|
ما يرويه التراب للتراب
عبد الرحيم مكاوي
الحوار المتمدن-العدد: 6541 - 2020 / 4 / 18 - 10:40
المحور:
الادب والفن
في أحد أيام ربيع سنة 2011 .. في إحدى البلدان العربية .. سقط واحد من الناس ميتًا على حافة الرصيف المجاور للسجن في وسط المدينة .. وحسب ما نُقِلَ عنه في الأخبار أنّه كان يجري هاربا من الشرطة .. و أن الشرطة هي من أطلقت عليه النار .. و أنّ إسمه عدنان .. وعمره 30 سنة . ستقام ظهر اليوم عملية الدفن. إنّهم يحملونه الآن متجهين نحو المقبرة .. إنّه بداخل النعش المظلم والمغلق بإحكام .. إنّه يكاد يسمعهم بروحه .. فالبعض منهم يتلو الدعوات .. و البعض ساكت .. و بعض آخر يتحدث عن طبق البطاطا المقلية بالبيض .. وبعضهم يتحدث عن نوعية السيارة التي جاءوا بها إلى المقبرة و كم تصل سرعتها القصوى في الطريق السريع .. . على العموم تمت مراسيم الدفن بنجاح .. و طبقاً لما تقوله العادات و الأعراف .. و دخل عدنان إلى قبره .. أو إلى منزله الجديد .. أو إلى مرقده الجديد... . وبعد بضع ساعات من المكوث و السكوت سمع عدنان صوتا : - مرحبا أيها الجار الجديد. اِلتفت جانبا .. و إذا بذلك الصوت يأتي من هيكل عظمي طاعن في السن ينظر إلى عدنان و يبتسم و كأنه ينظر إلى جنين حديث الولادة .. ثم يعيد قوله : - مرحبا أيها الجار الجديد. فيردّ عدنان مبتسما هو الآخر: = أهلا، شكرا. - كيف كانت رحلتك إلى هنا ؟ = متعبة نوعا ما لكنني مرتاح الآن. - إذن نستطيع التحدث الآن ؟ = و هل نستطيع أن نفعل شيئا آخر ؟ - لا، الكلام و النوم فقط ، هذا كل ما تبقى لنا نحن . = نحن؟؟ ومن نحن ؟ - نحن الموتى، أنظر من حولك. = أووو، إنّنا كثيرون و مكتظون . - نعم، مكتظون لأننا هنا في وسط المدينة ، و أنت تعرف حالة المدن. أخبرني كيف تركت أحوال الحياة ؟ = إنها كالعادة ، لا جديد يذكر. - أمازال الناس يركبون عربات الحصان ؟ = من أي زمن من أزمنة الحياة أنت ؟ - أنا أمكث في هذه المقبرة منذ حوالي ثلاثة قرون ونصف . = هل تعرف سروال الجينز ؟ - لا أعرفه (الهيكل العظمي ضاحكا). = و كيف لك أن تعرف شبكة الأنترنت إذن ؟ - شبكة الأنترنت ؟؟ حياتك غريبة الأطوار. المهم ، هل تركت الحياة مازالت برفقة النجوم و الشمس و القمر و البحار و الصحاري ؟ = نعم، ولكن هذه الموجودات التي ذكرتها لم تكن لها علاقة كبيرة بحياتي . - حقا ؟ كيف ؟ = لقد عشت ثلاثون سنة. قضيت الثلث الأول من حياتي في اللعب و اللهو ، أمّا الثلث الثاني فقد قضيته في اِكتشاف علامات البلوغ ، و أمّا الثلث الأخير فقد قضيته في السجن . - و لماذا دخلت إلى السجن ؟ = ذات يوم و أنا في سن العشرين كنت قد خرجت حينها من الورشة التي كنت أعمل فيها نجارا، وأنا في طريق العودة إلى البيت مساءا أشعلت سيجارة و ألقيت نظرة على الهاتف المحمول الذي كان في يدي . - ماذا ؟ هاتف محمول ؟ = نعم ، إنه جهاز صغير الحجم يتيح لك التكلم مع الآخرين عن بعد. - عظيم . = و أنا أمشي و أنظر إلى ذلك الجهاز العظيم دخل بعض دخان السيجارة في عيني، و سبّب لي ذلك حرقة كبيرة و أصبحت أمشي و أنا أحك عيني و أمسح الدموع الغزيرة حتى اِصطدمتُ بفتاة كانت برفقة أحدهم ، و مع أنني لم أكن قادرا على فتح عيناي و رؤية وجه تلك الفتاة بشكل جيد ، إلا أنني أذكر أنها كانت تبدو جميلة الوجه و الصوت حين قالت: آآه ، كردّة فعل من الاِصطدام ، ثم سقطت من يدها علبة حلويات . لكن أحدهم الذي كانت برفقته - و قد تبين فيما بعد أنه خطيبها - قام بشتمي و وجّه إلى وجهي عدة لكمات و أنا بالكاد أستطيع فتح عيناي ، فأغضبني ذلك كثيرا و شعرت بنوع من الإستغلال في لحظة الضعف، فرجعت مسرعا إلى الورشة و جلبت عصا مصنوعة من الخشب القاسي تشبه عصا البيسبول .. - البيسبول ؟ = نعم إنها لعبة تُلعب بواسطة عصا و كرة صغيرة و قفاز و مجموعة من الناس. على العموم إنها لعبة مملّة و ليست ممتعة بالنسبة لي . المهم ، كما قلت لك، رجعت مسرعا إلى الورشة و جلبت عصا مصنوعة من الخشب القاسي تشبه عصا البيسبول صنعتها بنفسي عندما كنت في مرحلة التربص و التعليم الحرفي ، و كانت ثلاث ضربات بها على رأس خطيب الفتاة كافية لإيقاف حياته و إرسالي إلى السجن المؤبد . ولا أعرف و لحد الآن من التي كانت ضربات الحظ ؟ أكانت لكماته على وجهي أم هي ضرباتي بالعصا على رأسه ؟ لا أدري . - وهل أصابك مرض خطير قاتل في السجن حتى أتيت إلى هذه المقبرة ؟ = لا، بل أتيت إلى هنا مطرودا من الحياة ، لقد هربت من السجن بعد قضائي لعشر سنوات ، ولقد تم قتلي من طرف رجال الشرطة بعد أن رَفضتُ التوقف عن الهرب أثناء مطاردتهم لي ،فأطلقوا عليّ النار بالمسدس و سقطتُ ميتا على الرصيف المجاور للسجن . - و ما هو المسدس ؟ = إنه نوع من السلاح ، و يقال عنه أنّ بوجوده يستوي الشجاع و الجبان . - خيّبتَ ظني أيها الجار الجديد ، ظننتك ستأتي إلينا بالجديد عن الحياة ، لكن أسلوب حياة الحياة باقي كالعادة على ما يبدو . = ربّما. - تصبح على خير . = و أنت من أهلو أيها الجار الجديد.
#عبد_الرحيم_مكاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حديث يضمّ في حديث (قراءة في بعض قصص حازم شحادة)
-
جيم جارموش يصوّر مذكراته السينمائية .. الموتى لا يموتون
-
جمع الشامي على المغربي .. سينمائيًا
المزيد.....
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
-
رابطة المؤلفين الأميركية تطلق مبادرة لحماية الأصالة الأدبية
...
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|