|
هوس كوروني
عبد الكريم القيشوري
الحوار المتمدن-العدد: 6538 - 2020 / 4 / 15 - 17:29
المحور:
الادب والفن
آل على نفسه أن يتحجر في البيت بسبب الحجر المفروض. طالت مدة حجره؛ فأراد أن يتحرر؛ بعض الشيء من قبضته؛ بحكم ما لاقاه جسمه من أضرار نتيجة الساعات الطوال التي كان يقضيها في الأربع تقلبات من وضعيات نومه قارئا؛ متأملا؛ متفرجا؛ ناعسا. انسل متخفيا كي لا يزعج أحدا من أفراد أسرته من حلاوة النوم التي أصبحت بالكاد تنعم بها جفونهم نهاية كل ليلة. ركب سيارته وانطلق في فجر صباح عتمته من غبش؛ لم تفصح سماؤه عن سبائك كواكب نجوم نور ضحاه بعد. عبر الطريق الساحلي سلك سبيله؛ متوجها إلى الشاطئ لفك عُزلة الحجْر عن جسده بممارسة حركات رياضية ؛ آملا استنشاق هواء بحري يجنبه تلوث الهواء الذي أصبحت كورونا مالكة لزمامه؛ وملكة تيجان عروشه؛ بحيث لا يدب أي كائن بشري على الأرض إلا باتخاذ كل احتياطات السلامة الصحية التي سبق وأن تخلى عنها ؛ وتوفره على ترخيص من السلطات المحلية المخول إلا لضرورة. استرعى انتباهه خلو الطريق من أي إنس أو حيوان. ما إن عرج على الطريق المؤدي إلى الشاطئ والمحيط بمقبرة ؛ حتى بدأ يسمع أصواتا غريبة تنتهي إلى مسامعه من بعيد؛ وهو يقترب؛ ووفود من أشباح تبدو له ملامحها غريبة شيئا ما تقترب . هو يقترب ـ هي تقترب.. إلى أن أصابته دهشة الفزع من واقع ما شاهد. فرمل بقوة . كادت السيارة أن تنقلب على إثر فعل هذه الفرملة القوية. وضع رأسه على المقود ورحل في شبه غيبوبة تخيل من خلالها أنه في اختبار مرور على الصراط. لما بدأ يستعيد وعيه؛ بدا له الشاطئ ممتلئا عن آخره بأشباح وهياكل عظمية. منها من تسبح؛ ومنها من تمارس ألعابا بهلوانية؛ ومنها من تتخذ الرمال أسِرة للنوم في شكل أفقي رهيب.. أزال عن عينيه نظارته ؛ مسحها بظهر يديه؛ فركهما للتأكد مما يرى؛ مسح النظارة وأعادها فوق أرنبة أنفه ؛ أشاح وجهه جهة المقبرة لم تعد تُرى؛ بحكم كل القبور تحولت إلى أكوام من الأتربة والحجارة.. أعاد النظر بحذر جهة الشاطئ. تساءل في قرارة نفسه : هل الموتي بعثهم الله ؟ هياكل عظمية تتحرك بنظام وانتظام؛ لا فرق بين ذكر وأنثى؛ حيث انتفت الصفات الخاصة بكل جنس. أصوات إيقاعية تتهادى إلى مسامعه بفعل حركية العظام التي تتحرك نحوه ؛ يقلب ناظريه من خلال واجهتي السيارة الخلفية والأمامية عله يرى من يستغيث به؛ لا حركة ولا سكون. يغمض عينيه ؛ ويضع رأسه فوق المقود؛ محيطا إياها بذراعيه؛ مستسلما للأمر الواقع وما ستترتب عنه هذه المصيبة / المصيدة. تقترب الأصوات ويتردد صداها بجلال ووقار مكبرة مبتهلة : الله أكبر ـ الله أكبر. ظهر الحق وزهق الباطل؛ إن الباطل كان زهوقا. لقد لقينا ما وعدنا ربنا. الله أكبر ـ الله أكبر.. تحيط مجموعة من الهياكل العظمية ـ من الموتى الذين بعثهم الله ـ بالسيارة. يحومون بحوافها؛ يطرقون جهاتها الأربع؛ يتطلعون بفراغات أعينهم الرهيبة؛ عبر زجاج نوافذها عمن يوجد بداخلها؛ مهللين ـ مكبرين. هو في سفر خشوعي يمارس من خلاله قراءة اللطيف وما تيسر من آي القرآن الكريم؛ داعيا الله أن يخرجه من هذه الورطة بلا كسر وبلا ضرر.. نادما على الخطوة التي اتخذها في سبيل التحرر من قبضة الحجر. لا يحرك ساكنا ولا ينبس بكلمة؛ وينتظر ما يؤول إليه قدره خلال هذه الصبيحة التي لم تكن له في الحسبان. قرقعة عظام الهياكل يتردد صداها؛ عبر احتكاك بعضها ببعض. ألفاظ التكبير تملأ الفضاء جلالا و وقارا . السيارة ترتفع ببطء من إسفلت الأرض نحو الأعلى؛ هو يقرأ الشهادة على روحه لاعتباره أصبح منهم . السيارة تعلو وترتفع في مسار التوجه للرمي بها في البحر. التكبير يغزو الفضاء؛ يرتفع تردديه؛ ترتعد النفس من مهابته.. ارتفعت سرعة إيقاع المشي الذي تحول من هرولة إلى جري؛ يصاحبه ضجيج قرقعة. سائق شاحنة يفتتح صباح يومه كالمعتاد؛ بتنظيف شوارع الطرق والأمكنة وتطهيرها؛ وقاية من انتشار فيروس كورونا ؛ يتفاجأ بسيارة متوقفة تعوق السير العادي في الطريق العام ؛ وفي وضعية غير سليمة؛ ضغط على مكبر الصوت بقوة صاعقة كضربة رعد؛ أيقظت من بداخل السيارة ؛ فصاح من غفوته منزعجا صارخا: لا لا.لا ناطا من فراشه مولولا مستغيثا مبللا.. أقبل أفراد الأسرة للتو لمعرفة ما وقع . الأب يتصبب عرقا؛ مرددا: الحمد لله ـ الحمد لله . مِت وحَييت. مت وحييت.
#عبد_الكريم_القيشوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كورونا والنظارة العجيبة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|