|
يوم الجمعة العظيمة، يوم الأسير الفلسطيني
جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 6540 - 2020 / 4 / 17 - 02:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
خصّصت فلسطين السابع عشر من نيسان مناسبة لتجديد عهدها لأبنائها أسرى الحرية ولاحتفائها بهم ومعهم بانبعاث الأمل من رحم الذكرى والوجع. إنه "يوم الأسير الفلسطيني"، فيه يُستحضر الثابت في واقع شعب تطغى على لياليه العتمة والالتباس؛ فتستعاد الرؤى، وترفأ من جديد خيوط العلاقة الطبيعية بين الأم الحبيسة وبين أبنائها الأماجد الابرار.
في هذا اليوم من كل عام، يؤكد الفلسطينيون، ومعهم جميع أحرار العالم، على أهمية ومكانة "الحركة الأسيرة الفلسطينية" التي ما زالت ماضية في طريق آلامها الطويل، وصدور أبنائها مدفوعة صوب رماح السجانين، حيث ساحة الاشتباك اليومي الدائم في أهم موقع من افرازات الاحتلال الاسرائيلي وابرزها في ممارسة القمع والقهر والظلم: في غرف التحقيق وفي السجون.
تحلّ اليوم هذه الذكرى والمسيحيّون الشرقيون يحتفلون بيوم "الجمعة العظيمة"، يوم دقّت مسامير الحاكم الروماني في راحتيّ أشهر أسير فلسطيني، هو المسيح ابن الناصرة، وهو يدافع عن حقه في التعبير وفي العبادة وفي الحياة.
قد نجد حكمة في هذه المصادفة أو درسًا في مجازها؛ فما زال أبناء فلسطين اليوم يتجرعون خَلّ الطغاة كما تجرّعه ابنها، وذلك بعد ان اتهموه بالكفر وبالتمرد، فسجنوه وعذّبوه وحاكموه، وقُتل مصلوبًا لتروي دماؤه قحل الزمن، ولتبقى كلماته نورًا في الارض وغرسًا في قلوب الضعفاء الفقراء.
وقف اسير فلسطين الأول ولم يعترف بشرعية محكمته ولا بقضاتها اليهود، وقد اتهموه بجناية "التجديف"، فاضطروا الى نقله الى بلاط الوالي الروماني ليشرع في مقاضاته بتهمة التمرّد على سلطة قيصر؛ وذلك بعد ان تبين للكهنة اليهود اعضاء السنهدرين، أنّ روما لن تقبل اتهامه بجناية التجديف لكونها تهمة تخص المفاهيم الشرعية الخاصة بتلك الطائفة اليهودية. لم يعترف يسوع التلحمي بالتهمة ولا بشرعية الوالي الروماني، ورفض، رغم تعذيبه، التعاطي مع "المحكمة".
لن استرسل في سرد تفاصيل اسبوع الألام ونهايته بعيد الفصح المجيد، فالمسيح خرج عن طاعة الكهنة اليهود وقاتل من اجل آرائه حتى النهاية وكان مقتنعًا بأنّ الاجراءت بحقه كانت مجرد مؤامرة مدبرة من مجموعة كهنة خافوا على مواقعهم فلفقوا ضده قضية؛ وذلك في مفارقة طريفة قد تذكّرنا اليوم، وبعد مضي ألفي عام، بمشاهد عاشها أسرى فلسطين حين واجهوا تهمًا ملفقة وحوكموا امام محاكم صورية لا تعرف النزاهة ولا تقوم على اسس العدل والحق الانسانيين.
اليوم يوم عظيم؛ وهو يوم الاسير الفلسطيني، ففيه وضعوا على هامته اكليلًا من شوك ليسخروا منه وليتفّهوا مواقفه ويذلّوه أمام شعبهم وشعبه؛ لكنه، وهو المؤمن بحقه وبقضيته، لم يقبل الظلم ولم يركع.
نحن في شهر نيسان عريس الأرض في فلسطين، وعندما يحل فيها ينضح الجرح وفي جوفه تكبر الحرية ويتداعى المشهد الكبير فيبقى "الاسير" وحده حقيقةً ويتناثر كل الظلم كالزبد، وتصبح جولة الظالم خربشة على جناح التاريخ.
لم يكن بناء الحركة الاسيرة الفلسطينية، ككيان متكامل صلب يحمي ابناءه ويحتمي بوعيهم وبصمودهم داخل السجون، أمرًا مفروغًا منه، أو حدثًا عرضيًا أو مهمة سهلة، انجزت ببراعة تحت اعين الإحتلال الاسرائيلي. فالأسرى الفلسطينيون الأوائل تنبهوا لما كان الإحتلال يخطط لنيله ويتمناه؛ ونجحوا، بعد ان خاضوا اشرس المعارك، بقلب المعادلة رأسًا على عقب؛ ففي حين حاول السجان الاسرائيلي تدجين المقاومين الفلسطيني ومعاملتهم كمجرمين وكارهابيين وإجبارهم على قبول سلطة القانون الاسرائيلي والعيش في نطاق حدودها أفراداً ضعفاء، أصر هؤلاء المناضلون على انهم "كلّ"، لا مجرد أرقام، وعلى انهم أسرى حرية وجنود مستعدّون للتضحية في سبيل كنس الاحتلال وبناء دولتهم.
يعيش الاسرى الفلسطينيون هذه الايام ظروفًا مأسوية استثنائية نتيجة لمخاطر تفشي فيروس الكورونا، ويخضعون لاجراءات احترازية قاسية مثل منعهم من زيارة اهاليهم، ومنعنا، نحن المحامين، ايضًا من زيارتهم، علاوة على تأجيل معظم جلسات محاكمهم، بعد ان قلصت المحاكم العسكرية نشاطاتها الى الحد الادنى. في المقابل، وكما لاحظنا، فإنّ قوات الامن الاسرائيلية مستمرة بتنفيذ الاعتقالات بشكل يومي تقريبًا.
قريبًا ستنتهي الازمة السياسية الحالية، وستباشر حكومة اسرائيلية جديدة اعمالها وستستأنف، كما نتوقع، جميع الجهات اليمينية التي كانت تطالب بملاحقة الاسرى الفلسطينيين وبمعاملتهم كأرهابيين، بسحب مستحقاتهم وبالتضييق عليهم وبتطبيق سياسة قمعية جديدة في جميع السجون. وستعيد هذه الاجراءات السجون الى حالة الاحتقان التي عاشتها عشية نشوء الازمة السياسية، وبعدها مع انتشار جائحة الكورونا، وسيواجه الاسرى حالة مستبدّة غير مسبوقة بقساوتها.
لن استبق الاحداث، لكنني على هامش هذه المقاله، في هذه المناسبة العظيمة، أود ان اذكر قادة الحركة الاسيرة بضرورة العمل الفوري على رأب الصدع الذي ما زال مستفحلًا في صفوفهم، وبضرورة استعادة لحمتهم ووحدتهم، اللتين سيصعب بدونهما مواجهة السياسات والقرارات الجديدة المتوقعة، كما يستشعرونها هم قبلنا.
ما زالت "أورشليم" حزينة وعذاراها يبكين "عريسها" والحزانى يندبن من بشّرهن بالعزاء؛ وما زال العشارون فيها طغاة وجنودهم يطردون "الانبياء" ويأسرون أصحاب الحق ويلاحقون الشرفاء؛ فعيد أهلها اليوم كعيد من عاشوا زمن تلك المحنة وبكوا تحت قبابها، وفرح الناس فيها متواضع ومستقحم أو مجرد أمنية مؤجلة، أما الأسرى فباقون، رغم ليلهم الذي من شوك، ملح أرض فلسطين وغار تاجها الأعلى.
لن نحتفل هذه السنة بيوم الاسير الفلسطيني على الطريقة التقليدية، فسيّد الموقف فيروس"كورونا" الخبيث جنّ حتى طغى وحكم واستبدّ. لن تنصب المسارح في ساحات المدن، ولن تتلى الاناشيد في الميادين، ولن تتوالى التراتيل والخطابات من الحناجر، بل ستسكت الطبول وسيغيب البخور ؛ لكنه الفصح سيبقى، رغم الشدائد، عيد الحياة والفداء والتضحية وعيد الحب المخزن في القلوب والصفح النبيل كما أوصى المعلم من على الجبل: "احبوا أعداءكم وباركوا لاعينكم وأحسنوا لمبغضيكم ".
لقد قال ذلك ومشى الى "أورشليم" حيث أكمل رسالته وشرّع الطريق، فما اروعها من طريق وما اصعبها من وصية وما اعصاها على فهم بني آدم ، ابناء الخطيئة والغريزة والغرور .
كان نيسان وسيبقى موعد فلسطين مع الحب ومع الفرح، مهما تأخر القطاف ونامت النواطير ؛ وسيظل فيه يوم "الأسير" يومًا عظيمًا حتى لو بقيت السماء رمادية والنجوم عابسة؛ فالمناسبة أكبر من الوقت وأرحب من الأماني؛ والصبر، وان شاخ، هكذا علمنا الخلّ، سيبقى صليب المؤمنين وغمد الأسى.
فلسطين في الفصح هي بحة المدى وصاحبة فجره الدامي وقطرة الندى؛ وان غفا على جفونها القصب، حتمًا ستصحو ناياتها ذات نيسان وسيحتضن ابناؤها "قاف" القمر ليندلق من خواصرها نور الأزل.
لقد بكت عذارى اورشليم، وبكت معهن من "اصطفيت وطهرت واصطفيت على نساء العالمين" فسالت دموعهن في درب الآلام الذي ما زال نفس الدرب الحزين ومأوى للشرفاء والاحرار والفقراء والمساكين؛ فهم الذين سيفرحون ويتهللون بكل يوم أسير وبالحرية وبالخلاص، مهما تحايلت أو طالت السنون.
#جواد_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كلمة حق لفلسطين في زمن المحنة
-
مستقبلنا في ظل خارطة سياسية جديدة
-
يا قضاة اسرائيل: لقد أكلتم يوم أطعمتمونا للذئب
-
شركاء في القلق حلفاء في العمل
-
أيها البرق، أوضح ليلنا قليلا
-
أفراحنا المشتركة كبيرة
-
نداء آذار: صوتوا ولا تتركوا قائمتكم وحيدة
-
اسراطينيات
-
عندما بكت-عدالة- في المحكمة العليا الاسرائيلية
-
بين ترامب وفيلم: -الباباوان-
-
مشاهد من ضياعنا في مثلث ترامب
-
ماذا بعد سقطة حزب ميرتس؟
-
الحرية للاحمدين، قطامش وزهران
-
العرب في اسرائيل والمقاطعة المستحيلة
-
العرب في اسرائيل ولعنة التطبيع
-
خدوش على صفحة هوية ملتبسة
-
جامعة بير زيت، تبدد الحلم
-
التعليم العربي: بين برج بابل وبرج بيزا
-
سامي ابو دياك، وموت أمنية فلسطينية
-
القدس مدينة الحجارة الباكية
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|