة، ومن ضمنها كتاب عن عبد الله العروي الروائي..كانت المادة شبه جاهزة، ما علي إلا أن أصححها وأنقحها، وأضيف إليها فصولا أخرى حتى يكون مشروع الكتاب متكاملا ومتناسقا..وأخصص المساء عادة لمشاهدة البرامج التحليلية التي تتفادى تسييس وباء كرونا لأهداف مغرضة، ثم أختار رواية من الروايات التي اشتريتها من قبل ولم يسعفني الوقت على قراءتها .. آخر ما أقرأه، الروايةُ الأولى لبول أوستير "اختلاق الوحدانية"( 1982/ أكت سود1988)، كنت على وشك التخلص منها لأنها تحوم حول الموت. لكنني لاحظت- مع التقدم في القراءة – أن السارد يتناول الموضوع بسخرية لاذعة راسما بورتريه والده غير المرئي، والحاضر الغائب، وغريب الأطوار لتعامله مع الحياة بخفة وتلقائية وبلاهة. باع كل ممتلكاته قبل وفاته، تاركا لابنه ثروة بسيطة لانتشاله من الفقر. وبواسطته اشترى شقة صغيرة للاختلاء بنفسه، وممارسة الكتابة، ونبش الذاكرة العائلية ، ومساءلة العالم الخارجي، وإثارة قضية الصدفة التي تتواتر في روايته جلها، كأن يفاجأ المرء يوما بأن موجة السعادة تغمره من حيث لا يدري، وتشعره- بالتالي- بأنه كائن حي يستحق الوجود. لا أعرف كيف عاودني الحنين إلى قراءة كتاب " مع أبي العلاء المعري" لطه حسين حرصا على معرفة كيف ينظر كاتب كفيف إلى شاعر مثله، وكيف يتعاملان مع الحياة التي ظلا طوال حياتيهما رهيني المحبسين ( المحبس الفزيزلوجي المتمثل في فقدان البصر والمحبس الفلسفي المتجلي في لزوم البيت ) دون ملل أو كلل، وإن كانا يشعران بسجن النفس في الجسد وبالعجز والانقباض على خلاف من يرى الحياة بأم عينيه. وليكن هذا السجن هو دار كل واحد منهما، فقد حرضا على ترتيبه حسب مزاجهما وهواهما. وعلينا أن نتصور مدى احتمالهما الإقامة فيه مدة طويلة ومواصلتهما مشوار حياة مطردة مستوية يشبه بعضها بعضا كما يشبه الماء الماء. ومهما عرفت حياتهما من منعرجات وتغيرات فقد ظلت محافظة على تشابهها واستوائها واطرادها. ومن أحسن الأوقات في حياتيهما، الفراغُ لنفسيهما والخلو إلى ذاتيهما بحثا عن متعة القراءة والكتابة، وهو ما خلد اسميهما في سجل عظماء البشرية. ومن حسنات الوقت الحالي، اقتسامنا الفضاء الافتراضي على قدم المساواة تقريبا، وهو ما يسعفنا على تفادي قتامة البرامج المتلفزة والمذاعة وتكرارها الممل، وولوج البرامج والمنصات التي ترضي ذوقنا، وتستجيب لتوقعاتنا، والاستمتاع بالأفلام والأغاني التي لم يسعفنا الوقت من قبل على مواكبتها بسبب إكراهات العمل والحياة المرهقة. لقد حفزتني العزلة- في هذا السياق- على معاودة الاستماع إلى الأغاني التي طبعت حياتي إبان ميعة المراهقة والشباب، وخاصة الأغاني الغربية والطرب الشرقي. كل يوم أخصصه لمغن حرصا على استجماع قوتي المشتتة، وتقوية شحنات التفاؤل في نفسيتي. وهكذا استمعت-على التوالي- إلى بوب ديلان، ورود ستيوارت، وجورج براسنس، وليو فيري، وفيولتا بارا، وفيكتور خارا، وجو كوكر، وأم كلثوم، وشريفة فاضل، وسعاد أحمد، وسيزاريا إفورا، ومريم ماكيبا، وعبد الحليم وغيرهم، كما دفعني الفضول إلى الاستماع إلى ألبومات المجموعات الغنائية المتألقة، من قبيل بيتلز، وإيكلز، وسكوربيون، وناس الغيوان، وأوسمان، وإزنزارن(عبد الهادي). تسعفني هذه الأغاني - على تنوع إيقاعاتها- على مغالبة وتيرة الحجر الرتيبة، واسترجاع فترات من حياتي وأنا أشق الطريق الشاق والملتوي سعيا إلى إثبات وجودي في الحياة، وتحقيق أمنياتي على مضض. لم أكن أتوقع- رغم المصاعب والفقر- أن البشرية ستصل إلى ما وصلت إليه الآن رغم توافر الإمكانات والموارد، وأن الفرد التواق إلى الحرية والتغيير سيجد نفسه محاصرا من كل جانب. فبمرور السنين جاء شبح الإرهاب ومازال قائما، ثم جاء شبح آخر لا يقل ضراوة عن الشبح الأول لأنه يخبط خبط عشواء، ويتصرف على غير علم. والخاسر في غضون العقود الأخيرة، هو الفرد الذي أصبح يعاني من مركزية الدولة ونفوذها، ومن ذيوع أشكال جديدة من الديمقراطية تحت الوصاية، ومن تضييق الحريات الفردية والجماعية، ومن الانعكاسات السلبية للقرارات الاحترازية على نمط عيشه، وأسلوبه في الحياة. كنا نأمل أن تعي الدول هشاشة الفرد، وتعمل على الترفيه عنه، وضمان كرامته في العيش، وحقه في الاستفادة من خيرات البلاد. وعلى عكس التيار الجارف، ركبت جنونها في التسابق على التسلح، وإشعال فتن الكراهية والبغضاء بين الناس الأبرياء، والتباهي بالاستعراضات والمناورات العسكرية. والفرد هو من يؤدي أقساط الفاتورات على حساب راحته وطمأنينته. سبق لبيلز باسكال أن عبر عن الوضع البشري بعبارته الشهيرة." الإنسان قصب عاقل". يمكن لريح أو قطرة ماء أن تجهز عليه لهشاشته وضعفه، ومع ذلك يتميز عن مكونات الطبيعة بقدراته العقلية الفائقة، ووعيه بأنه كائن فان. وعوض أن يستثمر العقل في تحسين الوضع البشري، أدى إلى نتائج عكسية. وهو ما نعاين جزءا منه مع جائحة كرونا التي عرت الدول جميعها بنسب متفاوتة، وبينت مدى هشاشة البنيات الصحية بالدرجة الأولى في ضمان الحق الطبيعي للبشر في البقاء والاستمتاع بالحياة. جاءت كرونا اللعينة لتلزمنا على الاختلاء بذواتنا ومحاورتها، ومعاينة أخطائنا لاستدراكها قبل فوات الأوان..ليس عيبا أن تكون لنا نقائص وأخطاء، لكن العيب هو أن نتجاهلها، ونداريها حتى تهدأ العاصفة . ومن الأمور التي تحتاج إلى المراجعة أداء التعليم والتطبيب والإعلام رغم ما قدمه الموظفون- في هذه القطاعات الحيوية- من جهود استجابة للوازع الوطني. وينبغي -في المنحى نفسه- تعزيز البحث العلمي والرفع من ميزانيته، والعناية بالشباب المؤهل، وحفز من أغرتهم الآلة الغربية على العودة إلى بلادهم للاستفادة من خبراتهم في هندسة بيئة العمل والخدمات، والهندسة المعلوماتية، والهندسة الكهربائية (وخاصة النظم المتطورة ( Les systèmes embarqués لأنه لا خيار لنا في ذلك إن أردنا أن ندخل النظام العالمي الجديد بعد كرونا.
#محمد_الداهي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بأي حال عاد الدخول الثقافي العربي؟
-
التعليم عن بعد يعمق الفوارق الاجتماعية.
-
السيرة الفكرية .. ما لها وما عليها
-
الثوابت العامة في المشروع النقدي للباحث الناقد محمد مفتاح
-
ما الفرضية المثلى لانتحار فان كوخ؟
-
وقفة مع محمد الداهي
-
مَرَحُ الزَّرع
-
القتل الرمزي للأب
-
-مناظرة الصناعة الثقافية والإبداعية-
-
الأدب والالتزام.. ترجمة محمد الداهي
-
الدفاع عن الحياة بالديمقراطية الأدبية / د. محمد برادة
-
واجب الذاكرة ( إيمانويل سامي)
-
هواجس الردة الثقافية والسياسية
-
سؤال الثقافة العربية في الوقت الراهن
-
الفراغ الكوني
-
كل الصيد في جوف الفرا
-
من التعددية المنهجية ألى نسقية الثقافة ( درتسة في المنجز الن
...
-
لحكاية والقصة القصيرة تأليف جون-بيير أوبريت
-
المرايا المتقابلة في-حيوات متجاورة- لمحمد برادة
-
صحوة الحواس ( في تأبين روح الأديب الراحل محمد غرناط)
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|